الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المحتويات
الافتتاحية:
حول اجتياح حاكم العراق للكويت سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 7
بحث اللجنة:
حكم إقامة المسافر اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 33
الفتاوى:
فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء 79
فتاوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 133
البحوث:
وجوب الرفق بالحيوان الشيخ عبد الله بن حمد العبودي 149
بيان الحكمة في التشريع الإسلامي محمد محمد شتا أبو سعد 169
وسطية أهل السنة في القدر د. عواد عبد الله المعتق 213
بعض ما يلاحظ على كتاب (مفتاح كنوز السنة) محمد عبد الله حياني 253
من قرارات هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية 297
نصيحة للدعاة وطلبة العلم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 309
نصيحة في فضل صلاة الاستسقاء سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 313
فضل صيام رمضان وقيامه مع بيان أحكام مهمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز 317
صفحة فارغة
الافتتاحية
عن اجتياح حاكم العراق للكويت
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فإن الله جل وعلا وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، يبتلي عباده بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، حتى يميز الخبيث من الطيب، وحتى يتضح أهل الإيمان والتقوى، من أهل النفاق والزيغ، والكفر والضلال، وحتى يتبين الصابرون المجاهدون من غيرهم، وحتى يظهر للناس من يريد الحق، ويطلب إقامته، ممن يريد خلاف ذلك، قال الله جل وعلا في كتابه العظيم:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (1). ومعنى الفتنة هنا الاختبار والامتحان، ليتبين بعد الامتحان الصادقون من الكاذبين، والأبرار من الفجار، والأخيار من الأشرار، وطالب الحق من طالب غيره. ويرجع من أراد الله له السعادة إلى ما عرفه صح الحق، ويستمر من سبقت له الشقاوة في باطله وضلاله، قال جل وعلا:{وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2). ومعنى بلوناهم: اختبرناهم بالحسنات بالنعم من العز والظهور في الأرض، والمال والثروة، وغير هذا مما يعتبر من النعم. والسيئات يعني المصائب التي تصيب الناس من فقر وحاجة وخوف وحروب وغير ذلك " لعلهم يرجعون " المعنى ليرجعوا إلى الحق
(1) سورة الأنبياء الآية 35
(2)
سورة الأعراف الآية 168
والصواب، ويستقيموا على الهدى، وقال جل وعلا:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (1) يعني اتقوها بالعمل الصالح والاستقامة على طاعة الله والجهاد في سبيله، ولزوم الحق.
والفتنة يدخل فيها الحروب، ويدخل فيها الشبهات، التي يزيغ بها كثير عن الحق، ويدخل فيها الشهوات المحرمة، إلى أنواع أخرى من الفتن.
فأهل الإيمان يتقونها بطاعة الله ورسوله، والفقه في الدين، والإعداد لها قبل وقوعها، حتى إذا وقعت فإذا هم على بينة وبصيرة، وعلى عدة، ويقول جل وعلا:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) المعنى: أنه شديد العقاب لمن خالف أمره، وارتكب نهيه، ولم ينقد لشرعه سبحانه، وقال سبحانه وتعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} (3). فالإنسان يفتن بالمال والولد، ويمتحن فإن اتقى الله في المال والولد فله السعادة، وإن مال مع المال إلى الشهوات المحرمة، وإيثار العاجلة هلك. وهكذا إن مال مع الولد إلى ما حرم الله، وإلى متابعة الهوى هلك مع من هلك.
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (4)، ومعنى ولنبلونكم: لنختبرنكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم حتى نعلم علما ظاهرا، والله سبحانه يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، وقد سبق علمه بكل شيء، كما قال تعالى:{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (5).
وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (6). فهو سبحانه وتعالى عليم بكل شيء، ولكنه يبلوهما حتى يعلم المجاهدين منهم، والصابرين علما
(1) سورة الأنفال الآية 25
(2)
سورة الأنفال الآية 25
(3)
سورة التغابن الآية 15
(4)
سورة محمد الآية 31
(5)
سورة الطلاق الآية 12
(6)
سورة العنكبوت الآية 62
ظاهرا يشاهده الناس، ويعلمه الناس، ويعلمه هو سبحانه علما ظاهرا موجودا، بعدما كان في الغياب، يعلمه ظاهرا موجودا في الوجود، وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (1) نعلمه علما ظاهرا موجودا في العالم.
وفي الحادي عشر من المحرم من السنة الهجرية 1411 هـ، الثاني من أغسطس من الشهور الميلادية 1990 م، جرى ما جرى من عدوان حاكم العراق على دولة الكويت المجاورة له، واجتاحها بجيوشه المدمرة الظالمة، واستحل الدماء والأموال وانتهك الأعراض، وشرد أهل البلاد، وجرت فتنة عظيمة بسبب هذا الظلم والعدوان، واستنكر العالم هذا البلاء، وهذا الحدث الظالم، وحشد الجيوش على الحدود السعودية. وبذل الناس الجهود الكبيرة من رؤساء الدول، ومن مجلس الأمن، ومن غيرهم لحاكم العراق ليخرج من هذا الظلم، ويسحب جيشه من هذه البلاد التي احتلها ظلما، فلم يستجب، وأصر على ظلمه وعدوانه لحكمة بالغة {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (2) له سبحانه الحكمة البالغة في كل شيء، قد سبق في علمه جل وعلا، أنه لا بد من حرب، وأن هذا البلاء الذي وقع، لا يتخلص منه بمجرد الحلول السلمية، وهو القائل سبحانه في كتابه العظيم:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (3)، ويقول سبحانه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (4) ونرجو أن يكون فيما وقع الخير، وأن يكون في ذلك الخير لنا وللمسلمين جميعا، والشر على أعداء الإسلام، لأنه سبحانه أعلم وأحكم، ونرجو أن يكون فيما حدث عظة لنا ولغيرنا في الرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وحساب النفوس وجهادها لله، والإعداد الكامل لأعدائنا أعداء الإسلام.
(1) سورة محمد الآية 31
(2)
سورة الأنعام الآية 128
(3)
سورة النساء الآية 19
(4)
سورة البقرة الآية 216
فالامتحان يفيد المؤمنين والعقلاء، ويوجب حساب النفس وجهادها، ويوجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه، ويجاهدها لله، وأن يستقيم على أمره، وأن يتباعد عن نهيه، ويوجب على الدول الإسلامية أن تحاسب أنفسها أيضا، وأن تستقيم على دين الله. ومتى استقام العباد على الحق، وأصلحوا أنفسهم، وجاهدوها لله، وبذلوا المستطاع في نصر الحق، يسر الله أمورهم، ونصرهم على عدوهم، كما قال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1). ويقول سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (2).
ويقول سبحانه وبحمده: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (3){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (4).
يعني بسبب إيمانهم الصادق، وعملهم الصالح يستخلفون في الأرض ويمكن الله لهم دينهم ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
(1) سورة محمد الآية 7
(2)
سورة الروم الآية 47
(3)
سورة الحج الآية 40
(4)
سورة الحج الآية 41
(5)
سورة النور الآية 55
فالواجب هو الاستقامة على أمر الله، وعلاج الفتن بما أمر الله به من التقوى والاستقامة والجهاد الصادق والإخلاص لله والصبر والمصابرة. . هكذا يجب.
وقد بين الله لعباده أسباب النجاة، ووسائل النصر، فقال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1){وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2){وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (3).
فأمرهم سبحانه عند لقاء الأعداء وعند وجود العدوان، وعند مباشرة الجهاد بصفات عظيمة:
أولها: الثبات على الحق والاستقامة عليه، فقال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} (4) فالثبات على الحق لا بد منه، والصبر عليه كما في الآية الأخرى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (5).
وأهل الإيمان لا تشغلهم الشدائد عن الحق، بل يلزمون الحق في الشدة والرخاء.
والثاني: ذكر الله جل وعلا: ذكر الله بالقلب واللسان والعمل: بالقلب تعظيما له سبحانه، ومحبة له وخوفا منه، وثقة به، وإخلاصا له، واعتمادا عليه سبحانه وتعالى، وإيمانا بأنه الناصر، والنصر من عنده، كما قال سبحانه:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (6)، وإنما الأسباب تعين على ذلك، فما شرع الله من إعداد وسلاح وغير ذلك من الأسباب، كلها تعين على ذلك، وهي بشرى من عند الله، كما قال الله عندما أمد رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (7).
(1) سورة الأنفال الآية 45
(2)
سورة الأنفال الآية 46
(3)
سورة الأنفال الآية 47
(4)
سورة الأنفال الآية 45
(5)
سورة آل عمران الآية 200
(6)
سورة الأنفال الآية 10
(7)
سورة الأنفال الآية 10
وفي آية آل عمران: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (1).
فالمؤمن عند الشدائد يذكر الله ويعظمه، ويعلم أنه الناصر، وأنه الضار النافع، وأن بيده كل شيء، فبيده سبحانه الضر والنفع، وبيده سبحانه العز والنصر، وبيده جل وعلا تصريف الأمور لا يغيب عن علمه شيء ولا يعجزه شيء سبحانه وتعالى.
وعلق على ذلك الفلاح فقال عز من قائل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2) فبذكر الله بالقلب واللسان والعمل الفلاح والظفر والخير كله.
فالمؤمنون في الشدة والرخاء يلزمون ذكر الله وتعظيمه والإخلاص له وإقامة حقه وترك معصيته، فيذكرون الله بإقامة الصلوات والمحافظة عليها وحفظ الجوارح عن ما حرم الله، وحفظ اللسان عن ما حرم الله، وذلك بأداء الحقوق، والكف عما حرم الله، إلى غير ذلك مما يرضيه سبحانه، ويباعد عن غضبه.
وذكر الله سبحانه يكون بالقلب واللسان والعمل كما تقدم، وفي ذلك الفلاح والفوز والسعادة والظفر.
- ثم قال سبحانه: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (3) هذه هي الصفة الثالثة، وطاعة الله ورسوله هي من ذكر الله جل وعلا، ولكن نص عليها لعظمها وذلك بفعل الأوامر، وترك النواهي في الجهاد وغيره.
- ثم ذكر جل وعلا الصفة الرابعة وهي: الالتفاف والاجتماع والتعاون وعدم الفشل، فقال سبحانه وتعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (4)
(1) سورة آل عمران الآية 126
(2)
سورة الأنفال الآية 45
(3)
سورة الأنفال الآية 46
(4)
سورة الأنفال الآية 46
فالواجب على المسلمين التعاون والاتفاق والصدق في جهاد الأعداء، وإخراج الظلمة مما وقعوا فيه، لا بد من الاتفاق والصبر وذكر الله، والتعاون ضد العدو. والعدو قد يكون مسلما، وقد يكون كافرا، وقد يكون مسلما باغيا، وقد أمر الله بقتال الباغي حتى يفيء إلى أمر الله، كما قال جل وعلا:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1). هذا إن كان مؤمنا، فكيف إذا كان كافرا بعثيا ظالما. ومعنى حتى تفيء إلى أمر الله: حتى ترجع إلى الحق وترد ما ظلمت وتستقيم مع العدالة.
- ثم قال سبحانه: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2) وهذه صفة خامسة فلا بد من الصبر في جهاد الأعداء وقتالهم، وبذل المستطاع في ذلك، وقال سبحانه في آية البقرة في صفة المؤمنين:{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} (3) يعني حين القتال، ثم قال سبحانه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (4) وقال الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} (5)، والصبر أنواع ثلاثة:
- صبر على طاعة الله بالجهاد وأداء الحقوق.
- وصبر عن معاصي الله بالكف عن ما حرم الله قولا وعملا.
- ونوع ثالث هو: الصبر على قضاء الله وقدره، مما يصيب الناس من جراح أو قتل أو مرض أو غير ذلك، لا بد من الصبر وتعاطي أسباب النصر، وأسباب العافية.
- ثم ذكر سبحانه وتعالى صفة سادسة وسابعة فقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} (6) أي لا تكونوا في جهادكم متكبرين ولا مرائين، بل يجب على المؤمنين في جهادهم لعدوهم الإخلاص لله،
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2)
سورة الأنفال الآية 46
(3)
سورة البقرة الآية 177
(4)
سورة البقرة الآية 177
(5)
سورة النحل الآية 127
(6)
سورة الأنفال الآية 47
والصدق والتواضع وسؤاله النصر جل وعلا.
- وقد ذكر الله أمرا ثامنا وحذر منه، وهو الصد عن سبيل الله، وهو من صفة أعداء الله، فهم يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجا. أما المؤمنون فيجاهدون في تواضع لله مخلصين له سبحانه، لا متكبرين ولا مرائين، يدعون إلى سبيل الله من صد عنه، يدعون الناس إلى الحق والهدى، وإلى طاعة الله ورسوله. . هكذا المؤمنون الصادقون أينما كانوا.
وهذه الفتنة أعني عدوان حاكم العراق، على الكويت، قد اشتبه فيها الأمر على بعض الناس، إذ ظن بعض الناس أن الأولى فيها الاعتزال، وعدم القتال مع هؤلاء أو هؤلاء، وهذا قد جرى في أول فتنة وقعت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الفتنة التي وقعت بين أهل الشام وأهل العراق بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه الذي قتل ظلما من فئة بغت عليه، وتعدت والتبست عليها الأمور، ودخل فيها من هو حاقد على الإسلام، والتبست الأمور على بعض الناس حتى اشتبهت الأمور، وبقتل عثمان رضي الله عنه ظلما وعدوانا حصل بسبب ذلك فتنة عظيمة، فبايع الناس عليا رضي الله عنه بالخلافة، وقام معاوية رضي الله عنه وجماعة يطالبون بدم عثمان، وبايعه كثير من الناس على ذلك، وعظمت الفتنة واشتدت البلية، وانقسم المسلمون قسمين بسبب هذه الفتنة: طائفة انحازوا إلى معاوية رضي الله عنه، وهم أهل الشام يطالبون عليا رضي الله عنه بتسليم القتلة.
وطائفة أخرى هم علي رضي الله عنه وأصحابه طلبوا من معاوية وأصحابه الهدوء والصبر، وبعد تمام الأمر واستقرار الخلافة ينظر في أمر القتلة.
واشتد الأمر، وجرى ما جرى من حرب الجمل وصفين، وظن بعض الناس في ذلك الوقت أن الأولى عدم الدخول في هذه الفتنة، واعتزل بعض الصحابة ذلك، فلم يكونوا مع علي ولا مع معاوية.
والفتنة اليوم كذلك حصل فيها اشتباه، لأن وقوع الفتن يسبب اشتباها كثيرا على الناس، وليس كل إنسان عنده العلم
الكافي بما ينبغي أن يفعل. فقد يقع له شبه تحول بينه وبين فهم الصواب. وهذه الفتنة التي وقعت الآن ليست مما يعتزل فيها، لأن الحق فيها واضح، والقاعدة أن الفتنة التي ينبغي عدم الدخول فيها هي المشتبهة التي لا يتضح فيها الحق من الباطل، والتي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم:«ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به (1)» رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا، ويصبح كافرا. فالقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم وقطعوا أوتاركم واضربوا بسيوفكم الحجارة فإن دخل على أحدكم فليكن كخير ابني آدم (2)» رواه ابن ماجه وأبو داود (3). فهذه الفتن التي تشتبه، ولا يتضح للمؤمن فيها الحق من الباطل، هي التي يشرع البعد عنها وعدم الدخول فيها.
أما ما ظهر فيه الحق، وعرف فيه المحق من المبطل، والظالم من المظلوم. فالواجب أن ينصر المظلوم، ويردع الظالم، ويردع الباغي عن بغيه، وينصر المبغي عليه، ويجاهد الكافر المعتدي، وينصر المظلوم المعتدى عليه، وفي هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى:{انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (4).
ويقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (5)، ثم شرحها للناس، فقال سبحانه:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (6){يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (7)
(1) صحيح البخاري الفتن (7081)، صحيح مسلم الفتن وأشراط الساعة (2886)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 282).
(2)
صحيح مسلم الإيمان (118)، سنن الترمذي الفتن (2195)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 390).
(3)
والنص لابن ماجه جـ 2 ص 1310، وعند أبي داود جـ 4 ص 754.
(4)
سورة التوبة الآية 41
(5)
سورة الصف الآية 10
(6)
سورة الصف الآية 11
(7)
سورة الصف الآية 12
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (1).
فهذا وعده سبحانه لمن جاهد في سبيله ونصر الحق في هذه الآيات الكريمات، وفي قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (2) وصفها بهذا الوصف العظيم إنها تجارة، وأنها تنجي من عذاب أليم، ثم فسرها بقوله سبحانه:{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (3) ومعلوم أن الجهاد من الإيمان ولكنه خصه بالذكر لعظم شأنه ومسيس الحاجة إلى بيان فضله. فقال سبحانه وتعالى: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (4)، بدأ بالأموال لعظم شأنها، وعموم نفعها في شراء السلاح، وتجهيز المجاهدين، وإطعامهم. ولذلك بدأ بالمال قبل النفس في أكثر الآيات. لأن نفعه أوسع، ثم قال سبحانه وبحمده:{ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (5). ثم فسر بعد ذلك الخير المذكور بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (6). كل هذا من ثواب الجهاد، ثم قال جل وعلا:{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} (7) وقال الله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (8).
