الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(8)
{مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ
أيضًا}
بسم الله الرحمن الرحيم
[التمر بالعيش نسيئة]
(الأولى): أما التمر بالعيش نسيئة، فلا يجوز وهو داخل في الربا الذي حرم الله ورسوله.
[السمن بالتمر واللحم بالتمر والأقط بالتمر]
وأما السمن بالتمر، واللحم بالتمر، والأقط بالتمر، فالذي عليه أكثر العلماء أنه لا يجوز وينهى عنه؛ وهو الذي نعمل عليه.
[مصارف الزكاة]
وأما مصارف الزكاة، فالله سبحانه وتعالى ذكر أهلها في كتابه، وجزأهم ثمانية أصناف، وهم الذين لا يجوز صرفها إلى غيرهم بإجماع أهل العلم. وإذا أعطيها بعض الأصناف جازت؛ ولم يذكر في الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسمها بين الثمانية الأصناف كقسمة الميراث لا يزيد أحدًا على أحد، بل يعطيها بعض الأصناف الذي ذكر الله؛ وهذا مذهب كثير من العلماء أنه لا يجب استيعاب الأصناف كلها، بل إذا أعطى بعض الأصناف أجزأت. ومن يكن له معرفة بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، علم أن هذا هو الصواب.
[حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو]
وأما حجر الإنسان ابنة عمه أو غيرها عليه لا يزوجها إلا هو، فهذا من أعظم المنكرات وهو من دين الجاهلية الذي أبطله الإسلام.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} الآية [النّساء من الآية: 19]
[الأمور التي تجب فيها الزكاة]
وأما الأمور التي تجب فيها الزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر نصاب الذهب عشرين مثقالا، ونصاب الفضة مائتي درهم، ونصاب التمر والعيش خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون نصاب التمر والعيش ثلاثمائة بصاع النبي صلى الله عليه وسلم.
[شراء الطعام مجازفة]
وأما شراء الطعام مجازفة فليس به بأس، إلا أن يكون البائع يعلم كيله والمشتري فيه واحد.
[الطلاق ثلاثا بكلمة واحدة]
وأما الطلاق ثلاثًا بكلمة واحدة، فالذي نفتي به أنه يصير ثلاث تطليقات كما ألزم به عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس، وتابعه الصحابة على ذلك.
[الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي وهو يضحك]
وأما الرجل الذي قال لآخر: زوجتك ابنتي، وهو يضحك، فالنكاح يلزمه، وإن كان الرجل يهزل به، كما في الحديث "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة"1.
[غلاق الرهن]
وأما الرجل الذي رهن رهانة، وقال له المسترهن: إن كان ما قضيتني في هذه المدة ومضت المدة، وإلا فهي لي بالذي عندك، فهذا لا يجوز، هذا يسمى غلاق الرهن، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يغلق الرهن"2، وفسر العلماء غلاق الرهن بمثل هذا الكلام.
[زكاة القطن والبطيخ والخضراوات]
وأما القطن والبطيخ والخضراوات فليس فيه زكاة، وأما البر بالشعير نسيئة فهو ربا.
[نذر نخلة للنبي عليه الصلاة والسلام]
وأما الرجل الذي نذر نخلة للنبي صلى الله عليه وسلم أو لأبي صالح، وبعد ما أسلم علم أن هذا ما يجوز، وتاب إلى الله ورجع عن ذلك، وجعلها لله، فهذا هو الذي ينبغي له، وهي مصرف حسن، وتقسم ثمرتها في وجوه البر كالفقراء والمساكين والأقربين.
[مقدار السفر الذي يترخص فيه]
وأما مقدار السفر الذي يترخص فيه برخص السفر كالقصر والإفطار والجمع، فالعلماء اختلفوا في ذلك، وبعضهم ما يرى فيه تحديدًا لأنه لم يرو فيه تحديد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه، بل كل ما كان يسمى سفرًا، وإن
1 الترمذي: الطلاق (1184)، وأبو داود: الطلاق (2194)، وابن ماجه: الطلاق (2039).
2 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437).
كان دون اليوم جاز أن يترخص فيه برخص السفر؛ وهذا هو الصواب وهو الذي تدل عليه النصوص.
[تزوجها رجل ودخل بها لكنه لم يطأها]
وأما المرأة التي تزوجها رجل، ودخل بها، لكنه لم يطأها، فالذي نعمل عليه أن العدة تجب عليها.
وأما من قال: علي الطلاق أو الحرام لأفعلن كذا ولا أفعلن كذا وفعله، فالذي نعمل عليه أنه ليس عليه إلا كفارة يمين.
[أدب المتكاسل عن الصلاة]
وأما أدب المتكاسل عن الصلاة بالجلد والخسارة، فهذا النوع عند أهل العلم يسمى التعزير، وهو أن المعاصي التي لم يقدر الشارع فيها حدا يرجع فيها إلى اجتهاد الأئمة، فيفعل الأمير ما فيه المصلحة من الضرب والخسارة بالمال. والنبي صلى الله عليه وسلم هم أن يحرق على المتخلفين عن الجماعة بيوتهم، ولم يمنعه من ذلك إلا ما في البيوت من النساء والذرية.
[تأخير الزكاة إلى أجل معلوم]
وأما تأخير الزكاة إلى أجل معلوم، فإن رأى العامل في ذلك مصلحة جاز له فعله. وأما نقل الزكاة من بلد إلى بلد، فبعض العلماء يرى جواز ذلك لأجل المصلحة إذا رآه الإمام؛ وهو الذي نعمل عليه.
وأما ما ذكر السائل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فلا نعرف ذلك من وجه صحيح. وأما قول السائل: إنه ذكر في الخبر أنه جاءته صدقة خراسان، فلا أرى لهذا أصلا.
[مقدار الصاع]
(8)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن الشيخ وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد) وصل خطك أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة تحرير الصاع أن الذي تحرر لكم فيه أنه أربع حفنات بيدي الرجل
المعتدل في الخلقة، فالأمر على ما ذكرت وهو الذي ذكره العلماء كصاحب النهاية والقاموس. وأما كون بعض الحفنات يزيد السدس على الصاع الأول الذي هو أربع حفنات، فلم يظهر لنا ذلك، بل الذي ظهر لنا أن الزيادة تسع أو عشر على ما تحرر لنا بالحفنات. وأما الوزن فلم نعتمد عليه، لأن الحب يختلف بالرزانة وعدمها، والعمدة على ما حرره العلماء بالحفنات، وزيادة الصاع على الحفنات يسيرة؛ فلهذا تركنا الأمر على العادة القديمة في الاعتبار بالصاع الموجود. وأما الذي نفتي به فهو العمل على أربع الحفنات، وبالاعتبار بالصاع نجعل التسعة الآن عن عشرة وما دون ذلك مشكوك فيه، فالاحتياط في العبادة أولى. وأما الحبوب فالذي عليه العمل أنه يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، ولو اختلف الجنس إذا كان ذلك في عام واحد. وحسين وإخوانه فيما تحب والسلام.
(9)
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله وحمد إلى الأخ سعيد بن حجي حفظه الله تعالى
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(وبعد) وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وكل من تسأل عنهم طيبون عبد العزيز والعيال وآل الشيخ وعيالنا وخواص إخوانك، الجميع فيما تحب من فضل الله أسبغ الله علينا وعليكم نعمه وأعاذنا من حلول نقمه.
[الصدقة في مكة]
(وأما جواب المسائل): فمسألة الصدقة في مكة لها مزية في الفضيلة لفضيلة البقعة، ومتحري الخير يتيسر له ذلك خصوصا في أيام الحج، إذا حج ناس من المسلمين، فإنه يجد مع الحاج من فقراء المسلمين ناسا محتاجين يتصدق
عليهم، فيحصل فضيلة البقعة مع فضيلة أيام الحج.
وأما الصدقة على أهلها اليوم وهم على هذه الحال، فقد ذكر أهل العلم ما يدل على أن المسلم يثاب على الصدقة على الكافر كما يدل عليه قوله تعالى:{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وذكر أهل التفسير عند قوله تعالى:{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون} [البقرة من الآية: 272] أنها نزلت في الصدقة على أهل الذمة.
[هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين]
وأما مسألة ذوي الأرحام إذا هلك هالك عن ابن أخت شقيقة وابني خالين، فالعمل على مذهب المنْزلين، فينْزلوا كلا منْزلة من أدلى به: فيكون لابن الأخت النصف ثلاثة من ستة، ويكون لابني الخالين اثنان من ستة ويبقى واحد يرد عليهم على قدر سهامهم، فيجعل المال خمسة أسهم لصاحب النصف ثلاثة أخماس، ولصاحب الثلث خمسان. لكن النظر في ابني الخالين هل هما وارثان أو أحدهما محجوب بالآخر كما نص الفقهاء على ذلك. مثال ذلك ابن الخال لأب مع ابن الخال لأبوين، فالمال لابن الخال الشقيق، ولا شيء لابن الخال لأب، نبه عليه صاحب الشرح الكبير.
[البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو غيره]
وأما مسألة البيع المعيب إذا زال ملك المشتري عنه بعتق أو موت أو وقف أو بيع، وتعذر رده، وكان تصرفه ذلك قبل علمه بالعيب، فله الأرش لتعذر الرد، في هذه الصورة الخلاف المشهور بين الفقهاء فيما إذا أمكن الرد، وامتنع المشتري وطالب بالأرش.
[العمل بالخطوط]
وأما مسألة العمل بالخطوط التي أشرت إليها، فمسألة العمل بالخط فيه خلاف بين الفقهاء لكن الذي نعمل به اليوم هو ما إذا كان الكاتب
معروف الكتابة موثوقا به أنه لا يكتب إلا الشهادة المحررة، وأما الخط الذي لا يعرف أو يعرف ولكن صاحبه ليس بثقة، فلا نعمل به ولا نقبل إلا شهادة الشاهد بعينه، أو يحمل شهادته من يوثق به؛ ولا ينبغي لك أن تعمل إلا على هذا، فإذا لم يتهيأ فلك عن ذلك مندوحة. وسلم لنا على سعود ومرشد وإخوانك والسلام.
[إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية]
(10)
(وله أيضًا رحمه الله إجابة على تسع وتسعين مسألة فقهية)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بمشاهدة عجائب الاعتبار والعبر، واستخلص هممهم بصفاء المناجاة، ولذات المصافاة من شواغل الأسباب وشوائب الكدر، أحمده وآمن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين وصفوة المرسلين وإمام المتقين وسيد البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في سبيل الله حتى ارتفعت أعلامه على الأديان فظهر، وسلم تسليما.
(أما بعد) فإنه لما كان غرة رجب المحرم سنة 1217 سبع عشر بعد المائتين والألف، ورد علينا أسئلة ممن أراد الاسترشاد، وكان مقصده إن شاء الله بذلك سلوك طريق الرشاد، وهي مسائل فقهية، فنقلت أجوبتها من كتب الأئمة الأعلام، وأشار في مقدمة أسئلته بإيجاز الكلام، وجملة ما سأل عنه تسع وتسعون مسألة.
نسأل الله الإعانة والتسديد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[المسألة الأولى: استعمال ماء بئر تردت فيه بهيمة]
(المسألة الأولى): إذا تردت بهيمة في بئر ولم يعلم بها إلا بعد تغير رائحة الماء تغيرا ظاهرا، فهل يجوز له استعماله وتستباح به الصلاة أم لا؟
(الجواب): من علم بتغيير رائحة الماء لم يجز له استعماله، ولا تستباح به الصلاة.
[المسألة الثانية: عليه غسل وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم]
(المسألة الثانية): إذا كان على رجل غسل، وحضرت الصلاة ولم يجد إلا ماء زمزم، فهل يجوز له استعماله أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها خلاف، والظاهر أنه يجوز له استعماله من غير كراهة. فأما إذا وجد غيره ففيه ثلاث روايات: الأولى: لا يكره، والثانية: يكره، والثالثة: يكره الغسل دون الوضوء اختارها الشيخ.
[المسألة الثالثة: الوضوء من ماء راكد بال إنسان فيه]
(الثالثة): إذا بال إنسان في ماء راكد، وحان وقت الصلاة ولا يجد ماء غيره، فهل يباح له الوضوء منه أم لا؟
(الجواب): إذا اضطر إليه ولم يجد غيره، وهو فوق القلتين ولم تغيره رائحة النجاسة، فالظاهر أنه يتوضأ منه ويرتفع حدثه.
[المسألة الرابعة: هل يحل الدين بالموت]
(الرابعة): هل يحل الدين بالموت أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها قولان في المذهب، والأظهر أنه لا يحل بالموت إذا وثقوه الورثة.
[المسألة الخامسة: تعذر تسليم المسلم فيه]
(الخامسة) إذا تعذر تسليم المسلم فيه، فهل ينفسخ بنفس التعذر أم لا؟
(الجواب): إذا تعذر تسليم المسلم ففيه روايتان: (إحداهما): أن المسلم بالخيار بين الصبر وبين أخذ الثمن إن كان موجودا، وإلا فمثله إن كان مثليا.
(والثانية): أنه ينفسخ بنفس التعذر، والرواية الأولى أظهر إن شاء الله تعالى.
[المسألة السادسة: هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه]
(السادسة): هل يجوز الإقالة في جميع ما أسلم فيه أو تجوز في البعض؟
(الجواب): حكى ابن المنذر على جوازها في المسلم فيه الإجماع وفي جوازها في البعض روايتان، والأظهر جوازها في البعض.
[المسألة السابعة: صرف الثمن بعد انفساخ العقد بالإقالة]
(السابعة): إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها، هل يصرف ذلك الثمن في عقد آخر أم لا؟
(الجواب) هذه المسألة فيها خلاف، والأظهر من ذلك المنع.
[المسألة الثامنة: دفع رجل إلى آخر دراهم وقال: اشتر طعاما مثل الذي لك]
(الثامنة): إذا دفع رجل إلى آخر دراهم، وقال: اشتر بها طعاما مثل الذي لك علي، فهل يصح أم لا؟
(الجواب) الأظهر عدم الصحة.
[المسألة التاسعة: هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه]
(التاسعة): هل يجوز الرهن والكفيل بالمسلم فيه أم لا؟
(الجواب): الظاهر الجواز في قول أكثر الفقهاء.
[المسألة العاشرة: ضمان المستعير للعارية]
(العاشرة): هل يضمن المستعير العارية إذا تلفت أم لا؟ وهل يعتبر أم لا؟
(الجواب): أنها لا تضمن إلا بالتفريط فيها.
[المسألة الحادية عشرة: شك هل مسح على الخف قبل الظهر أو بعده]
(الحادية عشرة) إذا لبس الخف وأحدث، ثم صلى الظهر ثم شك هل مسح الخف قبل الظهر أو بعده، وقلنا ابتداء المدة من المسح.
(الجواب): إذا شك هل مسح قبل الظهر أو بعده لم تلزمه الإعادة، لأن الأصل المسح، وقيل يلزمه إعادة الظهر، ويخلع من الغد قبل الظهر فيرد كل شيء إلى أصله.
[المسألة الثانية عشرة: هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة؟]
(الثانية عشرة): هل يشترط تقدم الطهارة للجبيرة، وهل يجمع بين المسح والتيمم أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها خلاف، والأظهر أنه لا يشترط تقدم الطهارة للجبيرة والمسح يكفي عن التيمم، والجمع بينهما أحسن ظهورا من الخلاف.
[المسألة الثالثة عشرة: نقض وضوء من مس فرج آخر]
(الثالثة عشرة): إذا مس إنسان فرج آخر أو نظر إليه، هل ينقض وضوؤه أم لا؟
(الجواب): النظر ليس بناقض، وأما المس فينقض الوضوء، وفرقوا هل ينقض الماس والممسوس أم الماس فقط، على روايتين؛ والأظهر من ذلك أن ينقض الكل.
المسألة الرابعة عشرة: إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث، فهل يبني على أحدهما أم لا؟
(الجواب) من تيقن الطهارة وشك في الحدث، بنى على ما تيقن.
[المسألة الخامسة عشرة: طاف بالبيت وهو محدث]
(الخامسة عشرة): إذا طاف بالبيت وهو محدث، فهل يصح طوافه أم لا؟
(الجواب): إذا كان طواف الزيارة، فإنه يعيد؛ وإن كان قد خرج إلى بلده جبره بدم. وإن كان غير طواف الزيارة، ففيه قولان:(أحدهما): أن الطهارة شرط لصحته، (والثاني): ليست بشرط، ويجبره بدم.
[المسألة السادسة عشرة: لم يجد ما يستجمر به إلا التراب وكان طينا]
(السادسة عشرة): إذا كان في سفر ولم يجد أحجارا يستجمر بها ولا غيرها إلا التراب، وقد كان طينا، فهل يستجمر به أم لا؟
(الجواب) إذا عدم الجميع، فإنه يصلي على حسب حاله.
[المسألة السابعة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام]
(السابعة عشرة): إذا صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه إمام صاحبه، فهل تصح صلاتهما أم لا؟
(الجواب): هذه على روايتين: (الأولى): عدم الصحة، (والثانية): أنها صحيحة ويصليان منفردين.
[المسألة الثامنة عشرة: صلى رجلان معا ونوى كل منهما أنه مأموم]
(الثامنة عشرة): إذا نوى كل منهما أنه مأموم، فهل تصح صلاة كل منهما أم لا؟
(الجواب): هي كالتي قبلها على روايتين.
[المسألة التاسعة عشرة: أحرم منفردا فحضرت جماعة فدخل معهم]
(التاسعة عشرة): إذا أحرم منفردا فحضرت جماعة فأحب أن يصلي معهم ودخل معهم، فهل تصح صلاته أم لا؟
(الجواب): الظاهر عدم الصحة، وهي أصح الروايتين.
[المسألة العشرون: أحرم رجل مأموما ثم نوى الانفراد لعذر]
(العشرون): إذا أحرم رجل مأموما، ثم نوى الانفراد لعذر فهل تصح صلاته أم لا؟
(الجواب): الظاهر الصحة، لحديث معاذ.
[المسألة الحادية والعشرون: سبق الإمام الحدث قبل أن يستخلف ثم استخلفوا]
(الحادية والعشرون): إذا سبق الإمام الحدث قبل أن ينصرف ويستخلف، ثم استخلفوا من يؤم بهم فهل صلاتهم صحيحة أم لا؟
(الجواب): الظاهر صحة الصلاة.
[المسألة الثانية والعشرون: مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض]
(الثانية والعشرون): إذا مر بين يدي المصلي كلب أحمر أو أبيض، فهل صلاته صحيحة أو يقيد الحكم بالكلب الأسود أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها روايتان، والأظهر منهما الاقتصار على ما نص عليه الشارع صلى الله عليه وسلم.
[المسألة الثالثة والعشرون: عليه دين لآخر فاقترض منه ليوفيه كل وقت]
(الثالثة والعشرون): إذا كان على رجل دين لآخر، فاقترض منه ليوفيه كل وقت، هل يصح أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها خلاف، والأظهر الكراهة لا التحريم.
[المسألة الرابعة والعشرون: أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر]
(الرابعة والعشرون): لو أقرض فلاحه شراء بقر أو بذر.
(الجواب): الظاهر المنع لأنه قرض جر منفعة.
[المسألة الخامسة والعشرون: قال الراهن للمرتهن زدني مالا ويكون الذي عندك به رهن]
(الخامسة والعشرون): إذا قال الراهن للمرتهن زدني مالا، ويكون الذي عندك به رهن، هل يصح أم لا؟
(الجواب): الأظهر في هذه المسألة عدم المنع.
[المسألة السادسة والعشرون: رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري]
(السادسة والعشرون): إذا رهن المبيع في مدة الخيار أو رهنه المشتري، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): لا يصح رهن المبيع في مدة الخيار، فإن رهنه المشتري والخيار له وحده صح، وبطل خياره.
[المسألة السابعة والعشرون: رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين]
(السابعة والعشرون): إذا رهن الوارث تركة الميت أو باعها وعلى الميت دين، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): إذا رهن أو باع وعلى الميت دين، صح في أصح الروايتين، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
[المسألة الثامنة والعشرون: هل يلزم الرهن بغير القبض]
(الثامنة والعشرون): هل يلزم الرهن بغير القبض أم لا؟
(الجواب): لا يلزم الرهن إلا بالقبض، وفرقوا في هذه المسألة، فقالوا: ما كان مكيلا أو موزونا لم يلزم رهنه إلا بالقبض، وفيما عداهما روايتان:(إحداهما): لا يلزم إلا بالقبض، (الثانية): يلزم بمجرد العقد؛ والأولى أصح.
