الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: في فائدة الإضافة في قوله تعالى:
{أُمَّهَاتُهُمْ}
(1) وفيها فائدتان:
الأولى: تتعلق بأزواج النبي عليه الصلاة والسلام، حيث شرفهن الله وأكرمهن بهذا الوصف العظيم، - ويعلم عظيم قدر هذا التشريف إذا علم نوع هذه الأمومة التي وصفن بها رضي الله عنهن، ولهذا تفصيل وإيضاح يأتي في المسألة القادمة إن شاء الله.
الفائدة الثانية: تتعلق بالمؤمنين، حيث أكرمهم الله بأن جعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لهم، ولا ريب أن في هذا تكريما للمؤمنين وحفزا لهم لمعرفة قدر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفضلهن وما لهن على المؤمنين من حقوق وواجبات، ومتى قوي استشعار المؤمن لأمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم له قوي إقباله وزاد اهتمامه بما لهن من حقوق وواجبات.
(1) سورة الأحزاب الآية 6
المسألة الخامسة: في وجه كون أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين:
لقد وصف الله تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن أمهات المؤمنين، وذكر تعالى في آية أخرى ما يدل على أن الأم إنما هي الوالدة، وذلك في قوله:{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1)، وكتاب الله لا تعارض فيه ولا اختلاف، ومن هنا فلا بد من بيان معنى الأمومة التي وصف بها أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) سورة المجادلة الآية 2
وفيما يلي أذكر ما أورده أهل العلم في بيان معنى الآية، ثم أتبع ذلك بذكر ما يتلخص من كلامهم رحمهم الله.
فقد روي ابن جرير عن قتادة رحمه الله في قوله تعالى:
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (1) قال: " يعظم بذلك حقهن "(2).
وروى ابن أبي حاتم عنه رحمه الله أنه قال: " أمهاتهم في الحرمة، لا يحل لمؤمن أن ينكح امرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إن طلق ولا بعد موته، هي حرام على كل مؤمن مثل حرمة أمه "(3).
وروى ابن جرير عن ابن زيد في معنى الآية: أي " محرمات عليهم "(4).
وقال الشافعي رحمه الله: " وقوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (5) مثل ما وصفت من اتساع لسان العرب وأن الكلمة الواحدة تجمع معاني مختلفة. . . فقوله: أمهاتهم من يعني في معنى دون معنى، وذلك أنه لا يحل لهم نكاحهن بحال، ولا يحرم عليهم نكاح بنات لو كان لهن، كما يحرم عليهم نكاح بنات أمهاتهم اللاتي ولدنهم أو أرضعنهم.
قال الشافعي: فإن قال قائل: ما دل على ذلك؛ فالدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج فاطمة بنته وهو أبو المؤمنين وهي
(1) سورة الأحزاب الآية 6
(2)
جامع البيان (11/ 122).
(3)
ذكره السيوطي في الدر المنثور (21/ 566).
(4)
جامع البيان (11/ 122).
(5)
سورة الأحزاب الآية 6
بنت خديجة أم المؤمنين زوجها عليا رضي الله عنه، وزوج رقية وأم كلثوم عثمان وهو في المدينة، وأن زينب بنت أم سلمة تزوجت، وأن الزبير بن العوام تزوج بنت أبي بكر، وأن طلحة تزوج ابنته الأخرى، وهما أختا أم المؤمنين، وعبد الرحمن بن عوف تزوج ابنة جحش أخت أم المؤمنين زينب، ولا يرثهن المؤمنون ولا يرثنهم كما يرثون أمهاتهم ويرثنهم، ويشبهن أن يكن أمهات لعظم الحق عليهم مع تحريم نكاحهن " (1).
وقال ابن جرير الطبري: " وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم في أنهن يحرم عليهم نكاحهن من بعد وفاته، كما يحرم عليهم نكاح أمهاتهم "(2).