(1) سورة الصف الآية 13
(2)
سورة الصف الآية 10
(3)
سورة الصف الآية 11
(4)
سورة الصف الآية 11
(5)
سورة الصف الآية 11
(6)
سورة الصف الآية 12
(7)
سورة الصف الآية 13
(8)
سورة التوبة الآية 111
وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} (1) يعني حتى ترجع للحق، " فإن فاءت " أي رجعت للحق، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (2).
هذا بالنسبة للمؤمنين كما جرى يوم الجمل وصفين في القتال بين المؤمنين، فقد أمر الله المؤمنين أن يقاتلوا الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى الحق، وبعد الرجوع إلى الحق ينظر في المسائل المشكلة، وتحل بالصلح والعدل، الذي شرعه الله في قوله تعالى:{فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} (3) أي بالطرق الحكيمة الشرعية التي جعلها الله وسيلة لحل النزاع. و"أقسطوا" يعني اعدلوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (4) هذا في المؤمنين، تقاتل الفئة الباغية، وهي مؤمنة حتى ترجع فكيف إذا كانت الطائفة الباغية ظالمة كافرة، كما هو الحال في حاكم العراق، فهو بعثي ملحد، ليس من المؤمنين، وليس ممن يدعو للإيمان والحق، بل يدعو إلى مبادئ الكفر والضلال، وبدأ يتمسح بالإسلام لما جرى ما جرى، فأراد أن يلبس على الناس، ويدعو إلى الجهاد كذبا وزورا ونفاقا.
ولو كان صادقا لترك الظلم، وترك البلاد لأهلها، وأعلن توبته إلى الله من مبادئه الإلحادية، وطريقته التي يمقتها الإسلام ولعمل بمصدر التشريع في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وحينئذ تحل المشكلات بالطرق السلمية بعد ذلك.
أما أن يدعو إلى الجهاد، وهو مقيم على الظلم والعدوان، والتهديد لجيرانه، فكيف يكون هذا الجهاد الظالم؟ وهذا الجهاد الكاذب والنفاق الذي يريد به التلبيس؟!
(1) سورة الحجرات الآية 9
(2)
سورة الحجرات الآية 9
(3)
سورة الحجرات الآية 9
(4)
سورة الحجرات الآية 9
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قالوا: يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: أن تحجزه عن الظلم فذلك نصرك إياه (1)» .
وذكر البراء رضي الله عنه نصر المظلوم في الحديث الصحيح المتفق عليه، وهو قوله رضي الله عنه:«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع وذكر منها نصر المظلوم (2)» فنصر المظلوم واجب ومتعين على كل من استطاع ذلك، فإذا كان الظلم عظيما كان الواجب أشد. وإذا كان الظلم لفئات كثيرة، وأمة عظيمة ويخشى من ورائه ظلم آخر، وشر آخر. صار الواجب أشد وأعظم في نصر المظلوم، وفي جهاد الظالم حتى لا تنتشر الفتنة التي قام بها، وحتى لا يعظم الضرر به، باجتياحه بلادا أخرى، ولو فعل ذلك لكان الأمر أشد وأخطر، ولكانت الفتنة به أعظم وأسوأ عاقبة، ولربما جرت أمور أخرى لا يعلم خطرها إلا الله.
ولعظم الأمر وخطورته اضطرت المملكة العربية السعودية إلى الاستنصار بالجنسيات المتعددة من الدول الإسلامية وغيرها، لعظم الخطر، ووجوب الدفاع عن البلاد وأهلها، واتقاء شر هذا الظالم المجرم الملحد، وقد وفقها الله في ذلك والحمد لله على ما حصل، ونسأل الله أن يجعل العاقبة حميدة، وأن يخذل الظالم، ويسلط عليه من يكف ضرره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه، ويشتت شمله، ويقينا شره وشر أمثاله، وأن ينفع بهذه الجهود، وأن يدير دائرة السوء على المعاندين والظالمين، وأن يكتب النصر لأوليائه المؤمنين، وأن يرد هذه الجنود التي تجمعت لردع هذا الظالم إلى بلادها، ويقينا شرها، فهي جاءت لأمر واحد، وهو الدفاع عن هذه البلاد وإخراج هذا الجيش الظالم من الكويت، لما في التساهل في هذا الأمر وعدم المبادرة من الخطر العظيم، لأن الظالم لديه جيش كثير مدرب، حارب به ثمان سنين لجارته إيران، وتجمع لديه جيش كثيف، ولديه نية سيئة وخبث عظيم وقد يسر الله برحمته اجتماع جيوش عظيمة لحربه ورده عن ظلمه، ولتنصر المظلوم وتعيد الحق إلى أصحابه.
(1) صحيح البخاري الإكراه (6952)، سنن الترمذي الفتن (2255)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 99).
(2)
صحيح البخاري الأشربة (5635)، صحيح مسلم اللباس والزينة (2066)، سنن الترمذي الأدب (2809)، سنن النسائي الجنائز (1939)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 284).
وأسأل الله جل وعلا أن ينفع بالأسباب ويحسن العاقبة للمظلومين. ويجعلها للجميع عظة وذكرى، والله جل وعلا يقول:{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (1). فالحكومة السعودية مضطرة، ودول الخليج كذلك، إلى الاستعانة بالقوات الإسلامية والأجنبية لردع الظالم، والقضاء عليه، وإخراجه بالقوة من هذه البلاد التي احتلها، لما أبى وعاند، ولم ينقد لدعاة الحق وخروجه سلما من البلاد التي احتلها، وانسحابه عن الحدود السعودية، ثم تكون المفاوضة بعد ذلك، في مطالبه من جيرانه، فلما أبى واستكبر وعاند وركب رأسه، ولم يراع حق الجوار، ولاحق الإسلام، ولاحق الإحسان، وجب أن يقاتل وأن يجاهد، ووجب على الدولة أن تفعل ما تستطيع من الأسباب التي تعينها على قتاله وجهاده، ونسأل الله أن ينفع بهذه الأسباب، وأن ينصر الحق وحزبه، ويخذل الباطل وأهله، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم موفقين ومهديين وأن يخذل الظالم، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يهزم جمعه، ويشتت شمله، وأن يقينا شر هذه الفتنة، وأن يجعلها موعظة للمؤمنين جميعا.
ونسأل الله أن يجعلها سببا للرجوع إلى الله والاستقامة على دينه، وإعداد العدة الكافية لجهاد أعدائه.
فالمسلمون يستفيدون من الفتن والمحن الفوائد المطلوبة، ومن ذلك أن يحاسب كل واحد منا نفسه، وأن يجاهدها لله، حتى تستقيم على الحق، وحتى يدع ما حرم الله عليه، فإن الطاعات من الجيش المجاهد من أسباب النصر، والمعاصي من أسباب الخذلان.
فعلى المجاهدين، وعلى المظلومين أن يصبروا ويصابروا، وأن يتقوا الله، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على حقه، وأن يتواصوا بالحق والصبر عليه، وبذلك يوفقون، ويحصل لهم النصر المؤزر، قال تعالى في كتابه العظيم:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (2).
(1) سورة الأنعام الآية 119
(2)
سورة آل عمران الآية 120
فمتى صبر المسلمون واتقوا ربهم، فإنه لا يضرهم كيد الأعداء، وإن جرت عليهم المحن، وإن قتل بعضهم، وإن جرح بعضهم، وإن أصابتهم شدة، فلا بد أن تكون لهم العاقبة الحميدة، بوعد الله الصادق وفضله العظيم. كما قال سبحانه وتعالى:{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} (1). وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2). وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (3){وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (4). وقال سبحانه وبحمده: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (5).
فيجب علينا جميعا رجالا ونساء، في هذه البلاد وغيرها، وعلى جميع المسلمين في كل مكان أن يستقيموا على دينه، وأن يحافظوا على أوامره، وينتهوا عن نواهيه، وأن يصدقوا في جهاد الأعداء، ومنها جهاد هذا العدو الظالم، حاكم العراق وجنده الظالم، وأن يكونوا يدا واحدة ضد هذا العدو الغاشم، الكافر وحزبه الملحد.
(1) سورة هود الآية 49
(2)
سورة طه الآية 132
(3)
سورة الطلاق الآية 2
(4)
سورة الطلاق الآية 3
(5)
سورة الطلاق الآية 4
ومن أسباب النصر تطبيق شريعة الله وتحكيمها في كل شيء، فالواجب على الدول الإسلامية والمنتسبة للإسلام أن تحاسب أنفسها، وأن تجاهد في الله جهاد الصادقين، وأن تحكم شريعة الله في جميع شئونها، فهي سفينة النجاة، كما أن سفينة نوح جعلها الله سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم من الغرق، كذلك شريعة الله التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشريعة الإسلامية، هي سفينة النجاة لأهل الأرض كلهم أيضا، من استقام عليها، وحافظ عليها، كتبت له النجاة في الدنيا والآخرة، وإن أصابه بعض ما قدره الله عليه، مما يكره من شدة أو حرب أو غير ذلك، فإن له النجاة والعاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة.
فالمؤمنون من قوم نوح عليه الصلاة والسلام عندما أصابتهم الشدة، أمرهم الله سبحانه بركوب السفينة، ونجاهم الله بسبب إيمانهم، وإتباعهم لنوح عليه الصلاة والسلام.
فهكذا المؤمنون في كل زمان، لا بد لهم من صبر على الشدائد، واستقامة على الحق حتى يأتيهم الفرج من الله سبحانه، كما قال تعالى في سورة فصلت:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (1){نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (2){نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3)، وقال سبحانه في سورة الأحقاف:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (4){أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (5).
فالواجب على جميع المسلمين في الجزيرة العربية وفي غيرها، تقوى الله سبحانه وتعالى رجالا ونساء، حكاما ومحكومين، وأن يستقيموا على دينه، وأن يحاسبوا أنفسهم من أين أصيبوا، فما أصابنا شيء مما نكره إلا بسبب معصية اقترفناها، كما قال عز وجل:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (6).
وهذا الذي وقع بسبب تقصيرنا وسيئاتنا، فيجب علينا أن نرجع إلى الله، وأن نحاسب أنفسنا، وأن نجاهدها لله، وأن نستقيم على حقه، وأن نحذر معصيته، وأن نتواصى بالصبر، حتى ينصرنا الله، ويكفينا شر أنفسنا، وشر أعدائنا، كما قال عز وجل:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} (7). وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (8).
(1) سورة فصلت الآية 30
(2)
سورة فصلت الآية 31
(3)
سورة فصلت الآية 32
(4)
سورة الأحقاف الآية 13
(5)
سورة الأحقاف الآية 14
(6)
سورة الشورى الآية 30
(7)
سورة آل عمران الآية 120
(8)
سورة المائدة الآية 2
وقال سبحانه وبحمده: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (1) وقال عز من قائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (2){الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (3)، وقال سبحانه وتعالى في سورة العصر:{وَالْعَصْرِ} (4){إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (5){إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (6).
فهؤلاء هم الرابحون في كل مكان، وفي كل عصر، بإيمانهم العظيم، وعملهم الصالح، وتواصيهم بالحق والصبر عليه.
وهذه الفتنة هذا هو علاجها كما هو علاج كل فتنة بالصبر على الحق والجهاد والثبات عليه بشتى الوسائل الممكنة بالسلاح الممكن، والنصيحة الممكنة، وبكل طريقة أباحها الله، وشرعها لحل المشكلات، وردع الظالم، وإحقاق الحق.
وإذا خاف المظلوم من أن يغلب، واستعان بمن يأمنهم في هذا الأمر، وعرف منهم النصرة، فلا مانع من الاستنصار ببعض الأعداء الذين هم في صفنا ضد عدونا، ولقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق بالمطعم بن عدي لما مات أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان كافرا وحماه من قومه، لما كان له من شهرة وقوة وشعبية. فلما توفي أبو طالب وخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الله، لم يستطع الرجوع إلى مكة، خوفا من أهل مكة، إلا بجوار المطعم بن عدي وهو من رءوس الكفار، واستنصر به في تبليغ دعوة الله، واستجار به فأجاره ودخل في جواره.
وهكذا عندما احتاج إلى دليل يدله على طريق المدينة استأجر شخصا من
(1) سورة محمد الآية 7
(2)
سورة الحج الآية 40
(3)
سورة الحج الآية 41
(4)
سورة العصر الآية 1
(5)
سورة العصر الآية 2
(6)
سورة العصر الآية 3
الوثنيين ليدله إلى المدينة، لما أمنه على هذا الأمر.
ولما احتاج إلى اليهود بعد فتح خيبر، ولاهم نخيلها وزروعها بالنصف يزرعونها للمسلمين والمسلمون مشغولون بالجهاد لمصلحة المسلمين، ومعلوم عداوة اليهود للمسلمين، وكذلك لما احتاج إليهم عليه الصلاة والسلام وأمنهم ولاهم على نخيل خيبر وزروعها.
فالعدو إذا كان في مصلحتنا، وضد عدونا فلا حرج علينا أن نستعين به ضد عدونا، وفي مصلحتنا حتى يخلصنا الله من عدونا، ثم يرجع عدونا إلى بلاده.
ومن عرف هذه الحقيقة، وعرف حال الظالم وغشمه، وما يخشى منه من خطر عظيم، وعرف الأدلة الشرعية، اتضح له الأمر.
ولهذا درست هيئة كبار العلماء هذا الحادث، وتأملوه من جميع الوجوه، وقرروا أنه لا حرج فيما فعلت الدولة من هذا الاستنصار، للضرورة إليه، وشدة الحاجة إلى إعانتهم للمسلمين، وللخطر العظيم الذي يهدد البلاد لو استمر هذا الظالم في غشمه، واجتياحه للبلاد، وربما ساعده قوم آخرون وتمالأوا معه على الباطل.
فالأمر في هذا جلل وعظيم، ولا يفطن إليه إلا من نور الله بصيرته، وعرف الحقائق على ما هي عليه، وعرف غشم الظالم، وما عنده من القوة التي نسأل الله أن يجعلها ضده، وأن يهلكه ويكبته، وأن يكفينا شره وشر كل الأعداء، وأن يولي على العراق رجلا صالحا يحكم فيه بشرع الله، وينفذ في شعبه أمر الله، كما نسأله سبحانه أن يقيهم شر هذا الحاكم الظالم العنيد، الذي عذبهم وآذاهم وعذب المسلمين وأحدث هذه الفتنة، وجر المسلمين إلى خطر عظيم.
نسأل الله أن يعامله بعدله، وأن يقضي عليه، وأن يريح المسلمين من فتنته، وأن يجعل العاقبة الحميدة لعباده المسلمين، وأن يرد المظلومين إلى بلادهم، وأن
يصلح حالهم، وأن يقيم فيهم أمر الله، وأن يقينا وإياهم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وقد رأيت أن أبسط القول في هذه المسألة، لإيضاح الحق، وبيان ما يجب أن يعتقد في هذا المقام، وبيان صحة موقف الدولة فيما فعلت، لأن أناسا كثيرين التبس عليهم الأمر في هذه الحالة، وشكوا في حكم الواقع وجوازه بسبب الضرورة والحاجة الشديدة، لأنهم لم يعرفوا الواقع كما ينبغي، ولعظم خطر هذا الظالم الملحد. . أعني حاكم العراق صدام حسين.
ولهذا اشتبه عليهم هذا الأمر، وظنوا واعتقدوا صحة ما فعله لجهلهم، ولالتباس الأمر عليهم، وظنهم أنه مسلم يدعو إلى الإسلام بسبب نفاقه وكذبه.
وربما كان بعضهم مأجورا من حاكم العراق، فتكلم بالباطل والحقد، لأنه شريك له في الظلم، وبعضهم جهل الأمر، وجهل الحقيقة، وتكلم بما تكلم به أولئك الظالمون، جهلا منه بالحقيقة، والتبست عليه الأمور.
هذا هو الواقع، وهو أن هذا الظالم اعتدى وظلم، وأصر على عدوانه، ولم يفئ إلى ترك الظلم. . والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نقاتل الفئة الظالمة، ولو كانت مؤمنة حتى تفيء إلى أمر الله. فكيف إذا كانت الفئة الباغية كافرة ملحدة، فهي أولى بالقتال، وكفها عن الظلم، ونصر الفئة المظلومة المبغي عليها بما يستطيعه المسلمون من أسباب النصر والردع للظالم. . وقد حاول معه الناس ستة أشهر، وطلبوا منه أن يراجع نفسه ويخرج عن الكويت، ويرجع عن ظلمه وبغيه فأبى، فلم يبق إلا الحرب، ودعت الضرورة إلى الاستعانة بمن هو أقوى من المبغي عليه، على حرب هذا العدو الغاشم، حتى تجتمع القوى في حربه وإخراجه.