[المسألة التاسعة والعشرون: رهن الصبرة من الطعام]
(التاسعة والعشرون): هل يجوز رهن الصبرة من الطعام التي لا يعرف قدرها بالكيل والوزن؟
(الجواب): ما جاز بيعه جاز رهنه، ولا وجه للمنع.
[المسألة الثلاثون: استدامة القبض شرط للزوم الرهن]
(الثلاثون): هل استدامة القبض شرط لصحة الرهن أم لا؟
(الجواب): استدامة القبض شرط للزوم الرهن، فإن أخرجه من يده باختياره زال لزوم الرهن. وقال مالك: لا يزول الرهن ولو أخرجه من يده، وهو الذي عليه العمل اليوم.
[المسألة الحادية والثلاثون: رهن العارية والمغصوب]
(الحادية والثلاثون): إذا استعار رجل من آخر شيئا أو غصبه فأراد صاحبه رهنه، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): يصح رهنه في العارية والمغصوب إذا أراد صاحبه رده.
[المسألة الثانية والثلاثون: انتفاع المرتهن بالرهن]
(الثانية والثلاثون): هل يجوز لمرتهن الدار أن يسكنها بنفسه أم لا؟
(الجواب): هذه المسألة فيها خلاف، فإن سكنها بغير إذن الراهن حرم، فإن كان بإذنه وأذن الراهن للمرتهن في الانتفاع من غير عوض وكان
دين الرهن قرضا لم يجز، لأنه قرض يجر منفعة وذلك حرام. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو دين غير قرض، وأذن له الراهن بالانتفاع جاز ذلك. وكذلك إن كان انتفاعه بعوض مثل أن استأجرها بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض لكونه ما انتفع بالقرض في الأجرة، فإن حاباه في دار فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض، فلا يجوز في القرض ويجوز في غيره.
[المسألة الثالثة والثلاثون: تلف الرهن في يد المرتهن]
(الثالثة والثلاثون): إذا تلف الرهن في يد المرتهن، فهل يضمنه بجميع الدين، وإن كان أكثر من قيمته أو بقيمته أم لا؟
(الجواب): إذا تلف الرهن من غير تفريط المرتهن، فلا ضمان عليه، وهو من مال الراهن. فإذا تلف بتفريط المرتهن فإنه يضمنه 1.
[المسألة الرابعة والثلاثون: دفع رجل لآخر رهنا وقال إن جئتك بالدراهم إلى كذا وإلا فالرهن لك]
(الرابعة والثلاثون): إذا دفع رجل إلى رجل آخر رهنا وقال: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، هل يجوز أم لا؟
(الجواب) إذا قال هذا فهو رهن فاسد، وهذا ينافي مقتضى العقد، فإذا شرط هذا فسد العقد. ويتخرج أن لا يفسد، والأول أظهر.
[المسألة الخامسة والثلاثون: معنى حديث لا يغلق الرهن]
(الخامسة والثلاثون): ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن"2
(الجواب) قيل لأحمد: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يغلق الرهن"3 قال: لا يدفع رهن إلى رجل ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك، قال ابن المنذر هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يغلق الرهن"4.
[المسألة السادسة والثلاثون: هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها؟]
(السادسة والثلاثون): هل يجوز مصالحة المرأة عن ثمنها أم لا
(الجواب): الظاهر عدم الصحة.
[المسألة السابعة والثلاثون: بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام]
(السابعة والثلاثون): إذا بنى رجل على طريق نافذ بإذن الإمام، فهل يصح أم لا؟
1 لم يبين إن كان الضمان بالقيمة أو لا كما في السؤال.
2 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437).
3 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437).
4 ابن ماجه: الأحكام (2441)، ومالك: الأقضية (1437).
(الجواب) إذا كان نافذًا ليس بسد مشترك، فإن له بناءه بإذن الإمام، بشرط أن لا يكون به ضرر.
[المسألة الثامنة والثلاثون: كان باب رجل في أول الدرب فأراد نقله إلى داخل منه]
(الثامنة والثلاثون): إذا كان باب رجل في أول الدرب، فأراد نقله إلى داخل منه، فهل له ذلك أم لا؟
(الجواب): إذا كان على الطريق نافذ فإن له ذلك.
[المسألة التاسعة والثلاثون: ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله، به وأقام الأجنبي بينة]
(التاسعة والثلاثون): إذا ادعى أجنبي على المدين أن رب المال أحاله به، وأقام الأجنبي بينة، فهل له الحوالة أم لا؟
(الجواب): إذا أقام بينة أنه أحاله عليه لزمه الدفع إلى المحال، فإن لم يكن له بينة وأنكر المدعى عليه فهل يلزمه اليمين فيه وجهان.
[المسألة الأربعون: لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه]
(الأربعون): إذا لم يكن له بينة واعترف المدين بصحة دعواه فهل يلزمه الدفع أم لا؟
(الجواب) هذه المسألة فيها وجهان:
(أحدهما): يلزمه الدفع، لأنه مقر بدينه.
(والثانية): لا يلزم الدفع إليه لأنه لا يأمن إنكار المحيل ورجوعه عليه، فله الاحتياط على نفسه.
[المسألة الحادية والأربعون: على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه]
(الحادية والأربعون): إذا كان على رجل دين فادعى آخر أنه وكيل له وصدقه، فهل يلزم الدفع أم لا؟
(الجواب): هي كالتي قبلها، إن شاء دفع إليه وإن شاء لم يدفع لأنه لا يأمن الإنكار، فله الاحتياط على نفسه.
[المسألة الثانية والأربعون: عند رجل دين أو وديعة فادعى رجل أنه وارث صاحبها]
(الثانية والأربعون): إذا كان عند رجل دين أو وديعة، فادعى رجل أنه وارث صاحبها ولا وارث له سواه فصدقة، فهل يلزم الدفع مع الإقرار أم لا؟
(الجواب): إذا أقام البينة أنه وارث ولا وارث له غيره، لزمه الدفع. وفيها قول ثان، والأول أظهر.
[المسألة الثالثة والأربعون: شراء الوكيل من نفسه]
(الثالثة والأربعون): إذا وكل رجلا آخر، فهل للوكيل أن يبيع لنفسه أم لا وهل للوكيل في الشراء أن يشتري من نفسه أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها خلاف، فقال بعض الأصحاب: شراء الوكيل من نفسه غير جائز. فأما الموكل في البيع، فشراؤه من نفسه جائز، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، ووكل من يبيع، وكان هو أحد المشترين، فذلك جائز. (والرواية الثانية): أن شراءه من نفسه جائز بشرط أن يتولى النداء غيره، وهي رواية عند الإمام أحمد.
[المسألة الرابعة والأربعون: ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر]
(الرابعة والأربعون): إذا ادعت امرأة على رجل أنه زوجها فأنكر، فهل يُستحلف أم لا وهل لها نكاح غيره لاعترافها أنه زوجها أم لا؟ وهل يكلف الطلاق أم لا؟ وإذا ماتت، فهل يرث أحدهما من الآخر أم لا؟
(الجواب): نعم إذا ادعت أنه زوجها فأنكر، لزمه اليمين. ولا تنكح غيره إلا بطلاقه، ولم تحسب من الطلقات الثلاث. وإذا طلقها فلها نكاح غيره ولا يرث أحدهما من صاحبه.
[المسألة الخامسة والأربعون: قال المالك: دفعت إليك المال قراضا. فقال: بل قرض، أو بالعكس]
(الخامسة والأربعون): إذا قال المالك: دفعت إليك المال قراضا، فقال: بل قرض، أو بالعكس، أو غصبتنيه، فقال: بل أودعتنيه، أو بالعكس، أو قال أعرتكه، وقال: بل أجرتنيه، أو بالعكس.
(الجواب): إذا قال المالك أنه قراض فالقول قوله لأنه ملكه، وكذلك الغاصب إذا ادعى أنه غصبه، فالقول قوله، وقيل القول قول الغاصب. وكذلك إذا قال المالك: أعرتكه، قال: بل أجَّرتني، فالقول قول المالك.
[المسألة السادسة والأربعون: قسمة الدين في الذمم]
(السادسة والأربعون): هل يجوز قسمة الدين في الذمم أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها روايتان: (الأولى): المنع، (والثانية): الجواز، قال الشيخ بصحة الجواز 1.
[المسألة السابعة والأربعون: بيع ما هو مستتر في الأرض]
(السابعة والأربعون): هل يجوز بيع ما هو مستتر في الأرض كالبصل ونحوه أم لا
(الجواب): المسألة فيها روايتان، وجزم الشيخ بالجواز.
[المسألة الثامنة والأربعون: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها]
(الثامنة والأربعون): إذا باع نخلا مؤبرًا فأراد مالك الأصل أن يشتري الثمرة قبل بدو صلاحها، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها روايتان: (الأولى): لا يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها لنهيه صلى الله عليه وسلم، وهي رواية عن مالك، وأحد الوجهين للشافعي. (والثانية): عدم المنع.
[المسألة التاسعة والأربعون: باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض]
(التاسعة والأربعون): إذا باع رجل زرعا أخضر لمالك الأرض، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): هي كالتي قبلها على روايتين: (منهم) من قال بالصحة، (ومنهم) من لم يقل، وممن قال بالصحة أبو الخطاب.
[المسألة الخمسون: باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة]
(الخمسون): إذا باع رجل على آخر زرعا أخضر أو أثلا ونحوه بشرط جزه في الحال، ثم تركه المشتري حتى استوى الزرع، وطالت الجزة وزادت قيمة الأثل أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا، فأتمرت، فهل يصح البيع أم لا؟
1 إذا أطلق لفظ الشيخ في كلام فقهاء الحنابلة انصرف إلى ابن قدامة صاحب المغني والمقنع، وهو المراد هنا وإن كان متأخرو علماء نجد منهم يطلقون لقب الشيخ على المجدد محمد عبد الوهاب ولا سيما في مسائل التوحيد.
(الجواب) إذا باعه بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح أو طالت الجزة أو زادت قيمة الأثل، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية ليأكلها رطبا فأتمرت، فالظاهر أنه يبطل البيع في الرواية الأولى. (والثانية): لا يبطل البيع، ويشتركان في الزيادة. (والرواية الثالثة): يتصدقان بالزيادة.
[المسألة الحادية والخمسون: سبع عشرة مسألة قال الإمام أحمد عنها أنهم يستعملون فيها الثلث]
(الحادية والخمسون): ما سبع عشرة مسألة التي قال الإمام أحمد أنهم يستعملون فيها الثلث؟
(الجواب): هذه المسألة ليس لها موضع معقود، لكن مما يستعمل فيها الثلث: الغبن، وتنفيل الإمام الثلث للسرية، وفي الوصية عند الموت، وفي الجوائح، وفيمن نذر أن يتصدق بماله كله أجزأه الثلث.
[المسألة الثالثة والخمسون: استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع]
(الثالثة والخمسون 1): إذا استأجر أرضا ليزرعها فزرعها ثم تلف الزرع، فهل يلزمه شيء أم لا؟
(الجواب): الظاهر أنه لا يلزمه شيء.
[المسألة الرابعة والخمسون: استأجرها بصبرة فتلف الزرع إلا قدر الصبرة]
(الرابعة والخمسون): إذا استأجرها بصبرة مثل خمسين صاعا فتلف الزرع إلا قدر الصبرة، فهل يدفعه إلى المؤجر أم لا؟
(الجواب) إذا تلفت بآفة فإنه يدفع إليه أجرته كاملة، واختار الشيخ وضع الجوائح وأن كلا على قدر حصته.
[المسألة الخامسة والخمسون: صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع]
(الخامسة والخمسون): هل صلاح بعض الشجر صلاح لكل النوع
(الجواب): هذه المسألة على روايتين، والصحيح أن صلاح البعض صلاح للكل.
[المسألة السادسة والخمسون: ثبوت الاختصاص في مرافق الأملاك]
(السادسة والخمسون): مرافق الأملاك كالأفنية والطريق وسيل
1 كذا في الأصل وقد سقط منه الثانية والخمسون كما ترى.
الماء هل هي مملوكة أو يثبت فيها حق الاختصاص أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها وجهان، الأظهر منهما ثبوت الاختصاص.
[المسألة السابعة والخمسون: تعذر زرع الأرض المستأجرة بمانع]
(السابعة والخمسون): إذا استأجر أرضا ليزرعها، ثم تركها أو تعذر زرعها، كأن سالت فلم ينضب الماء حتى فات وقت الزرع، فهل تلزمه الأجرة أم لا؟
(الجواب): إذا تعذر زرع الأرض بمانع لم تلزمه الأجرة، لأن الانتفاع بها غير ممكن، فإن أمكنه الانتفاع بالأرض بزرع في بقية المدة فتعذر فعليه الأجرة، وقال الشيخ يثبت قسط المثل.
[المسألة الثامنة والخمسون: هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟]
(الثامنة والخمسون): هل يباع مما لا يكال ولا يوزن بما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه؟
(الجواب): لا يجوز بيعه قبل قبضه، والرواية الثانية الجواز.
[الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه]
(التاسعة والخمسون) هل يجوز الشركة والتولية والحوالة على ما لا يجوز بيعه قبل قبضه أم لا؟
(الجواب) الظاهر عدم الجواز.
[هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية]
(الستون): هل يحصل القبض فيما بيع بكيله أو وزنه أو بالتخلية أم لا؟
(الجواب): نعم القبض كيله أو وزنه، والرواية الثانية أن قبضه بالتخلية مع التمييز.
[المسألة الحادية والستون: إذا وليت الإجارة العقد فهل يثبت فيها خيار؟]
(الحادية والستون): إذا وليت الإجارة العقد، فهل يثبت فيها خيار أم لا؟
(الجواب): إذا وليت الإجارة العقد لم يثبت فيها خيار، وإن كانت لا تلي العقد ثبت فيها خيار.
[المسألة الثانية والستون: هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود؟]
(الثانية والستون): هل يثبت خيار الشرط في جميع العقود أم لا؟
(الجواب): لا يثبت خيار الشرط إلا في البيع والصلح والإجارة
في الذمة أو على مدة لا تلي العقد، ويثبت في أشياء غير ذلك 1.
[المسألة الثالثة والستون: التصرف في المبيع في مدة الخيار]
(الثالثة والستون): هل يجوز للبائع والمشتري التصرف في المبيع في مدة الخيار أم لا؟
(الجواب): لا يجوز التصرف في المبيع في مدة الخيار إلا بما يحصل به تجربة المبيع، فإن كان الخيار لأحدهما صح وبطل خياره.
[المسألة الرابعة والستون: هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار؟]
(الرابعة والستون): هل للبائع التصرف في الثمن إن كان معينا في مدة الخيار أم لا؟
(الجواب): نعم، يأخذ الثمن ولا يتصرف فيه في مدة الخيار.
[المسألة الخامسة والستون: أعتق المشتري في مدة الخيار]
(الخامسة والستون): إذا أعتق المشتري في مدة الخيار، هل ينفذ عتقه أم لا؟
(الجواب): ينفذ عتقه ويبطل خياره، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل خيار البائع وله الفسخ والرجوع بالقيمة. والرواية الأولى أظهر، ويرجع البائع بثمنه.
[المسألة السادسة والستون: الجار السوء عيب يرد به المبيع]
(السادسة والستون): إذا اشترى رجل دارًا، فوجد الجار جار سوء، هل هو عيب يثبت به الخيار أم لا؟
(الجواب): قال الشيخ الجار السوء عيب يرد به المبيع.
[المسألة السابعة والستون: بيع اللحم بالشحم]
(السابعة والستون): هل يجوز بيع اللحم بالشحم أو عكسه؟
(الجواب): اللحم والشحم أجناس، فمن الأصحاب من جوز بيع بعضه ببعض متفاضلا، وقال القاضي هما جنس واحد لا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلا.
1 كذا في الأصل وهو إبطال للحصر الذي قبله.
[المسألة الثامنة والستون: معنى مد عجوة]
(الثامنة والستون): ما معنى مد عجوة؟
(الجواب): المعنى هو جنس يباع بعضه ببعض، ومع أحدهما أو معهما من غير جنسهما كدرهم ومدين أو مد ودرهم، وظاهر المذهب أن ذلك لا يجوز، نص عليه الإمام أحمد في مواضع كثيرة. وقيل يجوز بشرط أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره.
[المسألة التاسعة والستون: أعرى رجل نخلات، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه]
(التاسعة والستون): إذا أعرى رجل نخلات من حائطه، فكره صاحب الحائط دخول حائطه، فهل يجوز له أن يشتريها لنفسه أو تباع لغيره بنقد أم لا؟
(الجواب): نعم، يجوز له أن يشتريها لنفسه لإزالة الضرر.
[المسألة السبعون: بيع ثوب بثوبين]
(السبعون): هل يجوز بيع ثوب بثوبين أم لا؟
(الجواب): نعم يجوز بيع ثوب بثوبين.
[المسألة الحادية والسبعون: على رجل طعام سلما ثلاث سنين واشترط أن يدفع كل سنة منه جزءا ثم مات]
(الحادية والسبعون): إذا قيل بحلول الدين بالموت، وكان على رجل طعام سلما ثلاث سنين، وقد اشترط أن يدفع إليه كل سنة منه جزءا ثم مات، فهل يحل جميع الطعام المسلم فيه أم لا؟
(الجواب): هذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من قال: لا يحل بالموت، ومنهم من قال: يحل؛ والأظهر أنه لا يحل بالموت. فمن قال: يحل بالموت قال: يحل جميع الطعام المسلم فيه، ومن قال: بعدم حلوله بالموت قال إلى الأجل الذي بينهما يحل كل سنة جزء منه.
[المسألة الثانية والسبعون: امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء]
(الثانية والسبعون): إذا كان لرجل بئر، وأرض له ملكها قد توسطتها بئره، وكان لآخر أرض ليس لها ماء، فأراد صاحب الأرض أن يزرعها ويجري لها ماء من بئر جاره، فامتنع، فهل يجبر الممتنع أم لا؟
(الجواب): إذا امتنع صاحب الماء من إجرائه إلى جاره من غير حاجة بالماء، فإنه يجبر على إجرائه إلى جاره.
[المسألة الثالثة والسبعون: دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها فأتى بدراهم ظهرت زيوفا وأنكرها]
(الثالثة والسبعون): إذا دفع رجل إلى آخر دراهم صرفا أو ثمن مبيع ثم مضى بها الذي دفعت إليه، فلما أخذت مدة أتاه بدراهم قد ظهرت زيوفا وأنكرها، فمن القول قوله؟
(الجواب) القول قول الصارف أو المشتري مع يمينه، فليحلف بالله لقد أوفيتك الدراهم صحاحا ويبرأ.
[المسألة الرابعة والسبعون: باعه نخلات بدين عليه وله الخيار شهرا وانقضت مدته]
(الرابعة والسبعون): إذا كان لرجل دين على آخر، فطلب صاحب الدين الوفاء، فقال: لا أجد شيئا، فقال: بعني هذه النخلات من حائطك بديني الذي عليك ولك الخيار شهرا، فباعه ثم انقضت مدة الخيار، فهل يملك النخلات، ويكون البيع صحيحا أم لا؟
(الجواب): يملكها إذا انقضت مدة الخيار، ويكون البيع صحيحا إن شاء الله تعالى.
[المسألة الخامسة والسبعون: انفساخ الإجارة بالموت]
(الخامسة والسبعون): هل تنفسخ الإجارة بالموت من الطرفين أم لا؟
(الجواب): المسألة فيها خلاف، والصحيح أنها لا تنفسخ بالموت من الطرفين.
[المسألة السادسة والسبعون: اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل له الخيار؟]
(السادسة والسبعون): إذا اشترى مصراة وهو عالم بالتصرية، هل يثبت له الخيار أم لا؟
(الجواب): لا يثبت له الخيار إذا علم بها.
[المسألة السابعة والسبعون: اشترى جارية ثيبا فاطلع على عيب ثم وطئها]
(السابعة والسبعون): إذا اشترى جارية ثيبا، فاطلع على عيب لا يعلم به وقت البيع، ثم وطئها بعد ما علمه، فهل يملك الرد ويثبت له الخيار أم لا؟
(الجواب): إذا علم بالعيب ثم وطئها بعد علمه، فلا خيار له.
[المسألة الثامنة والسبعون: اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب]
(الثامنة والسبعون): إذا اشترى جارية بكرا فوطئها ثم اطلع على عيب
فهل يملك الرد بلا أرش، ويثبت له الخيار أم لا؟
(الجواب) إذا وطئ البكر، ثم علم بالعيب، فله الخيار بين الإمساك وأخذ أرش العيب، وبين الرد وأرش البكارة.
