الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا:
حكم الصيام:
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1).
معنى ذلك أن الصيام كفرض يهيئ النفوس للخير والبر، ويورث خشية الله، ويوقظ الضمائر، ويقوي الإرادة، ويعود المسلم الصبر والاحتمال " وبقدر ما تقوى الإرادة، يضعف سلطان العادة " حيث يتم هجر كثير من العادات السيئة. هذا من الناحية النفسية. وأما من الناحية الخلقية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «. . . الصيام جنة (2)» . . . رواه أبو هريرة وأخرجه البخاري ومسلم في الصوم أي أنه يقي المسلم من المنكرات والشرور، ويأخذ النفس بالفضائل، فتزكو وتطهر، فلا تقول زورا، ولا تعمل به. قال صلى الله عليه وسلم:«من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (3)» .
ومن حكم الصيام الاجتماعية، أنه مظهر فريد من مظاهر المساواة المطلقة بين الأغنياء والفقراء في الحرمان، كما أنه يفجر ينابيع الرحمة والعطف في النفوس والقلوب، فيولد الفرد المهذب، والمجتمع الفاضل، الذي يسمو بالأمة ويرفعها في سلم المجد.
وتتجلى حكمة الصوم كذلك في أنه مجال لإظهار المسلم إرادته العازمة على الامتثال لأحكام الله، والجازمة على عدم مخالفة شرع ارتضاه، والمصرة على أن تتصل بالله اتصال طاعة وانقياد، وبعد عن كافة ضرورات الجسد طمعا في حسنات الله، وإيثارا لما عنده، ورغبة في تحصيل فوائد الصوم المعنوية
(1) سورة البقرة الآية 183
(2)
صحيح البخاري الصوم (1904)، صحيح مسلم الصيام (1151)، سنن الترمذي الصوم (764)، سنن النسائي الصيام (2216)، سنن أبو داود الصوم (2363).
(3)
رواه البخاري، وأحمد وأبو داود والترمذي كذا في الجامع الصغير، وزاد في الكبير رمز ابن ماجة وابن حبان.
والحسية التي قد تظهر وقد لا تظهر، فإن ظهرت كان الاطمئنان لها أداة للاندفاع مع تيار الإيمان، وإن خفيت ظلت النفس واثقة من أن الديان قد أعد للإنسان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فتتهيأ النفس به للكمال الإيماني، وتستجيب معه للهدي الإلهي.
إن من الغايات الكبرى للصيام بلوغ درجة التقوى " فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي، هذه الفريضة طاعة لله وإيثارا لرضاه. والتقوى هي التي تحرس هذه القلوب من إفساد الصوم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله "(1) ووزنها في مجالا التكليف، إنها غاية المؤمنين، والصوم هو أهم مدارج الوصول إليها، لذا يتجه المسلمون لتحقيق هذه الغاية وهم معتمدون على ضمائرهم، فلا رقابة لأحد عليهم، وإنما توجد الرقابة في أعماقهم، فتمنعهم عن مخالفة أوامر الله، لأنه ملأ أعماقهم، وصارت مهابته هي الرقيب الوحيد عليهم، ولذا فإن المسلم لا يتكلم بفاحش الكلام، أي لا يرفث، وإذا سبه أحد قال إني صائم، وإذا أفطر فرح بفطره وإذا لقي ربه فرح أعظم الفرح بصومه الذي كان صادقا في إتيانه، ففي رواية لمسلم «. . . . للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك (2)»، على ما هو ثابت في الحديث القدسي عن رب العزة والجلال الذي قال: «كل عمل
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، ج 3، ط 1990م، ص 168.
(2)
صحيح البخاري الصوم (1904)، صحيح مسلم الصيام (1151)، سنن النسائي الصيام (2215)، سنن ابن ماجه الصيام (1638)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 477)، موطأ مالك كتاب الصيام (690)، سنن الدارمي الصوم (1770).
ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به (1)» فلا غرو أن تتحقق التقوى من خلال الصوم مما له من هذه المكانة عند رب العرش الكريم.
ولكي يصل المسلم بالصوم من مرتبة التقوى، فإنه يجتهد في طلب غفران الله لذا يجتهد في أن يكون صيامه على نحو ما أراده الله تعالى. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (2)» متفق عليه.
وهكذا تتجلى أهم حكم الصيام في التقوى، وكما قرر علماء الشريعة الغراء ومنهم الشيخ عبد الرحمن السعدي، فإن التقوى "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من المحبوبات وترك المنهيات؛ فالصيام الطريق الأعظم للوصول إلى هذه الغاية التي هي غاية سعادة العبد في دينه ودنياه وآخرته، فالصائم يتقرب إلى الله بترك المشتهيات تقديما لمحبته على محبة النفس ولهذا اختصه الله من بين الأعمال، حيث أضافه إلى نفسه في الحديث الصحيح، وهو من أصول التقوى، إذ الإسلام لا يتم بدونه، وفيه من زيادة الإيمان وحصول الصبر والتمرن على المشقات المقربة إلى رب السماوات، وأنه سبب لكثرة الحسنات من صلاة وقراءة وذكر وصدقة وما يحقق التقوى،، فيه من ردع الأنفس عن الأمور المحرمة من الأفعال المحرمة والكلام المحرم ما هو عماد التقوى"(3).
والصوم يحقق مصالح العباد، ويؤكد المنافع لهم والفوائد لعامهم وخاصهم، إنه تحصيل للخيرات، ومدرسة إيمانية عظيمة من أجل التنافس للحصول على الأجر المضاعف ولذا شرعه الله تعالى لنا كما كتبه على من قبلنا، غير أنه في
(1) صحيح البخاري اللباس (5927)، صحيح مسلم الصيام (1151)، سنن الترمذي الصوم (764)، سنن النسائي الصيام (2216)، سنن ابن ماجه الصيام (1638)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 273).
(2)
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا ".
(3)
الشيخ عبد الرحمن السعدي، الإرشاد إلى معرفة الأحكام، 1400هـ مكتبة المعارف، ص 82 - 83.