نسأل الله أن يقضي عليه، ويرد كيده في نحره، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يكفي المسلمين شره وشر غيره وأن ينصرهم على أعدائهم، ويصلح حالهم، وأن يمنحهم الاستقامة على دينه، إنه سميع قريب.
ومن الواجب على الجميع الاتعاظ بهذه الفتنة والاستفادة منها في إصلاح أحوالنا، والاستقامة على طاعة الله ورسوله، وأن نحاسب أنفسنا حتى نستقيم على الحق وندع ما سواه.
فالله سبحانه يجعل البلايا عظة وعبرة لمن يشاء، كما قال جل وعلا:
{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (1)، وقال سبحانه:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (2).
كما نسأل الله سبحانه أن يجعل في هذه الحرب خيرا لنا، وأن يجعل عاقبتها حميدة.
(1) سورة النساء الآية 19
(2)
سورة البقرة الآية 216
ويجب ألا ننسى ما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم الأحزاب، وهم خير الناس، فقد تجمعت عليهم الأحزاب الكافرة، وجاءتهم من فوقهم، ومن أسفل منهم، بقوة قوامها عشرة آلاف مقاتل، وحاصروا المدينة وقال أهل النفاق:{مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (1) هكذا ذكر الله عنهم سبحانه في سورة الأحزاب في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} (2). حتى نصر الله نبيه، وأرسل الرياح التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وشردتهم كل مشرد، فرجعوا خائبين والحمد لله أبعد الشدة العظيمة التي وقعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
وهكذا يوم أحد حين تجمع الكفار، وأغاروا على المدينة وحاصروها، وجرى ما جرى من جروح، وقتل لمن قتل من الصحابة، حتى أنزل نصره وتأييده وسلم الله المسلمين، وأدار على أعدائه دائرة السوء، ورجعوا إلى مكة صاغرين، وأنجى
(1) سورة الأحزاب الآية 12
(2)
سورة الأحزاب الآية 12
الله نبيه بعدما قتل سبعون من الصحابة، وجرح النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة كثيرة من أصحابه. واجتهد المشركون في قتله فوقاه الله شرهم.
ولما أستنكر المسلمون هذا الحدث قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} (1) يعني "يوم بدر {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (2) الآية.
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم هو والمسلمون أصابهم ما أصابهم يوم أحد بسبب أمر فعله الرماة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسكوا ثغرا، وهو جبل الرماة، ولا يتركوه حتى لا يدخل منه جيش العدو، فلما رأى الرماة أن العدو قد أنكشف وانهزم، ظنوا أنها الفيصلة، فتركوا الثغر وصاروا يجمعون الغنيمة، وتركوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل العدو من ذلك الثغر، وحصل ما حصل من الهزيمة والمصيبة العظيمة على المسلمين، فأنزل الله قوله:{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} (3) يعني تقتلونهم" {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} (4) أي من الهزيمة للعدو، يعني بذلك الرماة، فشلوا وتنازعوا وتركوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصبروا، وعندما وقع منهم هذا سلط الله عليهم العدو وقال تعالى:{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (5).
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يصيبهم مثل هذه الهزيمة والقتل والجراح، بسبب ما وقع من بعضهم من الذنوب، فكيف بحالنا؟
فالواجب على أهل الإسلام أينما كانوا، أن يحاسبوا أنفسهم، وأن يجاهدوها في الله، ويتفقدوا عيوبهم، ويتوبوا إلى الله منها، كما قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} (6).
(1) سورة آل عمران الآية 165
(2)
سورة آل عمران الآية 165
(3)
سورة آل عمران الآية 152
(4)
سورة آل عمران الآية 152
(5)
سورة آل عمران الآية 165
(6)
سورة الحشر الآية 18
والمعنى انظروا ما قدمتم للآخرة، فإن كنتم قدمتم أعمالا خيرة فاحمدوا الله عليها واسألوه الثبات وإن كنتم قدمتم أعمالا سيئة فتوبوا إلى الله منها وارجعوا إلى الحق والصواب.
فالواجب على أهل الإيمان أينما كانوا أن يتقوا الله دائمآ، ويحاسبوا أنفسهم دائما، ولا سيما وقت الشدائد وعند المحن كحالنا اليوم، يجب الرجوع إلى الله والتوبة إليه، وحساب النفس وجهادها لله، وما سلط علينا هذا العدو، إلا بذنوبنا، فلا بد من جهاد النفس، ولا بد من الضراعة إلى الله، وسؤال الله سبحانه وتعالى أن ينصرنا على عدونا، وأن يذل عدونا وأن يكفينا شره وشر أنفسنا وشر الشيطان.
ولا بد من الضراعة إلى الله وسؤاله التأييد كما قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} (1) فلا بد من الضراعة إلى الله وسؤاله جل وعلا النصر.
والنبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ليلة الواقعة قام يناجي ربه، ويدعوه ويبكي، ويسأل ربه النصر حتى جاءه الصديق رضي الله عنه بعدما سقط رداؤه، وقال حسبك يا رسول الله، إن الله ناصرك، إن الله مؤيدك، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الناس، وسيد ولد آدم يتضرع إلى الله، فكيف بحالنا ونحن في أشد الضرورة إلى التوبة إلى الله، وإلى البكاء من خشيته، وإلى طلب النصر منه سبحانه وتعالى في ليلنا ونهارنا.
فالغفلة شرها عظيم، والمعاصي خطرها كبير. . فالواجب الإقلاع منها والتوبة إلى الله سبحانه، فالذي عنده تساهل في الصلاة يجب أن يحافظ عليها، ويبادر إليها، ويصلي في الجماعة، والذي يتعامل بالربا، يجب أن يترك ذلك وأن يتوب إلى الله منه، والذي عنده عقوق لوالديه يتقي الله ويبر والديه، والقاطع لأرحامه يتقي الله ويصل أرحامه، والذي يشرب المسكر يتقي الله ويقلع عن ذلك، ويتوب إلى الله، والذي يغتاب الناس يحذر ذلك، ويحفظ لسانه ويتقي الله.
(1) سورة الأنعام الآية 43
وهكذا يحاسب كل إنسان نفسه في كل عيوبه، ويتقي الله، وهكذا الموظف المقصر في وظيفته وفي أمانته يتقي الله ويؤدي حق الله، وحق عباده وهكذا الرؤساء كل واحد منهم سواء كان ملكا أو رئيس جمهورية أو وزيرا، كل واحد منهم عليه أن يحاسب نفسه لله، ويجاهدها لله، ويتوب إلى الله سبحانه من سيئ عمله. وهكذا كل موظف، كل جندي عليه أن يجاهد نفسه ويطيع الله ورسوله، ويطيع رئيسه في المعروف، ويتوب إلى الله من سيئات عمله، وتقصيره.
وهذا كله من أسباب النصر، والعاقبة الحميدة، فلا بد من الصدق مع الله وجهاد النفس، والتوبة الصادقة، من سائر الذنوب، من الرؤساء والمرؤوسين.
ولا بد من الدعاء والضراعة إلى الله ونطلب منه النصر والتأييد والعون على العدو، وسؤال الله أن يخذل العدو، ويرد كيده في نحره، ولا بد مع ذلك من الأسباب الحسية من قوة وجيش وسلاح، كما قال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (1)، وقال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} (2). فيجب على أهل الإيمان أن يعدوا العدة المناسبة لجهاد الأعداء بكل ما يستطيعون، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} (3) فعلى المسلمين أن يعدوا ما استطاعوا من القوة: من السلاح والرجال والتدريب، فإذا فعلوا ذلك كفاهم الله شر عدوهم، وجاءهم النصر من الله، يقول الله سبحانه:{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4)، ويقول سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (5)، ويقول سبحانه وبحمده:{وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (6).
(1) سورة الأنفال الآية 60
(2)
سورة النساء الآية 71
(3)
سورة الأنفال الآية 60
(4)
سورة البقرة الآية 249
(5)
سورة محمد الآية 7
(6)
سورة آل عمران الآية 120
كما يجب على المسلم أن يلح في الدعاء، ويسأل ربه من خيري الدنيا والآخرة، كما قال الله سبحانه وتعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (1). وقال جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (2)، وقال سبحانه وتعالى:{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (3).
فعلينا أن نلح في الدعاء، ولا نستبطئ الإجابة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح، يقول صلى الله عليه وسلم:«يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم أره يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء (4)» .
فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء وإن تأخرت الإجابة، فالله حكيم عليم، في تأخير الإجابة يؤخرها سبحانه لحكم بالغة، حتى يتفطن الإنسان لأسباب التأخير، ويحاسب نفسه، ويجتهد في أسباب القبول من التوبة النصوح، والعناية بالمكسب الحلال، وإقبال القلب على الله وجمعه عليه سبحانه حين الدعاء، إلى غير ذلك من الفوائد العظيمة، والنتائج المفيدة.
فلو أن كل إنسان يعطى الإجابة في الحال، لفاتت هذه المصالح العظيمة. ومما يوضح ما ذكرنا أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يجمع بينه وبين ولده يوسف، فتأخرت الإجابة مدة طويلة، ومكث يوسف في السجن بضع سنين، والداعي نبي كريم، هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام.
فعلم بذلك أن الله سبحانه له حكم عظيمة، في تأخير الإجابة وتعجيلها، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن
(1) سورة غافر الآية 60
(2)
سورة البقرة الآية 186
(3)
سورة النساء الآية 32
(4)
صحيح البخاري الدعوات (6340)، صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2735)، سنن الترمذي الدعوات (3387)، سنن أبو داود الصلاة (1484)، سنن ابن ماجه الدعاء (3853)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 396)، موطأ مالك النداء للصلاة (495).
تعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن تدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، إذا نكثر؟! قال: "الله أكثر (1)». . رواه الإمام أحمد في مسنده.
والمقصود أن المشروع للمسلم عندما تتأخر الإجابة أن يتأمل، ما هي الأسباب. لماذا تأخرت الإجابة؟ لماذا سلط علينا العدو؟ لماذا هذا البلاء؟
يتأمل ويحاسب نفسه ويجاهدها حتى تحصل له البصيرة بعيوب نفسه، وحتى يعالجها بالعلاج الشرعي، والدولة تعالج نقصها، والشخص يعالج نقصه ويداويه، كل داء له دواء، كما قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ودواء الذنوب التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على طاعته، هذا هو دواء الذنوب.
فالواجب على كل إنسان أن يعالج ذنبه ومعصيته بالتوبة النصوح، ويحاسب نفسه، ويعلم أن ربه سبحانه ليس بظلام للعبيد.
فالله سبحانه لم يظلمك، بل أنت الظالم لنفسك، تأمل وحاسب نفسك، وجاهدها، وهذا الحاكم الظالم، أعني حاكم العراق صدام حسين، يرمي السعودية بالصواريخ، ماذا فعلت معه السعودية؟ لقد ساعدته مساعدة عظيمة على عدوه، ساعدته بالمساعدات التي ذكرها صدام في كتابه لخادم الحرمين الشريفين وذكر أشياء كثيرة من المساعدات، وأخفى الكثير.
والمطلوب منه الآن الخروج من الكويت، وسحب جيشه منها، وبعد ذلك يحصل التفاوض في بقية المشاكل. . فهل هذا هو جزاء الإحسان للكويت بأن يخرجهم من ديارهم، وقد أحسنوا إليه كثيرا؟!
وهل جزاء ما عملت السعودية أن يضربها بالصواريخ، ويحشد جيوشه على حدودها؟
هذا هو جزاء المحسن عند صدام حسين، والله يقول سبحانه:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (2).
(1) سنن الترمذي الدعوات (3573)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 329).
(2)
سورة الرحمن الآية 60
لقد أحسنت إليه السعودية عند الملمات، وواسته عند الشدائد، والكويت كذلك، ودول الخليج كذلك، كلهم ساعدوه ومدوه بما يستطيعون، ثم كانت هذه هي العاقبة من اللئيم الغشوم، لقد طلبوا منه أن يخرج من الكويت، وأن يسحب جيوشه منها، ثم يكون بعد ذلك التفاوض والنظر في المشاكل التي بينه وبين الكويت، وحلها بالوسائل السلمية.
لكنه من خبثه وظلمه يحث أنصاره وأذنابه على أن يؤذوا الناس في البلدان الأخرى، ثم من تدليسه ونفاقه وخبثه يضرب اليهود الآن حتى يفرق الجمع الموجود، وحتى يرفع عنه الحصار الذي وقع عليه.
لماذا ترك اليهود قبل الكويت، ويضربهم الآن، كان ينبغي له أن يضرب اليهود لأنهم هم العدو، بدل أن يضرب جيرانه، ومن أحسن إليه.
لكن خبثه وظلمه وغشمه ونفاقه ومكره، حمله على أن يضرب اليهود الآن، حتى يفرق هؤلاء المجتمعين لحربه، وحتى يخرج من هذا الحصار المحيط به، ولكنها لم ترد عليه، حتى يظل هذا الحصار، وحتى يقضي الله فيه أمره سبحانه وتعالى، وحتى يخيب الله آماله، ويرد كيده في نحره بحوله وقوته سبحانه.
نسأل الله أن يرد كيده في نحره، وأن يستجيب دعوات المسلمين ضده، فهو ظالم ملبس مخادع منافق، يجمع كل شر وكل حيلة، وكل بلاء للخداع والظلم والعدوان.
ولكن نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يقضي عليه، وأن يدير عليه دائرة السوء، وأن يخذل الله أنصاره وأعوانه، وأن يرد من هو حائر في أمره إلى البصيرة، والهدى وأن يقضي على أنصاره الظالمين المعتدين، وأن يهلكهم معه، ويسلط عليهم جندا من عنده، إنه جواد كريم.
كما نسأله سبحانه أن ينصر المسلمين عليه وحزبه، وأن ينصر من نصر المسلمين عليه، وعلى أعوانه حتى يقضي الله على هذا الظالم، وحتى يخرجه من الكويت صاغرا ذليلا.
كما نسأل الله سبحانه أن يولى على العراق رجلا صالحا، يخاف الله ويراقبه ويحكم في العراقيين شريعة الله، ويبسط فيهم العدل والإحسان.
وعلينا أيها الأخوة، وعلى كل مسلم في كل مكان، أن نتقي الله سبحانه، وأن نستقيم على دينه، وأن نجاهد أنفسنا في ذلك. . مع سؤاله سبحانه النصر المعجل لأوليائه، وأهل طاعته المظلومين، وأن يكبت هذا الظالم المعتدي، وأن يسلط عليه جندا من عنده، وأن يقضي عليه، وأن يولي على العراق من يخاف الله فيهم، ويحسن إليهم، ويحكم فيهم بشرع الله، إنه جل وعلا جواد كريم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. . وصلى الله على نبينا محمد عبد الله ورسوله، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
حكم إقامة المسافر
التي تقطع حكم السفر
إعداد: اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه. . وبعد:
فبناء على محضر مجلس هيئة كبار العلماء رقم (10) المتخذ في الدورة الخامسة الاستثنائية المنعقدة بمدينة الرياض في شهر ربيع أول عام 1401 هـ المتضمن طلب جمع ما تيسر من أقوال العلماء في حكم إقامة المسافر التي تقطع حكم السفر.
أعدت اللجنة الدائمة بحثا مختصرا في الموضوع شمل نقولا عن بعض العلماء. وفيما يلي تلك النقول. . والله المستعان:
1 -
قال البخاري رحمه الله في صحيحه:
"باب ما جاء في التقصير، وكم يقيم حتى يقصر "
1080 -
حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عاصم وحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا (1)» .
(الحديث 1080 - طرفاه في: 4298، 4299).
1081 -
حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال سمعت أنسا يقول «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكة شيئا؟ قال أقمنا بها عشرا (2)» .
(1) صحيح البخاري الجمعة (1080)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453)، سنن أبو داود الصلاة (1231)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 282)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(الحديث 1081 - طرفه في: 4297).