[المسألة التاسعة والسبعون: باع رجل لآخر سلعة ثم شرطا البراءة من جميع العيوب]
(التاسعة والسبعون): إذا باع رجل لآخر سلعة، ثم شرطا البراءة من جميع العيوب، هل يبرأ أم لا؟
(الجواب): إذا شرط البراءة من كل عيب لم يبرأ عنه يبرأ، إلا إذا علم البائع العيب فكتمه.
[المسألة الثمانون: وكل رجل آخر يبيع له شيئا ثم دلسه الوكيل ثم تلفت في يد المشتري]
(الثمانون): إذا وكل رجل آخر يبيع له شيئًا، ثم دلسه الوكيل، ثم تلفت في يد المشتري، فهل يرجع على الموكل أم لا؟
(الجواب): إذا أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك، فإن تلف رجع الموكل بالتدليس على الوكيل في أرش التدليس.
[المسألة الحادية والثمانون: زال ملك المشتري أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب]
(الحادية والثمانون): إذا زال ملك المشتري بعتق أو وقف أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فهل له الأرش أم لا؟
(الجواب): إذا تعذر رده فله الأرش. هذا المذهب وعليه الأصحاب.
[المسألة الثانية والثمانون: اشترى شيئا ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع]
(الثانية والثمانون): إذا اشترى شيئا، ثم باعه ثم علم بعيب منتقل به من البائع، فهل يثبت له أرش أم لا؟
(الجواب): إذا علم المشتري الثاني العيب، فله رده، وكذلك المشتري الأول إن لم يكن عالما بالعيب، ولم يجد منه ما يدل على الرضى فكذلك له رده، فإن أرادا الأرش فلهما ذلك.
[المسألة الثالثة والثمانون: اشترى عبدا فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به]
(الثالثة والثمانون): إذا اشترى رجل عبدا، فأعتقه ثم اطلع على عيب منتقل به، فهل يثبت له الأرش أم لا؟
(الجواب): إذا أعتقه ثم علم بالعيب، فله الأرش.
[المسألة الرابعة والثمانون: صبغ ثوبا أو نسجه ثم وجده معيبا]
(الرابعة والثمانون): إذا صبغ ثوبا أو نسجه، ثم وجده معيبا فهل له الأرش مع الإمساك أم لا؟
(الجواب): إذا صبغه أو نسجه، فظهر معيبا، فله الأرش ولا رد له في أظهر الروايتين.
[المسألة الخامسة والثمانون: اختلفا في حدوث العيب والعيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان]
(الخامسة والثمانون): إذا اختلفا في حدوث العيب، وكان العيب محتملا وخرج المعيب من يده لمشتر ثان، ثم ظهر العيب في يد المشتري الثالث فرده، فهل يملك الثاني رده على الأول أم لا؟
(الجواب): إذا كان العيب محتملا حدوثه عند الأول أو الثاني، ففيه روايتان:
(إحداهما): إن كان لا يحتمل حدوثه كالإصبع الزائدة، والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها، أو الجرح الطارئ الذي يحتمل كونه قديما، فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين للعلم بصدقه، وإن احتمل قول كل منهما كالخرق في الثوب والرفو ونحوهما، ففيه روايتان:(إحداهما): القول قول المشتري مع اليمين، فليحلف بالله أنه اشتراها وبها هذا العيب وأنه ما حدث عنده، ويكون له الخيار، قال به بعض الأصحاب.
(والثانية): القول قول البائع مع يمينه، والرواية الثانية أظهر لأنه منكر.
[المسألة السادسة والثمانون: باع الوكيل ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل]
(السادسة والثمانون): إذا باع الوكيل، ثم ظهر به عيب وأقر الوكيل وأنكر الموكل، فهل يقبل إقراره على موكله أم لا؟
(الجواب): إن كان العيب مما يمكن حدوثه، وأقر به الوكيل وأنكر الموكل، فقال بعض الأصحاب يقبل إقراره على موكله بالعيب، لأنه أمر يستحق به الرد، فيقبل إقراره على موكله. وقال بعضهم: لا يقبل، وهو اختيار الموفق، وبه قال أصحاب أبي حنيفة والشافعي.
[المسألة السابعة والثمانون: اشترى اثنان شيئًا، وقال ثالث: أشركاني فأشركه أحدهما]
(السابعة والثمانون): إذا اشترى اثنان شيئا، وقال ثالث: أشركاني، فأشركه أحدهما، فهل يكون له نصف حصة الذي أشركه أم لا؟
(الجواب): إذا أشركه أحدهما فقال بعضهم: له ثلث حصتهما، وقال بعضهم: له ثلث حصته، وليس على الشريك الثاني تبعة.
[المسألة الثامنة والثمانون: بيع المرابحة]
(الثامنة والثمانون): إذا باعه مرابحة مثل أن يخبره أن ثمنها مائة، ويربح عشرة ثم بان أن ثمنها تسعون، فهل يصح البيع ويرجع على ما زاد من الثمن أم لا؟
(الجواب): إذا علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون، فالبيع صحيح ويرجع في الزيادة على المثمن وهي عشرة وحصتها من الربح، وهو درهم ويبقى له تسعة وتسعون.
[المسألة التاسعة والثمانون: اشترى شيئا بثمن مؤجل أو بأكثر من ثمنها حيلة ثم باعها ولم يبين ذلك]
(التاسعة والثمانون): إذا اشترى شيئا بثمن مؤجل، أو مما لا يقبل شهادته له، أو بأكثر من ثمنها حيلة وباع بعض الصفقة بقسطها من الثمن ولم يبين ذلك، فهل للمشتري الخيار أم لا؟
(الجواب): متى علم بذلك فهو بالخيار إن شاء رده، وإن شاء أمسكه وأخذه بثمنه مؤجلا، حكى ذلك ابن المنذر عن الإمام أحمد، وفيه رواية ثانية: إن شاء رده، وإن شاء أخذه بثمنه الذي حل عليه العقد حالا والأظهر الأولى.
[المسألة التسعون: اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة]
(التسعون): إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن والسلعة تالفة، فهل تقوم بقيمتها وقت التلف أو بما يقر به المشتري؟
(الجواب): إذا اختلفا في قدر الثمن، ففيها روايتان:
(إحداهما): يتحالفان.
(والثانية): القول قول المشتري مع يمينه، واختارها أبو بكر، وهو قول النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"والسلعة قائمة".
[المسألة الحادية والتسعون: اختلفا في الثمن والسلعة قائمة ولأحدهما بينة]
(الحادية والتسعون): إذا باع رجل لآخر سلعة، وقال البائع: بعتها
بعشرين، وقال المشتري: بعشرة وقيمتها ثمانية، فهل يشرع لهما التحالف؟ أو يدفع المشتري القيمة مع أنها أقل مما أقر به أم لا؟
(الجواب): إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة، ولأحدهما بينة حكم بها، وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، فيبدأ بيمين البائع.
[المسألة الثانية والتسعون: اختلفا بعد أن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن]
(الثانية والتسعون): إذا تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض الثمن، مَن القول قوله؟
(الجواب): إذا تقايلا المبيع بعد القبض أو رد بعيب، فالقول قول البائع؛ لأنه منكر.
[المسألة الثالثة والتسعون: اختلفا في المبيع وأقام كل منهما بينة متساوية]
(الثالثة والتسعون): إذا قال البائع: بعتك هذا، وأقام عليه بينة، وقال المشتري: بل هذا، وأقام كل منهما بينة متساوية في العدل والعدد، فهل يثبت العقد أم لا؟
(الجواب): إذا أقام كل منهما بينة، وتعادلت بينتاهما ثبت العقد للمشتري.
[المسألة الرابعة والتسعون: استأجر أرضا ثم أجرها غيره]
(الرابعة والتسعون): إذا استأجر أرضا، ثم أجرها غيره، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): إذا استأجرها وأجرها غيره فالظاهر الصحة.
[المسألة الخامسة والتسعون: حكم المزارعة والإجارة من حيث اللزوم]
(الخامسة والتسعون): هل حكم المزارعة والإجارة واحد أم لا؟
(الجواب) المذهب التفريق، فمن الأصحاب من قال: المساقاة عقد جائز ليس بلازم، ومنهم من قال: إنها لازمة في صاحب العقار في حق المساقي. وأما الإجارة، فالظاهر أنها عقد لازم من الطرفين ليس لأحدهما فسخها.
[المسألة السادسة والتسعون: إجارة أرض وشجر لحملها]
(السادسة والتسعون): هل تجوز إجارة أرض وشجر لحملها أم لا؟
(الجواب): لا يجوز إجارة أرض وشجر لحملها، حكاه أبو عبيد إجماعا، وجوزه ابن عقيل تبعا للأرض، والصحيح الأول -إن شاء الله تعالى-.
[المسألة السابعة والتسعون: تلفت الثمرة في الإجارة فهل تلزم الأجرة؟]
(السابعة والتسعون) إذا تلفت الثمرة فهل تلزم الأجرة أم لا؟
(الجواب): متى غرق الزرع أو تلف لزمته الأجرة، هذا المذهب. وقال الشيخ: لا تلزمه الأجرة.
[المسألة الثامنة والتسعون: تعذر استيفاء المنفعة المقصودة في عقد إجارة]
(الثامنة والتسعون): إذا نقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد، فهل يلزم الفسخ أو الأرش؟
(الجواب): إذا انقضت عن العادة بتعذر المنفعة المقصودة بالعقد فله الأجرة كاملة، وقال الشيخ: يسقط من الأجرة بقسط ما تلف.
[المسألة التاسعة والتسعون: استأجر أرضا وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا]
(التاسعة والتسعون): إذا استأجر أرضا، وشرط على ربها البذر أو بعضه قرضا، فهل يصح أم لا؟
(الجواب): الظاهر عدم الصحة، لأنه قرض جر منفعة، والله أعلم.
[إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك]
(11)
وله أيضا رحمه الله إجابة عن مسائل في المرجئة والقدرية وغير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
(الجواب): الحمد لله رب العالمين.
[أحاديث في المرجئة والقدرية]
(أما المسألة الأولى): وهي ما يذكر في الحديث: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية"1، وقوله في الحديث:"صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة: المرجئة والقدرية" إلخ كلام السائل -رحمه الله تعالى-.
(فنقول): إن الحديثين ليسا بثابتين عند أهل العلم وعند أهل الحديث، وليسا في الكتب الستة المعتمدة المسماة دواوين الإسلام، وإنما يذكر هذا بعض المصنفين الذين يروون الغث والسمين، ولا يميزون بين الصحيح
1 الترمذي: القدر (2149)، وابن ماجه: المقدمة (62).
والضعيف والحسن والموضوع، فلا ينبغي للسائل -رحمه الله تعالى- أن يعبر بمثل هذه العبارة في مثل هذه الأحاديث وما شاكلها، وإنما ينبغي له أن يقول: يذكر في الحديث 1 أو يروى في بعض الكتب، وأشباه هذه العبارات التي يفعلها أهل التحقيق والعرفان، من أهل الفقه والحديث والإيمان؛ وذلك لأنه لا ينبغي له أن يجزم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلا فيما ثبت إسناده وصححه أهل العلم بهذا الشأن، لأنه ثبت في الأحاديث الصحيحة من رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن كذبا علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار"2، وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حدث عني بحديث، وهو يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين"3، فلهذا كان كثير من الصحابة والتابعين لهم بإحسان يهابون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والجزم به إلا فيما ثبت عندهم وقطعوا عليه.
وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا: "صنفان من أمتي لا يدخلون الجنة: القدرية والمرجئة"4، قال الحافظ ابن حجر: فيه انقطاع من رواية بقية بن الوليد. وأخرج أيضا إسحاق من رواية بقية بن الوليد: حدثني سليمان بن جعفر الأعبدي عن محمد بن أبي ليلى عن أبيه عن جده أبي ليلى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أمتي لا يردون على الحوض: القدرية والمرجئة".
وبقية بن الوليد مختلف فيه، ووثقه بعضهم إذا روى عن الثقات، وضعفه إذا روى عن المجهولين.
قال ابن مسهر الغساني: بقية أحاديثه ليست بنقية، فكن من أحاديث
1 السائل قال هذا في الرواية الأولى فليتأمل.
2 البخاري: الجنائز (1291)، ومسلم: مقدمة (4).
3 مسلم: مقدمة (1)، والترمذي: العلم (2662)، وابن ماجه: المقدمة (39 ،41) ، وأحمد (4/ 255 ،5/ 14 ،5/ 20).
4 الترمذي: القدر (2149)، وابن ماجه: المقدمة (62).
بقية على تقية. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به، ومحمد بن أبي ليلى ضعيف عند أهل العلم والحديث، كان يحيى القطان يضعفه. قال أحمد بن حنبل: سيئ الحفظ مضطرب الحديث، في حديثه اضطراب.
[عدم تكفير المبتدعة إلا الجهمية وما به الكفر]
إذا علمت ذلك، فاعلم ألهمك الله الصواب، وأزال عن قلبك ظلم الشرك والارتياب، أن الذي عليه المحققون من العلماء أن أهل البدع كالخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة ونحوهم لا يكفرون، وذلك لأن الكفر لا يكون إلا بإنكار ما علم من الدين بالضرورة.
وأما الجهمية، فالمشهور من مذهب أحمد وعامة أئمة السلف تكفيرهم؛ فإن قولهم صريح في مناقضة ما جاءت به الرسل من الكتاب والسنة؛ ولهذا قال: قولهم جحود الصانع وجحود ما أخبر به عن نفسه وعلى لسان رسوله بل وجميع الرسل؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع أن نحكي كلام الجهمية.
وبهذا كفّروا من يقول: القرآن مخلوق، وأن الله لا يرى في الآخرة، وأن الله ليس على العرش، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا رحمة ولا غضب، ولا غير ذلك من صفاته.
وهم عند كثير من السلف مثل ابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أصحاب أحمد ليسوا من الثلاث وسبعين فرقة التي افترقت عليها هذه الأمة. وأصول هذه الفرق هم الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية. ولا تختلف نصوص أحمد أنه لا يكفر المرجئة فإن بدعتهم من جنس اختلاف الفقهاء في الفروع، وكذلك الذين يفضلون عليا على أبي بكر وذلك قول طائفة من الفقهاء ولكن يبدعون.
وفي الأدلة الشرعية ما يوجب أن الله لا يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه، وقد ثبت في الصحيح من
حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا مات، فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا به كما أمرهم، فأمر الله البر فجمع ما فيه، وأمر الله البحر فجمع ما فيه ثم قال له: لم فعلت هذا؟ قال من خشيتك يا رب، فغفر له"1 وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق متعددة من رواية جماعة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وحذيفة وعقبة بن عامر.
فهذا الرجل قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادته بعد فعل ما أمر أهله أن يفعلوه به، وهذا الرجل لما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة، وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت فهذا عمل صالح، فغفر الله له بما كان معه من الإيمان بالله واليوم الآخر.
وإنما أخطأ من شدة خوفه، وقد وقع الخطأ الكثير في هذا الخلق من هذه الأمة. واتفقوا على عدم تكفير من أخطأ مثلما أنكر بعض الصحابة أن يكون الميت يسمع نداء الحي، وأنكر بعضهم أن يكون المعراج يقظة. وكان شريح القاضي ينكر قراءة من قرأ:"بل عجبت"بالرفع ويقول: أن الله لا يعجب فبلغ إبراهيم النخعي فقال أن شريحا شاعر يعجبه علمه كان عبد الله أفقه منه وكان يقرأ: {بل عجبتُ} فهذا أنكر قراءة ثابتة وأنكر صفة الله التي دل عليها الكتاب والسنة، واتفقت الأمة على أن شريحا إمام من الأئمة.
وكذلك بعض العلماء أنكر حروفا من القرآن كما أنكر بعضهم {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} 2 فقال: إنما هي (ألم يتبين الذين آمنوا) وهذا الخطأ معفو عنه بالإجماع. وكذلك الخطأ في الفروع العملية فإن المخطئ فيها لا يكفر ولا يفسق بل ولا يؤثم، لأن
1 البخاري: التوحيد (7506)، ومسلم: التوبة (2756)، والنسائي: الجنائز (2079)، وابن ماجه: الزهد (4255) ، وأحمد (2/ 269 ،2/ 304)، ومالك: الجنائز (568).
2 سورة الرعد آية: 31. V
بعض المتكلمين والمتفقهة يجعل المخطئ فيها آثما، وبعض المتفقهة يعتقد أن كل مجتهد فيها مصيب. فهذان القولان شاذان، والإجماع منعقد على أن من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن بها فهو كافر ولا يقبل منه الاعتذار بالاجتهاد لظهور أدلة الرسالة وأعلام النبوة، والنصوص إنما أوجبت رفع المؤاخذة بالخطأ لهذه الأمة.
وإذا كان كذلك فأصول الإيمان تقتضي وجوب الإيمان بالواجبات الظاهرة المتواترة وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة، والجاحد لها كافر، بالاتفاق، مع أن المجتهد في بعضها إذا أخطأ ليس بكافر بالاتفاق، مع أن كثيرا من أهل البدع يوجد فيهم النفاق الأكبر والردة عن الإسلام. فما أكثر ما يوجد في الرافضة والجهمية ونحوهم زنادقة منافقون، فأولئك في الدرك الأسفل من النار.
وأصل هؤلاء الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وابتغاء الهدى من غيرهما. فمن كان هذا أصله فهو بعيد عن الخير 1 والرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة، كما يقوله قوم من المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة.
وأكثر السلف يرون قتل الداعية إلى البدعة لما يجري على يديه من الفساد في الدين، سواء قالوا أنه كافر أو ليس بكافر، وذلك لأن الدعاء إلى المقالة التي تخالف الكتاب والسنة أعظم من قولها، وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعوة إليها، فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه مع
1 كذا في الأصل، ولعل فيه تقديما وتأخيرا من الناسخ والظاهر الذي يلتئم به الكلام أن يقدم قوله: والرسالة إنما هي للعامة إلخ على قوله: فمن كان هذا أصله إلخ؛ لأن الذين أعرضوا عما جاء به الرسول مع الاعتراف برسالته هم الذين يزعمون أن رسالته مقصورة على العوام، وأن أمثالهم لا يحتاجون إليها؛ لأن ما عندهم من العلم والفلسفة أعلى وأرقى وهو علم الخواص. كذبوا ولعنوا. وكتبه محمد رشيد رضا.
الكفار لا يجوز الإقدام عليه إلا بعد أن تقوم على أحدهم الحجة بالرسالة التي يبين بها لهم أنهم مخالفون للرسول صلى الله عليه وسلم وأن مقالتهم هذه لا ريب أنها كفر؛ فإن نفي الصفات كفر، والتكذيب بأن الله لا يرى في الآخرة كفر، وإنكار أن يكون الله على العرش كفر، وإنكار القدر كفر؛ وبعض هذه البدع أشد من بعض والله سبحانه وتعالى أعلم.
[أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده]
{فصل} : (وأما المسألة الثانية): هل يجوز أخذ النذر للقبر والميت لمن وجده لأنه مال أخرجه مالكه لمن لا يملكه، أفيصير مالا مباحا أم لا؟ وكذلك الثياب المطروحة على التوابيت المتخذة على القبور؟
(فنقول): هذه المسألة فيها تفصيل، فإن كان ذلك في البلد التي تحت حكم إمام المسلمين، فلا يجوز أخذه إلا بإذن الإمام، لأنه يصير مصرفه في مصالح المسلمين بإذن الإمام كما صرف النبي صلى الله عليه وسلم المال الذي في بيت اللات حين هدمها في مصالح المسلمين. وأما إن كان المذكور في موضع ليس حكمه تحت إمام المسلمين، فإنه يجوز أخذه لمن وجده لأنه مال ضائع لا يجوز إبقاؤه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[جعل الرياحين على القبر]
{فصل} : وأما جعل الرياحين على القبر، فبدعة منهي عنها لأنه من تخليق القبر المنهي عنه 1 بخلاف جعل الجريدة عليه 2 لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال:"إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير"3 ثم قال: "بلى، إنه كبير. أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة"4، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين، وجعل على كل
1 وفيه تشبه بالكفار الذين يفعلون ذلك.
2 يعني وهو من الأمور التعبدية التي لا تعقل فلا يقاس عليه وضع الأزهار والرياحين، وكتبه محمد رشيد رضا.
3 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/ 225)، والدارمي: الطهارة (739).
4 البخاري: الوضوء (218)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/ 225)، والدارمي: الطهارة (739).