وقال القرطبي: " أي: في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال، وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات، وقيل: لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني، وجاز تزويج بناتهن، ولا يجعلن أخوات للناس "(3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وقد أجمع المسلمون على تحريم نكاح هؤلاء بعد موته على غيره، وعلى وجوب احترامهن، فهن أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية، فلا يجوز لغير أقاربهن
(1) الأم (5/ 151).
(2)
جامع البيان (14/ 112).
(3)
الجامع لأحكام القرآن (13/ 82).
الخلوة بهن، كما يخلو الرجل ويسافر بذوات محارم، ولهذا أمرن بالحجاب، فقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} (1)، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (2)(3).
وقال ابن كثير رحمه الله: " أي: في الحرمة والاحترام والإكرام والتوقير والإعظام، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع. . . ".
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله بعد أن نقل كلام ابن كثير السابق: " وما ذكر من أن المراد بكون أزواجه صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين هو حرمتهن عليهم كحرمة الأم واحترامهم لهن كاحترام الأم. . . إلخ- واضح لا إشكال فيه، ويدل له قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (4)، لأن الإنسان لا يسأل أمه الحقيقية من وراء حجاب، وقوله تعالى:{إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (5)، ومعلوم أنهن رضي الله عنهن
(1) سورة الأحزاب الآية 59
(2)
سورة الأحزاب الآية 53
(3)
منهاج السنة (4/ 369).
(4)
سورة الأحزاب الآية 53
(5)
سورة المجادلة الآية 2
لم يلدن جميع المؤمنين الذين هن أمهاتهم " (1).
وبهذا يتبين وجه الجمع بين قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (2)
وقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (3) ويتبين أيضا معنى الأمومة التي وصف بها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
فالأمومة نوعان:
1 -
أمومة دينية:
وهي التي يكون سببها الدين، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين من هذا الوجه؛ لكونهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو للمؤمنين بمنزلة الوالد، ولما قمن به من جهود عظيمة في نقل أحاديثه صلى الله عليه وسلم: أقواله وأعماله وأخلاقه وعباداته، وصار بسببهن نفع للأمة عظيم.
وهذه الأمومة تقتضي وجوب تقديرهن واحترامهن والقيام بحقوقهن فإنهن بمنزلة الأمهات، وتقتضي كذلك تحريمهن على المؤمنين؛ فلا يجوز نكاحهن، كما قال تعالى:{وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} (4). وهي لا توجب ميراثا كأمومة النسب، ولا تنتشر؛ ولهذا جاز تزويج بناتهن وأخواتهن، وقد مضى أدلة ذلك في كلام أهل العلم المتقدم.
2 -
وأمومة طريقها النسب:
ويسميها. بعض أهل العلم أمومة طينية، وهي التي قال الله
(1) أضواء البيان (6/ 570).
(2)
سورة الأحزاب الآية 6
(3)
سورة المجادلة الآية 2
(4)
سورة الأحزاب الآية 53
عنها: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (1). فالوالدة أم لولدها، إذ هي التي أنجبته وولدته، ولهذه الأمومة أحكامها وحقوقها المعلومة.
وخلاصة القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان للمؤمنين بمنزلة الوالد " يربيهم كما يربي الوالد أولاده، فترتب على هذه الأبوة أن كان نساؤه أمهاتهم؛ أي: في الحرمة والاحترام والإكرام، لا في الخلوة والمحرمية "(2).
فهن أمهات للمؤمنين أي: في تحريم نكاحهن على التأبيد، ووجوب إجلالهن وتعظيمهن، ولا تجري عليهن أحكام الأمهات في كل شيء، إذ لو كن كذلك لما جاز أن يتزوج بناتهن، ولورثن المسلمين، ولجازت الخلوة بهن.
(1) سورة المجادلة الآية 2
(2)
تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (6/ 98).