وقال ابن حجر رحمه الله في شرح ذلك (1):
(باب ما جاء في التقصير) تقول: قصرت الصلاة بفتحتين مخففا قصرا، وقصرتها بالتشديد تقصيرا، وأقصرتها إقصارا، والأول أشهر في الاستعمال. والمراد به تخفيف الرباعية إلى ركعتين ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أن لا تقصير في صلاة الصبح ولا في صلاة المغرب، وقال النووي: ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح. وذهب بعض السلف إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو جهاد، وبعضهم كونه سفر طاعة، وعن أبي حنيفة والثوري في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية، قوله:(وكم يقيم حتى يقصر) في هذه الترجمة إشكال لأن الإقامة ليست سببا للقصر، ولا القصر غاية للإقامة، قاله الكرماني وأجاب بأن عدد الأيام المذكورة سبب لمعرفة جواز القصر فيها ومنع الزيادة عليها، وأجاب غيره بأن المعنى وكم إقامته المغياة بالقصر؟ وحاصله كم يقيم مقصرا؟ وقيل المراد كم يقصر حتى يقيم؟ أي حتى يسمى مقيما فانقلب اللفظ، أو حتى هنا بمعنى حين أي كم يقيم حين يقصر؟ وقيل فاعل يقيم هو المسافر، والمراد إقامته في بلد ما غايتها التي إذا حصلت يقصر. قوله (عن عاصم) هو ابن سليمان، وحصين بالضم هو ابن عبد الرحمن. قوله (تسعة عشر) أي يوما بليلته، زاد في المغازي من وجه آخر عن عاصم وحده " بمكة "، وكذا رواه ابن المنذر عن طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة، وأخرجه أبو داود من هذا الوجه بلفظ "سبعة عشر" بتقديم السين، وكذا أخرجه من طريق حفص بن غياث عن عاصم قال: وقال عباد بن منصور عن عكرمة "تسع عشرة" كذا ذكرها معلقة وقد وصلها البيهقي. ولأبي داود أيضا من حديث " عمران بن حصين «غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (2)» وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن
(1) فتح الباري جـ 2، ص 561 - 563.
(2)
سنن أبو داود الصلاة (1229).
عباس أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمسة عشر يقصر الصلاة، وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما.
وأما رواية "خمسة عشر" فضعفها النووي في الخلاصة، وليس بجيد لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة فليحمل على أن الراوي ظن أن الأصل رواية سبعة عشر فحذف منها يومي الدخول والخروج فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسعة عشر أرجح الروايات، وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه، ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة، وأخذ الثوري وأهل الكوفة برواية خمسة عشر لكونها أقل ما ورد، فيحمل ما زاد على أنه وقع اتفاقا. وأخذ الشافعي بحديث عمران بن حصين لكن محله عنده فيمن لم يزمع الإقامة، فإنه إذا مضت عليه المدة المذكورة وجب عليه الإتمام، فإن أزمع الإقامة في أول الحال على أربعة أيام أتم، على خلاف بين أصحابه في دخول يومي الدخول والخروج فيها أولا، وحجته حديث أنس الذي يليه. قوله:(فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا) ظاهره أن السفر إذا زاد على تسعة عشر لزم الإتمام، وليس ذلك المراد، وقد صرح أبو يعلى عن شيبان عن أبي عوانة في هذا الحديث بالمراد ولفظه "إذا سافرنا فأقمنا في موضع تسعة عشر" ويؤيده صدر الحديث وهو قوله "أقام " وللترمذي من وجه آخر عن عاصم " فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا". قوله في حديث أنس "خرجنا من المدينة في رواية شعبة عن يحيى بن أبي إسحاق عند مسلم إلى الحج " قوله:(فكان يصلي ركعتين ركعتين) في رواية البيهقي من طريق علي بن عاصم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس "إلا في المغرب " قوله: (أقمنا بها عشرا) لا يعارض ذلك حديث ابن عباس المذكور، لأن حديث ابن عباس كان في فتح مكة وحديث أنس في حجة الوداع وسيأتي بعد باب من حديث ابن عباس قدم النبي صلى
الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة" الحديث. ولا شك أنه خرج من مكة صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها كما قال أنس وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي:
إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. وأما قول ابن رشيد: أراد البخاري أن يبين أن حديث أنس داخل في حديث ابن عباس لأن إقامة عشر داخل في إقامة تسع عشرة- فأشار بذلك إلى أن الأخذ بالزائد متعين- ففيه نظر لأن ذلك إنما يجيء على اتحاد القصتين، والحق أنهما مختلفان، فالمدة التي في حديث ابن عباس يسوغ الاستدلال بها على من لم ينو الإقامة، بل كان مترددا متى يتهيأ له فراغ حاجته يرحل، والمدة التي في حديث أنس يستدل بها على من نوى الإقامة، لأنه صلى الله عليه وسلم في أيام الحج كان جازما بالإقامة تلك المدة، ووجه الدلالة من حديث ابن عباس لما كان الأصل في المقيم الإتمام. فلما لم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام في حال السفر أكثر من تلك المدة جعلها غاية للقصر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال كثيرة كما سيأتي، وفيه أن الإقامة في أثناء السفر تسمى إقامة، وإطلاق اسم البلد على ما جاورها وقرب منها لأن منى وعرفة ليستا من مكة، أما عرفة فلأنها خارج الحرم فليست من مكة قطعا، وأما منى ففيها احتمال، والظاهر أنها ليست من مكة إلا إن قلنا إن اسم مكة يشمل جميع الحرم، قال أحمد بن حنبل ليس لحديث أنس وجه إلا أنه حسب أيام إقامته صلى الله عليه وسلم في حجته منذ دخل مكة إلى أن خرج منها لا وجه له إلا هذا. وقال المحب الطبري: أطلق على ذلك إقامة بمكة، لأن هذه المواضع مواضع النسك وهي في حكم التابع لمكة لأنها المقصود بالأصالة لا يتجه سوى ذلك كما قال الإمام أحمد والله أعلم. وزعم الطحاوي أن الشافعي لم يسبق إلى أن المسافر يصير بنية إقامته أربعة أيام مقيما وقد قال أحمد نحو ما قال الشافعي، وهي رواية عن مالك.
2 -
قال النووي رحمه الله في شرحه للأحاديث الواردة في صحيح مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها قولها: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر) اختلف العلماء في القصر في السفر فقال الشافعي ومالك بن أنس وأكثر العلماء يجوز القصر والإتمام والقصر أفضل ولنا قول أن الإتمام أفضل ووجه أنهما سواء والصحيح المشهور أن القصر أفضل وقال أبو حنيفة وكثيرون القصر واجب ولا يجوز الإتمام ويحتجون بهذا الحديث وبأن أكثر فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كان القصر واحتج الشافعي وموافقوه بالأحاديث المشهورة في صحيح مسلم وغيره أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنهم القاصر ومنهم المتمم ومنهم الصائم ومنهم المفطر لا يعيب بعضهم على بعض وبأن عثمان كان يتم وكذلك عائشة وغيرها وهو ظاهر قول الله عز وجل:. . . {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1). . . وهذا يقتضي رفع الجناح والإباحة. وأما حديث فرضت الصلاة ركعتين فمعناه فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في صلاة الحضر ركعتان على سبيل التحتيم وأقرت صلاة السفر على جواز الاقتصار وتثبت دلائل جواز الإتمام فوجب المصير إليها والجمع بين دلائل الشرع قوله: (فقلت لعروة ما بال عائشة تتم في السفر فقال: إنها تأولت كما تأول عثمان) اختلف العلماء في تأويلهما، فالصحيح الذي عليه المحققون أنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام وقيل لأن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في منازلهما وأبطله المحققون بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أولى بذلك منهما وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقيل لأن عثمان تأهل بمكة وأبطلوه بأن النبي صلى الله عليه وسلم سافر بأزواجه وقصر وقيل فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا معه لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا وأبطلوه بأن هذا المعنى كان موجودا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بل
(1) سورة النساء الآية 101
اشتهر أمر الصلاة في زمن عثمان أكثر مما كان وقيل لأن عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج وأبطلوه بأن الإقامة بمكة حرام على المهاجر فوق ثلاث وقيل كان لعثمان أرض بمنى أبطلوه بأن ذلك لا يقتضي الإتمام والإقامة والصواب الأول ثم مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والجمهور أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وشرط بعض السلف كونه سفر خوف وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو غزو وبعضهم كونه سفر طاعة قال الشافعي ومالك وأحمد والأكثرون ولا يجوز في سفر المعصية وجوزه أبو حنيفة والثوري، ثم قال الشافعي ومالك وأصحابهما والليث والأوزاعي وفقهاء أصحاب الحديث وغيرهم لا يجوز القصر إلا في مسيرة مرحلتين قاصدتين وهي ثمانية وأربعون ميلا هاشمية، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربع وعشرون إصبعا معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات وقال أبو حنيفة والكوفيون لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل وروي عن عثمان وابن مسعود وحذيفة وقال داود وأهل الظاهر يجوز في السفر الطويل والقصير حتى لو كان ثلاثة أميال قصر. قوله "عن عبد الله بن بابيه " هو بباء موحدة ثم ألف موحدة أخرى مفتوحة ثم مثناة تحت ويقال فيه ابن باباه وابن بابي بكسر الباء الثانية. قوله:«عجبت ما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته (1)» هكذا هو في بعض الأصول ما عجبت وفي بعضها عجبت مما عجبت وهو المشهور المعروف وفيه جواز قول تصدق الله علينا واللهم تصدق علينا وقد كرهه بعض السلف وهو غلط ظاهر وقد أوضحته في أواخر كتاب الأذكار وفيه جواز القصر في غير الخوف وفيه أن المفضول إذا رأى الفاضل يعمل شيئا يشكل عليه يسأله عنه والله أعلم).
قوله في الحضر ركعة وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد جميعا عن القاسم بن مالك قال: عمرو حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين وعلى
(1) صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (686)، سنن الترمذي تفسير القرآن (3034)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1433)، سنن أبو داود الصلاة (1199)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1065)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 36)، سنن الدارمي الصلاة (1505).
المقيم أربعا وفي الخوف ركعة.
حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن موسى بن سلمة الهذلي قال سألت ابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلما (1).
(1) النووي على مسلم جـ 5، ص 194 - 197.
3 -
قال الترمذي رحمه الله:
- باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟
- حدثنا أحمد بن منيع أخبرنا هشيم أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي أخبرنا أنس بن مالك قال: «خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين، قال قلت لأنس: كم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال: عشرا (1)» .
وفي الباب عن ابن عباس وجابر.
قال أبو عيسى: حديث أنس حديث حصن صحيح.
وقد روي عن ابن عباس «عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (2)» ، قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة.
وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة.
وروى عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة.
وروي عنه ثنتي عشرة.
وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقام أربعا صلى أربعا.
وروى ذلك عنه قتادة وعطاء الخراساني وروى عنه داود بن أبي هند خلاف هذا. واختلف أهل العلم بعد في ذلك.
فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة، وقالوا: إذا أجمع على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، سنن الدارمي الصلاة (1510).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، سنن الدارمي الصلاة (1510).
وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة.
وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة. وأما إسحاق فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس، قال: لأنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذا أجمع على إقامة تسع عشرة أتم الصلاة.
ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة، وإن أتى عليه سنون.
حدثنا هناد أخبرنا أبو معاوية عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال: «سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا فصلى تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين (1)» ، قال ابن عباس: فنحن نصلي فيما بيننا وبين تسع عشرة ركعتين ركعتين، فإذا أقمنا أكثر من ذلك صلينا أربعا.
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وقال صاحب تحفة الأحوذي في شرح ذلك:
باب ما جاء في كم تقصر الصلاة؟!
يريد بيان المدة التي إذا أراد المسافر الإقامة في موضع إلى تلك المدة يتم الصلاة، وإذا أراد الإقامة إلى أقل منها يقصر وقد عقد البخاري في صحيحه بابا بلفظ: باب في كم تقصر الصلاة. لكنه أراد بيان المسافة التي إذا أراد المسافر الوصول إليها جاز له القصر ولا يجوز له في أقل منها.
قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة) أي متوجهين إلى مكة لحجة الوداع (فصلى ركعتين) أي في الرباعية، وفي رواية الصحيحين علي ما في المشكاة. فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (قال عشرا) أي أقام بمكة عشرا، قال القاري في المرقاة: الحديث بظاهره ينافي مذهب الشافعي من أنه إذا أقام أربعة أيام يجب الإتمام. . انتهى.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1080)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453)، سنن أبو داود الصلاة (1231)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
قال صاحب تحفة الأحوذي رحمه الله في شرحه لذلك:
قلت: قد نقل القاري عن ابن حجر الهيثمي ما لفظه: لم يقم العشر التي أقامها لحجة الوداع بموضع واحد، لأنه دخلها يوم الأحد وخرج منها صبيحة الخميس، فأقام بمنى، والجمعة بنمرة وعرفات، ثم عاد السبت بمنى لقضاء نسكه، ثم بمكة لطواف الإفاضة، ثم بمنى يومه فأقام بها بقيته، والأحد والاثنين والثلاثاء إلى الزوال، ثم نفر فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع، ثم رحل قبل صلاة الصبح. فلتفرق إقامته قصر في الكل. وبهذا أخذنا أن للمسافر إذا دخل محلا أن يقصر فيه ما لم يصر مقيما أو ينو إقامة أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أو يقيمهما واستدلوا لذلك بخبر الصحيحين، يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا، وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار كما روياه أيضا. فالإذن في الثلاثة يدل على بقاء حكم السفر فيها بخلاف الأربعة انتهى.
وقال الحافظ في فتح الباري: قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة كما في حديث ابن عباس، ولاشك أنه خرج صبح الرابع عشر فتكون مدة الإقامة بمكة وضواحيها عشرة أيام بلياليها، كما قال أنس رضي الله عنه، وتكون مدة إقامته بمكة أربعة أيام سواء، لأنه خرج منها في اليوم الثامن فصلى الظهر بمنى، ومن ثم قال الشافعي: إن المسافر إذا أقام ببلدة قصر أربعة أيام، وقال أحمد: إحدى وعشرين صلاة. . انتهى كلام الحافظ.
قوله: (وفي الباب عن ابن عباس وجابر) أما حديث ابن عباس فأخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجه وأخرجه الترمذي في هذا الباب. وأما حديث جابر فأخرجه أبو داود.
قوله: (حديث أنس حديث حسن صحيح)، وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
قوله: (وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في
بعض أسفاره) أي في فتح مكة، وأما حديث أنس المتقدم فكان في حجة الوداع قاله الحافظ ابن حجر، وحديث ابن عباس هذا أخرجه البخاري في صحيحه (تسع عشرة يصلي ركعتين)، وفي لفظ للبخاري تسعة عشر يوما، وفي رواية لأبي داود عن ابن عباس سبع عشرة، وفي أخرى له عنه خمس عشرة، وفي حديث عمران بن حصين. شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول: يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر. رواه أبو داود. (قال ابن عباس: فنحن إذا أقمنا ما بيننا وبين تسع عشرة صلينا ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا الصلاة)، هذا هو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما، ومنه أخذ إسحاق بن راهويه ورآه أقوى المذاهب. (وروي عن علي أنه قال: من أقام عشرة أيام أتم الصلاة) أخرجه عبد الرزاق بلفظ: إذا أقمت بأرض عشرا فأتمم. فإن قلت أخرج اليوم أو غدا فصل ركعتين. وإن أقمت شهرا (وروي عن ابن عمر أنه قال: من أقام خمسة عشر يوما أتم الصلاة)، أخرجه محمد بن الحسن في كتاب الآثار أخبرنا أبو حنيفة حدثنا موسى بن مسلم عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: إذا كنت مسافرا فوطنت نفسك على إقامة خمسة عشر يوما فأتمم الصلاة، وإن كنت لا تدري فاقصر الصلاة، "وأخرج الطحاوي عن ابن عباس وابن عمر قالا: إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يوما أتم الصلاة، وروي عنه ثنتي عشرة)، أخرجه عبد الرزاق. كذا في شرح الترمذي لسراج أحمد السرهندي.
(وروي عنه داود بن أبي هند خلاف هذا) روى محمد بن الحسن في الحجج عن سعيد بن المسيب قال: إذا قدمت بلدة فأقمت خمسة عشر يوما فأتم الصلاة، (واختلف أهل العلم بعد) بالبناء على الضم أي بعد ذلك (في ذلك) أي فيما ذكر من مدة الإقامة (فأما سفيان الثوري وأهل الكوفة فذهبوا إلى توقيت خمس عشرة وقالوا إذا أجمع) أي نوى (على إقامة خمس عشرة أتم الصلاة) وهو قول أبي حنيفة، واستدلوا بما رواه أبو داود من طريق محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: «أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة (1)»، قال المنذري: وأخرجه ابن ماجه وأخرجه النسائي بنحوه وفي إسناده محمد بن إسحاق واختلف على ابن إسحاق فيه فروى عنه مسندا ومرسلا وروى عنه عن الزهري من قوله انتهى، وقد ضعف النووي هذه الرواية، لكن تعقبه الحافظ في فتح الباري حيث قال: وأما رواية خمسة عشر فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد، لأن رواتها ثقات ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك فهي صحيحة. . انتهى كلام الحافظ.
واستدلوا أيضا بأثر ابن عمر المذكور، وقد روي عنه توقيت ثنتي عشرة كما حكاه الترمذي (وقال الأوزاعي: إذا أجمع على إقامة ثنتي عشرة أتم الصلاة).
قال الشوكاني في النيل: لا يعرف له مستند فرعي، وإنما ذلك اجتهاد من نفسه. . . انتهى.