قبر نصف جريدة وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا"1. والله أعلم.
{فصل} وأما قول السائل: هل يبين ذلك وإن لم يقصده الواضع، فهذه مسألة فيها خلاف، فإن بعض الفقهاء يرى استحباب وضع الجريدة على القبر وبعضهم لا يرى ذلك، لأنه يحتمل أن يكون ذلك خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم أو يحتمل العموم والله أعلم.
[دفع المال لبعض الأشراف أو الصالحين من غير صيغة التزام]
(فصل): وأما من عليه عادة يدفع شيئا من ماله لبعض الأشراف أو لبعض الصالحين من غير صيغة التزام، فهل يلزم الوفاء به أم هو مندوب أم محرم إذا كان يسميه نذرا مع عدم صيغة النذر.
(فنقول): أما من عادته أن يدفع شيئا من ماله لبعض الصالحين أو لبعض الأشراف، وقصده بذلك التقرب إلى الله والصدقة، فهذا حسن ومن النفقة المأمور بها قال الله تعالى:{أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة من الآية: 254]، وقال تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة من الآية: 3]، وقال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة من الآية: 245]، ولكن لا يلزم الوفاء به؛ بل يندب إلى ذلك، إلا إن أوجبه على نفسه بالنذر، وذكر النذر بصيغته المعروفة في الشرع. أما إن كان يسمي نذرا مع عدم صيغة النذر، فلا يلزم الوفاء به أيضا بمجرد التسمية كما أنه يكون نذرا إذ أتى بصيغته المعروفة، ولم يقل: لله علي نذر كذا وكذا.
هذا هو المعروف في كلام أهل العلم، وكلام الحنابلة والشافعية والمالكية وغيرهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
[هل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟]
(فصل): وأما المسألة الثالثة: ما معنى ما ذكر في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: "استفرهوا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم"، فهل الأضحية مطية في الآخرة حقيقة تركب؟ وما حملها مع كثرتها؟ وهل
1 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20) ، وأحمد (1/ 225)، والدارمي: الطهارة (739).
إذا ضحى اثنان أو ثلاثة أو أكثر ببدنة أو ببقرة هل يركبونها جميعا، أم كيف يكون الحكم في ذلك؟
(فالجواب): أن هذا الحديث ليس من الأحاديث المعروفة، ولا هو مخرج في الكتب المعتمدة، وإنما أسنده الديلمي من طريق ابن المبارك عن يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة رفعه.
هذا، ويحيى ضعيف جدا عند أهل الحديث، قال بعضهم: هذا الحديث ليس معروفا ولا ثابتا فيما علمنا. قال ابن العربي المالكي في شرح الترمذي: ليس في فضل الأضحية حديث صحيح.
(ومنها): قوله: "إنها مطاياكم إلى الجنة" ذكر ذلك السخاوي في (المقاصد الحسنة في الأحاديث المذكورة المشتهرة على الألسنة) فمثل هذا الحديث لا يحتج به، وإن ذكره بعض أهل العلم، فعادتهم يتساهلون في فضائل الأعمال في ذكر الأحاديث الضعيفة، فلا ينبغي للسائل أن يجزم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، بل يذكره بصيغة التمريض.
وأما معناه فقيل أنها تسهل الجواز على الصراط والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل): وأمّا مَن كان يحلف بغير الله جهلًا منه أنّه شرك لا عنادًا ولا معتقدًا أنّ عظمته تساوي عظمة الله، بل لا يفعل ذلك الحلف تعظيمًا لله واتّقاء خشيته، لا تهاونًا بالنَّبِيّ المحلوف به، ثم إنّه لما بلغه أنّ ذلك شرك تاب من ذلك وندم ويسبق لسانه بذلك من غير تعمّدٍ، فهل مَن فعل ذلك قبل بلوغه أنّه شركٌ يكون مشركًا أم يعذر بجهله مساواة عظمة المخلوق عظمة الله تعالى؟
(فالجواب): أنّ الحلف بغير الله شرك كما في الحديث: أنّ رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حلف بغير الله فقد أشرك"1. رواه التّرمذي وغيره.
وأمّا كونه يعذر بالجهل فالظّاهر أنّ الذي يجهل مثل ذلك يعذر بالجهل؛ لأنّ الشّرائع لا تلزم إلّا بعد بلوغ الرّسالة، ولا يعذّب الله أحدًا إلّا بعد بلوغ الرّسالة، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، [الإسراء، من الآية: 15].
وأمّا سبق لسانه بذلك بعد بلوغه أنّه شرك فهذا لا يضرّه - إن شاء الله تعالى - إذا تاب واستغفر. وقال: لا إله إلّا الله، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من حلف فقال في حلفه: واللات، والعزّى، فليقل: لا إله إلّا الله، ومَن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدّق" فإذا كان يجري على ألسنة الصّحابة فكيف بغيرهم؟!
وكذلك إذا فعل شيئًا من الشّرك غير الحلف جهلًا منه، وخطأ، فإذا نبّه على ذلك تنبّه وتاب ونزع كما جرى لقوم موسى عليه السلام، وكما جرى للصّحابة الذين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواطٍ.
وأمّا مَن يفعل ذلك جهلًا لا عنادًا، وماتوا عليه قبل أن يبلغهم أنّه شرك، هل يُحكَم بإسلامهم ويُرجَى لهم العفو من الله والمغفرة وينفعهم استغفار الأحياء لهم؟
فهذه المسألة أحسن الأجوبة فيها أن يقال: الله أعلم بهم، كما قال موسى عليه السلام لما قيل له:{فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} ، [طه، آيتان: 51 - 52]؛ وذلك لأنّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجّة، {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ
1 المعنى أنّه عمل عملًا من أعمال المشركين، وليس المعنى أنّه خرج من الملة، وصار مشركًا على الإطلاق، وقد صرحوا بإثبات شركٍ دون شركٍ، وكفرٍ دون كفرٍ؛ لأنّ كلًا منهما ينقسم إلى عملي واعتقادي، وقد حقّق ذلك الشّيخ عبد اللّطيف في أوّل رسائله أتم التّحقيق، فراجعه في 3/ 14.
وَمَنْ بَلَغَ}، [الأنعام، من الآية: 19]. وقال: {لئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} ، [النساء، من الآية: 165]. وأكثر النّاس في هذه الأزمنة وغيرها من أزمنة الفترات والجهل معرضون عن السّؤال عن التّوحيد والشّرك، ودينه ما عليه أهل بلده، ولا يبحث، ولا يسأل عمّا جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وما كان عليه السّلف الصّالح والتّابعون لهم بإحسانٍ. ومَن بحث وسأل وفحص عن ذلك وجد من يعلمه بذلك؛ لأنّه لا يزال في هذه الأمّة طائفة على الحقّ منصورون لا يضرّهم مَن خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتّى تقوم السّاعة، وهي معصومة من الاجتماع على الضّلالة، والشّرك. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل): وأمّا المسألة الرّابعة - وهي التّنباك الذي يعتاد شربه كثير من النّاس، فاختلف علماء الإسلام في أجوبتهم عنه.
فمنهم مَن أجاب بتحريمه مطلقًا.
ومنهم مَن أجاب بتحريمه بقيدٍ وتعليقٍ.
ومنهم مَن أجاب بإباحته.
ومنهم مَن جعل فيه الأحكام الخمسة: الوجوب، والحرام، والنّدب، والكراهة، والإباحة، ولكلّ واحدٍ مِمَّن شربه حكم من الخمسة الأحكام، فهل هو حلال أو حرام؟
(فالجواب): أن يقال: لا ريب أنّ الله بعث رسول بجوامع الكلم، وهي من خصائصه التي خصّه الله بها من بين الأنبياء، كما ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ذكر خصائصه التي خصّه الله بها:"وأوتيتُ جوامع الكلم"، وهي: أن يقول الكلمة اليسيرة الجامعة لأحكام كثيرةٍ، لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"كلّ مسكرٍ حرام"، فدخل في هذه الكلمة جميع المسكرات التي تسكر، وتزيل العقل من الأطعمة والأشربة الموجودة في زمانه صلى الله عليه وسلم والحادثة بعده إلى يوم القيامة.
وقد تواترت الأحاديث عن
النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كلّ مسكرٍ خمرٌ وكلّ خمرٍ حرام". ولفظ مسلم: "وكلّ مسكرٍ حرام".
وعن عائشة رضي الله عنها أنّه عليه السلام سُئلَ عن البتع، فقال:"كلّ شرابٍ أسكر فهو حرام"، وفي روايةٍ لمسلمٍ:"كلّ شرابٍ مسكرٍ حرام". متّفق عليه.
ونقل ابن عبد البرّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحّته، وأنّه ثبت لشيءٍ روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم في تحريم المسكر. وجاء التّصريح بالنّهي عن قليل ما أسكر كثيره، كما أرخرجه أبو داود والتّرمذي وحسّنه من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:"كلّ مسكرٍ حرامٌ وما أسكر الفرق منه فملء الكفّ منه حرامٌ". وفي روايةٍ: "فالحسو منه حرام".
وقد احتجّ به أحمد وذهب إليه. وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك، والشّافعي، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ المسكر الذي يزيل العقل نوعان:
أحدهما: ما كان فيه لذة وطرب، قال العلماء وسواء كان المسكر جامدًا أو مائعًا وسواء كان مطعومًا أو مشروبًا، وسواء كان من حبٍّ، أو تمرٍ، أو لبنٍ، أو غير ذلك، وأدخلوا في ذلك الحشيشة التي تعمل من ورق القنب وغيرها، مما يؤكل لأجل سكرته ولذّته.
والثّاني: ما يزيل العقل ويسكر ولا لذّة فيه ولا طرب؛ كالبنج ونحوه، وأكثر العلماء الذين يرون تحريم قليل ما أسكر كثيره يرون حدّ مَن شرب ما يسكر كثيره، وإن اعتقد حلّه متأوِّلًا وهو قول الشّافعي، وأحمد. قال أحمد في رواية الأثرم: يحدّ مَن شرب النّبيذ متأوِّلًا؛ وذلك لضعف التّأويل عنده في ذلك، وبما ذكرنا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أهل العلم يتبيّن لك تحريم التّتن الذي كثر في هذا الزّمان استعماله وصحّ بالتّواتر عندنا والمشاهدة إسكاره في بعض الأوقات خصوصًا إذا أكثر منه، أو قام يومًا أو يومين
لا يشربه ثم شربه فإنّه يسكر ويزيل العقل حتّى إنّ صاحبه يحدث عند النّاس ولا يشعر بذلك -نعوذ بالله من الخزي وسوء البأس-. فلا ينبغي لِمَن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلتفت إلى قول أحدٍ من النّاس إذا تبيّن له كلام الله وكلام رسوله في مسألةٍ من المسائل، وذلك لأنّ الشّهادة بأنّه رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، والانتهاء عمّا عنه نهى وزجر، وتصديقه فيما أخبر. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل): وقد قال الشّيخ ابن علان الصّديقي الشّافعي رحمه الله في (إعلام الإخوان بتحريم تناول الدّخان): وقد اتّفق العلماء على حفظ العقول وصونها من المغيّرات والمخدّرات، وكلّ مَن امتصّ هذا الدّخان مقرّ بأنّه لا بدّ أن يدوخ أوّل تناوله ويكفي ذلك دليلًا على التّحريم؛ لأنّ كلّ ما غيّر العقل بوجهٍ من الوجوه أو أثّر فيه بطريق تناوله حرام. قال صلى الله عليه وسلم:"كلّ مسكرٍ حرام"، والمراد بالإسكار فيه الإسكار القويّ، أي: مطلق التّغطية على العقل، وإن لم يكن مع الشّدّة المطربة، ولا شبهة أنها حاصلة لكلّ متناولٍ أوَّلَ تناوله، وكونه إذا تناوله بعد لا يؤثّر فيه ذلك لا يضرّ في ثبوت سبب التّحريم؛ لأنّ مدمن الخمر إذا اعتادها لا تؤثّر فيه تغيّر أصلًا، ولا يخرجها ذلك عن كونها حرامًا اعتبارًا بأصل التّغيّر الثّابت فيها للعقول، فكذا فيما نحن فيه. انتهى.
(واعلم) -رحمك الله- أنّ إطلاق الحلّ والحرمة في الشّيء لا يعجز عنه أحدٌ، وإنّما الشّأن في تبيين الحجج الشّرعية ومدارك الأحكام المأخوذة من كلام سيّد الأنام -عليه من الله أفضل الصّلاة والسّلام-.
(فصل): وأمّا المسألة الخامسة وهي: ما معنى قوله - صلّى الله عليه وسلّم
"ما منا إلّا من عصى أو همّ بمعصية إلّا يحيى بن ز كريا"، والإجماع منعقد على أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر والصّغائر، وإذا قيل إنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر فما بال أولاد يعقوب؟ ومعلوم بالضّرورة أنّهم أنبياء وحال آدم حين قال الله:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، [طه، من الآية: 121]، وكذلك داود مع قوله عليه السلام:"كلّنا خطّاءون".
(فالجواب): من وجوه:
(الوجه الأوّل): أنّ لفظ الحديث المروي في ذلك: "ما من أحدٍ يلقى الله يوم القيامة إلّا ذا ذنبٍ إلّا يحيى بن زكريا". أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه: أنبأنا معمر عن قتادة في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ، [مريم، من الآية: 14]. قال: كان ابن المسيب يذكر أنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال: فذكره. وهذا مرسل، لكن أصحّ المراسيل عند أهل الحديث مرسل سعيد بن المسيب، لكن أخرج أحمد في مسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعًا إلى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد من ولد آدم إلّا قد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا، وما ينبغي لأحدٍ أن يقول أنا خير من يونس بن متي".
(الوجه الثّاني): أنّ الذي عليه المحقّقون من العلماء من الحنابلة والشّافعية والمالكية والحنفية، أنّ الأنبياء معصومون من الكبائر، وأمّا الصّغائر فقد تقع منهم لكنهم لا يقرّون عليها؛ بل يتوبون منها ويحصل لهم بالتّوبة أعظم مما كان قبل ذلك، وجميع أهل السّنة والجماعة متّفقون على أنّهم معصومون في تبليغ الرّسالة، ولا يجوز أن يستقرّ في شيءٍ من الشّريعة خطأ باتّفاق المسلمين.
قال شيخ الإسلام تقي الدّين أبو العبّاس ابن تيمية الحنبلي رحمه الله في كتاب: (منهاج السّنة النّبويّة في نقض كلام الشّيعة والقدرية): واتّفق المسلمون على أنّ الأنبياء معصومون في تبليغ الرّسالة، فكلّ ما يبلّغونه عن
الله من الأمر والنّهي، فهم مطاعون فيه باتّفاق المسلمين. وما أمروا به ونهوا عنه فهم مطاعون فيه عند جميع فرق الأمّة إلّا عند طائفةٍ من الخوارج أنّ النَّبِيّ معصوم فيما يبلغه عن الله لا فيما يأمر به وينهى عنه، وهؤلاء ضلال باتّفاق أهل السّنة والجماعة، وأكثر النّاس أو كثير منهم لا يجوزون عليهم الكبائر، والجمهور يجوزّون الصّغائر ويقولون إنّهم لا يقرّون عليها؛ بل يحصل لهم بالتّوبة منها من المنْزلة أعظم مما كان قبل ذلك. انتهى كلامه.
فتبيّن بما ذكرنا وَهْمُ السّائل وخطؤه رحمه الله في نقل الإجماع على أنّهم معصومون من الكبائر والصّغائر، ولعلّه قد غرّه كلام بعض المتأخرين الذين يقولون بذلك، أو يقلّدون مَن يقوله من أئمة الكلام الذين لا يحقّقون مذهب أهل السّنة والجماعة، ولا يميّزون بين الأقوال الصّحيحة والضّعيفة والباطلة، كيف والقرآن محشو من الدّلائل على وقوع الذّنب منهم؛ كقوله تعالى:{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} ، [طه، من الآية: 121].
وقول موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} ، [القصص، من الآية: 16].
وقول يونس عليه السلام: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} ، [الأنبياء، من الآية: 87].
وقول نوح عليه السلام: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [هود، من الآية: 47].
وقوله عن آدم عليه السلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، [الأعراف، من الآية: 23].
وقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} ، [الشّعراء: 82].
وقوله عن داود عليه السلام: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} الآية، [صّ: من الآية: 24].
وقوله عن موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، [الأعراف، من الآية: 151].
وقوله عن نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية، [محمد، من الآية: 19].
وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية، [الفتح، من الآية: 2].
وكذلك ثبت في الأحاديث
الصّحيحة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو يقول: "يا ربّ اغفر لي ذنبي كلّه، دقّه وجلّه، وأوّله وآخره، وسرّه وعلاينته".
وقوله: "اللهم اغفر لي جهلي وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي". وأشباه ذلك كثيرة عن جماعة من الصّحابة رضي الله عنهم والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل): وأمّا المسألة السّادسة؛ وهي هل يتأكّد الأخذ بالإجماع السّكوتي عن الصّحابة رضي الله عنهم وبجمع عمر رضي الله عنه الصّحابة على التّراويح، وأمره أبي بن كعب أن يصلِّي بالنّاس لارتفاع العلّة؛ وهي خشيته عليه السلام أن يفرض عليهم.
(فالجواب) أنّ الذي عليه أكثر الفقهاء من الحنفية والمالكية والشّافعية والحنبلية أنّ الأمر إذا اشتهر بين الصّحابة فلم ينكره منهم أحد كان إجماعًا، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد خيرهم أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم فاختارهم لصحبة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. انتهى.
وباتّباع السّلف الصّالح والأخذ بهديهم وسلوك طريقتهم والسّكوت عمّا ستكوا عنه يزول عن المؤمن شبهات كثيرة، وبدع وضلالات شهيرة أحدثها المتأخرون بعدهم، كالكلام في تأويل آيات الصّفات، وأحاديثها بالتّأويلات المستكرهة التي لم تعهد عن الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ؛ فإنّهم سكتوا عن تفسير ذلك بالتّأويلات الباطة، وقالوا: أَمِرُّوها كما جاءت. وقال بعضهم في صفة الاستواء لما سأله سائل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، [طه:5]، كيف الاستواء؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة، كما تواتر ذلك عن الإمام مالك رحمه الله، وما أجاب به مالك -رحمه
الله- في هذه المسألة هو جواب أهل السّنة والجماعة في آيات الصّفات، وأحاديثها، فيقال: النّزول والمنْزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسّؤال عنه بدعة. وهكذا يقال في سائر الصّفات مثل: المجيء، واليد، والوجه، والمحبّة، والغضب، والرّضا وغير ذلك من الصّفات الواردة في الكتاب والسّنة.
وما أحسن ما جاء عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون أنّه قال: عليك بلزوم السّنة فإنّها لك بإذن الله عصمة، فإنّ السّنة إنّما جعلت ليستن بها ويقتصر عليها، وأنّها سنة قد علم ما في خلافها من الزّلل، والخطأ، والحمق، والتّعمّق، فارض لنفسك بما رضوا به، فإنّهم عن علمٍ وقفوا، وببصرٍ ناقدٍ كفوا، ولهم على كشفها أقوى، وبتفاصيلها أحرى، وأنّهم لهم السّابقون، وقد بلغهم عن نبيّهم ما يجري من الاختلاف، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم عليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلّا من اتّبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، واختار ما نحته فكره على ما تلقوه عن نبيّهم وتلقوه عمَّن اتّبعهم بإحسانٍ، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا فيه بما يشفي، فمَن دونهم مقصر، ومَن فوقهم مفرط، ولقد قصر دونهم أناس فجفوا، وطمع آخرون فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم. والله أعلم.
(فصل): وأمّا المسّألة السّابعة؛ وهي: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "إذا استقرّ أهل الجنة في الجنة، وأهل النّار في النّار، يؤتى بالموت على صورة كبشٍ أملح فيذبح بين الجنة والنّار فيقال: يا أهل الجنة خلود في النّعيم بلا انقضاء، ويا أهل النّار خلود في الجحيم بلا انتهاء".
