الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عمر بن عبد العزيز يستتيب غيلان الدمشقي حتى تاب ورجع عن هذه البدعة في حياة عمر، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز رجع غيلان إلى ضلالته فقبض عليه الخليفة هشام بن عبد الملك فقتله وصلبه (1).
نظرا لما ذكرت فإن هذه البدعة بهذا الشكل لم يكتب لها البقاء ولذا لما قامت المعتزلة - وهم القدرية الثانية - وتلقت هذه البدعة وكانت أخف وأقل تفريطا من معبد وأصحابه، إذ نراهم لا ينكرون علم الله الأزلي وإن كانوا يوافقون معبدا في القول بأن العبد يخلق فعل نفسه.
وقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ". . . ولكن لما اشتهر الكلام في القدر ودخل فيه كثير من أهل النظر والعبادة، صار جمهور القدرية يقرون بتقدم العلم، وإنما ينكرون عموم المشيئة والخلق. . . "(2).
ويقول ابن حجر: القدرية اليوم مطبقون على أن الله عالم بأفعال العباد قبل وقوعها وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم واقعة منهم على جهة الاستقلال وهو مع كونه مذهبا باطلا أخف من المذهب الأول " (3).
(1) انظر: الأعلام جـ5، ص 124.
(2)
الفتاوى جـ 7، ص 385.
(3)
لوامع الأنوار البهية جـ1، ص 301.
ثانيا: رأي القدرية في القدر
مع المناقشة
أ - رأي القدرية في القدر
تمهيد: ذكرت - آنفا - نشأة القدرية وأنها فرقتان، وأن القدرية الأولى انقرضت، ولم يبق إلا القدرية الثانية والذين يعرفون بالمعتزلة. والآن لنعرف رأيهم في القدر مستقى من أقوال أئمتهم، وغيرهم. فنقول وبالله التوفيق:
يقول القاضي عبد الجبار: " اتفق كل أهل العدل (1) على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك ولا فاعل لها ولا محدث سواهم وأن من قال: إن الله - سبحانه - خالقها ومحدثها فقد عظم خطؤه وأحالوا حدوث فعل من فاعلين "(2).
ويقول القاضي - في موضع آخر - ". . . والغرض به الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها "(3).
ويقول البغدادي - وهو يتحدث عن أصول المعتزلة - ". . . ومنها قولهم جميعا بأن الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أن الناس هم الذي يقدرون أكسابهم، وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم ولا في سائر الحيوانات صنع ولا تقدير ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية "(4).
من هذه النصوص يتضح أن القدرية الثانية يرون ما يلي:
أ - أن الله غير خالق لأفعال العباد، ولا لشيء من أعمال الحيوانات وأنه ليس له فيها صنع ولا تقدير.
ب - أن العباد هم المحدثون لأفعالهم.
ب - شبهات القدرية والرد عليها
لقد تمسك القدرية في قولهم إن العباد يخلقون أفعالهم بشبهات نقلية وعقلية وإليك شيء منها مع المناقشة:
(1) هم المعتزلة وأطلق عليهم أهل العدل: لقولهم بالقدر.
(2)
المغني في أبواب العدل والتوحيد جـ 8، ص 3.
(3)
شرح الأصول الخمسة ص 423.
(4)
الفرق بين الفرق ص 94.
الشبهة الأولى: قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (1) الآية.
وجه الاستدلال بالآية: يقول القاضي عبد الجبار - بعد أن أورد هذه الآية للاستدلال - ". . . إن الله سبحانه وتعالى بين أن أفعاله كلها متقنة، والإتقان يتضمن الأحكام والحسن جميعا - حتى لو كان محكما، ولو لم يكن حسنا لكان لا يوصف بالإتقان، ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش. . .، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان، ثم قال: إذا ثبت هذا ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس، وليس شيء من ذلك متقنا، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها "(2).
الجواب: يقال لهم إن هذا الاستدلال باطل لما يلي:
أولا: إن الإتقان لا يحصل إلا في المركبات، فيمتنع وصف الأعراض به (3). وإذا لم توصف الأعراض بالإتقان، بطل الاستدلال بالآية لأن الاستدلال بها ينبني على أن الإتقان يكون في الأعراض.