قلت: لعله استند بما روي عن ابن عمر توقيت ثنتي عشرة. (وقال مالك والشافعي وأحمد: إذا أجمع على إقامة أربع أتم الصلاة). قال في السبل صفحة 156: وهو مروي عن عثمان والمراد غير يوم الدخول والخروج، واستدلوا بمنعه صلى الله عليه وسلم المهاجرين بعد مضي النسك أن يزيدوا على ثلاثة أيام في مكة، فدل على أنه بالأربعة الأيام يصير مقيما. . انتهى.
قلت: ورد هذا الاستدلال بأن الثلاث قدر قضاء الحوائج لا لكونها غير إقامة، واستدلوا أيضا بما روى مالك عن نافع عن أسلم عن عمر أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثة أيام، قال الحافظ في التلخيص صححه أبو زرعة. (أما إسحاق) يعني ابن راهويه (فرأى أقوى المذاهب فيه حديث ابن عباس) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقام في بعض أسفاره تسع عشرة يصلي ركعتين (قال) أي إسحاق (لأنه) أي ابن عباس (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم تأوله بعد النبي صلى الله عليه وسلم أي أخذ به
(1) صحيح البخاري المغازي (4300)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن أبو داود الصلاة (1230)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076).
وعمل عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (ثم أجمع أهل العلم على أن للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامته وإن أتى عليه سنون)، جمع سنة أخرج البيهقي عن أنس أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، قال النووي: إسناده صحيح وفيه عكرمة بن عمار. واختلفوا في الاحتجاج به واحتج به مسلم في صحيحه انتهى، وأخرج عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة. . انتهى.
وأخرج البيهقي في المعرفة عن عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر قال: ارتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة وكنا نصلي ركعتين. . انتهى. قال النووي: وهذا سند على شرط الصحيحين، كذا في نصب الراية، وذكر الزيلعي فيه آثارا أخرى.
قوله: (سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا) أي في فتح مكة كما تقدم (فصلى)، أي فأقام فصلى (تسعة عشر يوما ركعتين ركعتين)، وفي رواية للبخاري أقام النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يقصر، قال الحافظ في الفتح أي يوما بليلة زاد في المغازي بمكة وأخرجه أبو داود بلفظ سبعة عشر بتقديم السين، وله أيضا من حديث عمران بن حصين:«غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (1)» . وله من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصلاة (2)» .
وجمع البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عد أحدهما، وأما رواية خمس عشرة فضعفها النووي في الخلاصة وليس بجيد، لأن رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق، فقد أخرجها النسائي من رواية عراك بن مالك عن عبيد الله كذلك، وإذا ثبت أنها صحيحة، فليحمل على أن الراوي ظن أن
(1) سنن أبو داود الصلاة (1229).
(2)
صحيح البخاري المغازي (4300)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن أبو داود الصلاة (1230)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1076).
الأصل رواية سبع عشرة، فحذف منها يومي الدخول والخروج، فذكر أنها خمس عشرة، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة أرجح الروايات. وبهذا أخذ إسحاق بن راهويه. ويرجحها أيضا أنها أكثر ما وردت به الروايات الصحيحة. انتهى كلام الحافظ، وقال في التلخيص بعد ذكر الروايات المذكورة. ورواية عبد بن حميد عن ابن عباس بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة أقام عشرين يوما يقصر الصلاة ما لفظه: قال البيهقي أصح الروايات في ذلك رواية البخاري وهي رواية تسع عشرة، وجمع إمام الحرمين والبيهقي بين الروايات السابقة باحتمال أن يكون في بعضها لم يعد يومي الدخول والخروج وهي رواية سبعة عشر وعدها في بعضها، وهي رواية تسع عشرة وعد يوم الدخول ولم يعد الخروج وهي رواية ثمانية عشر. قال الحافظ: وهو جمع متين وتبقى رواية خمسة عشر شاذة لمخالفتها ورواية عشرين وهي صحيحة الإسناد، إلا أنها شاذة أيضا، اللهم إلا أن يحمل على جبر الكسر، ورواية ثمانية عشر ليست بصحيحة من حيث الإسناد. . انتهى.
قوله: (هذا حديث حسن غريب صحيح)، وأخرجه البخاري وابن ماجه وأحمد (1)
(1) تحفة الأحوذي جـ3، ص 110 - 116.
قال الكاساني رحمه الله:
4 -
(وأما بيان ما يصير المسافر به مقيما، فالمسافر يصير مقيما بوجود الإقامة، والإقامة تثبت بأربعة أشياء أحدها صريح نية الإقامة وهو أن ينوي الإقامة خمسة عشر يوما في مكان واحد صالح للإقامة فلا بد من أربعة أشياء نية الإقامة ونية مدة الإقامة واتحاد المكان وصلاحيته للإقامة (أما) نية الإقامة فأمر لا بد منه عندنا حتى لو دخل مصر أو مكث فيه شهرا أو أكثر لانتظار القافلة أو لحاجة أخرى يقول أخرج اليوم أو غدا ولم ينو الإقامة لا يصير مقيما وللشافعي فيه قولان في قول إذا أقام أكثر مما أقام رسول صلى الله عليه وسلم بتبوك كان
مقيما وإن لم ينو الإقامة ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما أو عشرين يوما وفي قول إذا أقام أربعة أيام كان مقيما ولا يباح له القصر (احتج) لقوله الأول: إن الإقامة متى وجدت حقيقة ينبغي أن تكمل الصلاة قلت الإقامة أو كثرت لأنها ضد السفر والشيء يبطل بما يضاده إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بتبوك تسعة عشر يوما وقصر الصلاة فتركنا هذا القدر بالنص فنأخذ بالقياس فيما وراءه ووجه قوله الآخر على النحو الذي ذكرنا أن القياس أن يبطل السفر بقليل الإقامة، لأن الإقامة قرار والسفر انتقال والشيء ينعدم بما يضاده فينعدم حكمه ضرورة إلا أن قليل الإقامة لا يمكن اعتباره لأن المسافر لا يخلو عن ذلك عادة فسقط اعتبار القليل لمكان الضرورة ولا ضرورة في الكثير والأربعة في حد الكثرة لأن أدنى درجات الكثير أن يكون جمعا والثلاثة وإن كانت جمعا لكنها أقل الجمع فكانت في حد القلة من وجه فلم تثبت الكثرة المطلقة فإذا صارت أربعة صارت في حد الكثرة على الإطلاق لزوال معنى القلة من جميع الوجوه (ولنا) إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان شهرا وكان يصلي ركعتين وعن علقمة أنه أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر وروي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه قال:«شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة، فأقام بمكة ثمان عشرة ليلة لا يصلي إلا الركعتين، ثم قال لأهل مكة: صلوا أربعا فإنا قوم سفر (1)» والقياس بمقابلة النص والإجماع باطل، وأما مدة الإقامة فأقلها خمسة عشر يوما عندنا وقال مالك والشافعي أقلها أربعة أيام وحجتهما ما ذكرنا وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمهاجرين المقام بمكة بعد قضاء النسك ثلاثة أيام فهذه إشارة إلى أن الزيادة على الثلاث توجب حكم الإقامة (ولنا) ما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخلت بلدة وأنت مسافر وفي عزمك أن تقيم بها خمسة عشر يوما فأكمل الصلاة وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصر وهذا باب لا يوصل إليه
(1) سنن الترمذي الجمعة (545)، سنن أبو داود الصلاة (1229)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 432).
بالاجتهاد، لأنه من جملة المقادير ولا يظن بهما التكلم جزافا، فالظاهر أنهما قالاه سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عبد الله بن عباس وجابر وأنس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه دخلوا مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة ومكثوا ذلك اليوم واليوم الخامس واليوم السادس واليوم السابع، فلما كان صبيحة اليوم الثامن وهو يوم التروية خرجوا إلى منى وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه ركعتين وقد وطنوا أنفسهم على إقامة أربعة أيام دل أن التقدير بالأربعة غير صحيح وما روي من الحديث فليس فيه ما يشير إلى تقدير أدنى مدة الإقامة بالأربعة، لأنه يحتمل أنه علم أن حاجتهم ترتفع في تلك المدة فرخص بالمقام ثلاثا لهذا التقدير الإقامة (وأما) اتحاد المكان، فالشرط نية مدة الإقامة في مكان واحد لأن الإقامة قرار والانتقال يضاده ولا بد من الانتقال في مكانين وإذا عرف هذا فنقول إذا نوى المسافر الإقامة خمسة عشر يوما في موضعين فإن كانا مصرا واحدا أو قرية واحدة صار مقيما لأنهما متحدان حكما ألا يرى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر فقد وجد الشرط وهو نية كمال مدة الإقامة في مكان واحد فصار مقيما وإن كانا مصرين نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة أو قريتين أو أحدهما مصر والآخر قرية لا يصير مقيما لأنهما مكانان متباينان حقيقة وحكما ألا ترى أنه لو خرج إليه المسافر يقصر فلم يوجد الشرط وهو نية الإقامة في موضع واحد خمسة عشر يوما فلغت نيته، فإن نوى المسافر أن يقيم بالليالي في أحد الموضعين ويخرج بالنهار إلى الموضع الآخر فإن دخل أولا الموضع الذي نوى المقام فيه بالنهار لا يصير مقيما وإن دخل الموضع الذي نوى الإقامة فيه بالليالي يصير مقيما ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرا لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه ألا ترى أنه إذا قيل للسوقي أين تسكن يقول: في محلة كذا، وهو بالنهار يكون بالسوق.
وذكر في كتاب المناسك أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة خمسة عشر يوما أو دخل قبل أيام العشر لكن بقي إلى يوم التروية أقل
من خمسة عشر يوما ونوى الإقامة، لا يصح لأنه لا بد له من الخروج إلى عرفات فلا تتحقق نية إقامته خمسة عشر يوما فلا يصح وقيل كان سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة وذلك أنه كان مشغولا يطلب الحديث قال: فدخلت مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا فجعلت أتم الصلاة فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة فقال لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا تصير مسافرا فقلت أخطأت في مسألة في موضعين فدخلت مجلس محمد واشتغلت بالفقه وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ علم الفقه فيصير مبعثه للطلبة على طلبه (وأما) المكان الصالح للإقامة فهو موضع اللبث والقرار في العادة نحو الأمصار والقرى، وأما المفازة والجزيرة أو السفينة فليست موضع الإقامة حتى لو نوى الإقامة في هذه المواضع خمسة عشر يوما لا يصير مقيما. كذا روي عن أبي حنيفة وروي عن أبي يوسف في الأعراب والأكراد والتركمان إذا نزلوا بخيامهم في موضع ونووا الإقامة خمسة عشر يوما صاروا مقيمين.
فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يوما يصير مقيما كما في القرية، وروي عنه أيضا أنهم لم يصيروا مقيمين. فعلى هذا إذا نوى المسافر الإقامة فيه لا يصح، ذكر الروايتين عن أبي يوسف في العيون فصار الحاصل أن عند أبي حنيفة لا يصير مقيما في المفازة وإن كان ثمة قوم وطنوا ذلك المكان بالخيام والفساطيط وعن أبي يوسف روايتان وعلى هذا الإمام إذا دخل دار الحرب مع الجند ومعهم أخبية وفساطيط فنووا الإقامة خمسة عشر يوما في المفازة والصحيح قول أبي حنيفة لأن موضع الإقامة موضع القرار، والمفازة ليست موضع القرار في الأصل فكانت النية لغوا ولو حاصر المسلمون مدينة من مدائن أهل الحرب ووطنوا أنفسهم على إقامة خمسة عشر يوما لم تصح نية الإقامة ويقصرون وكذا إذا نزلوا المدينة وحاصروا
أهلها في الحصن وقال أبو يوسف: إن كانوا في الأخبية والفساطيط خارج البلدة فكذلك وإن كانوا في الأبنية صحت نيتهم. وقال زفر في الفصلين جميعا: إن كانت الشوكة والغلبة للمسلمين صحت نيتهم وإن كانت للعدو لم تصح وجه قول زفر أن الشوكة إذا كانت للمسلمين يقع الأمن لهم من إزعاج العدو إياهم، فيمكنهم القرار ظاهرا فنية الإقامة صادفت محلها فصحت وأبو يوسف يقول: الأبنية موضع الإقامة فتصح نية الإقامة فيها بخلاف الصحراء (ولنا) ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله وقال: إنا نطيل الثواء في أرض الحرب فقال: صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك، ولأن نية الإقامة نية القرار، وإنما تصح في محل صالح للقرار ودار الحرب ليست موضع قرار المسلمين المحاربين لجواز أن يزعجهم العدو ساعة فساعة لقوة تظهر لهم، لأن القتال سجال أو تنفذ لهم في المسلمين حيلة لأن الحرب خدعة فلم تصادف النية محلها فلغت ولأن غرضهم من المكث هنالك فتح الحصن دون التوطن وتوهم انفتاح الحصن في كل ساعة قائم فلا تتحقق نيتهم إقامة خمسة عشر يوما، فقد خرج الجواب عما قالا وعلى هذا الخلاف إذا حارب أهل العدل البغاة في دار الإسلام في غير مصر أو حاصروهم ونووا الإقامة خمسة عشر يوما واختلف المتأخرون في الأعراب والأكراد والتركمان الذين يسكنون في بيوت الشعر والصوف قال بعضهم لا يكونون مقيمين أبدا وإن نووا الإقامة مدة الإقامة لأن المفازة ليست موضع الإقامة والأصح أنهم مقيمون لأن عادتهم الإقامة في المفاوز دون الأمصار والقرى فكانت المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولأن الإقامة للرجل أصل والسفر عارض وهم لا ينوون السفر بل ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى حتى لو ارتحلوا عن أماكنهم وقصدوا موضعا آخر بينهما مدة سفر صاروا مسافرين في الطريق (1).
5 -
قال ابن القاسم رحمه الله: قلت لمالك الرجل المسافر يمر بقرية
(1) البدائع ص 97 - 99.
من قراه في سفره وهو لا يريد أن يقيم بقريته تلك إلا يومه وليلته وفيها عبيده وبقره وجواريه وليس له بها أهل ولا ولد (قال) يقصر الصلاة إلا أن يكون نوى أن يقيم فيها أربعة أيام أو يكون فيها أهله وولده، فإن كان فيها أهله وولده أتم الصلاة وإن أقام أربعة أيام أتم الصلاة (قلت) أرأيت إن كانت هذه القرية التي فيها أهله وولده مر بها في سفره وقد هلك أهله وبقى فيها ولده أيتم الصلاة أم يقصر (قال) يقصر، قال: إنما محمل هذا عند مالك إذا كانت له مسكنا أتم الصلاة وإن لم تكن له مسكنا لم يتم الصلاة.
(قال) وقال مالك صلاة الأسير في دار الحرب أربع ركعات إلا أن يسافر به فيصلي ركعتين (قال) وقال مالك لو أن عسكرا دخل دار الحرب فأقام في موضع واحد شهرا أو شهرين أو أكثر من ذلك فإنهم يقصرون الصلاة قال ليس دار الحرب كغيرها (قال) وإذا كانوا في غير دار الحرب فنووا إقامة أربعة أيام أتموا الصلاة (قلت) له وإن كانوا في غير قرية ولا مصر كان مالك يأمرهم أن يتموا قال نعم (قلت) أرأيت أن أقاموا على حصن حاصروه في أرض العدو شهرين أو ثلاثة أيقصرون الصلاة (قال) قال مالك نعم يقصرون الصلاة (قال) وكيع بن الجراح عن أبي جمرة قال قلت لابن عباس إنا نطيل المقام بخراسان في الغزو قال: صل ركعتين وإن أقمت عشر سنين من حديث وكيع عن المثنى بن سعيد الضبعي عن أبي جمرة (قال) مالك إن عائشة قالت فرضت الصلاة ركعتين فأتمت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى.
(قال) ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن حميد الطويل عن رجل عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام سبع عشرة ليلة يصلي ركعتين وهو محاصر للطائف» قال: (وكان عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب يقولان إذا أجمع المسافر على مقام أربعة أيام أتم الصلاة).
(وقال) ابن شهاب ويحيى بن سعيد في الأسير في أرض العدو إنه يتم
الصلاة ما كان محبوسا (1) انتهى.
وقال ابن رشد: وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا أقام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي أنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم.
والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا أو أنه جعل لها حكم المسافر.
فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته " وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أن يقصر في الثلاثة فما دونها. والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة عام الفتح مقصرا وذلك نحو من خمسة عشر يوما في بعض الروايات، وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق. والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجه بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقاما بعد قضاء نسكه (2)» فدل هذا عندهم على أن إقامته ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأى واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا وإن أقام ما شاء الله.
(1) المدونة ص 114 - 117.
(2)
صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1511).
ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة، فقالت المالكية مثلا: إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي ألا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه. والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة أن الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول: إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون إقامة لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون إقامة بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق، فعرض له أن أقام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم المسافر وأقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر (1).