ومعلوم أنّ الموت معدوم الرّوح التي بها حركة الجسد وهذا شيء معنوي، فإنّ الذّبح لا يحصل إلّا في الأعيان الجسمانية ذات الأروح فإذا كان يؤتى به على صورة كبش كما
ذكره الشارع، فكيف كانت صورته من قبل؟ وهل تحدث له بروح عند ذلك؟
(فالجواب): أن الذي ينبغي للمؤمن تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من الأمور الغائبة، وإن لم يعلم كيفية ذلك، كما مدح -سبحانه- المؤمن بذلك، بقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 4 - 5]. وقد مدح الله -سبحانه- أهل العلم بأنهم يقولون في المتشابه: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما علمتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فكلوه إلى عالمه"1. إذا علمت ذلك فاعلم أن شراح الحديث ذكروا فيه أقوالا الله أعلم بصحتها:
(قال ابن حجر) العسقلاني في فتح الباري: قوله "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت"2، وفي رواية "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح"3، قال الكلبي في تفسيره في قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [سورة الملك آية: 2]، قال: خلق الموت في صورة كبش، لا يمر على أحد إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس، لا تمر على أحد إلا حي. قال القرطبي: الحكمة في الإتيان بالموت هكذا، الإشارة إلى أنهم حصل لهم الفدية كما فدي ولد إبراهيم بالكبش وفي "الأملح" إشارة إلى صفة أهل الجنة، لأن الأملح ما فيه بياض وسواد.
ثم قال ابن حجر: قال القاضي أبو بكر بن العربي: استُشكل هذا الحديث، فأنكر صحة هذا الحديث طائفة ودفعته، وتأولته طائفة فقالوا: هذا تمثيل ولا ذبح هناك، وقالت طائفة: بل الذبح على حقيقته، والمذبوح
1 أحمد (2/ 181).
2 البخاري: الرقاق (6548)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2850) ، وأحمد (2/ 118 ،2/ 120).
3 البخاري: تفسير القرآن (4730)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2849)، والترمذي: صفة الجنة (2558) ، وأحمد (3/ 9).
متولي الموت، وكلّهم يعرفه؛ لأنّه تولّى قبض أرواحهم.
(قلت): وارتضى هذا بعض المتأخّرين وحمل قوله هو الموت الذي وكلّ بنا على أنّ المراد به {مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، واستشهد له من حيث المعنى بأنّ ملك الموت لو استمرّ حيًّا لنغص عيش أهل الجنة، وأيّده بقوله في حديث الباب:"فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النّار حزنًا إلى حزنهم". انتهى.
(قلت): ويكفي المؤمن اللّبيب الإيمان بالله ورسوله فيما لا يتبيّن له حقيقة معناه وظاهر الحديث لا إشكال فيه عند من نور الله قلبه بالإيمان وشرح صدره بالإسلام. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فصل): وأمّا المسألة الثّامنة؛ وهي الرّهون التي كثر استعمالها في القرى والأمصار على غير الرّهن الشّرعي المستفاد من الكتاب والسّنة وخارجة عن حكمه المعروف. وذلك أنّه إذا احتاج الإنسان أخذ مال من آخر لا يعقد قرضه على سبيل الإباحة والتّراضي بل يدفع المحتاج إلى صاحب المال أرضه بالمخابرة والمزارعة بالعقد الشّرعي مقلدين من يقول بجوازها فيبذرها العامل ويأخذ نصف الغلة في مقابلة عمله وبذره، ويدفع لصاحب الأرض الشّطر الثّاني ويعمل الأرض مالكها ويجعل الأجر البذر، وكذا العمل لكلّ واحدٍ منهما شطر الغلة، وما تخرج تلك الأرض، وصاروا على ذلك خلفًا عن سلف. وحصل في هذه الأزمان الخوض في حكمها من علماء الزّمان منهم من حرم واستدلوا بأنّ المال دفع على سبيل القرض، وكلّ قرض جرّ منفعةٍ فهو ربا.
ومنهم من أجازها قائلين بأنّ المال لم يدفع بصيغة القرض، وربما كان المال دينا في ذمّة صاحب الأرض فعجز عن براءة ذمته وخلاص دينه تسمح نفسه ببيع أرضه ودخل في هذه المعاملة وقبلها صاحب الدّين. فعلى كلّ حال إنّ
المنفعة التي جعلها المفتي سببًا للحرمة مقابلة بمنفعة أخرى تساوي تلك المنفعة وأكثر منها، وهي البذر، وكلّ العمل فلم تكن منفعة لا يقابلها شيء. فإن قلتم بجوازها فذاك، وإن قلتم بحرمتها وبطلانها، فهل يسوغ لِمَن سَعَى في المخارجة بين صاحب المال وبين صاحب الأرض أي بتنجيم في أوقات اليسار كما ذكر البغوي في تفسير آية الرّبا أنّها نزلت في أربعة أخوة من ثقيف. ومع ذلك فالعجز ظاهر عن الوفاء بالمال حالًا ولولا الفقر والحاجة لم يدخلوا في هذه المعاملة؛ فالجواب مطلوب بعد إمعان النّظر وبيان حكم المسألة جوازًا أو تحريمًا.
(فالجواب) وبالله التّوفيق أنّ الله تبارك وتعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} ، [النّساء: 59].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ، [البقرة: 278].
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ سلف وبيع، ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك". رواه أبو داود والتّرمذي وصحّحه.
قال علماؤنا -رحمة الله عليهم- بيّن صلى الله عليه وسلم أنّه لا يحلّ أن يقرض الرّجل ويبيعه ليحابيه لأجل ذلك القرض وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضي الله عنهم أجمعين- تحريم البيوع بعد عقد القرض قبل الوفاء.
فعن أنس بن مالك، أنّه سُئل عن رجلٍ يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدي إليه أو حمله على الدّابة فلا يركبها ولا يقبلها إلّا أن يكون بينه وبينه قبل ذلك". رواه ابن ماجه بإسنادٍ حسن.
وعن أبي بردة بن أبي
موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال: إنك بأرض الربا فيها فاش، فإن كان لك على رجل حق فأهدى لك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت، فلا تأخذه؛ فإنّه ربا. رواه البخاري في صحيحه.
وروى مثله سعيد بن منصور في سننه عن أبي بن كعب، وروي عن ابن مسعود نحو ذلك.
وعن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: إنّي أقرضت رجلًا يبيع السّمك عشرين درهمًا فاهدى إلي سمكة فقومتها ثلاثة عشر درهمًا، فقال: خذ منه سبعة دراهم. رواه سعيد في سننه، بإسنادٍ صحيحٍ.
وعن ابن عمر أنّه أتاه رجل فقال: إنّي أقرضت رجلًا بعيرًا فأهدى إليّ جزلة، فقال: ردّ إليه هديته، أو احسبها له. رواه سعيد أيضًا.
فإذا كان هذا فيما يتبرّع به المقترض بعد القرض، فكيف إذا تواطآ على التّبرّع؟! مثل أن يقرض مَن يعيره دراهم أو يرهنها عند مَن يأذن له في سكناها 1، أو يضاربه، بأقلّ من حقّ مثله، أو يبتاع منه الشّيء بأضعاف قيمته أو يكري داره بثلث كرائها، أو يدفع إليه شجره مساقاة بأضعاف جعل مثله. انتهى.
فتأمّل -رحمك الله- هذا الكلام بعين الإنصاف يتبيّن لك أنّ الرّهون التي تفعل عندكم لأجل المال الذي في ذمته فيصبر عليه وينظره ما دام يستغل الشّجر، أو الأرض هو حيلة على أكل الرّهن والانتفاع به لأجل القرض ولو لم يكن في ذمته ذلك المال لم يتركه يستغل أرضه، وربما تركها له بدون قيمة مثلها، فهذا هو المحاباة، وهو الرّبا الذي نصّ العلماء على تحريمه سواء سُمِّي ذلك المال قرضًا أو غيره، أو كان دينًا في ذمته، وكان أهل الجاهلية قبل الإسلام
1 لم يتقّدم في الكلام ذكر شيء يرجع إليه ضمير سكناها كالدّار، فلعلّه سقط من الكلام شيء بسهو النّساخ.
إذا كان لأحدهم دين على رجل إلى أجلٍ فحلّ الأجل قال له: إمّا أن تقضي، وإمّا أن تربي، فيزيده هذا في المال، ويزيده هذا في الأجل، فحرّم الله ذلك، فلولا أنّ الأرض أو الشّجر أو الدّار ينتفع بها لما صبر عليه وانظره.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله اليهود حرمت عليهم الشّحوم فجمّلوها فباعوها". متّفق عليه.
قال الخطابي رحمه الله (جمّلوها) معناه: أذابوها حتى تصير ودكًا فيزول عنه اسم الشّحم.
وفي هذا الحديث بيان إبطال كلّ حيلةٍ يحتال بها للتّوسل بها إلى محرّم، وأنّه لا يتغيّر حكمه بتغيّر هيئته وتبديل اسمه. وأمّا إن كان صاحب المال لا يقدر على وفائه فينجمه عليه صاحب الدّين بقدر غلة أرضه كلّ سنةٍ، ويأخذ الغلة ويحسبها بسعر يومها فلا بأس بذلك إذا خلت عن المحاباة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(12)
وله أيضًا -رحمه الله تعالى- إجابة عن مسائل سُئِل عنها قال:
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(الجواب) عن مسائلكم:
(المسألة الأولى): مذهب الزّيدية فالصّحيح منه ما وافق الكتاب والسّنة، وما خالفهما فهو باطل لا مذهب الزّيدية ولا غيره من المذاهب.
(المسألة الثّانية): هل يصحّ في الأذان حيّ على خير العمل أم لا؟
(فنقول): الثّابت أنّ الأذان خمس عشرة كلمة: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر،
لا إله إلّا الله.
فهذا هو الثّابت الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالًا أن يؤذّن به كما ذكر أهل السّنن والمسانيد، وأمّا حيّ على خير العمل، فليس بثابتٍ، ولا عمل عليه عند أهل السّنة 1.
(المسألة الثّالثة): أمّا الماء الذي تجوز الطّهارة به، ويرفع الحدث، فهو: كلّ ماء طاهر باقٍ على ما خلقه الله عليه، ولم يتغيّر، فإن تغيّر بالنّحاسة طعمه، أو لونه، أو ريحه، لم تجز الطّهارة به. والبرك التي فيها ماء ساكن لا يغتسل فيها من الجنابة، والأحسن أن يأخذ من الماء ويغتسل به خارجه أو يتوضّأ به، وأمّا غسل الأعضاء فيها فلا بأس به.
وأمّا التّربة المنذورة للمساجد لعمارتها، أو للضوء بها، أو للمصلّين فيها، فهي على وقفها ولا يغيّرها الوارث يؤدّيها إلى أهل المساجد الذين يحفظونها ويصرفونها في مصارفها.
وأمّا القبور التي في المساجد فإن كان المسجد بني قبل أن يحط فيه قبر فينبش القبر ويبعد عن المسجد، فإن كان المسجد ما بني إلّا لأجل القبر فالمسجد يهدم ولا يصلّى فيه؛ لأنّه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه لعن الذين يتّخذون المساجد على القبور، ولا تصحّ الصّلاة فيه، ولا تجوز الصّلاة عند القبور ولا عليها؛ لأنّه عليه السلام نهى عن الصّلاة في المقبرة.
وأمّا التّيمّم فلا يجوز إلّا عند عدم الماء، كما قال تعالى:{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} الآية، [النّساء، من الآية: 43، والمائدة، من الآية: 6].
وأمّا الصّلاة في النّعل فجائزة إذا لم يكن فيها نجاسة.
وأمّا حدّ الزّنا والسّارق والقاذف فحدّ الزّاني إن كان محصنًا -وهو
1 وما ورد في إثباته من الرّوايات قد صرّحوا بأنّه كان في أوّل الإسلام ونسخ.
الذي قد تزوّج- يرجم حتّى يموت، وإن كان بكرًا لم يتزّوج مائة جلدة ويغرّب عن بلده عامًا، والمرأة كالرّجل في ذلك، هكذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا السّارق، فتقطع يده اليمنى بشرط أن يأخذ المال من حرزه، وأن يكون قيمة المأخوذ قدر ثلاث دراهم، وأن يكون مالًا محرزًا، وأن يكون أخذ المال على وجه الاختفاء، وأن لا يكون فيه شبهة؛ كالأخذ من مال ولده، والمرأة من مال زوجها، والذي يسرق دون النّصاب فلا قطع؛ بل يؤدّب، وكذلك الذي يأخذ الثّمر من البساتين والزّروع يؤدّب ويغرم قيمته مرّتين.
وأمّا الذي يقذف المحصن، أو المحصنة، ولم يأتِ بأربعة شهداء عدول فيجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل شهادته، إلّا إن تاب، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ، الآيتين [النّور: 4 - 5].
وأمّا الذي يسبّ المسلمين ويؤذيهم بلسانه، فهذا يؤدّبه الأمير بما يزجره.
وأمّا مصارف الزّكاة، وقدر ما تجب فيه فنصاب العيش والزّبيب قيمته ثلاثمائة تنقص عشرين صاعًا بصاع الوادي، وزكاة الذي يسقي بالسّواقي والغروب نصف العشر، والذي يسقى بالعيون والسّيل فيه العشر تامًا. ونصاب الفضّة ثمانية عشر ريالًا أو وزنها، والذي ما عنده إلّا دون سبعة عشر ونصف ما عليه زكاة وزكاته ربع العشر.
وأمّا شارب التنباك إذا شهد عليه شاهدان أنّهم رأوه يشرب فيجلد أربعين جلدة.
وأمّا القبور التي عليها بناء فإنّه يهدم.
وأمّا المسلم إذا قتل مسلمًا متعمّدًا فيخيّر ولي المقتول بين قتل مَن
قتله، أو أخذ الدّية، ومقدار الدّية مائة ناقة، تقدر اليوم بقدر ثمانمائة ريال، ودية المرأة نصف دية الرّجل، وإن كان قتله خطأ زلّة ما قصد قتله فتلزمه الدّية وتصير على عاقلته، وتصير أثلاثًا في ثلاث سنين ويلزمه معها عتق رقبة إن كان يقدر، وإن لم يقدر يصوم شهرين.
والشّجاج التي في الرّأس تقدر بخمس من الإبل، وهي الموضحة التي توضح العظم، أي: يتبيّن ولو بقدر رأس إبرة فيها خمس قيمتها أربعون ريالًا للذي ما عنده أبعرة، وموضحة الوجه والرّأس واحد، وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ففي كلّ وحدةٍ دية الموضحة.
ثم الهاشمة، وهي التي توضح العظم وتهشمه ففيها عشر من الإبل، قيمتها ثمانون ريالًا.
ثم المنقلة، وهي التي توضح وتهشم وتنقل عظامها بتكسرها ففيها خمسة عشر من الإبل، قيمتها مائة وعشرون ريالًا.
ثم المأمومة، وهي التي تصل إلى أم الدّماغ، وهي الجلدة التي فيها الدّماغ، وفيها ثلث الدّية.
وفي الدّامغة ثلث الدّية، وهي التي تخرق جلدة الدّماغ.
وما سوى ذلك من الشّجاج فليس فيه تقدير؛ بل يجتهد فيه الحاكم واثنان من أهل العدالة، ويقدرونه باجتهادهم.
وفي الجائفة ثلث الدّية، وهي التي تصل إلى باطن الجوف من بطن أو صدر أو ظهر، فإن كانا جائفتين وبينهما حاجز ففيهما ثلثا الدّية.
وفي قطع مارن الأنف الدّية، وفي كلّ واحدٍ من المنخرين والحاجز بينهما ثلث الدّية، وفي كلّ واحدٍ من الشّفتين نصف الدّية.
ووقت صلاة الصّبح إذا طلع الفجر المعترض الأبيض، وآخره عند طلوع الشّمس، والظّهر إذا زالت الشّمس، وآخر وقتها إذا صار ظلّ كلّ شيءٍ مثله مرّتين، والمغرب إذا غربت الشّمس والعشاء إذا غاب الشفق وآخره ثلث الليل. والله أعلم.
(13)
وله أيضًا -رحمه الله تعالى- جواب في أحكام الوقف:
(الجواب): وبالله التّوفيق؛ الأسبال والأوقاف يجب صرفها إلى أهلها، وإن كانت في يد مَن لا يصرفها إلى أهلها أخذت منه وصرفت إلى مَن يستحقّها.
وأمّا الوقف الذي على المسجد ولا بين مصرفه فإنّه يُصرف على إمامه، ومؤذّنه وعمّارته، وما ينوبه ويحط على الرّكية منه شيء، وأسبال الجاهلية التي لا يعرف مصرفها تصرف على المساجد والجهاد وأبواب البر، وزرع العام الواحد يضاف بعضه إلى بعضٍ في تكميل النّصاب، ويؤخذ من زرع القيض زكاته إذا أضيف لزرع الربيع.
(14)
وسئل -رحمه الله تعالى- عن مسائل فأجاب عنها:
(الأولى): الذي يخرج من قبضة الأمير وأيش أدبه.
(فنقول): الذي يعصي الأمير يؤدّب بما يزجره عن المعصية، والأدب يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص. (فمن النّاس) مَن يكفي فيه الكلام وتفشيله بين النّاس.
(ومنهم) مَن لا يكفي فيه إلّا الضّرب والحبس والجلاء. فإن كان العفو فيه مصلحة فهو أحسن، ولا يقال إنّ الأدب لازم لا بدّ منه؛ بل الواجب على الأمير أن يفعل ما فيه الأصلح.
(الثّانية): المرتدّ بقولٍ، أو فعلٍ، وثبت عليه بالبيّنة فهذا يحتاج أوّلًا إلى المعرفة بأنواع الكفر والرّدّة التي يذكرها أهل العلم، فإذا ارتدّ أحد عن الإسلام استتيب، فإن تاب كفّ عنه، وإن أصرّ على ردّته قتل.
(الثّالثة): الذي يخرج من بلاد المسلمين إلى بلاد بغضاء الدّين وأهله، فهذا إذا ثبت كما وصف السّائل أنّه لاحق بالكفار رغبة في دينهم وبغضًا لدين المسلمين، فهو كافر حكه حكم الكفّار الذين رغب في دينهم.
(الرّابعة): حدّ الزّاني المحصن -وهو الذي قد تزوّج-؛ حدّه الرّجم إذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود عدول يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها داخلًا كدخول الميل في المكحلة، فإن توقف واحد منهم في شهادته على ما ذكرنا فالشّهود يحدّون حدّ القذف، كلّ واحدٍ يضرب ثمانين جلدة، والشّهادة المعتبرة في الزّنا صعبة جدًّا، وإذا ثبت زناه بشهادة أربعة رجم بالحجارة التي تؤخذ في اليد ويرجم بها سواء كان واقفًا أو جالسًا، والمرأة تشدّ عليها ثيابها عن التّعري، أو يحفر لها حفرة.
وأمّا الرّجل الذي لم يتزوّج فإذا ثبت زناه بشهادة أربعة شهود فيجلد مائة جدلة ويغرّب عن وطنه عامًا، وأمّا السّوط الذي يجلد به فهو مثل الجريدة والعصا بشرط أنّها لا تكسر العظام.
وأمّا السّارق، فإذا سرق وثبتت سرقته من حرز المال المعروف عند أهل البلد أنّه حزر له قطعت يده اليمنى من مفصل الكوع بشرط أن تكون سرقته نصابًا، وهو ربع دينار قيمته عندكم ثلاثة أخماس ريال.
وأمّا الذي يعاهد أميره ويعصيه فالأمير تجب طاعته إذا أمر بطاعة الله ورسوله، وتحرم معصيته، فإذا عصى الأمير في ذلك جاز للأمير تأديبه، إمّا بالضّرب أو الحبس أو غير ذلك مما يزجره وليس فيه تحديد في الشّرع.
وأمّا الذي يتخلف عن صلاة الجماعة أو الجمعة فيؤدّب على ذلك إمّا بالضّرب أو الحبس لا يزاد في الضّرب على عشر ضربات، وبالفشيلة والتّفشيل بين النّاس.
وأمّا المواريث التي تقاسموها في الجاهلية على خلاف الشّرع ثم بعد هذا أسلموا، فلا يطالبون بردّ القسمة بعد الإسلام إلّا بالتّراضي.
وأمّا دية المسلم الحرّ إذا قتل عمدًا وقبل أولياؤه الدّية فهي مائة من الإبل خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون لقحة، وخمس وعشرون جذعة، وقيمتها في وقتنا هذا بتقدير أمير المسلمين عبد العزيز وأهل المعرفة ثمانمائة ريال، وتكون حالة. وأمّا دية الخطأ المخفّفة فهي خمسة أخماس على عشرين منها: عشرون ذكرًا وهي على العاقلة مؤجَّلة في ثلاث سنين إلّا إن كان القتل لم يثبت بالبيّنة بل ثبت بإقرار القاتل فلا تحملها العاقلة وتكون في مال القاتل.
وأمّا المنقلة التي توضح وتهشم وتنقل عظامها ففيها خمس عشرة من الإبل قيمتها مائة وعشرون ريالًا.
