الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: النية:
لا خلاف بين العلماء أن الطواف عبادة من العبادات التي أمر الله بها (1)، وأنه من المقاصد، ولذلك اتفقوا على اشتراط النية لصحته. قال السرخسي:" الطواف عبادة مقصودة، ولهذا يتنفل به، فلا بد من اشتراط النية فيه "(2) وقال الحافظ ابن حجر: " وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها "(3).
فالنية شرط في صحة الطواف المطلق اتفاقا، فالطواف
(1) انظر: بحث أنواع الطواف وأحكامه. للباحث.
(2)
المبسوط للسرخسي 4/ 37.
(3)
فتح الباري 1/ 14.
بغير نية ليس بصحيح، وليس عبادة يثاب عليها.
وإنما اختلف العلماء في الطواف في النسك من حج أو عمرة، هل يشترط لصحته نية الطواف؟ وهل يكفي أصل النية أم لا بد من تعيينها، بأن يكون الطواف للقدوم أو للإفاضة أو للوداع؟
اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال:
القول الأول: يشترط أصل نية الطواف، ولا يشترط تعيينه.
فلو طاف يوم النحر نفلا أو وداعا وقع عن الزيارة، ولو طاف بعد الزيارة فهو للوداع سواء نواه أم أطلقه أم نواه تطوعا.
وإلى هذا ذهب الحنفية.
القول الثاني: يشترط التعيين في بعض أنواعه.
فلو طاف للقدوم بنية النفل لم يجزه، أما لو طاف بعد دخول وقت الزيارة بنية الوداع أو النفل وعاد إلى بلده أجزأه.
وبهذا قال المالكية.
القول الثالث: يشترط تعيين نية " الطواف.
فلو طاف بعد دخول وقت طواف الزيارة بنية الوداع أو النفل لم يقع عنه.
وبهذا قال الحنابلة، والشافعية في وجه، وإسحاق، وأبو ثور، وابن القاسم من المالكية، وابن المنذر.
القول الرابع: لا تشترط نية الطواف أصلا، إذا كان الطواف في نسك من حج أو عمرة.
فلو طاف ناسيا أو ساهيا أجزأ عن الطواف المشروع في وقته، لكن يشترط أن لا يصرفه لغرض آخر كطلب غريم.
وإلى هذا ذهب الشافعية في الأصح من الأوجه عندهم
وبعض الحنفية.
الأدلة:
(1)
استدل من اشترط أصل النية بما يلي:
قالوا: إن نية الطواف في وقته يقع بها عن المشروع في ذلك الوقت دون الحاجة إلى تعيين النية، كما لو صام رمضان بمطلق نية الصوم، أو صام رمضان بنية التطوع فإنه يقع عن رمضان.
قال ابن الهمام: " إن خصوص ذلك الوقت إنما يستحق خصوص ذلك الطواف بسبب أنه في إحرام عبادة اقتضت وقوعه في ذلك الوقت فلا يشرع غيره، كمن سجد في إحرام الصلاة ينوي سجدة شكر أو نفل أو تلاوة عليه من قبل، تقع عن سجدة الصلاة لذلك الاستحقاق، فكان مقتضى هذا ألا يحتاج إلى نية أصلا كسجدة الصلاة، لكن لما كان هذا الركن لا يقع في محض إحرام العبادة الذي اقترن به بل بعد انحلال أكثره وجب له أصل النية دون التعيين؛ لأنه لم يخرج عنه بالكلية، بخلاف الوقوف بعرفة "(1).
(2)
واستدل من اشترط تعيين النية بما يلي:
الأول: بحديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى (2)» . . . الحديث.
(1) شرح فتح القدير 2/ 495.
(2)
متفق عليه. أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي (1) 1/ 2، ومواضع أخرى من صحيحه. ومسلم في الإمارة، باب إنما الأعمال بالنية 13/ 53. قال الحافظ في التلخيص 1/ 54:" لم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك، فإنه لم يخرجه في الموطأ ".
وجه الاستدلال منه:
أن الحديث دليل على اشتراط النية لصحة الأعمال. فلا بد منها، ولا بد من تعيينها للتفريق بين أنواعها.
الثاني: وبحديث: «الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه المنطق، فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير (1)» .
(1) الحديث أخرجه أحمد 3/ 414، 4/ 64، 5/ 377، والنسائي في المناسك، باب إباحة الكلام في الطواف (136) 5/ 222 (2922). من طريق الحسن بن مسلم عن طاوس عن رجل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرجه أيضا: الدارمي 2/ 44 واللفظ له، والحاكم 1/ 459، وابن خزيمة 4/ 222 (2739)، وابن حبان ص 247 (998) والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 178، والبيهقي 5/ 85 كلهم من طريق عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي من طريق عطاء 2/ 217 (967) بلفظ:" الطواف حول البيت مثل الصلاة. . " الحديث. قال الحافظ في التلخيص: " وصححه ابن السكن، وابن خزيمة، وابن حبان، وقال الترمذي: " روي مرفوعا وموقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء لما. ومداره على عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس، واختلف في رفعه ووقفه، ورجح الموقوف النسائي، والبيهقي، وابن الصلاح، والمنذري، والنووي، وزاد: إن رواية الرفع ضعيفة، وفي إطلاق ذلك نظر. . . " إلخ، وبين ذلك النظر بتتبع طرق الحديث وما فيه من متابعات وشواهد يتقوى بها، بل لعله يرتقي بها إلى درجة الصحة. وممن ذهب إلى ذلك الزيلعي وابن الهمام وغيرهما. كما وافقهم على ذلك الألباني في الإرواء إذ قال بعد أن أطال الكلام على الحديث ومتابعاته وشواهده 1/ 158: " وجملة القول: إن الحديث مرفوع صحيح، ووروده أحيانا موقوفا لا يعله ". وعلى فرض التسليم بوقفه فهو حجة أيضا، كما قال النووي في المجموع 8/ 18: " إنه قول صحابي اشتهر ولم يخالفه أحد من الصحابة، فكان حجة ". وانظر: نصب الراية 3/ 57، تحفة المحتاج لابن الملقن 1/ 154، 155 (29، 30) شرح السنة للبغوي 7/ 125. تلخيص الحبير 1/ 129، إرواء الغليل 1/ 154 (121)، أضواء البيان 5/ 207.