(1) بداية المجتهد ص 122 - 123.
6 -
قال النووي رحمه الله قال المصنف رحمه الله:
إذا نوى المسافر إقامة أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم الخروج، صار مقيما وانقطعت رخص السفر، لأنه بالثلاث لا يصير مقيما، لأن المهاجرين رضي الله عنهم حرم عليهم الإقامة بمكة، ثم رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيموا ثلاثة أيام، فقال صلى الله عليه وسلم:«يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1)» وأجلى عمر رضي الله عنه اليهود، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا وأما اليوم الذي يدخل فيه ويخرج فلا يحتسب لأنه مسافر فيه وإقامته في بعضه لا تمنع من كونه مسافرا لأنه ما من مسافر إلا ويقيم
(1) صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1512).
بعض اليوم، ولأن مشقة السفر لا تزول إلا بإقامة يوم.
وإن نوى إقامة أربعة أيام على حرب ففيه قولان:
(أحدهما) يقصر لما روى أنس أن أصحاب رسول الله عليه وسلم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة.
(والثاني) لا يقصر لأنه نوى إقامة أربعة أيام لا سفر فيها فلم يقصر كما لو نوى الإقامة في غير حرب، وأما إذا أقام في بلد على حاجة إذا انتجزت رحل، ولم ينو مدة ففيه قولان:
(أحدهما) يقصر سبعة عشر يوما، لأن الأصل التمام إلا فيما وردت فيه الرخصة. وقد روى ابن عباس قال:«سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام سبعة عشر يوما يقصر الصلاة (1)» ، وبقي فيما زاد على حكم الأصل، و (الثاني) يقصر أبدا لأنه إقامة على حاجة يرحل بعدها فلم يمنع القصر كالإقامة في سبعة عشر وخرج أبو إسحاق قولا ثالثا: إنه يقصر إلى أربعة أيام الإقامة أبلغ في نية الإقامة، لأن الإقامة لا يلحقها الفسخ، والنية يلحقها الفسخ، ثم ثبت أنه لو نوى الإقامة أربعة أيام لم يقصر، فلأن يقصر إذا أقام أولى، (الشرح) حديث "تحريم الإقامة بمكة على المهاجرين " رواه البخاري ومسلم وحديث:«يمكث المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (2)» رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه.
وحديث عمر رضي الله عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرا أن يقيم ثلاثا، صحيح رواه مالك في الموطأ بإسناده الصحيح فرواه عن نافع عن أسلم مولي عمر، وحديث "إقامة الصحابة برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة " رواه البيهقي بإسناد صحيح إلا أن فيه عكرمة بن عمار، وهو مختلف في الاحتجاج به، وقد روى له مسلم في صحيحه.
وأما حديث ابن عباس فرواه البخاري في صحيحه لكن في رواية البخاري تسعة عشر بنقصان واحد من عشرين، ووقع في بعض روايات أبي داود والبيهقي سبعة عشر بنقصان ثلاثة من عشرين، وكذا وقع في المهذب.
(1) صحيح البخاري المغازي (4300)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453)، سنن أبو داود الصلاة (1230)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
(2)
صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1454)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1512).
أما ألفاظ الفضل فقوله: أجلى عمر اليهود معناه أخرجهم من ديارهم، قال أهل اللغة: يقال جلا القوم خرجوا من منازلهم، وأجليتهم وجلوتهم أخرجتهم ورامهرمز - بفتح الميم الأولى وضم الهاء وإسكان الراء وآخره زاي- وهي بلاد معروفة، وقوله: تسعة أشهر هو بالتاء. في أول تسعة، وقوله: الإقامة لا يلحقها الفسخ هو بالفاء أي لا ترفع بعد وجودها، والنية يمكن قطعها وإبطالها أما الأحاديث الواردة بالإقامة المقيدة ففي حديث ابن عباس تسعة عشر يوما كما ذكرنا عن رواية البخاري.
وفي رواية لأبي داود والبيهقي بإسناد صحيح على شرط البخاري سبعة عشر وفي رواية أخرى لأبي داود والبيهقي عن ابن عباس خمسة عشر، ولكنها ضعيفة مرسلة، وكان حديث ابن عباس هذا في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لحرب هوازن في عام الفتح، وروى أبو داود والبيهقي عن عمران بن حصين «أدى النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة ثمان عشرة ليلة يقصر الصلاة (1)» ، إلا أن في إسناده من لا يحتج به.
قال البيهقي: أصح الروايات في حديث ابن عباس تسعة عشر، وهي التي ذكرها البخاري، قال: ويمكن الجمع بين رواية ثمان عشرة وتسع عشرة وسبع عشرة، فإن من روى تسع عشرة عد يومي الدخول والخروج ومن روى سبع عشرة لم يعدهما، ومن روى ثمان عشرة عد أحدهما.
وروى أبو داود والبيهقي عن جابر «أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصد الصلاة (2)» ، لكن روي مسندا ومرسلا، قال بعضهم: ورواية المرسل أصح (قلت) ورواية المسند تفرد بها معمر بن راشد وهو إمام يجمع على جلالته وباقي الإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، فالحديث صحيح لأن الصحيح أنه إذا تعارض في الحديث إرسال وإسناد حكم بالمسند.
أما حكم الفصل فقال الشافعي والأصحاب: إذا نوى في أثناء طريقة
(1) سنن الترمذي الجمعة (545)، سنن أبو داود الصلاة (1229).
(2)
سنن أبو داود الصلاة (1235)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 295).
الإقامة مطلقا أنقطع سفره فلا يجوز الترخص بشيء بالاتفاق، فلو جدد السير بعد ذلك فهو سفر جديد، فلا يجوز القصر إلا أن يقصد مرحلتين هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلد أو قرية أو واد يمكن البدوي الإقامة به ونحو ذلك، فأما المفازة ونحوها ففي انقطاع السفر والرخص بنية الإقامة فيها قولان مشهوران (أصحهما) عند الجمهور انقطاعه لأنه ليس بمسافر، فلا يترخص حتى يفارقها.
والثاني: لا ينقطع وله الترخص، لأنه لا يصلح للإقامة، فنيته لغو، هذا كله إذا نوى الإقامة وهو ماكث، أما إذا نواها وهو سائر فلا يصير مقيما بلا خلاف، صرح به البندنيجي وغيره لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، أما إذا نوى الإقامة في بلد ثلاثة أيام فأقل فلا ينقطع الترخص بلا خلاف وإن نوى إقامة أكثر من ثلاثة أيام.
قال الشافعي والأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام صار مقيما وانقطعت الرخص، وهذا يقتضي أن نية دون أربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون من أصحابنا.
وفي كيفية احتساب الأربعة وجهان حكاهما البغوي وآخرون (أحدهما) يحاسب منها يوما الدخول والخروج، كما يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح (وأصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور: لا يحسبان لما ذكره المصنف، فعلى الأول لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال صار مقيما، وعلى الثاني: لا يصير، وإن دخل ضحوة السبت بنية الخروج عشية الأربعاء.
وأما قول إمام الحرمين والغزالي: متى نوى إقامة زيادة على ثلاثة أيام صار مقيما فموافق لما قاله الأصحاب لأنه لا يمكن زيادة على الثلاث غير يومي الدخول والخروج بحيث لا يبلغ الأربعة.
ثم الأيام المحتملة معدودة بلياليها ومتى نوى أربعه صار مقيما في الحال
ولو دخل في الليل لم يحسب بقية الليل، ويحسب الغد، هذا كله في غير المحارب.
أما المحارب وهو المقيم على القتال بحق ففيه قولان مشهوران (أحدهما) يقصر أبدا لما ذكره المصنفة وهو اختيار المزني، ومذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وعلى هذا يقصر أبدا، وإن نوى إقامة أكثر من أربعة أيام (وأصحهما) عند الأصحاب أنه كغيره فلا يقصر إذا نوى إقامة أربعة أيام، وممن صححه القاضي أبو الطيب والماوردي والرافعي وآخرون.
قال الشيخ أبو حامد والمحاملي: وهو اختيار الشافعي، وأجابوا عن حديث أنس بأنهم لم يقيموا تسعة أشهر في مكان واحد، بل كانوا يتنقلون في تلك الناحية، إما إذا أقام في بلد أو قرية لشغل فله حالان:
(أحدهما) أن يتوقع انقضاء شغله قبل أربعة أيام، ونوى الارتحال عند فراغه فله القصر إلى أربعة أيام بلا خلاف، وفيما زاد عليها طريقان (الصحيح) منهما وقول الجمهور أنه على ثلاثة أقوال:
(أحدها) يجوز القصر أبدا سواء فيه المقيم لقتال أو لخوف من القتال أو لتجارة وغيرها.
(والثاني) لا يجوز القصر أصلا.
(والثالث) وهو الأصح عند الأصحاب يجوز القصر ثمانية عشر يوما فقط، وقيل: على هذا يجوز سبعة عشر، وقيل تسعة عشر، وقيل عشرين، وسمى إمام الحرمين هذه أقوالا، والطريق الثاني أن هذه الأقوال في المحارب، وأما غيره فلا يجوز له القصر بعد أربعة أيام قولا واحدا، وبه قال أبو إسحاق: كما حكاه المصنف عنه، وإذا جمعت هذه الأقوال والأوجه وسميت أقوالا كانت سبعة.
(أحدها) لا يجوز القصر بعد أربعة أيام.
(والثاني) يجوز إلى سبعة عشر يوما (وأصحها) إلى ثمانية عشر، و (الرابع)
إلى تسعة عشر، و (الخامس) إلى عشرين، و (السادس) أبدا، و (السابع) للمحارب مجاوزة أربعة وليس لغيره، ودليل الجميع يعرف مما ذكره المصنف، وذكرناه (الحال الثاني) أن يعلم أن شغله لا يفرغ قبل أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج كالمتفقه والمقيم لتجارة كبيرة ولصلاة الجمعة ونحوها، وبينه وبينها أربعة أيام فأكثر فإن كان محاربا وقلنا في الحال الأول:
لا يقصر فهاهنا أولى وإلا فقولان.
(أحدهما) يترخص أبدا (وأصحهما) لا يتجاوز ثمانية عشر، وإن كان غير محارب، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا، وبه قطع الجمهور.
(والثاني) أنه كالمحارب حكاه الرافعي وآخرون وقالوا هو غلط (فإن قيل) ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصر حتى أتى مكة فأقمنا بها عشرا فلم يزل يقصر حتى رجع (1)» ، فهذا كان في حجة الوداع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد نوى إقامة هذه المدة، (فالجواب) ما أجاب به البيهقي وأصحابنا في كتب المذهب.
قالوا: ليس مراد أنس أنهم أقاموا في نفس مكة عشرة أيام، بل طرق الأحاديث الصحيحة من روايات جماعة من الصحابة متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجته لأربع خلون من ذي الحجة فأقام بها ثلاثة ولم يحسب يوم الدخول ولا الثامن لأنه خرج فيه إلى منى فصلى بها الظهر والعصر وبات بها، وسار منها يوم التاسع إلى عرفات، ورجع فبات بمزدلفة، ثم أصبح فسار إلى منى فقضى نسكه، ثم أفاض إلى مكة فطاف للإفاضة ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثا يقصر ثم نفر فيها بعد الزوال في ثالث أيام التشريق فنزل بالمحصب وطاف في ليلته للوداع ثم رحل من مكة قبل صلاة الصبح فلم يقم صلى الله عليه وسلم أربعا في موضع واحد، والله أعلم.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1438)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 145)، سنن الدارمي الصلاة (1510).
(فرع) لو سافر عبد مع سيده وامرأة مع زوجها، فنوى العبد والمرأة إقامة أربعة أيام ولم ينو السيد والزوج فوجهان حكاهما صاحب البيان وغيره (أحدهما) ينقطع رخصهما كغيرهما، و (الثاني) لا ينقطع لأنه لا اختيار لهما في الإقامة فلغت نيتهما. قال صاحب البيان: ولو نوى الجيش الإقامة مع الأمير ولم ينو هو فيحتمل أنه على الوجهين (قلت) الأصح في الجميع أنهم يترخصون لأنه يتصور منهم الجزم بالإقامة.
7 -
قال ابن قدامة رحمه الله
مسألة (وإذا نوى الإقامة ببلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم وإلا قصر).
المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي يلزم المسافر الإتمام إذا نوى الإقامة فيها ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة. . رواه الأثرم وغيره وهو الذي ذكره الخرقي، وعنه إن نوى الإقامة أكثر من أربعة أيام أتم حكى هذه الرواية أبو الخطاب وابن عقيل. وعنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإلا قصر وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور وروى عن عثمان رضي الله عنه وعن سعيد بن المسيب أنه قال: إذا أقمت أربعا فصل أربعا لأن الثلاث حد القلة لقوله عليه الصلاة والسلام: «يقيم المسافر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1)» فدل أن الثلاث في حكم السفر وما زاد في حكم الإقامة. وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يوما مع اليوم الذي يخرج فيه أتم، فإن نوى دونه قصر، ويروي ذلك عن ابن عمر وسعيد بن جبير والليث بن سعد لما روى عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: إذا قدمت وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشر ليلة فأكمل الصلاة ولا يعرف لهما مخالف، روي عن علي رضي الله عنه قال: يتم الصلاة الذي يقيم عشرا ويقصر الذي يقول أخرج اليوم أخرج غدا شهرا، وعن ابن عباس أنه قال: يقصر إذا أقام تسعة عشر يوما ويتم إذا أقمنا تسعة عشر يوما ويتم إذا زاد لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام في بعض أسفاره
(1) صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1511).
تسعة عشر يصلي ركعتين، قال ابن عباس فنحن إذا أقمنا تسعة عشر نصلي ركعتين وإن زدنا على ذلك أتممنا. . رواه البخاري، وقال الحسن: صل ركعتين ركعتين إلا أن تقدم مصرا فأتم الصلاة وصم، وقالت عائشة: إذا وضعت الزاد والمزاد فأتم الصلاة وكان طاوس إذا قدم مكة صلى أربعا.
ولنا ما روى أنس قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فصلى ركعتين حتى رجع وأقام بمكة عشرا يقصر الصلاة (1)» . . متفق عليه. وذكر أحمد حديث جابر وابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة لصبح رابعة فأقام النبي صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها (2)» قال: فإذا أجمع أن يقيم كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم قصر وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتم، قال الأثرم: وسمعت أبا عبد الله يذكر حديث أنس في الإجماع على الإقامة للمسافر، فقال هو كلام ليس يفقهه كل أحد، فقوله أقام النبي صلى الله عليه وسلم عشرا يقصر الصلاة وقال قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وخامسة وسابعة، ثم قال ثامنة يوم التروية وتاسعة وعاشرة، فإنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ومنى وإلا فلا وجه له عندي غير هذا، فهذه أربعة أيام وصلاة الصبح بها يوم التروية تمام إحدى وعشرين صلاة يقصر وهي تزيد على أربعة أيام وهو صريح في خلاف قول من حده بأربعة أيام، وقول أصحاب الرأي: لا يعرف لهما مخالف في الصحابة لا يصح، لأنا قد ذكرنا الخلاف فيه عنهم، وحديث ابن عباس في إقامة النبي صلى الله عليه وسلم تسعة عشر وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع الإقامة. قال أحمد أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة زمن الفتح ثماني عشرة لأنه أراد حنينا ولم يكن تم إجماع المقام، وهذه إقامته التي رواها ابن عباس وهو دليل على خلاف قول عائشة والحسن. . والله أعلم.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 190)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2)
صحيح مسلم القدر (2664)، سنن ابن ماجه المقدمة (79)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 370).
وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله لما سئل عن رجل مسافر إلى بلد، ومقصوده أن يقيم مدة شهر أو أكثر فهبط يتم الصلاة أم لا؟
فأجاب: إذا نوى أن يقيم بالبلد أربعة أيام فما دونها قصر الصلاة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة. فإنه أقام بها أربعة أيام يقصر الصلاة. وإن كان أكثر ففيه نزاع. والأحوط أن يتم الصلاة.
وأما إن قال غدا أسافر، أو بعد غد أسافر. ولم ينو المقام فإنه يقصر أبدا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضعة عشر يوما يقصر الصلاة، وأقام بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة. . والله أعلم.
وسئل عن رجل جرد إلى الخربة لأجل الحمى وهو يعلم أنه يقيم مدة شهرين، فهل يجوز له القصر؟ وإذا جاز القصر، فالإتمام أفضل أم القصر؟
فأجاب: الحمد لله. . هذه المسألة فيها نزاع بين العلماء، منهم من يوجب الإتمام، ومنهم من يوجب القصر، والصحيح أن كلاهما سائغ فمن قصر لا ينكر عليه، ومن أتم لا ينكر عليه.
