الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشريعة الإسلامية الناسخة لما قبلها من شرائع يؤكد المساواة بين الأغنياء والفقراء، حيث يتعاطف الغني مع الفقير بإحساس الألم الواحد، ولا يتنازع معه من خلال الرغبات المتعددة، وحيث يضعف سلطان العادة، ويصمد الناس أمامها بما أمدهم الله به من قوة الإرادة، التي تسعى إلى تعميم فضيلة الخير من خلال الصيام، وهو خير إيجابي مشترك، دون أن يكون مقصوده الأصلي أو حكمته الأساسية هي "الحرمان والألم "(1) بل الصبر والعطاء، واستلهام التقوى كخير وجاء.
(1) د. محمد عبد الله دراز، دستور الأخلاق في القرآن، ط 6 مؤسسة الرسالة 1405هـ، ص 646.
خامسا:
حكم الحج:
والحج عبادة تنطوي على حكم وأسرار نفسيه وخلقية واجتماعية (1): من الناحية النفسية، فإن الحج يحيى في الأنفس ذكريات أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم. ولعل أعظم هذه الذكريات رفع القواعد وانتصار الدعوة الإسلامية، ولقد جاشت نفس النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانفعلت بذلك، فبكى وهو يقف أمام الكعبة وقال «يا عمر: هنا تسكب العبرات (2)». ومن الناحية الخلقية: فإن الحج يدرب المسلم على مجاهدة النفس، والوصول إلى أسمى المراتب الروحية حيث تنطلق الحناجر هاتفة باسم الله مثنية عليه، بينما المرء في ملابس الإحرام التي تخلو من كل زينة وتتجرد من كل أسباب الخيلاء، فيعيش الإنسان جو العفاف حيث، لا رفث ولا فسوق ولا جدال. قال تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (3). ومن حكم الحج
(1) الشيخ، السيد سابق: إسلامنا، ص 125 - 127.
(2)
سنن ابن ماجه المناسك (2945).
(3)
سورة البقرة الآية 197
الاجتماعية، أنه تجمع عظيم تعدد كبير من أبناء الأمة الإسلامية، يلتقون ليشهدوا منافع روحية واقتصادية وسياسية لهم، وفيه تتوحد الغايات، ويتم تبادل الثقافات، ووضع أسس الالتقاء الدائم من أجل تحقيق منافع الأمة الإسلامية.
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} (1){لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (2).
والحج بحكمه تلك هو حق لله وحده، به يعلن المسلم عن امتثاله لشرع الله تعالى، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية " ولله تعالى حق لا يشركه فيه مخلوق: كالعبادات والإخلاص والتوكل والخوف والرجاء والحج والصلاة والزكاة والصيام والصدقة" (3) ولذا فإن من يخلص في أداء حق الله يكون متقيا إياه "والذين يتقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته وطاعته يعزهم وينصرهم " (4).
وحسب الحج، بهذه المثابة، أن الله سبحانه وتعالى قد جعله قياما للناس، فيه تقوم أمور دينهم ودنياهم، كما أن الحج مبني على توحيد الله الذي هو أصل الأصول كلها، ولذا يبدأ بالتلبية، التي هي دليل التزام العبودية لله تعالى، من خلال نفس اطمأنت إلى شرع ربها، فانشرح به صدرها، وأثبتت جميع المحامد وأنواع الثناء لبارئها، وهكذا ينفي المسلم عن ربه العظيم أن يكون له شريك في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وبذلك يحظى المسلم بالوصول
(1) سورة الحج الآية 27
(2)
سورة الحج الآية 28
(3)
مجموع فتاوى شيح الإسلام ابن تيمية، المجلد السادس والعشرون، ص 158.
(4)
مجموع فتاوى شيح الإسلام ابن تيمية، ص 312.