وأمّا دية العين والسّمع إذا ذهب البصر والسّمع مع عفو المجني عليه عن القصاص كم هي دراهم، فالبصر إذا ذهب كلّه الدّية كاملة، والسّمع إذا ذهب كلّه الدّية كاملة مائة من الإبل تقديرها عندنا ثمانمائة ريال.
وأمّا الحبس والأدب للعاصي، فيجتهد فيه الأمير باجتهاده، ويؤدّب كلّ واحدٍ على قدره باختلافه.
وأمّا حكم الصّائل المعاند.
(فالجواب): دفعه بالأسهل فالأسهل، فإن اندفع بغير قتالٍ لم يجز قتله، وإن لم يندفع إلّا بالقتل جاز قتله ودمه هدر.
وأمّا حكم القذف بالزّنا؛ فإذا قذف رجلًا أو امرأة بالزّنا ولم يأت على ذلك بأربعة شهداء، يشهدون بأنّهم رأوا ذكره في فرجها كالميل
في المكحلة، فإنّه يجب عليه حدّ القذف ثمانون جلدة، ولا تقبل لهم شهادة أبدًا، وحد القذف حقّ للمقذوف إن طلبه أقامه عليه الأمير فإن عفا عنه فلا يقيمه الأمير لكن إذا كان القاذف معروفًا بالشّر جاز للإمام تأديبه عن تعرّض أعراض المسلمين.
وأمّا مصرف الزّكاة، فهي ثمانية أصناف ذكرها الله تعالى في كتابه في قوله:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [التوبة: 60].
وأمّا حكم مَن تزوّج في عدّة الطّلاق، وهو جاهل من البوادي فلا يصير حكمه حكم الزّاني، بل يعذر بالجهل، ويفرّق بينهما حتّى تنقضي العدّة الأولى من الطّلاق الأوّل ثم تعتدّ من وطء الثّاني الذي وطئها في عدّتها، فإذا انقضت العدّتان حلّت للزّواج وهو من عرضهم.
وأمّا الذي يتزوّج المرأة برضاها ورضاء أوليائها على مهر مفروض لكن بغير عقدٍ ولا شهود، فمثل هذا يعذر بالجهل ولا يصير عليه أدب والذي فعل هذا في الجاهلية فلا يطالب بنكثه في الإسلام.
وأمّا الفجاج التي يحجرها أهل البلد لا يرعونها النّاس فهذا لا يجوز في الإسلام، وحكم الشّرع أنّ النّاس شركاء في الكلأ والمرعى.
وأمّا بيع الحبّ بحبّ مثله متفاضلًا فلا يجوز، وأمّا إذا كانا من جنسين؛ كشعيرٍ بحبٍ أو حبٍّ بشعيرٍ، فإنّه يجوز التّفاضل فيه، ولا يجوز بيع بعضه ببعضٍ في الذّهب والفضّة والمطعومات إلّا بشرط التّقابض في المجلس، كما في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والتّمر بالتّمر، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والملح بالملح وغير ذلك مثلًا بمثل، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدًا بيدٍ". والعمل على
هذا عند أهل العلم، لا يرون أن يباع البرّ بالبرّ، إلّا مثلًا بمثلٍ، وباقي الأصناف المذكورة في الحديث كذلك، فإذا اختلفت الأجناس فلا بأس أن يباع بعضها ببعضٍ متفاضلًا بشرط التّقابض في المجلس.
وأمّا إذا غاب ولي المرأة قدر مسافة القصر فلا يجوز لها أن توكّل مَن يزوّجها، فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ، فإن كان لا يمكن الإرسال إليه ومشاورته إلّا بمشقّةٍ شديدةٍ جاز لولي الأمر أن يوكّل مَن يزوّجها أو يزوّجها بنفسه على كفء مثلها.
وأمّا الوقف على المسجد فهو جائز؛ بل مستحبّ؛ لأنّه من أعمال البرّ والقربات. والله أعلم.
وأمّا الذي يقرأ في المواريث ويعرف قسمتها ويعرف ما ذكره أهل العلم المقتدى بهم؛ كالأئمة الأربعة جاز له أن يقتدي بما عرف. والله أعلم.
ولا يجوز للرّجل أن يتزوّج المرأة إلّا بعقد وولي وشاهدين هذا المفتَى به عندنا.
وأمّا الصّلاة فوقت النّهار لا أعرف ضبطه بالأقدام؛ لأنّ الأقدام تختلف باختلاف كثيرٍ مع تغيير الفصول والموجود في كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم أنّ وقت الظّهر إذا زالت الشّمس إلى أن يصير ظلّ كلّ شيءٍ مثليه، ويعرف ذلك في جميع الأيام بأن ينصب عودًا في مكان مستوٍ فما دام ظل العود ينقص فالشّمس لم تزل حتّى يزيد فإذا زاد فقد زال الظّلّ.
وأمّا النّذور لخدام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وغيره فإنّها تصرف لمصالح المسلمين يصرفها الإمام مثل أن يصرفها في الجهاد، وفي تألّف بعض النّاس على الإسلام، أو الفقراء والمساكين.
وأمّا الكتب المؤلَّفة في ذكر فضائل الأعمال؛ مثل: تنبيه الغافلين، وغيره فأكثر ما فيها حقٌّ وصوابٌ، وفيها ما هو خطأ ليس بصوابٍ، والقارئ فيها يحتاج إلى مَن يعلّمه بما يوافق الحقّ فيعمل به، وما يخالف الحقّ فيتركه.
وأمّا البلاد ورهونها فيجوز أن يعطي الرّجل أرضه لِمَن يحرثها ولصاحب الأرض جزء معلوم من الثّمرة، وأمّا أن يرهنها رجلٌ آخر بدارهم معلومة ويأخذ صاحب الدّراهم غلتها من كلّ الثّمرة، فهذا لا يجوز سواء كان من الثّمرة أو غيرها من بقية الثّمار.
وأمّا غسل الجنابة فيجوز للمرأة والرّجل أن يغسلا رؤوسهما من الجنابة وهو معقود إذا وصل إناء واحد.
وأمّا فرش المساجد فيجوز أن يتّخذ فيها فرشًا من جميع الفرش الطّاهرة من الصّوف وغيره.
وأمّا العاق لوالديه فيؤدّب أدبًا بالغًا بالضّرب والحبس؛ لأنّ ذلك من أكبر الكبائر، وليس له حدّ معلوم.
وأمّا الذي يشرب التتن ويزرعه فيجلد ثمانين جلدة 1.
وأمّا المراة التي تمشي مكشوفة الوجه فإذا سترت وجهها وصدرها وشعرها فليس عليها في ذلك إذا كان ذلك عادتهم، لكن لا تخالط الرّجال الأجانب، فإن بدنها كلّه عورة شعرها وبشرتها.
وأمّا شراء اللّبن في الضّرع فلا يجوز، إلّا أن يكون كيلًا معلومًا في ذمّته.
وأمّا الرّهون التي تؤكل غلتها بغير بذر ولا حرث فلا يجوز، ويرد
1 تقدم في ص: 225 عنه أنّه يجلّد أربعين، وهو أقلّ ما روي في حدّ شرب الخمر، وما ذكره هنا أكثر ما ورد فيه، وظاهره أنّه لِمَن يجمع بين شربه وزراعته، والعقاب على زرعه لا حدّ فيه، بل هو تعزير من حقّ الإمام الذي يرى حرمته.
صاحب الأرض على المرتهن ما قبضه منه دراهم كانت أو طعامًا، فإن كان معسرًا لزمه إنظاره إلى ميسرةٍ، فإن قدر على وفاء بعض أوفاه بما قدر عليه.
وأمّا الذّبائح التي تذبح صدقة للميت عند موته، أو وقت الأضحية. فهذا حسن لا بأس به؛ إذا قصد به صدقة لوجه الله يفرق على المساكين والأقارب، وكذلك الصّدقة من الطّعام أو غيره جائزة يصل ثوابها للميت.
وأمّا إذا اجتمع أهل البلد على أن يجمعوا طعامًا عند رجلٍ فيما ينوبهم من جهاد أو ضعف أو دية قتيل المسمّى العشر في بلادكم، فهذا لا بأس به، والمتخلف عن الصّلاة يؤدّب بما يزجره.
وأمّا لباس السّواد إذا كان من عادة أهل البلاد، فهذا لا بأس به، إلّا أن يكون حريرًا فلا يصحّ.
والحناء لا بأس بها إذا اختضب بها الرّجل في يديه ورجليه غير قاصد للتشبّه بالنّساء، ولا يريد به الزّينة، وأمّا ما يلبس النّساء من الحلي والجواهر فليس فيه زكاة.
(15)
وله أيضًا -رحمه الله تعالى-
بسم الله الرحمن الرحيم
(الجواب): الذّبيحة إذا ذبحت وذكر اسم الله عليها وقطع الحلقوم والودجان فهي حلال، وإن لم يبق في الرّأس من الحلقوم شيء.
(الثّانية): طلاق الشّرك يحسب عليه في الإسلام، فإن طلّقها في الشّرك ثلاثًا أو أكثر وجاء الإسلام وهي معه أمر بفراقها حتى تنكح زوجًا غيره، ونكاح الشّرك لا يحتاج لتجديد في الإسلام.
وأمّا إذا خالعت
المرأة زوجها على شيءٍ مُسمًّى وشرطت عليه أنّها لا تعطيه إلّا إذا تزوّجت، وطلّقها على ذلك فإنّها تعطيه إيّاه إذا تزوّجت.
وأمّا مواريث الشّرك فإذا كان الوارث في الجاهلية قد طرد شريكه في الإرث وأسلم والمال في يده، فهو له دون شريكه سواء كان المطرود رجالًا أو نساء، وإن كان مزبورًا لم يقسم حتّى جاء الإسلام فإنّه يقسم على فرائض الله ويعطي كلّ نصيبه من المال.
وأمّا إذا أوصى لإناث بوصية مدّة حياته وجاء الإسلام والمال في يد الإناث فإنّه يكون لهم ولورثتهم.
وأمّا إذا كان لرجلٍ أرض ودفعها لرجلٍ يحرثها، ويزرعها هو وولده من بعده بلا أجل معلوم وجاء الإسلام والأرض في أيديهم فإنّ ذلك الأرض يرجع فيها. وما أحدث الزّراع من شجرٍ أو بناءٍ أو غرسٍ فهو له يأخذه بقيمته إن أراده.
وأمّا إذا باع الرّجل المال الذي في أيدي الحريم بعد مورثهم، فهذا بيع فاسد يردّ على المشتري ثمنه الذي دفعه للبائع.
وأمّا قتل الجاهلية والجراحات التي فيها فما كان من ذلك مقطوع ديته مضمون كثيرًا أو قليلًا؛ فإنّه يدفع إلى صاحبه أو لِمَن يكن.
وأمّا ديون الجاهلية من الرّبا والرّهون التي لا تجوز في الإسلام فليس لصاحبها إلّا رأس المال، فإن كان الذي عليه الحقّ متعسرًا لزم صاحب الدّين إنظاره إلى ميسرةٍ، وإن كان له كدود لا تفي قيمة كفايته وكفاية مَن تحته، ولا يقدر على حرفة غير ذلك تغنيه وتغني أولاده ومَن تحت يده فلا يجوز لصاحب الدّين أن يأخذ ذلك ويتركه يضيع ومَن تحت يده؛ بل يصبر إلى أن يغنيه الله أو يصالحه على شيء يعطيه إيّاه كلّ سنة لا يضر به.
وأمّا وقت الشّرك الذي على طاعة، فهذا يجب الوفاء به في الإسلام.
وأمّا الصّدقة عد الختان والزّواج، أو الصّدقة للميت عند موته فلا بأس به.
وأمّا تلاوة القرآن على الميت قبل أن يغسل فهذا لا بأس به.
وأمّا إهداء ثواب البدن للميّت 1 من قراءةٍ، وصلاةٍ، وحجٍّ وغير ذلك، فهذا فيه خلاف بين العلماء هل يصل إلى الميّت أم لا؟ ولا ينكر على مَن فعله أو تركه.
وأمّا صدقة المال فهي تصل إلى الميّت باتّفاق العلماء.
وأمّا النّائبة للضّيف ودية القتلى والجهاد الذي يجاهد دفاعًا عن بلد وأهلها، فهذا لا يدخل فيه مال اليتيم 2.
وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه سواء كان يتيمًا من الأم أو لم يكن، ولا يجوز له أن يعطي منه ولا يهب ولا يتصدّق.
وأمّا زكاة غنم الحضر التي في البلد، فهي تصير مع زكاة البلد.
وأمّا المتطوّع الذي مسجد يصلي به ويقوم به فإنّه يعطى من الزّكاة إذا كان فقيرًا، وإن كان غنيًا فلا يجوز له الأخذ من الزّكاة، ويجوز له الأكل من وقف المسجد.
وأمّا المتخلف عن الجمعة والجماعة فيؤدّبه الأمير بما يزجره عن ذلك، وكذلك المعاصي التي ليس فيها حدّ يجوز للأمير تعزير العاصي على المعصية من ضربٍ أو تأديبٍ.
1 أي: إهداء ثواب العبادات البدنية إلى الميت
…
الخ.
2 هكذا في الأصل.
وأمّا الحناء إذا كان ليس قصده التّشبه بالنّساء، وإنّما مقصوده إزالة أثر العمل أو التبّرد أو التّداوي فلا بأس به، وكذلك لبس الثّوب الأسود إذا كان رجال البلد يلبسونه.
وصلاة التّراويح في رمضان مستحبة، وفعلها جماعة أفضل، وكذلك القنوت في النّصف الآخر من رمضان، وزكاة الفطر يجمعها الأمير وتفرق على فقراء البلاد خاصّة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
(16)
وله أيضًا -رحمه الله تعالى-:
من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من المسائل:
(الأولى): إذا باع رجل على رجلٍ شيئين ثم أنكر المشتري ووجد البائع أحد الشّيئين هل له الرّجوع في الموجود أم لا؟
(فالجواب): وبالله التّوفيق، أنّ هذه المسألة فيها روايتان:
(إحداهما): لا يرجع. نقلها أبو طالب عنه. قال: لا يرجع بقية العين، ويكون أسوة الغرماء؛ لأنّه لم يجد المبيع بعينه فأشبه ما لو كان عينًا واحدةً، ولأنّ بعض المبيع تالف فلم يملك الرّجوع فيه كما لو قطعت يد العبد. ونقل الحسن بن ثوبان عن أحمد إن كان ثوبًا واحدًا فتلف بعضه فهو أسوة الغرماء، وإن كان رزمًا فتلف بعضها فإنّه يأخذ بقيمتها إذا كان بعينه؛ لأنّ السّالم من المبيع وجده البائع بعينه فيدخل في عموم الحديث المذكور، ولأنّه مبيع وجده بعينه فكان للبائع الرّجوع فيه، كما لو كان جميع المبيع، فإن باع بعض المبيع
أو وهبه أو وقفه فهو بمنْزلة تلفه؛ لأنّ البائع ما أدرك ماله بعينه.
(وأمّا الثانية): إذا باع رجل على رجلٍ سلعة قيمتها وقت البيع عشرة ثم أفلس المشتري وقد صارت قيمتها عشرين، هل له الرّجوع في الزّيادة المتّصلة أم لا؟
(فالجواب): أنّ من شرط الرّجوع في السّلعة إذا وجدها صاحبها عند المفلس أن لا يكون المبيع زاد زيادة متّصلة، كالسّمن، والكبر، وتعلّم صنعةٍ، فإنّ هذا يمنع الرّجوع، وهو اختيار الخرقي. وعن أحمد -رحمه الله تعالى- إنّ ذلك لا يمنع. قال في الشّرح الكبير، وهو مذهب مالك، والشّافعي، إلّا أنّ مالكًا قال: يخيّر الغرماء بين أن يعطوه السّلعة أو ثمنها الذي باعها به، واحتجّوا بالخبر يعني قوله:"مَن وجد متاعه بعينه عند رجلٍ قد أفلس فهو أحقّ به"، وبأنّه فسخ لا يمنع الزّيادة المنفصلة فلم يمنع المتّصلة كالرّدّ بالعيب.
قال: ولنا أنّه فسخ بسبب حادثٍ فلم يملك به الرّجوع في عين المال الزّائدة زيادة متّصلة؛ كفسخ النّكاح بالإعسار، أو الرّضاع، ولأنّها في ملك المفلس فلم يستحقّ البائع أخذها كالمنفصلة. انتهى.
والذي يترجّح عندي مذهب مالك رحمه الله، وهو أنّ الغرماء يخيّرون بين أن يعطوه السّلعة بعينها، وبين أن يعطوه الثّمن الذي باعها به، فعلى هذا إن كان لهم مصلحة في زيادتها المتّصلة أعطوه ثمنه وأخذوا السّلعة، وتكون الزّيادة المتّصلة للمفلس يستوفون بها الغرماء.
(الثالثة): إذا كان على رجلٍ دينٌ وصار الدَّين أكثر من قيمة ماله لو يباع، وظهرت أمارات الفلس، ورهن بعض ماله قبل أن يطلب الغرماء الحجر عليه عند المفتي، هل يصحّ رهنه مع أنّ بعض الغرماء يدّعي عدم ظهور أمارات الفلس لغيبته أو غيرها ما الحكم؟
(فالجواب): أنّ في نفوذ تصرّفه قبل الحجر عليه قولان هما روايتان عن أحمد:
(أحدهما): أنّه يصحّ تصرّفه وينفذ. قال في الإنصاف على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه جماهير الأصحاب، وقيل: لا ينفذ تصرّفه. ذكره الشّيخ تقي الدّين وحكاه روياةً واختاره.
وسأله جعفر -يعني الإمام أحمد- مَن عليه دين يتصدّق بالشّيء؟
قال: الشّيء اليسير وقضاء دينه أوجب عليه.
(قلت): وهذا القول هو الصّواب، خصوصًا وقد كثرت حيل النّاس وجزم به في القاعدة الثّالثة والخمسين، فقال: المفلس إذا طلب البائع منه سلعته التي يرجع بها قبل الحجر لم ينفذ تصرّفه، نصّ عليه، وذلك ثلاثة نصوص، لكن ذلك مخصوص بمطالبة البائع. انتهى كلامه في الإنصاف.
وهذا القول، هو الذي اختاره الشّيخ تقي الدين، وصاحب الإنصاف، وهو الرّاجح إن شاء الله تعالى.
(الرّابعة): إذا استأجر رجلّ أرضًا بأربعين ريالًا، وتنقلت بعد الأربعين إلى أنّ المستأجر يؤجّرها بعشرة وصاحب الأرض قد شرط على المستأجر مدّة سنين، وأراد المستأجر الفسخ، هل تدخل في حكم وضع الجوائح أم لا؟
(فالجواب): أنّ الذي نفهم من كلام أهل العلم أنّها ما تدخل في مسألة وضع الجوائح، وأنّ المراد بذلك إذا كانت الجائحة من قبل الله بآفةٍ سماوية كالمطر والبرد والسّيول وأشباه ذلك، وأمّا الإجارة فهي لازمة من قبل المؤجر والمستأجر إلّا إذا انهدمت الدّار، أو تعطّلت الأرض بآفة سماوية انفسخت الإجارة فيما بقي من المدّة، وأمّا هذه الصّورة فهي مثل أن يشتري سلعة غالية ثم ترخص بعد ذلك بتغيّر الأسعار. والله أعلم.
(الخامسة): إذا وجد رجل ضالة من الإبل فأخذها يريد الحفظ، وهو معروف بالأمانة، ثم تلفت بعد ذلك بموتٍ أو ذهابٍ، هل يغرمها إذا طالبه صاحبها أم لا؟
(الجواب): قال في الإنصاف: يجوز للإمام أو نائبه أخذ ما يمتنع من صغار السّباع وحفظه لربّه، ولا يلزمه تغريمه. قاله الأصحاب، ولا يكتفى فيها بالصّفة. قاله المصنّف وغيره، واقتصر عليه في الفروع. ولا يجوز لغيرهما أخذ شيء من ذلك لحفظه لربّه على الصّحيح من المذهب. وقال المصنّف ومَن تبعه يجوز أخذها إذا خيف عليها كما لو كانت في أرض مسبّعة أو قريبًا من دار الحرب، أو موضع يستحلّ أهله أموال المسلمين، أو في برية لا ماء فيها ولا مرعى فلا ضمان على مَن أخذها؛ لأنّه إنقاذ من هلكة. قال الحارثي: قالوا كما قال. وجزم به في تجريد العناية.
(قلت): ولو قيل: بوجوب أخذها والحالة هذه لكان له وجه. انتهى.