وكذلك تنازعوا في الأفضل: فمن كان عنده شك في جواز القصر فأراد الاحتياط، فالإتمام أفضل، وأما من تبينت له السنة، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع للمسافر أن يصلي إلا ركعتين، ولم يحد السفر بزمان أو بمكان، ولا حد الإقامة أيضا بزمن محدود، لا ثلاثة ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر، فإنه يقصر كما كان غير واحد من السلف يفعل، حتى كان مسروق قد ولوه ولاية لم يكن يختارها، فأقام سنين يقصر الصلاة.
وقد أقام المسلمون بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة، وكانوا يقصرون الصلاة مع علمهم أن حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام، ولا أكثر. كما أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد فتح مكة قريبا من عشرين يوما يقصرون الصلاة، وأقاموا بمكة عشرة أيام يفطرون في رمضان. وكان النبي
صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة يعلم أنه يحتاج أن يقيم بها أكثر من أربعة أيام. وإذا كان التحديد لا أصل له، فمادام المسافر مسافرا يقصر الصلاة، ولو أقام في مكان شهورا. . والله أعلم. كتبه أحمد بن تيمية (1).
وقال (2): وتقصر الصلاة في كل ما يسمى سفرا، سواء قل أوكثر. ولا يتقدر بمدة، وهو مذهب الظاهرية ونصره صاحب المغني فيه. وسواء كان مباحا أو محرما. ونصره ابن عقيل في موضع. وقال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد والشافعي: وسواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو لا. وروي هذا عن جماعة من الصحابة.
وقرر أبو العباس قاعدة نافعة: وهي أن ما أطلقه الشارع بعمل يطلق مسماه ووجوده. ولم يجز تقديره وتحديده بمدة. فلهذا كان الماء قسمين: طاهرا طهورا أو نجسا. ولا حد لأقل الحيض وأكثره ما لم تصر مستحاضة، ولا لأقل سنه وأكثره ولا لأقل السفر.
أما خروجه إلى بعض عمل أرضه وخروجه صلى الله عليه وسلم إلي قباء فلا يسمى سفرا. ولو كان بريدا. ولهذا لا يتزود ولا يتأهب له أهبة السفر.
هذا مع قصر المدة. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة سفر، لا البعيدة في المدة القليلة.
ولا حد للدرهم والدينار فلو كان أربعة دوانق أو ثمانية خالصا أو مغشوشا قل غشه أو كثر، لا درهما أسود عمل به في الزكاة والسرقة وغيرهما.
ولا تأجيل في الدية وأنه نص أحمد فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤجلها. وإن رأى الإمام تأجيلها فعل. لأن عمر أجلها، فأيهما رأى الإمام فعل. وإلا فإيجاب أحد الأمرين لا يسوغ والخلع فسخ مطلقا. . والكفارة في كل أيمان المسلمين.
(1) مجموع الفتاوى جـ، ص 17، 18.
(2)
الاختيارات الفقهية ص 72 - 73.
وقال ابن القيم رحمه الله بعد كلامه على هديه صلى الله عليه وسلم لسفره وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم فلا يصح وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد روى كان يقصر ويتم الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق وكذلك يفطر وتصوم أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم كيف والصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي بخلاف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه قلت وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وغيره أنها تأولت كما تأول عثمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر دائما فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا وقال فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصر وتتم هي فغلط بعض الرواة، فقال كان يقصر ويتم أي هو والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل ظنت أن القصر مشروط بالخوف والصفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر.
وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سافر آمنا وكان يقصر الصلاة والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وغيره فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابه بالشفاء وإن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له وقد يقال أن الآية اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتخفيف وقصر العدد بنقصان ركعتين وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض والخوف، فإذا وجد
الأمران أبيح القصر فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددها وأركانها وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق في الآية فإن وجد السفر والأمن قصر العدد واستوفى الأركان وسميت صلاة أمن وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد وقد تسمى تامة باعتبار إتمام أركانها وأنها لم تدخل في قصر الآية والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين والثاني يدل عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما قالت عائشة:«فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (1)» فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع وإنما هي مفروضة كذلك وأن فرض المسافر ركعتان وقال ابن عباس «فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (2)» متفق على حديث عائشة وانفرد مسلم بحديث ابن عباس وقال عمر بن الخطاب «صلاة السفر ركعتان والجمعة ركعتان والعيد ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم (3)» وقد خاب من افترى وهذا ثابت عن عمر رضي الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما بالنا نقصر وقد أمنا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق بها الله عليكم فاقبلوا صدقته ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئا فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1090)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685)، سنن النسائي الصلاة (455)، سنن أبو داود الصلاة (1198)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 265)، موطأ مالك النداء للصلاة (337)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2)
صحيح البخاري الصلاة (350)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (685)، سنن النسائي الصلاة (454)، سنن أبو داود الصلاة (1198)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 272)، موطأ مالك النداء للصلاة (337)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(3)
سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1063)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 37).
وقال أنس «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (1)» متفق عليه، ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات قال: إنا لله وإنا إليه راجعون صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه.
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر وفي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال:«صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان في السفر لا يزيد على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان (2)» يعني في صدر خلافة عثمان وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته وكان ذلك أحد الأسباب التي أنكرت عليه وقد خرج لفعله تأويلات أحدها أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا حديثي عهد بالإسلام والعهد بالصلاة قريب ومع هذا فلم يربع لهم النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه كان إماما للناس والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته فكأنه وطنه ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أولى بذلك وكان هو الإمام المطلق ولم يربع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارت قرية كثر فيها المساكن في عهده ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كانت فضاء، ولهذا قيل له يا رسول الله ألا تبني لك بمنى بيتا يظللك من الحر فقال: لا منى مناخ من سبق فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر ورد هذا التأويل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة عشرا يقصر في الصلاة.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 187)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1102)، سنن الترمذي الجمعة (544)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458)، سنن أبو داود الصلاة (1223)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 140)، سنن الدارمي المناسك (1875).
التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثا. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا (1)» فسماه مقيما والمقيم غير مسافر ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر. وقد أقام صلى الله عليه وسلم بمكة عشرا يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه أيام الجمار الثلاث يقصر الصلاة.
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة. فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة.
وهذا التأويل أيضا مما لا يقوى، فإن عثمان رضي الله عنه من المهاجرين الأولين وقد منع صلى الله عليه وسلم المهاجرين من الإقامة بمكة بعد نسكه ورخص لهم فيها ثلاثة أيام فقط فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وإنما رخص فيها ثلاثا وذلك لأنهم تركوها لله وما ترك لله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع. ولهذا «منع النبي صلى الله عليه وسلم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر: لا تشترها ولا تعد في صدقتك (2)» فجعله عائدا في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى والمسافر إذا أقام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة أتم ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم فروى عكرمة بن إبراهيم الأزدي عن أبي ذئاب عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعا وقال: يا أيها الناس لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده وعبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده أيضا.
وقد أعله البيهقي بانقطاعه وتضعيفه عكرمة بن إبراهيم قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه وعادته ذكر الجرح والمجروحين وقد نص أحمد وابن عباس قبله
(1) صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1511).
(2)
صحيح البخاري الزكاة (1489)، صحيح مسلم الهبات (1621)، سنن النسائي الزكاة (2617)، سنن أبو داود الزكاة (1593)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 55)، موطأ مالك الزكاة (625).
أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله ومالك وأصحابهما وهذا أحسن ما اعتذر به عن عثمان. وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين فحيث نزلت فكان وطنها وهو أيضا اعتذار ضعيف فإن النبي صلى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أيضا وأمومة أزواجه فرع عن أبوته ولم يكن يتم لهذا السبب وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا فقلت لها لو صليت ركعتين فقالت: يا ابن أختي إنه لا يشق علي قال الشافعي رحمه الله لو كان فرض المسافر ركعتين لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم وقد قالت عائشة كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم بن محمد عن طلحة بن عمر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت كل ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة في السفر وأتم قال البيهقي وكذلك رواه المغيرة بن زياد عن عطاء وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحارثي عن الدارقطني عن المحاملي حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب حدثنا أبو عاصم حدثنا عمر بن سعيد عن عطاء عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم ويفطر ويصوم، قال الدارقطني وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري أنبأنا أبو نعيم حدثنا العلاء بن زهير حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة أنها اعتمرت مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي قصرت وأتممت وصمت وأفطرت قال أحسنت يا عائشة، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب كيف وهي القائلة فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله وتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال الزهري لعروة لما حدثه عن
أبيه عنها بذلك فما شأنها كانت تتم الصلاة فقال تأولت كما تأول عثمان فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ وجه ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون. وأما بعد موته صلى الله عليه وسلم فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفة غيره له والله أعلم. وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن ولا نجد صلاة السفر في القرآن فقال له ابن عمر: يا أخي إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئا، فإنما نفعل كما رأينا محمدا صلى الله عليه وسلم يفعل وقد قال أنس «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة (1)» وقال ابن عمر «صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم (2)» ، وهذه كلها أحاديث صحيحة (3).
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 187)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1102)، سنن الترمذي الجمعة (544)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1458)، سنن أبو داود الصلاة (1223)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1071)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 140)، سنن الدارمي المناسك (1875).
(3)
زاد المعاد جـ 1، ص 128 - 130.
مسألة: وقال الأثرم عنه إذا أجمع أن يقيم إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر فإذا عزم على أن يقيم أكثر من ذلك أتم واحتج بحديث جابر وابن عباس قدم النبي صلى الله عليه وسلم لصبح رابعة وكذا نقل ابن الحكم ونقل المروزي إذا عزم على مقام إحدى وعشرين صلاة، فليتم لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الغداة يوم التروية بمكة وكذلك نقل حرب إذا دخل إلى قرية نوى أن يقيم أربعة أيام وزيادة صلاة أتم، وكذا نقل ابن أصرم وصالح والكوسج، إذا أزمع على إقامة أربعة أيام وزيادة يتم في أول يوم.
واحتج بحديث جابر، قال أبو حفص هذه الرواية ليست مستقصاة والأدلة
مستقصاة أنه لا يلزمه الإتمام بالعزيمة على إقامة أربعة أيام وزيادة صلاة حتى ينوي أكثر من ذلك فكيف يقول: إذا أزمع على إقامة أربع وزيادة صلاة أتم.
ويحتج بحديث جابر في هذا المقدار وقد كشف هذا في رواية الفضل ابن عبد الصمد قيل له يا أبا عبد الله يحكون أنك تقول إذا أجمع على إقامة أكثر من أربعة وصلاة أتم فقال: لا يفهمون، النبي صلى الله عليه وسلم أجمع على إقامة أربع وصلاة فقصر. ونقل عنه أيوب بن إسحاق بن سافري أنه قال: إن أزمع على إقامة خمسة أيام يتم وما دون ذلك يقصر، قال أبو حفص ليس في هذا خلاف لذلك لأنه إذا أوجب الإتمام بإقامة أكثر من أربعة أيام وزيادة صلاة فبخمسة أيام أولى أن يوجب الإتمام. وقوله ما دون ذلك يقصر يحتمل أن يكون أراد به الأربعة أيام وزيادة صلاة لأرها دون الخمسة أيام ويحتمل أن يكون ذكره لليوم الخامس لأن الصلاتين بعد الأربعة أيام من اليوم الخامس لا أنه أراد إكمال اليوم الخامس. وقد بين ذلك في رواية طاهر بن محمد التميمي فقال إذا نوى إقامة أربعة أيام وأكثر من صلاة من اليوم الخامس أتم فقد بين مراده من ذكر اليوم الخامس أنه بعضه لأنه أكثر من مقام النبي صلى الله عليه وسلم الذي قصر فيه الصلاة. قال القاضي وظاهر كلام أبي حفص هذا أن المسألة على رواية واحدة وأن مدة الإقامة ما زاد على إحدى وعشرين صلاة وتأول بقية الروايات واحتج في ذلك بحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة صبح رابعة فصلى بها الغداة وخامسة وسادسة وسابعة أربعة أيام كوامل وزاد صلاة لأنه صلى الغداة يوم التروية بمكة بالأبطح وخرج يوم الخامس إلى منى فصلى الظهر بمنى وكان يقصر الصلاة في هذه الأيام وقد أجمع على إقامتها. ويجوز أن يحمل كلام أحمد على ظاهره، فيكون في قدر الإقامة ثلاث روايات (إحداها) ما زاد على إحدى وعشرين اختارها الخرقي وأبو حفص (الثانية) ما زاد على أربعة أيام ولو بصلاة لأنها مدة تزيد على الأربعة فكان بها مقيما. دليله إذا نوى زيادة على إحدى وعشرين (الثالثة) ما نقص عن خمسة أيام ولو بوقت صلاة لأنها مدة تنقص عن خمسة
أيام، فكان في حكم السفر دليله مدة إحدى وعشرين أو عشرين (1).
(1) مسائل فقهية عن الإمام أحمد بن حنبل ص 116 - 118 بدائع الفوائد.
8 -
وقال ابن حزم رحمه الله:
قال علي: واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر: أنه كان إذا أجمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول: أبو حنيفة وأصحابه.
وروينا عن طريق أبي داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة (1)» قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة يقمر الصلاة قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة بمكة قصر ومن أقام فزاد أتم وروي عن الأوزاعي إذا أجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فإن نوى أقل قصر وعن ابن عمر قول آخر: أنه كان يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتي عشرة ليلة، فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب: إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة، وبه يأخذ سفيان الثوري والحسن بن حيي وحميد الرواسي صاحبه.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا، وبه يأخذ مالك والشافعي والليث، إلا أنهم يشترطون أن ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وإن بقي حولا.
وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم.
ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر- هو جعفر بن أبي وحشية- عن سعيد بن جبير: إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة. وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رجلك بأرض فأتم الصلاة. وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال: كنا مع مسروق بالسلسلة مشتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف.
وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياح الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على المسير؟ قال: صل ركعتين.
(1) صحيح البخاري المغازي (4300)، سنن الترمذي الجمعة (549)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1453)، سنن أبو داود الصلاة (1230)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1075).
وعن وكيع عن العمري عن نافع عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر ارتج عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين قال علي: الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصيف.
وقد أمر ابن عباس من أخبره أنه مقيم سنة لا ينوي سيرا بالقصر.
وعن الحسن وقتادة: يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين.
قال علي: احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل: وأنه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم ولا يخرج عن حكم القصر إلا بإجماع.
قال علي: وهذا باطل. وقد أوردنا عن سعيد بن جبير أنه يقصر حين ينوي أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة، واحتج لمالك والشافعي. مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء ابن الحضرمي أنه عليه الصلاة والسلام قال:«يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا (1)» قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل، ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك، قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة، ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا.
وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم، هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟
(1) صحيح البخاري المناقب (3933)، صحيح مسلم الحج (1352)، سنن الترمذي الحج (949)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1455)، سنن أبو داود المناسك (2022)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1073)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 52)، سنن الدارمي الصلاة (1511).
وأيضا فإن المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث لا كراهية في شيء من ذلك، وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟
وأيضا فإن ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر، فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب أن يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث لا أن يتم، بخلاف قولهم.
وأيضا فإن إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم إذا قاسوا عليه المسافر أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام وهكذا قال أبو ثور فبطل قولهم على كل حال وعريت الأقوال كلها عن حجة، فوجب أن نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته.
قال علي: أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فإن الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض. ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر لا مع الإقامة، وبالضرورة ندري أن حال السفر غير حال الإقامة، وأن السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة، وأن الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة. هذا حكم الشريعة والطبيعة معا.
فإن ذلك كذلك، فالمقيم في مكان واحد مقيما غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والإتمام إلا بنص، وقد صح بإجماع أهل النقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه الصلاة والسلام قصر في باقي يومه ذلك وفي ليلته التي بين يومي نقلته، فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الإتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة.
وكذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنالك فهو مقيم،
فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة وهو أيضا قول الزهري وأحمد بن حنبل.
ولم نجد عنه عليه السلام أنه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر إلا في الحج والعمرة والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة.
ونسأل من أبى هذا عمن مشى في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر لا ينزل ولا يثبت اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلي فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم يقصر، فصح أن السفر هو المشي.
ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أم يقصر؟ فمن قولهم يتم. فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا، وهذا نفس قولنا ولله تعالى الحمد.
وأما الجهاد والحج فإن عبد الله بن ربيع قال: ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الأعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله، قال:«أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة (1)» .
قال علي: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما روي عنه عليه السلام في إقامته بتبوك.
فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر.
وقال أبو حنيفة ومالك: يقصر ما دام مقيما في دار الحرب.
قال علي: وهذا خطأ لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله- عليه السلام الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر لما ذكرنا.