الثالث: وقالوا: إنه عبادة محضة تتعلق بالبيت، فاشترطت له النية كالصلاة (1).
(3)
واستدل من لم يشترط النية أصلا بما يلي:
الأول: قالوا: إن نية النسك تشمل أعمال المناسك كلها بما فيها الطواف بأنواعه فلا يحتاج إلى نية، كما أن الصلاة تشمل جميع أفعالها ولا يحتاج إلى النية في ركوع ولا غيره (2).
الثاني: وقالوا: الإجماع على أنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه، فكذلك لو طاف بعد الوقوف ناسيا أنه للإفاضة.
الرأي المختار:
الذي أختاره ما ذهب إليه أصحاب القول الأول، وهو أنه لا
(1) انظر: المبدع 3/ 221، حاشية الروض المربع 4/ 108 لابن قاسم.
(2)
انظر: المجموع 8/ 17.
يشترط تعيين نية الطواف في النسك من حج أو عمرة، بل إن نية الطواف كافية لصحته وأدائه عن الواجب في وقته، فمن طاف فور قدومه وكان معتمرا كان الطواف لعمرته ولو نوى القدوم وحده، ولو طاف بعد الوقوف فهو للزيارة وإن لم ينوه، أو نواه للوداع قبل صدوره من مكة. وذلك لما يلي:
1 -
أن الطواف في الوقت المحدد له، يقع عن الطواف المشروع في ذلك النسك، دون الحاجة إلى تعيين النية لذلك الطواف، اكتفاء بنية النسك في ذلك. كمن صام رمضان بمطلق النية أو نية التطوع، وكمن حج بنية النفل قبل أن يحج الفريضة.
2 -
أن الوقوف بعرفة يختلف عن الطواف، فلا يصح قياس الطواف عليه في الاكتفاء بنية الإحرام، ذلك أن الطواف عبادة مقصودة يتنفل بها، أما الوقوف فإنه لا يتنفل به.
والوقوف يؤدى في حال الإحرام، أما طواف الزيارة فإنه يؤدى بعد التحلل من الإحرام بالحلق فوجود النية في
الإحرام لا يغني عن النية في الطواف (1).
3 -
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طافوا في حجة الوداع معه، وهم لا ينوون إلا الحج- فكان طوافهم للقدوم- فلما فرغوا من سعيهم أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتحلل وجعلها عمرة، ولم يأمرهم بإعادة الطواف، مع أن طوافهم سنة أو واجب، وطواف العمرة ركن.
(1) انظر: المبسوط 4/ 37، بدائع الصنائع 2/ 128.
4 -
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلن لأصحابه، أو يأمرهم بإعلام الطائفين بأن هذا طواف للقدوم وذلك طواف للإفاضة، بل كان يؤدي المناسك ويقول:«خذوا عني مناسككم (1)» ولا شك أن كثيرا ممن حج معه صلى الله عليه وسلم لم يكن مستحضرا أن الطواف بعد الوقوف بعرفة، هو طواف الزيارة، وهو الطواف الركن، وإنما كانوا يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في مناسكه.
5 -
ذهب الفقهاء الذين اشترطوا تعيين النية للطواف الواجب، إلى القول بإجزاء الطواف المستحب عنه، في بعض صوره.
وذلك كإجزاء طواف القدوم عن طواف العمرة إذا فسخ الحج إلى العمرة متمتعا بها إلى الحج، عند أحمد. وإجزاء طواف التطوع عن طواف الإفاضة الفاسد إذا طافه بعده، عند مالك.
قال ابن رجب: " وأخذ الشافعي وأحمد في المشهور عنه وغيرهما في أن حجة الإسلام تسقط بنية الحج مطلقا، سواء نوى التطوع أو غيره، ولا يشترط للحج تعيين النية، فمن حج عن غيره ولم يحج عن نفسه وقع عن نفسه، وكذلك لو حج عن نذر أو نفلا ولم يكن حج حجة الإسلام فإنها تنقلب عنها "(2).
6 -
أن القول باشتراط تعيين النية فيه حرج كبير، إذ إن أكثر الحجاج على جهل كبير بمناسك الحج ومعرفة الواجب فيه
(1) سنن النسائي مناسك الحج (3062).
(2)
جامع العلوم والحكم ص 17.