إلى بيت الله الحرام، ويتمتع "بالتنوع في عبوديته والذل له والانكسار بين يديه " ويسأل المسلمون ربهم "جميع مطالبهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية في تلك المشاعر العظام والمواقف الكرام ليجزل لهم من قراه وكرمه. . . . وليحط عنهم خطاياهم ويرجعهم كما ولدتهم أمهاتهم، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، فإن الطواف بالبيت والصفا والمروة ورمي الجمار إنما هي لإقامة ذكر الله، من خلال اجتماع المسلمين في مكان واحد، على شكل واحد، في عبادة واحدة، تتحقق فيها أسمى معاني الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، فيرتبط الجميع برباط الدين الشامل، ويشعر الجميع بأن دعاء الله من خلال أعظم مظاهر المساواة، غايته الفوز والرضوان، من الملك الديان.
ولا يتسع المجال للتعرض لكافة حكم متعلقات الحج وحسبنا الإشارة إلى بعض متعلقات حكمه الأساسية فيما يلي:
- إن الإحرام يستلزم حرمة اتخاذ المسلم أي وسيلة من وسائل الرفاهية والزينة "وحكمة الامتناع عن هذا. . . . أن الحج عبادة، الغرض منها التقرب إلى الله والوصول إلى ما أعده سبحانه للنفس المحسنة من خير الجزاء ولا يكون ذلك عادة إلا بإبعاد النفس عن شهواتها، وخروجها من مألوفها، وكفها عن لذائذها، ومظهر هذا الاقتصار على الضروريات من الحياة، والتجرد لله في جميع الحركات والسكنات "(1)، وعندئذ يجد الإنسان راحة نفسه في التقشف والزهد، والارتفاع فوق أدران المادة، وأوزار الجسد، فيحتمل المشاق راضيا، وكيف لا وهو في لباسه الموحد مع غيره، يستشرف عفو الرحمن، ويطمع في رضا الديان، فقد أطاعه مخلصا، وكل من تجرد عن
(1) عفيف عبد الفتاح طباره، المرجع السابق، ص 261.
مطالب الحياة؛ ابتغاء مرضاة الله، لا بد أن يفيء الله عليه من سابغ عطاياه. كذلك فإن حكمة الطواف حول الكعبة تتمثل في تكريمها عن يقين، وتحيتها عن عقيدة صافية، تثق في أن تكريم أول بيت وضع لعبادة الله في أرضه، هو أهم أسباب استجلاب الرحمة، فالمزور كريم، وبيته عظيم، ولذا فإن الزائر وهو يطوف حول الكعبة يتشبه "بالملائكة الحافين بعرش الله، الطائفين حوله، المسبحين له، لا يفترون. وفي هذا من سمو الروح ما فيه "(1).
- ومن حكم السعي بين الصفا والمروة، تأكيد اللجوء إلى الله، لكي يكشف الضر عمن قصد مسعاه، طالبا غفران الذنوب، مبتهلا إليه بأصفى القلوب، وكيف لا وقرب هذا المكان بالذات، كشف الله الضر عن هاجر وولدها إسماعيل، وفجر لهما نبع ماء (زمزم)، بعد أن بلغ بهما العطش كل مبلغ، وكاد يودي بهما.
- كذلك فإن من حكم الوقوف بعرفة، تجديد المسلم ذاته والانعتاق من ماضيه "المشوب بالإثم والباطل "(2)، وقطع العهد أمام الله، على بدء حياة نظيفة بالإيمان، مستقيمة بالإحسان.
- وعن الحكمة في الهدي والأضاحي، فإنه من المعلوم أن من الدماء دماء يقصد بها التقرب إلى الله تعالى كدماء الهدي والأضاحي، فالنحر لله من أشرف العبادات وأجلها. قال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (3)، وقال سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4)، فهذه الدماء عبادة شرعت لمحبة الله تعالى، والإخلاص له، والإحسان إلى الخلق، وقد اقترن الهدي والأضاحي بعيد النحر، حتى يتحقق الجمع بين
(1) المرجع السابق، ص 263.
