الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: حكم الشرع في بعض الأعمال المستحدثة في الطب والجراحة:
الإسلام بطبيعته يشجع البحث العلمي ويدعو إليه فالله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (1). إلا أن للبحث العلمي في بعض الأحيان هفواته التي لا تغتفر، وشطحاته التي لا تصيب الهدف، وعلى ذلك لا بد من تمحيص النتائج على ضوء القواعد التي وضعها صاحب الشرع سبحانه وتعالى، العليم بأحوال عباده فإنه كما قال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (2).
قطع الأعضاء البشرية لغرض الزرع:
لما كان مما يجوز للطبيب أن يعمل مبضعه في جسم المريض من أجل علاجه وإبعاد الأذى عنه، فهل له مثل ذلك ولكن في جسم سليم ليخلص جسما آخر هو بحاجة إلى العلاج؟
أي هل يجوز أن يكون علاج المريض جزءا أو قطعة أو عضوا من جسم سليم؟ فيكون الأول معطيا والآخر آخذا أو متلقيا.
بالنسبة لزرع عضو في جسم المريض من أجل إنقاذه لا إشكال عليه في الشريعة الإسلامية، فإنه علاج مباح ما دام حصل إذن الشرع بالعلاج وإذن المريض بالتداوي وتقبله ولكن الصعوبة كل الصعوبة في قطع العضو من الحي أو الميت.
(1) سورة الزمر الآية 9
(2)
سورة يوسف الآية 76
فلنتكلم أولا على استقطاع عضو حي لإنقاذ حي بحاجة إلى ذلك العضو:
أول ما نلجأ إليه في مثل هذا الأمر هو البحث في الشريعة الإسلامية قبل غيرها، فإن أجازت هذا العمل ترتب عليه الجواز من الناحية الطبية وإلا فلا، والحقيقة أنه لا نص على هذه القضية بصراحة في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة، بل هي قضية تندرج تحت غيرها من القواعد الكلية كما أسلفت فيما سبق، والقواعد الفقهية تراعي ثلاثة أمور في الغالب هي:
دينية: تتصل بمدى حرمة الانتفاع بأجزاء الآدمي حيا أو ميتا.
فقهية أو قانونية: تتعلق بالوسيلة الفنية التي يمكن بواسطتها بلورة هذا الانتفاع.
تزاحم المصالح: أي المفاضلة بين المصالح المتزاحمة.
نجد أن الفقهاء أجازوا الانتفاع بلبن الظئر، وذلك بتأجيرها أو استئجارها، فقد اختلفوا في الناحيتين الأولى والثانية، ولكن هذا الاختلاف دل على سعة الأفق والتوقعات المستقبلية لما يجد ويستحدث، مما يحفز المختص في أن يبحث مدى شرعية استقطاع الأعضاء من جسم حي أو ميت لغرض الزرع، وعليه فلا بد من الموازنة والترجيح بين أدلة الإباحة وأدلة الحظر:
هل جسم الإنسان من الأموال وهل هو ملك لصاحبه؟
والصحيح أن جسم الإنسان ليس مالا له ولا يجوز بيعه.
فلا الشرع ولا الطبع ولا العقل يجيز بيع الأجزاء الآدمية، لأن الله كرمه وميزه عن غيره، والأصل في المبيعات أن تكون أشياء خارجة عن الإنسان، وأعضاؤه ليست خارجة عنه (1).
وإذا أراد الناس أن يقولوا: ولكن الإنسان تضمن قيمته إذا قتل، قلنا: إن هذا استدلال فاسد لأن الأصل في الضمان في الفقه الإسلامي يتمثل في القضاء الكامل للمضمون صورة ومعنى وإن جاز في بعض الحالات فإنه على سبيل الاستثناء (2).
وهو قول الجماهير من أهل العلم.
وعند الحنفية: أن أطراف الإنسان تعتبر من قبيل الأموال بالنسبة لصاحبها، ومعنى الأطراف هنا ينسحب على أي عضو أو جزء من الأجزاء الإنسانية معزولا عن باقي الأعضاء التي لا يجوز التصرف بمجموعها.