والذي يترجّح عدي أنّ الرّجل إذا عُرِفَ بالأمانة، وأنّه يحسن في حفظها ولم يتعرّض لها بركوبٍ وغيره، أنّه لا يضمن كما اختاره هؤلاء الأئمة. والله أعلم.
(السّادسة): إذا تزوّج رجل بامرأة وشرطت عليه طلاق ضرّتها، أو طلاقها بنفسها بعد شهرين هل يصحّ ذلك أم لا؟
(فالجواب): أمّا شرطها طلاقها بنفسها بعد شهرين؛ فهذا لا يجوز اشتراطه، وهو شرط باطل، وأمّا اشتراط طلاق ضرّبها ففيه خلاف مشهور بين العلماء. والصّحيح أنّه شرط باطل بما ثبت في الصّحيحين وغيرهما أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا تسأل المرأة طلاق ضرّتها؛ فإنّه يأتيها ما قدر لها"، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(السّابعة): إذا كان رجل معروفًا بالفلس ويعامله النّاس مع ظهور فلسه، وأراد رهن بعض ما في يده، أوفى به بعض الغرماء، وطلب غرماؤه الحجر عليه لزمه إجابتهم، وهذا هو الصّحيح إن شاء الله تعالى.
(الثّامنة): العبد إذا ظاهر أو سرق من حرزٍ، هل يصير حكمه حكم الحرّ في ذلك أم لا؟
(فالجواب): أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّ الظّهار يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه. قال في الإنصاف: هذا هو الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب، فيصحّ ظهار الصّبي حيث صحّحنا طلاقه. قال في عيون المسائل: سوى أحمد بينه وبين الطّلاق إلى أن قال: (تنبيهان): أحدهما: شمل قوله يصحّ من كلّ زوجٍ يصحّ طلاقه العبد، وهو الصّحيح، وهو المذهب، وعليه الأصحاب. وجزم به في الفروع وغيره. وقيل: لا يصحّ، والذي يترجّح عندي هو قول جمهور العلماء.
وأمّا العبد إذا سرق، فالظّاهر من كلامهم أنّه كالحرّ وصرّح به العلماء من الشّافعية.
(التّاسعة): ما معنى قوله: ولا يجوز استصناع سلعة بعينها؟
(فالجواب): أنّ معنى ذلك: أن يأمر رجلًا أن يصنع له سلعة ولا يصفها بصفات السلم، فأمّا إذا ضبطها بأوصاف السّلم الذي لا يحصل معه الجهل ولا الغرر؛ فإنّه جائز؛ لأنّه داخل في قوله تعالى:{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} ، [البقرة، من الآية: 275].
وقوله عليه السلام: "المسلمون عند شروطهم".
(العاشرة): إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دين مؤجّل قدر عشرة وأراد أن يعجل له بخمسة ويترك الباقي هل يصحّ ذلك أم لا؟
(فالجواب): أنّ فيها خلافًا مشهورًا بين العلماء. قال في الإنصاف: ولو صالح عن المؤجّل ببعضه حالًا لم يصحّ. هذا هو المذهب نقله الجماعة عن أحمد وعليه جماهير الأصحاب، وفي الإرشاد والمبهج رواية يصحّ، واختاره الشّيخ تقيّ الدّين؛ لبراءة الذّمّة هنا، وكدين الكتابة، جزم به الأصحاب في دين الكتابة، ونقله ابن منصور. انتهى كلامه.
والذي يترجّح عندي هو
القول الأخير، وهو الذي اختاره الشّيخ تقي الدّين - قدّس الله روحه -.
وأمّا إذا كان الدّين حالًا فوضع بعضه، وأجّل باقيه، قال في الإنصاف: صح الإسقاط دون التّأجيل، أمّا الإسقاط فيصحّ على الصّحيح من المذهب. وعنه: لا يصحّ الإسقاط، أمّا التّأجيل فقد يصحّ على الصّحيح من المذهب، وعليه الأصحاب؛ لأنّه وعد. وعنه يصحّ، وذكر الشّيخ تقي الدّين روايةً بتأجيل الحال في المعارضة لا التّبرّع. قال في الفروع: والظّاهر أنّها هذه الرّاوية. والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
- 17 -
وله أيضًا -رحمه الله تعالى-:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ رجب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(وبعد) الخطّ وصل أوصلك الله إلى رضوانه، ونحمد إليك الله الذي لا إله إلّا هو على نعمة الإسلام والإيمان والعافية والاجتماع على دين الله بعد أجرى الله على أمير المسلمين ما أجرى، ونرجو من الله أن يفتح لنا فتحًا مبينًا، وينصرنا نصرًا عزيزًا أعظم مما تقدّم.
وأمّا المسائل التي تسأل عنها:
(الأولى): إذا قال رجل لزوجته: إن أعطيتِنِي كذا وكذا، فأنت طالق، أو إذا نزلت على أهلك، فأنت طالق، ومراده ونيّته وقت معلوم، كاليوم واليومين مثلًا، فلا تطلق إذا مضى الوقت الذي نواه، والظّاهر أنّه يحلف أنّ هذا مراده.
وأمّا إذا علّق الطّلاق على شرطٍ فأراد الرّجوع عن ذلك التّعليق قبل وجود الشّرط، فالذي صحّحه في الإنصاف وغيره أنّه ليس له الرّجوع عن ذلك.
(الثّانية): إذا طلبت المرأة من زوجها المريض طلاقها فطلّقها ثلاثًا صحّ طلاقه، وطلقت، والظّاهر أنّها لا ترث لعدم التّهمة، وأمّا كلام ابن عبّاس في الخلع وقوله: ليس الخلع بطلاق، فالظّاهر أنّ مراده الخلع الصّحيح، وهو المستكمل للشّروط المذكورة في القرآن:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ، [البقرة، من الآية: 229]. وهي رواية عن أحمد، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو مروي عن طاوس، وعكرمة، وإسحاق، وأبِي ثور، وهو أحد قولي الشّافعي.
وأمّا خلع كثير من النّاس اليوم؛ فليس بخلعٍ صحيحٍ، والذي يفتى به لمثلهم أنّ الخلع طلاق بائن، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد، سواء نوى به الطّلاق أم لا.
روي ذلك عن سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، ومالك، وأصحاب الرّاي.
وأمّا مَن أراد تزويج أخته وليس معه إلّا شاهد ويمين، فمثل هذا يشترط له كثير من أهل العلم شاهدين، وليس لليمين مدخل في مثل هذا، إنّما ذلك في المال، وما يقصد به المال.
وأمّا الجار إذا كان شريكًا لجاره في طريق، وليس لغيرهما شركة فهي الشّفعة، خلاف مشهور. والرّاجح أنّ له الشّفعة، وهو المفتَى به عندنا، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين.
وأمّا الصّبرة المشتراة، جزافًا فلا يجوز بيعها حتّى ينقلها المشتري من مكانها إلى آخر، ويكفي في ذلك أن ينقلها من موضعٍ في السّوق إلى آخر.
وأمّا المساقاة والمزارعة إذا شرط ربّ الأرض أن لا يخرج منها سنين معلومة، فالظّاهر لزوم ذلك الشّرط، كما في الحديث:"المسلمون عند شروطهم "، وكثير من العلماء يقولون هي لازمة على المساقي والمزارع، وإن لم يشترط ربّ الأرض لزومه.
وأمّا الذي خالع زوجته، وقال: أنت طالق
عدد الخوص، فإن كان الخلع صحيحًا فليس بطلاقٍ، وإن قال ذلك، وإن كان الخلع كخلع أكثر النّاس اليوم.
وأمّا الأب فيجوز له الأخذ من مال ابنه صغيرًا كان أو كبيرًا بالشّروط المذكورة في كتب الفقه.
وأمّا إذا اكترى رجل من آخر أرضًا أو نخلًا وأصابته جائحة؛ فإنّه يطرح عن المؤجّر بقدر ما نقصت الجائحة من الثّمرة من الأجرة.
وأمّا إذا قال الزّوج لزوجته عند سؤالها منه الطّلاق: الله يرزقكِ، فهذا كناية يحتاج إلى نية الطّلاق، ويصدق بيمينه إن لم ينوِ الطّلاق. انتهى.
وصلّى الله على نبيّنا محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 18 -
{أصل دعوة التّجديد في نَجد وقاعدتها}
ورد على الشّيخ الإمام عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب كتاب من الشّيخ عبد الله الصّنعاني يسأله فيه عمّا يدينون به، وما يعتقدونه من الحقّ، فأجابه بما هو الصّواب.
قال رحمه الله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، الصّلاة السّلام على سيّدنا محمّد سيّد الأنام، وعلى آله وصحبه البررة الكرام، إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، وفّقه الله وهداه وجنّبه الإشراك والبدعة وحماه، وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته.
أمّا بعد؛
فوصل الخط وتضمن السّؤال عمّا نحن عليه من الدّين.
فنقول، وبالله التّوفيق:
الذي ندين الله به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره ومتابعة الرّسول النَّبِيّ الأمّيّ حبيب الله وصفيّه من خلقه محمّد صلى الله عليه وسلم.
فأمّا عبادة الله وحده فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، [الذّريات: 56].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ، [النّحل، من الآية: 36].
فمن أنواع العبادة الدّعاء وهو الطّلب بياء النّداء؛ لأنّه ينادى به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة، أو بأحد أخواتها من حروف النّداء؛ فإنّ العبادة اسم جنس؛ فأمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يدعوه ولا يدعو معه غيره. وقال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} ، [غافر: 60].
وقال في النّهي: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} ، [الجن: 18]. وأحد كلمة تصدق على كلّ ما دُعِي به غير الله تعالى.
وقد روى التّرمذي عن أنس أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "الدّعاء مخ العبادة".
وعن النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدّعاء هو العبادة، ثم قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي.
قال العلقمي في شرح الجامع الصّغير: حديث: "الدّعاء مخ العبادة"، قال شيخنا: قال في النّهاية: مخّ الشّيء خالصه، وإنّما كان مخها لأمرين:
أحدهما: أنّه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، فهو مخ العبادة وخالصها.
والثّاني: أنّه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع علقته عمن سواه ودعاه لحاجته وحده، ولأنّ الغرض من العبادة هو الثّواب عليها، وهو المطلوب بالدّعاء.
وقوله: "الدّعاء هو العبادة"، قال شيخنا: قال الطّيبِي أتى بالخبر المعرّف باللام ليدلّ على الحصر، وأنّ العبادة ليست غير
الدّعاء". انتهى كلام العلقمي 1.
إذا تقرّر هذا؛ فنحن نعلم بالضّرورة أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعو أحدًا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصّالحين، ولا غيرهم؛ بل نعلم أنّه نهى عن هذه الأمور كلّها، وأنّ ذلك من الشّرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله.
قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} ، [الأحقاف، الآيتان: 5 - 6].
وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} ، [الشّعراء:213].
وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، [يونس، من الآية: 106]. الآيات.
وهذا من معنى: (لا إله إلّا الله)؛ فإنّ (لا) هذه هي نافية للجنس، فتنتفي جميع الآلهة، (وإلّا) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، والإله اسم صفة لكلّ معبود بحقٍّ أو باطلٍ ثم غُلِّب على المعبود بحقٍّ؛ وهو الله تعالى الذي يخلق ويرزق، ويدبّر الأمور، وهو الذي يستحقّ الألهية وحده. والتّألّه: التّعبّد. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163].
ثُمّ ذكر الدّليل فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، [البقرة، من الآية: 164]، إلى قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا} الآية، [البقرة، من الآية: 165].
وأمّا متابعة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فواجب على أمّته متابعته في الاعتقادات
1 لكن هذا الحصر إضافي غير حقيقي؛ فإنّ العبادات كثيرة، وقال المحقّقون: إنّ هذا الحديث كحديث: "الحجّ عرفة"، وإنّ تعريف العبادة في الحديثين بمعنى الفرد الكامل؛ كقول العرب: النّجم، وأراد الثّريا. والمعنى: أنّ أكمل إفراد العبادة الذي يظهر به إخلاص العبودية هو الدّعاء، وفي الحديث الآخر أنّ أكمل أركان الحجّ الوقوف بعرفة. وكتبه محمّد رشيد رضا.
والأقوال والأفعال. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31].
وقال صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ". رواه البخاري ومسلم.
وفي روايةٍ لمسلمٍ: "مَن عمِل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل، وما خالف ردّ على فاعله كائنًا مَن كان.
فإنّ شهادة أنّ محمّد رسول الله، تتضمّن: تصديقه فيما أخبر به، وطاعته، ومتابعته في كلّ ما أمر به.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كلّ أمّتي يدخلون الجنّة إلّا مَن أبى"، قالوا: يا رسول الله! ومَن يأبى؟! قال: "مَن أطاعنِي دخل الجنة، ومَن عصاني فقد أبَى".
فتأمّل -رحمك الله- ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتّابعون لهم بإحسانٍ، وما عليه الأئمّة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء، كأبي حنيفة، ومالكٍ، والشّافعي، وأحمد بن حنبل -رحمهم الله تعالى-؛ لكي تتّبع آثارهم.
وأمّا مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السّنة، ولا ننْكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نصّ الكتاب والسّنة، ولا إجماع الأمة ولا قول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدّين، أنّه عبادة الله وحده لا شريك له، فبها نخلع جميع الشّرك، ومتابعة الرّسول، وبها نخلع جميع البدع إلّا بدعة لها أصل في الشّرع؛ كجمع المصحف في كتابٍ واحدٍ، وجمع عمر رضي الله عنه الصّحابة على التّراويح جماعةً، وجمع ابن مسعود أصحابه على القصص كلّ خميس، ونحو ذلك. فهذا حسن.
والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 19 -
أجاب الصّنعاني الشّيخ عبد الله -رحمهما الله- على كتابه بالموافقة على كلّ ما فيه إلّا قوله: إنّ مذهبهم مذهب الإمام أحمد؛ فإنّه يقتضي تقليده، والتّقليد محظور، وإنّما ينبغي اتّباعه في الأخذ من الكتاب والسّنة، فأجابه الشّيخ عبد الله بهذا الكتاب. قال:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الكتاب على النَّبِيّ المختار، وبيّنه صلى الله عليه وسلم، وحمله عنه أصحابه الأخيار، ثم التّابعون لهم من الأبرار.
إلى عبد الله بن عبد الله الصّنعاني، سلّمه الله من الشّرك والبدع، ووفّقه للإنكار على مَن أشرك وابتدع، والصّلاة والسّلام على محمّد الذي قامت به على الخلق الحجة، وبيّن وأوضح لهم المحجة، وعلى آله وصحبه القدوة بعده.
أمّا بعد؛
فقد وصل كتابكم وسرّ الخاطر، وأقرّ النّاظر؛ حيث أخبرتم أنّكم على ما نحن عليه من الدّين، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، ومتابعة الرّسول الأميّ سيّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وما أوردتم على ذلك من الآيات الواضحات، والأحاديث الباهرات، وأنّ الرّدّ عند الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أقوال الصّحابة، ثم التّابعين لهم بإحسانٍ؛ فذلك ما نحن عليه، وهو ظاهر عندنا من كلّ قولٍ له حقيقة، وحقيقة العلم وثمرته العمل:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31]. و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} ، [الصّفّ: 2].
وكلّ يدعّي وصلًا ليلى
…
وليلى لا تقرّ لهم بذاكا
فنحن أقمنا الفرائض والشّرائع والحدود والتّعزيرات، ونصبنا القضاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكرات، ونصبنا علم الجهاد على أهل الشّرك والعناد فلله الحمد والمنّة.
وأمّا استفصالكم عن قولنا مذهبنا مذهب الإمام أحمد، وقولكم: إن تريدون أن نسلك في أخل المسائل من الكتاب والسّنة مثل مسلكه فنعم ما قلتم، وإن تريدون بقولكم ذلك التّقليد له فيما قاله من غير نظرٍ إلى الحجة من الكتاب والسّنة كما سلك بعض أتباع الأئمة الأربعة من جعل آرائهم وأقوالهم أصولًا لمسائل وأطرحوا الاحتجاج بالكتاب والسّنة وسدّوا بابهما إلى آخره. انتهى كلامكم ملخصًّا.
فالجواب وبالله التّوفيق من أوجه:
الوجه الأوّل: أنّ في رسالتنا التي عندكم ما يردّ هذا التّوهّم، وهو قولنا فيها:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} الآية، [آل عمران، من الآية: 31].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو درٌّ". رواه البخاري ومسلم.
فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعال فما وافق منها قبل، وما خالف رُدَّ على قائله كائنًا مَن كان إلى آخره.
فتضمّن هذا الكلام أنّه لا يقدّم رأي أحدٍ على كتاب الله وسنة رسوله والعجب كيف نبا فهمكم عنها.
الوجه الثّاني: قد صرّح العلماء أنّ النّصوص الصّريحة الصّحيحة التي لا معارض لها ولا ناسخ، وكذا مسائل الإجماع لا مذاهب فيها، وإنّما المذاهب فيما فهمه العلماء من النّصوص، أو علمه أحد دون أحد، أو في مسائل الاجتهاد ونحو ذلك.
الوجه الثّالث: قد ذكر العلماء أنّ لفظة المذهب لها معنيان: معنىً
في اللّغة، ومعنى في الاصطلاح.
فالمذهب في اللّغة: مفعل، ويصحّ للمصدر والمكان والزّمان بمعنى: الذّهاب، وهو المرور، أو محلّه وزمانه.
واصطلاحًا: ما ترجّح عند المجتهد في أيّما مسألةٍ من المسائل بعد الاجتهاد، فصار له معتقدًا ومذهبًا.
وعند بعضهم: ما قاله مجتهد بدليلٍ ومات قائلًا به.
وعند بعضهم: أنّه المشهور في مذهبه كنقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومسّ الذّكر، ونحوه عند أحمد. ولا يكاد يطلق إلّا على ما فيه خلاف.
وقال بعضهم: هو في عرف الفقهاء: ما ذهب إليه إمام من الأئمة الاجتهادية 1.
ويطلق عند المتأخرين من أئمة المذاهب على ما به الفتوى، وهو ما قوي دليله. وقيل: ما كثر قائله.
فقد تلخّص من كلامهم أنّ المذهب في الاصطلاح: ما اجتهد فيه إمام بدليلٍ، أو قول جمهورٍ، أو ما ترجّح عنده ونحو ذلك. وأنّ المذهب لا يكون إلّا في مسائل الخلاف التي ليس فيها نصّ صريح ولا إجماع.
فأين هذا من توهّمكم إنّ قولنا لكم: مذهبنا مذهب الإمام أحمد، أنا نقلّده فيما رأى وقاله، وإن خالف الكتاب والسّنة والإجماع؟! فنعوذ بالله من ذلك والله المستعان.
الرّابع: قال ابن القيم في إعلام الموقّعين لما ذكر المفتين بمدينة السّلام، وكان بها إمام أهل السّنة على الإطلاق أحمد بن حنبل الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة إلى أن قال: وكانت فتاواه مبنية على خمسة أصول:
أحدها: النّصوص فإذا وجد النّصّ أفتى بموجبه ولم يلتفت إلى ما خالفه، ولا مَن خالفه كائنًا مَن كان، ثم ذكر أحاديث تمسّك بها الإمام
1 كذا في الأصل المخطوط، ولا بدّ أن يكون قد سقط من النّاسخ كلمة: المسائل، أو الأمور.
أحمد ولم يلتفت إلى ما خالفها إلى أن قال:
الأصل الثّاني من أصول فتاوى الإمام أحمد ما أفتى به الصّحابة؛ فإنّه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يعرف له مخالف منهم فيها لم يعدها إلى غيرها، ولم يقل إنّ ذلك إجماع؛ بل من ورعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يدفعه ونحو هذا، إلى أن قال:
الأصل الثّالث من أصوله إذا اختلف الصّحابة تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها للكتاب والسّنة ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتبيّن له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها ولم يجزم بقولٍ، إلى أن قال:
الأصل الرّابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضّعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، فهو الذي يرجّحه على القياس. وليس المراد بالضّعيف عنده الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متّهم؛ بل الحديث الضّعيف عنده قسيم الصّحيح، فإذا لم يجد في الباب أثرًا يدفعه ولا قول صاحبٍ ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس، وليس من الأئمة إلّا وهو موافقه على هذا الأصل من حيث الجملة، فإذا لم يكن عند الإمام أحمد نصّ ولا قول للصّحابة أو أحد منهم ولا أثر مرسل أو ضعيف عدل إلى:
الأصل الخامس: وهو القياس، فاستعمله للضّرورة، وقال الشّافعي: إنّما يصار إليه عند الضّرورة. وقال الإمام أحمد في رواية أبي الحارث: ما تصنع بالرّأي والقياس وفي الحديث ما يغنيك عنه؟! وقد تتوقّف في الفتوى لتعارض الأدلّة عنده أو لاختلاف الصّحابة فيها، وقال أبو داود: سمعت أحمد سئل عن كثيرٍ مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري. انتهى كلام ابن القيم ملخّصًا.
