الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العبادة تصح من الكفار " (1).
وقال النووي في الإيضاح: " الناس أربعة أقسام- أي في الحج- قسم يصح له الحج، وقسم يصح منه المباشرة، وقسم يقع له عن حجة الإسلام، وقسم يجب عليه. فأما القسم الأول: وهو الصحة المطلقة، فشرطها الإسلام فقط، فلا يصح حج كافر. . ".
وحكى ابن رشد اتفاق العلماء على هذا الشرط فقال:
" الشروط قسمان: شروط صحة، وشروط وجوب. فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه: الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم "(2). وحكاه ابن مفلح إجماعا (3).
وبهذا يتبين أن هذا الشرط محل اتفاق بين العلماء، فلا يصح الطواف من الكافر ولا يقبل منه، سواء قيل: بأنه شرط وجوب؛ لأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، أم لا. (والله أعلم).
(1) مواهب الجليل 2/ 474.
(2)
بداية المجتهد 1/ 319.
(3)
الفروع 3/ 206، وانظر: موسوعة الإجماع 1/ 291.
المطلب الثالث: العقل:
المراد بهذا الشرط معرفة هل من شرط صحة الطواف أن يكون الطائف عاقلا، فلا يصح من المجنون، ولا الصبي غير
المميز. أم ليس من شرطه ذلك فيصح منهما، وينوي عنهما وليهما؟
هذا الشرط مما اختلف فيه العلماء، وفرقوا بين المجنون والصبي، ولذا فسأتناول كل واحد منهما في فرع مستقل.
الفرع الأول: طواف المجنون:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في طواف المجنون هل يصح منه أم لا؟ على قولين:
القول الأول: لا يصح طواف المجنون.
وإلى هذا ذهب الأحناف في المشهور، والحنابلة، والمالكية في رواية، والشافعية في وجه.
القول الثاني: يصح طواف المجنون.
وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور، والشافعية في الأصح،
والحنابلة في قول.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
" الأول: بقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الطفل حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يبرأ أو يعقل (1)» أخرجه أحمد من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وجه الاستدلال منه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر برفع القلم عن هؤلاء، والمراد برفع القلم عدم تكليفهم، وتسطير السيئات عليهم، فدل ذلك على أن المجنون ليس من أهل التكليف، وعلى عدم صحة العبادة منه.
الثاني: الإجماع على أن المجنون لو أحرم بنفسه لم ينعقد إحرامه؛ لأنه ليس من أهل العبادة.
(1) المسند 1/ 140، وحديث علي أخرجه أحمد في عدة مواضع، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، وابن حبان، وابن خزيمة، والبخاري تعليقا مجزوما به موقوفا على علي. وفي الباب من حديث عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي قتادة. وقد خرجته في تحقيقي على شرح المنتهى ص 587، انظر: نصب الراية 4/ 161، المجموع 7/ 20، مجمع الزوائد 6/ 251، الجامع الصغير 4/ 35، صحيح الجامع الصغير 1/ 659، الإرواء 2/ 4.
الثالث: أن العقل مناط التكليف، وبه تحصل أهلية العبادة، والمجنون ليس أهلا لذلك، فلا معنى ولا فائدة في طوافه وسائر عباداته، أشبه العجماوات.
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
بالقياس على الصبي غير المميز، فيصح طواف المجنون وحجه إذا باشر ذلك وليه كالصبي غير المميز.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول وهو: أن العقل شرط لصحة الطواف، فلا يصح طواف المجنون. وذلك لما يلي:
1 -
أن العقل هو مناط التكليف، فالمجنون ليس أهلا للعبادة.
فلا يصح منه الطواف وسائر العبادات.
2 -
أن تحرك المجنون أشبه بتحرك الآلة، أو الحيوان الذي لا يعقل، فلا معنى لدورانه، ولذا اتفق العلماء على أنه لو باشر الطواف بنفسه، لم يصح منه.
3 -
أن قياس المجنون على الصبي غير المميز، غير صحيح؛ لأن الأصل غير مسلم أيضا، فإن ممن يشترط العقل يشترط التمييز أيضا، فلا يرى صحة حج الطفل في مهده (1).
4 -
أن الحج يتضمن عبادات بدنية، فلا تصح من غير المميز كالصلاة. (والله أعلم).
(1) خلافا للفريق الآخر الذي يرى صحة حج الطفل ولو كان ابن يوم واحد. انظر المجموع 7/ 22.
الفرع الثاني: طواف الصبي غير المميز:
لا خلاف بين العلماء في صحة طواف الصبي المميز إذا استكمل بقية الشروط الأخرى. وإنما اختلفوا في طواف الصبي غير المميز. على قولين:
القول الأول: لا يصح الطواف منه.
وإلى هذا ذهب الأحناف، والمالكية في رواية.
القول الثاني: يصح الطواف منه.
وإلى هذا ذهب المالكية في المشهور، والشافعية، والحنابلة.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
الأول: أن الإحرام سبب يلزم به حكم، فلم يصح من الصبي كالنذر (1).
الثاني: أن العبادة لا تصح ممن لا يعقل، فلا تصح من الصبي غير المميز.