ثانيا: يقول الإمام ابن حزم: " إن هذه الآية حجة عليهم لا لهم لأن الله تعالى أخبر أنه بصنعه أتقن كل شيء، وهذا على عمومه وظاهره، فالله تعالى صانع كل شيء، وإتقانه له أن خلقه جوهرا أو عرضا جاريين على رتبة واحدة أبدا، وهذا عين الإتقان (4). وبهذا يظهر بطلان الاستدلال بالآية والله أعلم.
الشبهة الثانية: يقول القاضي عبد الجبار. " ومن الأدلة على أن العباد خالقون أفعالهم قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} (5) الآية.
ثم قال: فقد نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل، فلولا أن هذه القبائح
(1) سورة النمل الآية 88
(2)
شرح الأصول الخمسة ص 358.
(3)
التفسير الكبير جـ 24، ص 220.
(4)
الفصل جـ 3، ص 65.
(5)
سورة ص الآية 27
وغيرها من التصرفات من جهتنا ومتعلقة بنا، وإلا كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله، فيكون مبطلا كاذبا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا " (1).
الجواب: يقال لهم: إن معنى الآية أن الله تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما - عبثا ولعبا - على ما يتوهمه من زعم أنه لا حشر، ولا نشر، ولا ثواب، ولا عقاب، بل خلقهما بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما، ومن ثم إثابة المتقين الطائعين، ومجازاة المذنبين والكافرين، ولذلك قال تعالى - بعدها - {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (2). يعني من إنكارهم الثواب والجزاء والعقاب. وعلى ذلك فقولهم: إن معنى الآية " نفي أن يكون في خلقه باطل " غير صحيح، وإذا كان غير صحيح بطل بالاستدلال بالآية.
الشبهة الثالثة: قالت القدرية: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقا لنا، وفعلا لنا، قالوا: وبيان ذلك؛ أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك. فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل ذلك على أن أفعاله خلق له وفعل له (3).
الجواب: يقال لهم: إن هذه الشبهة باطلة وبيان ذلك من وجوه منها:
أولا: قولكم: " إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم. . . " غير صحيح على إطلاقه فإنا نرى من يريد شيئا ويقصده، ولا يحصل له ذلك فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلا لقوة وصحة فيضعف ويمرض،
(1) شرح الأصول الخمسة ص 362.
(2)
سورة ص الآية 27
(3)
شرح الأصول الخمسة ص 336 - 337 والإنصاف ص 135.
وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه إلى غير ذلك فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق (1).
ثانيا: أن وقوع الكسب من الخلق على حساب القصد منهم، لا يدل على أنه خلق لهم. . . ودليل ذلك أن مشي الفرس مثلا، يحصل على قصد الراكب وإرادته من عدو وتقريب. . . ووقوف إلى غير ذلك ولا يقول عاقل: أن الراكب خلق جري الفرس ولا سرعتها ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلا على أنه خلقه. ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها. . على حسب قصد الملاح ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها. فان كابروا الحقائق وقالوا: نقول: إن ذلك خلقه الملاح والفارس، فقد خرجوا عن الدين، وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح. وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح، وليست بخلق له، قلنا: فكذلك أفعال أحدنا تقع - ولا نقول: إنها تقع في كل حال - على حسب قصده، ولا يدل ذلك على أنه خلقها. . . بل الخالق لها هو الله تعالى (2).
ثالثا: نحن لا نقول: إن العبد مجبور على أفعاله، بل نقول: إن العبد له قدرة ومشيئة لكنها تحت قدرة الله ومشيئته (3). وإذا كان كذلك، فإن ما يحصل منه من تصرفات قد تقع على حسب قصده لا يمنع أن تكون بهذه القدرة التي أعطاه الله إياها، والتي لا تخرج عن قدرة الله الشاملة. وعلى ذلك فكون العبد يحصل له بعض التصرفات على حسب قصده لا يدل على أنه هو الخالق لأفعاله وعليه فتبطل هذه الشبهة والله أعلم.
(1) الإنصاف ص 153 (بتصرف).
(2)
الإنصاف ص 153 - 154 (بتصرف).
(3)
انظر: الفتاوى جـ 8، ص 393 - 394.