(1) سنن أبو داود الصلاة (1235)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 295).
وقال الشافعي وأبو سليمان كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة.
وأما الحج والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بن فتح حدثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد حدثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلى ركعتين ركعتين حتى رجع، قال: كم أقام بمكة؟ قال: عشرا (1)» .
حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا وهب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج (2)» وذكر الحديث.
قال علي: فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، وأنه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليالي كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة كما ذكرنا.
وهذا يبطل قول من قال: إن نوى إقامة أربعة أيام أتم لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة وبات بها ليلة يوم عرفة، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة، فبقي هنالك إلى أول الليلة العاشرة (3) إلى منى فكان بها.
ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة. إما في اليوم العاشر وإما في الليلة
(1) صحيح البخاري الجمعة (1081)، صحيح مسلم صلاة المسافرين وقصرها (693)، سنن الترمذي الجمعة (548)، سنن النسائي تقصير الصلاة في السفر (1452)، سنن أبو داود الصلاة (1233)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1077)، مسند أحمد بن حنبل (3/ 187)، سنن الدارمي الصلاة (1509).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1085)، صحيح مسلم الحج (1240)، سنن النسائي مناسك الحج (2870)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 261).
(3)
ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة ثم نهض في صباح اليوم العاشر.
الحادية عشرة بلا شك في أحد الأمرين ثم رجع إلى منى، فأقام بها ثلاثة أيام ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمي الجمار بعد زوال الشمس، وكانت إقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم، ثم أتى إلى مكة فبات الليلة الرابعة عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا، فصح ما قلناه في الحج والعمرة ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد.
فإن قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة في بعضها، أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة، وفي بعضها ثمان عشرة وفي بعضها سبع عشرة وفي بعضها خمس عشرة يقصر الصلاة.
قلنا نعم، وقد بين ابن عباس إن هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب، لأن جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين ثم إلى مكة معتمرا ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد.
قال علي: وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار
الحرب وبعد الإحرام فلأن القاصد إلى الجهاد ما دام في دار الإسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا أجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس يعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لأن يحج أو لأن يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق.
قال علي: وكل هذا لا حجة لهم فيه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال: إذ أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت لأني في جهاد، فمن قال شيئا من هذا فقد قوله عليه الصلاة والسلام ما لم يقل. وهذا لا يحل. فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه الصلاة والسلام في تبوك عشرين يوما يقصر وبمكة دون ذلك يقصر لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا ولكان مقيم يومه يلزمه الإتمام. لكن لما أقام عليه الصلاة والسلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك أن عشرين يوما إذا أقامها المسافر، فله فيها حكم السفر. فإن أقام أكثر أو نوى إقامة أكثر فلا برهان يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا.
ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص ذلك بتبوك دون سائر الأماكن وهذا كله باطل لا يجوز القول به إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله التوفيق.
ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك، لأنه لم يأت فيه نص أصلا.
فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم، وبالله التوفيق.
قال علي: وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم، فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما. قال أبو حنيفة: وكذلك لو نوى خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما، ونوى إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر.
وقال مالك: يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن
نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما.
قال علي: ومن العجب العجيب إسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة وغسل الجنابة والحيض وبقائه في رمضان ينوي الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية، ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا أوجبها برهان نظري.
قال علي: وبرهان صحة قولنا أن الحكم لإقامة المدد التي ذكرنا- كانت هنالك نية لإقامة أو لم تكن- فهو أن النيات إنما تجب فرضا في الأعمال التي أمر الله تعالى بها فلا يجوز أن تؤدى بلا نية، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن ولا سنة ولا نظر ولا إجماع والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية لا الحال، وهم موافقون لنا أن السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سير به مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم.
وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية. وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية، وله حكم في إسقاط الوضوء وإيجاب تجديده وغير ذلك. وكذلك الإجناب لا يحتاج إلى نية وهو يوجب الغسل. وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به، لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء، فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الأعمال هي الإقامة والسفر، فلا يحتاج
فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد. وبالله تعالى التوفيق وهذا قول الشافعي وأصحابنا.
هذا ما تيسر جمعه وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو
…
عضو
…
نائب رئيس اللجنة
…
الرئيس
عبد الله بن قعود
…
عبد الله بن غديان
…
عبد الرزاق عفيفي
…
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صفحة فارغة
الفتاوى
إعداد
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شؤونهم الدينية والاجتماعية.
فتوى رقم 830
س: قد اطلعت على حديث شريف أورده شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه "مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم " وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1)» والسائل هنا يريد بيان هذه المسألة التي قال فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه آنف الذكر: " فهذه المسألة من أجل المسائل فمن فهمها فهو الفقيه ومن عمل بها فهو المسلم فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا بفهمها والعمل بها " كما يود إجابته على الأسئلة التالية التي تدور حول الحديث المذكور وهي:
(1)
من هي الفرقة الناجية المشار إليها في الحديث؟
(2)
وهل تدخل الفرق الأخرى غير أهل الحديث كالشيعة والشافعية والحنفية والتيجانية وغيرها في الاثنتين والسبعين فرقة التي نص الرسول الكريم على أنها في النار؟
(3)
وإذا كانت هذه الفرق في النار إلا واحدة فكيف تسمحون لهم بزيارة بيت الله الحرام؟ هل كان الإمام الكبير على خطأ أم قد حدتم عن الجادة المستقيمة؟
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:
جـ: أولا: ما ذكره الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مختصر السيرة طرف من حديث صحيح مشهور رواه أصحاب السنن والمسانيد كأبي داود والنسائي والترمذي وغيرهم بألفاظ عدة منها: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث
(1) سنن الترمذي الإيمان (2641).
وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة (1)» وفي رواية: «على ثلاث وسبعين ملة (2)» وفي رواية: «قالوا: يا رسول الله من الفرقة الناجية؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (3)» وفي رواية: «هي الجماعة، يد الله على الجماعة (4)» .
ثانيا: الفرقة الناجية قد بينها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في بعض روايات الحديث المتقدم بصفتها ومميزاتها في جوابه على سؤال أصحابه: "من الفرقة الناجية؟ " حيث قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي (5)» وفي رواية أخرى قال: «هي الجماعة يد الله على الجماعة (6)» فوصفها بأنها هي التي تسير في عقيدتها وقولها وعملها وأخلاقها على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، فتنهج نهج الكتاب والسنة في كل ما تأتي وما تذر، وتلزم طريق جماعة المسلمين وهم الصحابة رضي الله عنهم حيث لم يكن لهم متبوع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فكل من اتبع الكتاب والسنة قولية أو عملية وما أجمعت عليه الأمة ولم تستهوه الظنون الكاذبة ولا الأهواء المضلة والتأويلات الباطلة التي تأباها اللغة العربية التي هي لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها نزل القرآن الكريم وتردها أصول الشريعة الإسلامية كل من كان كذلك فهو من الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة.
ثالثا: أما من اتخذ إلهه هواه وعارض الكتاب والسنة الصحيحة برأيه أو رأي إمامه وقول متبوعه حمية له وعصبية أو تأول نصوص الكتاب والسنة بما تأباه اللغة العربية وترده أصول الشريعة الإسلامية فشذ بذلك عن الجماعة فهو من الفرق الثنتين والسبعين التي ذكر الرسول المعصوم محمد صلى الله عليه
(1) الإمام أحمد 2/ 332 و 2/ 120 وأبو داود برقم 4596 والترمذي برقم 2642 وابن ماجه برقم 4029 والحاكم في المستدرك 1/ 128 والآجري في الشريعة ص 25.
(2)
الترمذي برقم 2643.
(3)
الطبراني برقم 724 في الصغير والترمذي برقم 2643.
(4)
الإمام أحمد 3/ 145 و4/ 102 وأبو داود برقم 4597 والدارمي في السنن 2/ 241 وابن ماجه برقم 4040 و 4041 والحاكم في المستدرك 1/ 128 والآجري في الشريعة ص 18.
(5)
سنن الترمذي الإيمان (2641).
(6)
صحيح مسلم الإمارة (1852)، سنن النسائي تحريم الدم (4020)، سنن أبو داود السنة (4762)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 341).
وسلم بأنها جميعها في النار، وإذا فأمارة هذه الفرق التي بها تعرف مفارقة الكتاب والسنة والإجماع بلا تأويل يتفق مع لغة القرآن وأصول الشريعة ويعذر به صاحبه فيما أخطأ فيه.
رابعا: المسألة التي ذكرها إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذكر أنها من أجل المسائل وأن من فهمها فقد فهم الدين ومن عمل بها فهو المسلم. هي ما تقدم بيانه في الفقرة الثانية من الإجابة، من تميز الفرقة الناجية بما ميزها به النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأن الفرق الأخرى على خلافها، فمن ميز بين الفرقة الناجية والفرقة الهالكة بما ميز به النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الفرق بين الفرقة الناجية والهالكة على وفق بيانه فقد فهم الدين وميز بين من يجب أن يلزم جماعتهم ومن يجتنبهم ويفر منهم فراره من الأسد، ومن أخذ نفسه بالعمل بهذا الفهم الصحيح فلزم جماعة الهدى والحق وإمامهم فهو المسلم، لأنه ينطبق عليه وصف الفرقة الناجية علما وعقيدة وقولا وعملا.
ولاشك أن هذا من أجل المسائل وأعظمها نفعا وأعمها فائدة، فرحم الله الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رجل البصيرة النافذة والفهم الدقيق لنصوص الدين ومقاصده، حيث نبه على ما يهم المسلمين في أمر دينهم بالإشارة أحيانا كما هنا وبالعبارة والبيان أحيانا أخرى كما في كثير من مؤلفاته.
خامسا: لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الألقاب التي اشتهرت بها الطوائف المنتسبة للإسلام سمات تعرف بها الفرق الثنتان والسبعون ولا عنوانا يتمايز به بعضها عن بعض، وإنما جعل أمارتها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، اتباعا للظن وما تهوى الأنفس، وقولا على الله بغير علم وعصبية لمتبوعهم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعادون في ذلك ويوالون، كما جعل شعارا للفرقة الناجية اتباع الكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين، وإيثار ذلك على مداركهم وظنونهم وأهوائهم، فهواهم تبعا لما جاءت به الشريعة الإسلامية، يوالون في ذلك ويعادون، فمن يتخذ ميزانا يزن به الطوائف سوى بيان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ويعرف به فرقها ليميز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة فقد تكلم بغير علم وحكم في الفرق بغير بصيرة فظلم بذلك نفسه، وظلم الطوائف المنتسبة للإسلام، ومن رجع في تمييز الفرقة الناجية من الفرق الهالكة إلى بيانه صلى الله عليه وسلم عدل في حكمه وعرف أن جماعات الأمة درجات متفاوتة، فمنهم من هو أحرص على اتباع الشريعة والاستسلام لها وأبعد الناس عن الابتداع في الدين والتحريف في نصوصه، والزيادة فيه أو النقص منه فهؤلاء أسعد الناس بأن يكونوا من الفرقة الناجية، فعلماء الحديث وأئمة الفقه في الكتاب والسنة منهم من هو أهل للاجتهاد يحرص على الشريعة ويسلم لها إلا أنه قد يتأول بعض نصوصها تأويلا يخطئ فيه فيعذر في خطئه لكونه في موارد الاجتهاد.
ومنهم من ينكر بعض نصوص الشريعة، إما لكونه حديث عهد بالإسلام، وإما لأنه نشأ في أطراف البلاد الإسلامية فلم يبلغه ما أنكره، ومنهم من يرتكب معصية أو يبتدع بدعة لا يخرج بها عن حظيرة الإسلام، فهو مؤمن مطيع لله بما فيه من طاعة مسيء بما ارتكب من معصية وابتدع من البدع فكان في مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1) وقال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (2) فهؤلاء وهؤلاء ليسوا بكفار بتأويلهم الخاطئ أو جحدهم ما جحدوا بل يعذرون ويدخلون في عداد الفرقة الناجية وإن كانوا دون الأولى.
ومنهم من جحد معلوما من الدين بالضرورة بعد ما تبين له واتبع هواه بغير هدى من الله أو تأول بعض نصوص الشريعة تأويلا بعيدا مخالفا في ذلك من سبقه من جماعة المسلمين، ولما بين لهم الحق وأقيمت عليهم الحجة بالمناظرات وغيرها لم يرجعوا فهؤلاء كفار مرتدون عن الإسلام وإن زعموا أنهم مسلمون وإن اجتهدوا في الدعوة إليه على عقيدتهم وطريقتهم، كجماعة
(1) سورة النساء الآية 48
(2)
سورة التوبة الآية 102
القاديانية الأحمدية الذين أنكروا ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن غلام أحمد القادياني نبي الله ورسوله أو أنه المسيح عيسى ابن مريم أو تقمصت روح محمد أو عيسى بدنه فكان بمنزلته في النبوة والرسالة.
سادسا: لأهل السنة والجماعة أصول ثابتة بالأدلة يبنون عليها الفروع، ويرجعون إليها في الاستدلال على المسائل الجزئية وفي تطبيق الأحكام على أنفسهم وعلى غيرهم، ومنها:
أن الإيمان قول وعمل وعقيدة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما زاد المسلم في الطاعة زاد إيمانه وكلما فرط فيها أو ارتكب معصية بحيث لا ينتهي به ذلك إلى الكفر الصريح نقص إيمانه، فالإيمان عندهم درجات والفرقة الناجية طبقات متفاوتة بعضها فوق بعض حسب الأدلة وما كسبوا من الأقوال والأفعال.
ومنها: أنهم لا يكفرون أحدا معينا أو طائفة معينة من أهل القبلة ويتحرجون من ذلك، لإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد بن حارثة قتله رجلا من الكفار بعد أن قال: لا إله إلا الله، ولم يقبل من أسامة اعتذاره عن قتله بأنه قالها متعوذا ليحرز بها نفسه، بل قال له:«أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا (1)» يعني أقالها خالصا من قلبه أم لا.
إلا إذا أتى بما هو كفر واضح، كإنكاره لمعلوم من الدين بالضرورة أو مخالفة لإجماع قاطع وتأويله لنصوص صريحة لا تقبل التأويل ثم لم يرجع عن ذلك بعد البيان.
وقد لزم إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله طريقة أهل السنة والجماعة وسار على أصولهم، فلم يكفر أحدا معينا ولا طائفة معينة من أهل القبلة بمعصية أو تأويل أو بدعة إلا إذا قام الدليل على الكفر بذلك،
(1) الإمام أحمد 4/ 439 و5/ 207 والبخاري برقم 4269 و 6872 (الفتح) ومسلم برقم 96 وأبو داود برقم 2643 وابن ماجه برقم 3977.
وثبت البلاغ والبيان، ولم تختلف الحكومة السعودية رعاها الله وأيدها بتوفيقه عن ذلك في معاملتها لرعيتها وحكمها فيهم، ولا في موقفها من المسلمين في الدول، وخاصة من يفد إلى بيت الله الحرام لأداء نسك الحج أو العمرة فهي تحسن الظن بالمسلمين وتعتبرهم إخوانا لها في الدين وتتعاون معهم على ما يشد أزرهم ويحفظ حقهم ويرد إليهم ما سلب منهم، وترحب بمن يفد إليها وتقوم بما يسهل عليهم أداء نسكهم أو مهمتهم خير قيام بعطف وحدب، يعرف ذلك من خبر أحوالها ووقف على شؤونها وما تبذله من جهود وأموال في سبيل الإصلاح العام للمسلمين وتوفير الراحة لحجاج بيت الله الحرام.
ولهذا تسمح لطوائف المسلمين المختلفة بزيارة بيت الله الحرام دون التنقيب عما خفي من عقائدهم عملا بالظاهر دون التنقيب عما في البواطن، والله يتولى السرائر، فإذا وضح لها كفر شخص أو طائفة معينة كالقاديانية مثلا وثبت ذلك لدى العلماء المحققين من الدول الإسلامية فلا يسعها إلا أن تمنع من ثبت كفره وردته من أداء الحج والعمرة حماية لبيت الله الحرام أن يقربه من في قلبه رجس، وعملا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1). وقوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (2).
ومما تقدم يتبين وجه أهمية المسألة العظيمة التي أشار إليها إمام الدعوة في عصره الشيخ محمد بن عبد الوهاب وجاء طلب بيانه في السؤال، كما يتضح أنه رحمه الله سار على النهج السليم حيث لزم أصول أهل السنة والجماعة، وإن الحكومة السعودية في معاملتها للمسلمين في العالم لم تحد عن الجادة، بل التزمت أصول أهل السنة والجماعة أيضا كما لزمها إمام الدعوة، فأخذت المسلمين بظواهرهم ولم تنقب عن قلوبهم، فتسامحت مع من خفي أمره
(1) سورة التوبة الآية 28
(2)
سورة الحج الآية 26