الثالث: أن العبادة لا تصح إلا بالنية، وغير المميز لا نية له. فلا يصح طوافه.
واستدل أصحاب القول الثاني، بما يلي:
الأول: بحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «لقي ركبا بالروحاء. . . فرفعت امرأة صبيا فقالت يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: " نعم، ولك أجر (2)» وفي رواية لأبي داود: «فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها (3)» وفي رواية لأحمد: ". . . «رفعت صبيا لها (4)» .
(1) انظر: المغني 5/ 50.
(2)
صحيح مسلم الحج (1336)، سنن النسائي مناسك الحج (2648)، سنن أبو داود المناسك (1736)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 244)، موطأ مالك الحج (961).
(3)
صحيح مسلم الحج (1336)، سنن النسائي مناسك الحج (2648)، سنن أبو داود المناسك (1736)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 219)، موطأ مالك الحج (961).
(4)
أخرجه مسلم في الحج، باب صحة حج الصبي، وأجر من حج به 9/ 99. وأبو داود في المناسك، باب في الصبي يحج 2/ 142 (1736)، وأحمد 1/ 344، والمحفة بالكسر: مركب للنساء كالهودج، إلا أنها لا تقبب، وانظر: القاموس المحيط ص 1034، المصباح المنير 1/ 142.
وجه الاستدلال منه:
أن الصبي الذي يحمل بعضده، ويخرج من المحفة لا تمييز له.
الثاني: وبحديث «السائب بن يزيد رضي الله عنه قال حج بي مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن سبع سنين (1)» . . رواه البخاري.
(1) رواه البخاري في جزاء الصيد، باب حج الصبيان (25) 2/ 219.
الثالث: وبحديث جابر رضي الله عنه قال: «حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم (1)» .
وجه الاستدلال منها:
في الحديثين بيان لما كان عليه حال الصحابة رضي الله عنهم، إذ كانوا يحجون بصبيانهم قبل بلوغهم الحلم، سواء كانوا مميزين أم كانوا دون سن التمييز، فدل ذلك على صحة طواف الصبي غير المميز.
ويدل له أيضا الآثار التالية:
الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه كان يحج صبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه " رواه الأثرم (2).
الخامس: وعن أبي إسحاق: " أن أبا بكر رضي الله عنه طاف بابن الزبير في خرقة " رواه الأثرم.
السادس: وقال عطاء: يفعل بالصغير كما يفعل بالكبير
(1) أخرجه أحمد 3/ 314، وابن ماجه في المناسك، باب الرمي عن الصبيان (68) 2/ 1010 (3038) واللفظ له. والحديث ضعيف. ففي سنده أشعث بن سوار وهو ضعيف كما صرح به الحافظ في التقريب، وفيه أيضا أبو الزبير المكي وهو مدلس، ورواه عن جابر بالعنعنة، قاله المباركفوري في تحفة الإحوذي 3/ 674.
(2)
انظر: المغني 5/ 52. 53.
ويشهد به المناسك كلها، إلا أنه لا يصلى عنه.
الرأي المختار:
مع كثرة القائلين بجواز طواف غير المميز، بناء على القول بانعقاد إحرامه بإحرام الولي عنه، وقيامه بما يستطيعه من المناسك كالطواف والسعي والوقوف والمبيت. . إلخ، فإني أميل إلى القول الآخر، وأن الطواف لا يصح من الطفل غير المميز. وذلك لما يلي:
1 -
أن الطواف عبادة من العبادات البدنية، فلا تصح ممن لا يعقل أو يميز كالصلاة.
2 -
أن الطواف مفتقر إلى نية، وغير المميز لا نية له فلا يصح طوافه.
3 -
أن حديث ابن عباس أقوى أدلة القائلين بالجواز، وهو وإن كان صريحا في جواز حج الصبي ومن ثم صحة طوافه، إلا أنه ليس صريحا في كونه غير مميز.
4 -
أن النصوص الأخرى تقرر أن أمر الصبي بالعبادات إنما يكون إذا بلغ سن التمييز، لما يحصل له من فوائد من مباشرتها وذلك كأمره بالصلاة وهو ابن سبع سنين.
5 -
أن الآثار الأخرى التي استدل بها أصحاب القول الثاني ليست صريحة في الحج بالصبيان وهم دون سن التمييز، بل ظاهرها أنهم قد بلغوا سن التمييز، ولذلك أسند إليهم الأفعال. وقد نص على ذلك حديث السائب ابن يزيد، ويؤيده طواف أبي
بكر رضي الله عنه بابن الزبير في خرقة، فإنه قد جاوز سن السابعة إذ كانت ولادته عام الهجرة (1).
6 -
أن الصبي غير المميز أشبه بالمجنون الذي لا يعقل، وقد سبق القول بعدم صحة الطواف منه.
7 -
أن تحرك الصبي غير المميز أشبه بتحرك الآلة، أو الحيوان الذي لا يعقل، فلا معنى لطوافه وسائر تحركاته، ولهذا اتفق العلماء على أن إحرامه لا ينعقد إلا بوليه. إذ لا نية له ولا قصد. (والله أعلم).
(1) انظر: الإصابة 4/ 69.