(2)
المرجع السابق، ص 264.
(3)
سورة الكوثر الآية 2
(4)
سورة الأنعام الآية 162
الصلاة والنحر، وشرع الهدي، أن يهدي لخير البقاع في أشرف الأزمان في أجل العبادات، فصار الذبح أحد أنساكها، على أن يساق الهدي من الحل أو قبل ذلك، تعظيما لحرمات الله وشعائره وشرائعه، وفيه من الحكمة ما لا يخفى، فهو اقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث فدى ابنه إسماعيل بذبح عظيم، وأمر الله تعالى هذه الأمة بالاقتداء به، خصوصا في أحوال البيت الحرام، حيث تكفل الله بأرزاق سكانه، برهم وفاجرهم، ومن حكمة ذلك أيضا أنه شكر لنعمة الله تعالى بالتوفيق لحج بيته الحرام، ولهذا وجبت في حالتي التمتع والقران، وهذه العبادة شملت مشروعيتها جميع المسلمين في هذه الأيام فشرع الله لهم الأضاحي تحصيلا لفوائد هذه العبادة (1).
- وأما عن الحكمة في إيجاب الهدي على المتمتع والقارن دون المفرد بالحج فإن دم النسك عبادة مستقلة من جملة عبادات النسك، فالمتمتع عليه دم المتعة، والقارن عليه دم القران، أما المفرد فلا دم عليه، وحكمة شرع الدم في حق المتمتع والقارن، أنه شكر لنعمة الله تعالى، حيث جمع العبد بين نسكين في سفر واحد وزمن واحد، ولذا يجب أن يكون كل من المتمتع والقارن قد أحرم بالعمرة في شهر الحج، ليكون كزمن واحد، كما يجب أن يكون من المسافرين وليس من حاضري المسجد الحرام، لأن حاضريه ليس عليهم هدي، ومن اللائق شرعا، أنه إذا قدم العبد بيت الله بنسكين كاملين أن يهدي لأهل البيت. أما المفرد فلا دم عليه لأنه لم يحصل له إلا نسك واحد، فلم يأت بالعمرة إلى الآن مثل المتمتع والقارن (2).
(1) الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، الإرشاد إلى معرفة الأحكام 1400 هـ، الرياض، ص 97 - 99.
(2)
الإرشاد إلى معرفة الأحكام، ص 92 - 95.
صفحة فارغة
وسطية أهل السنة في القدر
الدكتور: عواد بن عبد الله المعتق (1).
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد. .
فإنه من المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك المسلمين على المحجة البيضاء لكن نتيجة بعض العوامل داخل الدولة الإسلامية وخارجها حدث الخلاف بين المسلمين في بعض المسائل: منها ما حسم في حينه، كاختلافهم في الخلافة وموضع دفنه عليه الصلاة والسلام، ومنها ما بقي حتى انقرض وانتهى، ومنها ما هو باق إلى الآن، وإن من أشهر المسائل التي اختلف فيها مسألة القدر. فقد انقسم الناس فيها إلى غلاة في الإثبات، وهم من يسمون بالجبرية، وإلى غلاة في النفي، وهم من يسمون بالقدرية. وإلى متوسطين، وهم أهل السنة والجماعة.
ونظرا لأهمية بيان وسطية أهل السنة في هذه المسألة، وانحراف الفرق المخالفة، فقد رأيت أن أكتب بحثا موجزا يتلخص فيما يلي:
الفصل الأول: في التعريف بالقدر ومراتبه.
الفصل الثاني: في انقسام الناس في القدر. وفيه مباحث:
المبحث الأول: الذين غلوا في إثبات القدر.
المبحث الثاني: الذين غلوا في نفي القدر.
(1) ورد تعريف بالكاتب في العدد " 29 " ص 314 من مجلة البحوث الإسلامية.