الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيما بعد من أسس الجهمية، حتى أن هذه الفرقة هي التي قامت بهذا المذهب ونشرته وأيدته ببعض الشبهات الباطلة، وأصبح يطلق عليهم الجبرية لقولهم بهذا المذهب الباطل.
ثانيا: رأي الجبرية في القدر
مع المناقشة
أ - رأي الجبرية:
يتلخص رأي الجبرية في هذه المسالة: في أنه لا فعل لأحد غير الله تعالى، والإنسان مجبور على عمله. والأعمال تنسب إليه مجازا كما تنسب إلى الجماد، فالإنسان والجماد لا يختلفان، فكتب فلان وقتل مجازا كما يقال أثمر الشجر وتحرك الحجر.
والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر: وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا " (1).
يقول البغدادي: " وقال - أي الجهم - لا فعل ولا عمل لأحد غير الله تعالى وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز كما يقال زالت الشمس ودارت الرحى من غير أن تكونا فاعلتين أو مستطيعتين لما وصفتا به "(2).
ويقول الشهرستاني - وهو يعدد آراء الجهم بن صفوان -: ". . . ومنها قوله في القدرة الحادثة: إن الإنسان ليس يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار، وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وينسب
(1) انظر: التبصير في الدين ص 107، الفصل جـ3 ص 22؛ الملل والنحل جـ1؛ ص 110 - 111.
(2)
الفرق بين الفرق ص 96.
إليه الأفعال مجازا كما ينسب إلى الجمادات كما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء. . . إلى غير ذلك. والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال جبر. وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا " (1).
ب - شبهاتهم مع المناقشة
لقد تمسك الجبرية - عند قولهم بهذه البدعة - بشبهات منها ما يلي:
الشبهة الأولى: يقول الإمام شارح الطحاوية: " فمما استدلت به الجبرية قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (2) فنفى الله تعالى عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه سبحانه فدل على أنه لا صنع للعبد "(3).
المناقشة: يقال لهم هذا دليل عليكم لا لكم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رميا بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} (4) فعلم أن المثبت غير المنفي وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رميا، فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم - وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب.
وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى! ما صمت إذ صمت! وما زنيت إذ زنيت! وما سرقت إذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر (5).
الشبهة الثانية: يقول الإمام ابن حزم رحمه الله: " فأما من قال بالإجبار فإنهم احتجوا فقالوا: لما كان الله تعالى فعالا وكان لا يشبهه شيء من خلقه وجب ألا يكون أحد فعالا غيره "(6).
(1) الملل والنحل جـ1، ص 110 - 111.
(2)
سورة الأنفال الآية 17
(3)
شرح الطحاوية ص 494.
(4)
سورة الأنفال الآية 17
(5)
شرح الطحاوية ص 495.
(6)
الفصل جـ3، ص22 - 23.
المناقشة: يقال لهم احتجاجكم بهذه الشبهة خطأ من القول لوجوه منها:
الأول: أن النص قد ورد بأن للإنسان أفعالا كما قال تعالى: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1) فأثبت الله لهم الفعل.
الثاني: أن النص ورد بأن للإنسان اختيارا كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} (2) لأن أهل الدنيا وأهل الجنة سواء في أنه تعالى خالق أعمال الجميع.
وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ} (3) الآية؛ لأن الاختيار الذي هو فعل لله تعالى - وهو منفي عما سواه - هو غير الاختيار الذي أضافه إلى خلقه ووصفهم به؛ إذ أن الاختيار الذي توحد الله به هو أنه يفعل ما شاء كيف شاء وإذا شاء وليست هذه صفة شيء من خلقه. وأما الاختيار الذي أضافه الله تعالى إلى خلقه فهو ما خلق فيهم من الميل إلى الشيء والإيثار له على غيره فقط.
ثالثا: أن الاشتراك في الأسماء لا يقع من أجله التشابه ألا ترى أنك تقول الله الحي، والإنسان حي، ولا يوجب هذا اشتباها بلا خلاف، وإنما يقع الاشتباه بالصفات الموجودة في الموصوفين، وهذا غير موجود هنا، إذ أن هناك فرقا بين الفعل الواقع من الله عز وجل، والفعل الواقع منا، وهو أن الله تعالى اخترعه وجعله جسما أو عرضا أو حركة أو سكونا أو معرفة أو إرادة أو كراهية، وفعل عز وجل كل ذلك فينا بغير معاناة منه.
وأما نحن فإنما كان فعلا لنا لأنه عز وجل خلقه فينا وخلق اختيارنا له وأظهره عز وجل فينا محمولا لاكتساب منفعة أو لدفع مضرة ولم نخترعه (4).
(1) سورة المائدة الآية 79
(2)
سورة الواقعة الآية 20
(3)
سورة القصص الآية 68
(4)
الفصل لابن حزم جـ3، ص 24 - 25 (بتصرف).