المسألة السادسة: إذا قيل: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين فهل يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم؟ وهذه مسألة مهمة تكلم عليها أهل العلم عند تفسيرهم لهذه الآية؛ إذ إن هذه الآية الكريمة يفهم منها أن النبي صلى الله عليه وسلم أب لهم، كما أن أزواجه أمهات لهم، بل كما قال شيخ الإسلام:" فإن نساءه إنما كن أمهات المؤمنين تبعا له، فلولا أنه كالأب لم يكن نساؤه كالأمهات "(1).
وقد جاء في قراءة شاذة للآية عن بعض الصحابة والتابعين
(1) منهاج السنة (5/ 238).
قراءة الآية هكذا: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ".
فقد أخرج الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ هذه الآية: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم ".
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قرأ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم ".
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان في الحرف الأول: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم "(1).
قال ابن كثير: " وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قرآ: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم ". وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد وعكرمة والحسن. . . "(2).
وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن القراءة المشهورة تدل على ذلك (3).
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (21/ 567).
(2)
تفسير القرآن العظيم (6/ 382).
(3)
منهاج السنة لابن تيمية (5/ 238).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين أبوة دينية، بمعنى أنه يربيهم ويرشدهم ويدلهم على الخير وعلى عبادة الله وطاعته والاستقامة على دينه، بل إن كل الأنبياء بهذا المعنى آباء لأممهم؛ ولهذا نقل عن مجاهد أنه قال:"كل نبي أب لأمته "(1)؛ لأنهم نصحوا لأممهم وأرشدوهم إلى الخير ونهوهم عن الشر.
ومما يدل على هذا المعنى ويقويه ما ثبت في السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه (2)» «وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة (3)» . فهذا الحديث فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين على المعنى الذي ذكر في الحديث وهو بالنظر إلى ما يقوم به صلى الله عليه وسلم لهم من نصح وبيان وإرشاد.
ولهذا يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله:
" وهو صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين كما في قراءة بعض الصحابة يربيهم كما يربي الوالد أولاده "(4).
وعلى هذا فلا مانع من وصفه صلى الله عليه وسلم بأنه أب للمؤمنين على المعنى الذي سبق بيانه.
(1) ذكره الألوسي في تفسيره (21/ 152).
(2)
سنن النسائي الطهارة (40)، سنن أبو داود الطهارة (8)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 247)، سنن الدارمي الطهارة (674).
(3)
رواه أحمد (2/ 247، 250) وأبو داود (1/ 3)، والنسائي (1/ 38)، وابن ماجه (1/ 114)، وحسنه الألباني. انظر صحيح الجامع (2/ 284). والرمة: العظم.
(4)
تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي (6/ 98).
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا للمؤمنين، محتجين على ذلك بقوله تعالى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (1) قالوا: ولكن يقال: مثل الأب للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم:«إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم (2)» . . . " (3).
ذكر هذا القرطبي رحمه الله تعالى، ثم قال:" والصحيح أنه يجوز أن يقال: إنه أب للمؤمنين: أي: في الحرمة، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ} (4) أي: في النسب "(5).
فلا تعارض بين الأبوة المثبتة والأبوة المنفية، فالأبوة المنفية هي أبوة النسب، وأما الأبوة التي أثبتها أهل العلم واحتجوا لها بما تقدم فهي أبوة التعليم والنصح والبيان.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله " ويفهم من قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (6) أنه صلى الله عليه وسلم أب لهم، وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس أنهما قرآ: " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وهذه الأبوة أبوة دينية، وهو صلى الله عليه وسلم أرأف بأمته من الوالد الشفيق بأولاده، وقد قال جل وعلا في رأفته ورحمته بهم {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (7).
(1) سورة الأحزاب الآية 40
(2)
سنن النسائي الطهارة (40)، سنن أبو داود الطهارة (8)، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (313)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 247)، سنن الدارمي الطهارة (674).
(3)
انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/ 84)، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (6/ 382).
(4)
سورة الأحزاب الآية 40
(5)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/ 84).
(6)
سورة الأحزاب الآية 6
(7)
سورة التوبة الآية 128