ولكن الإنسان يستطيع أن يضحي بجزء من أجزاء بدنه لإنقاذ حياته (3)، فهي كالمال خلق وقاية للنفس (4).
ونجد أن
(1) السرخسي، ج 5، ص 125، البخاري، ج 1، ص 171، 175، 176.
(2)
انظر الكاساني، ج 7، ص 56.
(3)
الطوارئ تكملة البحر الرائق، ج 8، ص 311.
(4)
الكاساني، ج 7، ص 257، 297.
الحنفية أنفسهم أجازوا العقد على ". منافع الأشياء- بالإجارة- بالرغم من أن المنافع لي! ست من الأموال عندهم، وهو استحسان تبرره الضرورة (1).
هل أجزاء الإنسان المنفصلة عنه طاهرة؟
إن من شروط صحة العقد أن يكون محل العقد طاهرا منتفعا به طبعا وشرعا (2)، فلا يصح العقد على نجس أو محرم.
لم يتفق الفقهاء على طهارة الجزء المنفصل، فعند الحنفية أن ما انفصل عن جسم حي وكان فيه دم فهو نجس لا يجوز الانتفاع به (3).
ونص أيضا على أنه لا يجوز التداوي بعظم الآدمي أو أي جزء منه لعدم الطهارة أو الكرامة الإنسانية.
أما المذاهب الأخرى فالراجح فيها أن أجزاء الآدمي المنفصلة طاهرة كجملته (4)، كما ذهب نفر إلى جواز بيع أجزاء
(1) السرخسي، ج 1، ص 78، 79، الزيلعي، ج 6، ص 202.
(2)
ابن الهمام، ج 5، ص 251، محمصاني، النظرية العامة للموجبات، ج1، ص 9.
(3)
ابن عابدين، ج 1، ص 142، وذهبت الفتاوى الهندية: أنه لا يجوز الانتفاع بسعر لآدمي، ج 3، ص 88.
(4)
السرخسي، ج 5، ص 125، 354، ابن الهمام، ج 2، ص 65، الكاساني، ج 5، ص 142.
الإنسان إذا كان يستفاد منها (1).
أما بالنسبة لجثة الإنسان فالراجح في المذاهب الفقهية أنها طاهرة خلافا لبقية الميتات (2) لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تنجسوا أمواتكم فإن المؤمن لا ينجس حيا أو ميتا (3)» ، ولكن منع النووي من الانتفاع بأي جزء من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته ويتعين دفنه.
ويحسن بنا أن نفهم أن حرمة استعمال الدواء النجس إنما تكون عند عدم وجود الطاهر، فإن لم يوجد الطاهر جاز استعمال النجس للضرورة وليس في هذا مخالفة لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها» أو «لا شفاء في نجس (4)» .
ويجوز للإنسان أن ينتفع بجزء من أجزائه للتداوي بشرط أن تكون المصلحة في ذلك أعظم من ترك الجزء، وتطبيقا لذلك يجوز لصق ما انفصل من الجسد في موضعه (5)، كما يجوز ترقيع الجلد المحروق من مكان آخر سليم.
ومعلوم في الفقه الإسلامي أنه لا يجوز بيع الأجزاء الآدمية لأنها ليست ملكا للشخص بل هي بمجموعها مسخرة للإنسان ليقوم بطاعة ربه وقضاء حوائجه، ولكن إذا كان بالهبة وبدون
(1) الحطاب، ج 1، ص 230، عبد الرحمن بن رجب، القواعد، ج 4، القاهرة 1933 م قاعدة رقم 5/ 2.
(2)
النووي، ج2، ص 560، 563.
(3)
القرطبي، ج 2، ص 230.
(4)
النووي، ج2، ص 138، 562.
(5)
النووي، ج 3، ص 139، المغني، ج 7، ص 812.