فهذا ما أشرنا إليه من قولنا: مذهبنا مذهب الإمام أحمد.
وأمّا ما ذكرتم من ذمّ مَن قلّد الإمام أحمد وغيره، وأطلقتم الذّمّ فليس الأمر على إطلاقكم، فإن تريدون بذمّ التّقليد تقليد مَن أعرض عما أنزل الله، وعن سنة نبيّه صلى الله عليه وسلم، أو مَن قلّد بعد ظهور الحجة له، أو مَن قلّد مَن ليس أهلًا أن يؤخذ بقوله، أو مَن قلّد واحدًا من النّاس فيما قاله دون غيره، فنعم المسلك سلكتم.
وإن تريدوا بذلك الإطلاق منع النّاس لا ينقل بعضهم عن بعضٍ، ولا يفتي أحد لأحدٍ إلّا مجتهد، فقد قال تعالى:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ، [النّحل، من الآية: 43].
قال عليّ بن عقيل صاحب الفنون ورؤوس المسائل: يجب سؤال أهل الفقه بهذه الآية. وقد أمر الله بطاعته، وطاعة رسوله، وأولي الأمر وهم: العلماء، أو العلماء والأمراء، وأرشد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَن لا يعلم إلى سؤال مَن يعلم، فقال في حديث صاحب الشّجة:"ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنّما شفاه العيّ السّؤال".
وأيضًا فأنَّى تدرك هذه في هذه الأزمنة التي قلّ العلم في أهلها، وقلّ فيها المجتهدون، وقد صرّح العلماء أنّ تقليد الإنسان لنفسه جائز، وربما كان واجبًا.
وكذا في أوّل الجزء الثّاني من (إعلام الموقّعين) ذكر القول في التّقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه، والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب.
فأمّا النّوع الأول فهو ثلاثة أنواع:
أحدها: الإعراض عما أنزل الله وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء.
الثّاني: تقليد مَن لا يعلم المقلّد أنّه أهل أن يؤخذ بقوله.
الثّالث: التّقليد بعد قيام الحجة وظهور الدّليل على خلاف قول المقلّد، وقد ذمّ الله هذه الأنواع الثّلاثة من التّقليد في غير موضعٍ من كتاب -ثم ذكر آيات في ذمّ التّقليد-
إلى أن قال: وهذا القدر من التّقليد هو مما اتّفق السّلف والأئمة الأربعة على ذمّه وتحريمه.
وأمّا تقليد مَن بذل جهده في اتّباع ما أنزل الله وخفي عليه بعضه وقلّد فيه مَن هو أعلم منه، فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التّقليد الواجب والسّائغ إن شاء الله تعالى.
وقال أيضًا في أوّل الجزء الأوّل (من إعلام الموقّعين): قلت وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد:
أحدها: أنّه لا يجوز الفتوى بالتّقليد؛ لأنّه ليس بعلم والفتوى بغير علمٍ حرام، وهذا قول أكثر الأصحاب.
والثّاني: أنّ ذلك يجوز فيما يتعلّق بنفسه، فيجوز له أن يقلّد غيره من العلماء إذا كانت الفتوى لنفسه، ولا يجوز أن يقلّد العالم فيما يفتي به غيره، فهذا قول ابن بطة وغيره من أصحابنا.
والقول الثّالث: أنّه جوز ذلك عند الحاجة، وعدم المجتهد، وهو أصحّ الأقوال، وعليه العمل. قال القاضي: ذكر أبو حفص في تعاليقه: قال: سمعت أبا عليّ الحسن بن عبد الله النّجاد يقول: سمعت أبا الحسن بن بشار يقول: ما أعيب على رجلٍ يحفظ لأحمد خمس مسائل استند إلى بعض سواري المسجد يفتِي النّاس بها. انتهى كلام ابن القيم ملخّصًا.
وقال في الإقناع وشرحه في شروط القاضي: وأن يكون مجتهدًا إجماعًا. ذكره ابن حزم. وأنّهم أجمعوا أنّه لا يحلّ لحاكمٍ ولا مفتٍ تقليد رجلٍ لا يحكم ولا يفتي، إلّا بقوله؛ لأنّه فاقد للاجتهاد، ولو كان اجتهاده في مذهب إمامه إذا لم يوجد غيره لضرورةٍ، كما قال في الإفصاح إنّ الإجماع انعقد على تقليد كلّ من المذاهب الأربعة، وإنّ الحق لا يخرج
عنهم 1، ثم أنّ الصّحيح في هذه المسألة أنّ قول مَن قال إنّه لا يجوز إلّا تولية مجتهد فإنّه ما عنى به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما أقرت عليه هذه المذاهب، وقال الإمام موفّق الدّين أبو محمّد عبد الله بن أحمد المقدسي في خطبة المغني: النّسبة إلى إمامٍ في الفروع؛ كالأئمة الأربعة، ليست بمذمومة، فإنّ اختلافهم رحمة، واتّفاقهم حجّة قاطعة 2.
واختار في الإفصاح والرّعاية أو مقلّدا قال في الإنصاف: وعليه العمل من مدّة طويلةٍ، وإلّا تقطعت أحكام النّاس، وكذا المفتي. قال ابن بشار: ما أعيب مَن يحفظ لأحمد خمس مسائل يفتي بها. ونقل عبد الله يفتي غير مجتهد. ذكره القاضي وحمله أبو العبّاس بن تيمية على الحاجة. انتهى كلام صاحب الإقناع وشرحه.
وقال في الإنصاف: قال الشّيخ تقي الدّين أحمد بن تيمية في شروط
1 ادّعى هذه الدّعوى بعض علماء القرون الوسطى والمتّبعين لهذه المذاهب، وخطّأهم فيها آخرون منهم، ومن غيرهم، واحتجوا عليهم بأنّ الإجماع اتّفاق مجتهدي العصر كلّهم، وهم غير مجتهدين ولا وجه لإيجاب التّقليد مع وجود المجتهدين، وبأن المحقّقين كالإمام أحمد لا يحتجون بإجماع غير الصّحابة بل صرّح بعضهم بعدم إمكانه، وبعضهم بعدم إمكان العلم به، ومنهم الإمام أحمد.
ثم إنّ الأصوليّين قالوا: إنّ الإجماع لا بدّ له من مستندٍ من الكتاب والسّنة، ولا يمكن وجود مستند منهما بحصر الحقّ في أقوال أشخاص معينين الخ. والحقّ أنّ مزية فقه الأربعة أنّه مدون وشامل لأكثر ما يحتاج إليه النّاس، ففيها غناء عن غيرها في الغالب، وإلّا فهذا سلطان العلماء العزّ بن عبد السّلام الشّافعي الأصل الذي شهد له علماء عصره بالاجتهاد المطلق قد فضّل كتاب المحلّى لابن حزم، وكتاب المغني للشّيخ موفّق الدّين الحنبلي على جميع كتب الفقه، فهو
إذًا يعتدّ بمذهب ابن حزم الظّاهري، ولا يفضّل عليه أحد المذاهب الأربعة. وكتبه محمّد رشيد رضا.
2 الشّيخ الموفق، قال هذا في أئمة السّلف بجملتهم لا في الأربعة وحدهم منهم، وعبارته صريحة في ذلك خلافًا لما فهمه صاحب الإقناع وشرحه وكتبه محمّد رشيد رضا.
القاضي: ويجب تولية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدلّ كلام أحمد وغيره، فيولَّى للقدم أعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد في الفروع، وهو كما قال. انتهى كلام الإنصاف ملخّصًا.
وأما ما ذكرتم عن الأئمة وقول أبي حنيفة: إذا قلت قولًا وفي كتاب الله وسنة رسول الله ما يخالف قولي فاعملوا به، واتركوا قولي.
وقول الشّافعي: إذا صحّ الحديث على خلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط واعملوا بالحديث.
وكذا ما ذكرتم عن الأئمة رضي الله عنهم أنّهم صرّحوا بعرض أقوالهم على الكتاب والسّنة، فما خالف منها ردّ، وقد تقدّم في أصول أحمد أنّه إذا صحّ الحديث لم يقدّم عليه قول أحدٍ، فهذا قد تقرّر عندنا. ولله الحمد والمنّة.
وأمّا قولكم: إن مرادنا بقولنا: لا ننكر على أتباع الأئمة الأربعة، ولو أشركوا وابتدعوا، فنعوذ بالله من ذلك، بل ننكر الباطل، ونقبل الحقّ ممن جاء به، فإنّ كلّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلّا سيّد الأوّلين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
وأمّا قولكم: والمختار أنّ العمل بالحديث بحسب ما بدا لصاحب الفهم المستقيم، فننظر في صحّة الحديث، وإذا صحّ نظرنا في معناه ثانيًا، فإذا تبيّن فهو الحجة، انتهى كلامكم.
فهل أنتم مجتهدون أم تأخذون من أقوال المفسّرين، وشراح الحديث، وأتباع الأئمة الأربعة؟ فإن كان الثّاني فأخبرونا عن أكثر مَن تأخذون عنه وترضون قوله من علماء أهل السّنة، وفّقنا الله وإيّاكم إلى ما يرضيه. وجنّبنا وإيّاكم العمل بمعاصيه، وسَامَحَنَا وإيّاكم عند الوقوف بين يديه، وجعل أعمالنا مقبولةً لديه.
والله أعلم وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 20 -
ورد من محمّد الحفظي صاحب اليمن على نجد استفتاء عن ثلاث مسائل مشكلة، فأجاب عنها عبد الله بن الشّيخ بما يكفي ويشفي من الكتاب والسّنة وهذا نصّ الأسئلة:
بسم الله الرّحمن الرّحيم.
سؤال -أصلح الله العلماء-: بناء القباب هل يكون علامةً على الكفر بمجرّد البناء، وكيف حال أهل العصر الثّاني 1 عن أصل البناء؟ {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ، [الأنعام، من الآية: 164، والإسراء، من الآية: 15، وفاطر، من الآية: 18، والزّمر، من الآية: 7].
وكيف إذا كانت لم يذبح عندها البتة، ولم تتّخذ وثنًا يعبد أبدًا، وإنّما البناء عليها فقط عادة بدعية؟ فقد علم حديث أبي الهياج الأسدي عن علي، وهنا إشكال أنّ الصّحابة لم يكن في عصرهم تلك البنايات بدليل قبر عثمان بن مظعون، فهذه القبور التي أمر علي بتسويتها هل هي قديمة أو حديث قبر عثمان خاص 2، والمراد: السّؤال عن مجرّد البناء من غير حدوث عبادة يشرك بها الولي أبدًا، أو يتوسّل إليها أيضًا أفيدونا.
الثّاني: عن الحدود، هل يحلّ إقامتها لغير الإمام، وهل يحلّ لأطراف مَن أجاب دعوتكم إقامتها بجعله نفسه أميرًا من غير نصب منكم ونحو ذلك أم لا؟
الثّالث: عن حال مَن صدر منه ما يكون كفرًا من غير قصدٍ منه لذلك؛ بل هو جاهل به، هل يعذر أم لا سواء كان ذلك الشّيء قولًا أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو توسّلًا؟ وكيف لو مات قبل التّوبة، وقبل العلم بأنّه مكفِّر؟ أفتونا مأجورين.
وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
1 أي: الذي بعد عصر بنائها.
2 كذا في الأصل.
(أجوبة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ رحمهما الله):
بسم الله الرّحمن الرّحيم.
الحمد لله ربّ العالمين، وصّلى الله على خاتم النَّبيّين محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.
أمّا بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره؛ لأنّ الله أرسل محمّدًا صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان، ولو كانت على قبر رجلٍ صالحٍ؛ لأنّ اللات رجل صالح، فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية وعظموها، فلما أسلم أهل الطّائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهرًا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوهم الدّين فأبى ذلك عليهم، وأرسل معهم المغيرة بن شعبة، وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها.
قال العلماء: وفي هذا أوضح دليلٍ على أنّه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بُنيت على القبور، واتّخذت أوثانًا، ولا يومًا واحدًا، فإنّها شعائر الكفر، وقد ثبت أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن البناء على القبر وتجصيصه وتخليقه، والكتابة عليه. وقد قال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، [الحشر، من الآية: 7].
وأمّا قول السّائل: هل يكون علامة على كفر بانيها؟
فهذا يحتاج إلى تفصيلٍ؛ فإن كان الباني قد بلغه هدي الرّسول صلى الله عليه وسلم في هدم البناء عليها ونهيه عن ذلك، وعاند وعصى، أو منع مَن أراد هدمها من ذلك، فذلك من علامة الكفر، وأمّا مَن فعل ذلك جهلًا منه بما بعث الله به رسوله -صلوات الله وسلامه عليه- فهذا لا يكون علامة على كفره، وإنّما يكون علامة على جهله وبدعته وإعراضه عن البحث عما أمره الله به ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه- في القبور.
وأمّا حال أهل العصر الثّاني الذين لم يحضروا البناء، وإنّما فعله آباؤهم
ومتقدّموهم فالرّاضي بالمعصية كفاعلها، وفيها من التّفصيل ما تقدّم في البناء فافهم ذلك.
وهذا، إذا لم يذبح عندها، وتُعْبَد وتُدْعَى ويُرجَى منها جلب الفوائد، وكشف الشّدائد، فأمّا إذا فعل ذلك فهو الشّرك الذي قال الله فيه:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} ، [المائدة، من الآية: 72].
وأمّا الإشكال الذي ذكره السّائل في حديث عليّ في القبور التي أمره الرّسول صلى الله عليه وسلم بتسويتها، هل هي قديمة؟
فليس فيه إشكال بحمد الله؛ لأنّه محمول على القبور القديمة كقبور الجاهلية؛ لأنّ البناء على القبور وتعليتها من سنن الجاهلية، ولم يكن ذلك في عهد الصّحابة رضي الله عنهم.
وأمّا حديث قبر عثمان بن مظعون، فليس فيه معارضة لما ذكرنا؛ لأنّ المراد به: إعلام القبر بعلامةٍ يعرف بها؛ كحصاة ونحوها بلا تعلية، ولا بناء، وهذا لا بأس به عند أهل العلم، فحديث قبر عثمان فيه دليل على جواز ذلك لكلّ أحدٍ، وهذا ظاهر ولله الحمد والمنة.
وأمّا الجواب عن السّؤال الثّاني فالذي ذكر العلماء أنّ الإمام هو الذي يقيم الحدود، أو نائبه؛ كالأمير الذي يأمره الإمام على بلده، أو عشيرته. فإذا ثبت ذلك جاز له إقامة الحدود على الوجه المشروع الذي شرعه الله ورسوله، وبيّنه أهل العلم في كتبهم.
وأمّا إذا كان لا يعرف ذلك، وليس عنده مَن يعلمه بذلك، فلا يجوز له الإقدام على ذلك.
وأمّا إذا نصب نفسه أميرًا من غير نصبٍ من أمير المسلمين فلا يجوز له الإقدام عليه أيضًا. والله أعلم.
وأمّا الجواب عن السّؤال الثّالث عن حال مَن صدر منه كفر من غير
قصدٍ؛ بل هو جاهل، هل يعذر أم لا؟ سواء كان ذلك الشّيء قولًا، أو فعلًا، أو اعتقادًا، أو توسّلًا؟
فنقول: إذا فعل الإنسان الذي يؤمن بالله ورسوله ما يكون فعله كفرًا، أو قوله كفرًا، أو اعتقاده كفرًا جهلًا منه بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يكون عندنا كافرًا، ولا نحكم عليه بالكفر حتى تقوم الحجة الرّسالية التي يكفر من خالفها.
فإذا قامت عليه الحجّة، وبيّن له ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم، وأصرّ على فعل ذلك بعد قيام الحجّة، فهذا هو الذي يكفر؛ وذلك لأنّ الكفر إنّما يكون بمخالفة كتاب الله وسنة رسوله، وهذا مجمع عليه بين العلماء في الجملة، واستدلوا بقوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، [الإسراء: من الآية: 15].
واستدلّوا أيضًا بما ثبت في الصّحيحين والسّنن وغيرها من كتب الإسلام من حديث حذيفة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ رجلًا مِمَّن كان قبلكم قال: لبنيه إذا أنا منت فاحرقونِي ثم ذروا نصفي في البرّ ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبنِي عذابًا لا يعذّبه أحدًا من العالمين، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البرّ فجمع ما فيه، ثم قال له: كن فإذا الرّجل قائم، قال الله: ما حملك على ذلك؟ قال: خشيتك ومخافتك فما تلافاه أن رحمه".
فهذا الرّجل اعتقد أنّه إذا فعل به ذلك لا يقدر الله على بعثه جهلًا منه لا كفرًا، ولا عنادًا، فشكّ في قدرة الله على بعثه، ومع هذا غفر له ورحمه.
وكلّ مَن بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الجاهل يحتاج إلى مَن يعرّفه بذلك من أهل العلم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 21 -
بسم الله الرحمن الرحيم
فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت من الأخ سعيد بن حجي.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وخطك وصل وسألت أبوي عن المسائل التي ذكرت.
أمّا الرّجل الذي مات عندكم وهو فقير ساقط عنه الحج في حياته وعند موته حصل له ثمانية حمران من ناس يعلمهم القرآن، وقال اجعلوها لي في حجة وله ورثة، فنقول: تكون الحمران بين الورثة.
وأمّا الذي أوصى من ثلث ماله بحجّة في دراهم معلومة وهو ميّت قبل هذا الدّين وورثته فقراء هل تصرف عليهم أو يحجّ عنه؟
فنقول: إن وجدوا من يحجّ لوجه الله لا لأجل الدّراهم لكن يتعاون بها فهي على وصيته، وإن كان ما حصل أحد يحجّ عنه على هذا الوجه فهي تصرف على قرابته.
وأمّا الذي يوصي عند موته بعشاء لجيرانه فهل ترده على الورثة أو تصرفه في قرابة الميّت؟
فنقول: يصير على ما قال الموصي؛ لأنّه لم يخالف الشّرع.
وأمّا إذا مات الرّجل وهو غنِي ولم يحجّ ولم يوص بحجّة هل يؤخذ من المال ويحجّ عنه أم تسقط؟
فنقول: يؤخذ قدرها من ماله وينظر في قرابته مّن يحجّ لوجه الله ويعطى الدّارهم يستعين بها، وأنت بحفظ الله وأمانه. والسّلام.
- 22 -
بسم الله الرحمن الرحيم
فتاوى أخرى من الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد -رحمهما الله- عن هذه المسائل التي وردت من سعيد بن حجي:
الأولى: في البدو إذا كان معهم أهلهم ومالهم ويتّبعون المرعى حيث وجدوه ويتّبعون الماء من أرضٍ إلى أرضٍ، فهل هم مقيمون والحالة هذه أم يجوز لهم التّرخّص كالمسافر؟
فالجواب: إنّا لا نجعلهم كالمقيمين أبدًا، ولا مسافرين مطلقًا، بل هذا محلّ تفصيل، فأمّا إذا نزلوا منْزلًا ونووا استيطانه، ما دام المرعى فيه، أو نووا الإقامة فيه وقتًا دون وقتٍ أو نزلوا على ماء ونووا الإقامة عليه ما وجدوا لدوابهم مرعى أو نووا الإقامة على هذا الماء وقتًا دون وقتٍ، فهم والحالة هذه مقيمون تثبت لهم أحكام الإقامة، ولا يستبيحون رخص السّفر؛ لأنّ هذا هو الاستيطان في حقّ هؤلاء، والعرف يشهد بذلك.
وأمّا إذا ظعنوا في هذه المسائل وما أشبهها إلى منْزل آخر، أو من ماء إلى ماء، وما بين المنْزلين، أو المائين مسيرة يومين قاصدين فإنّهم حينئذٍ يكونون مسافرين؛ لأن هذا يُسَمَّى سفرًا في حقّ هؤلاء. وكلام صاحب الإقناع على سبيل التّمثيل لا الحصر. وقد ذكروا في الملّاح الذي معه أهله وليس له نيّة الإقامة ببلدانه ليس له التّرخص فيعتبر في السّفر المبيح كونه منقطعًا لا دائمًا، ولا بدّ مع ذلك من اجتماع أمرين: أن يكون البدوي معه أهله، وأن ينوي الإقامة في موضعٍ، فإن اختل شرط منهما أبيح له رخص السّفر،
فالبدوي بمنْزلة الملّاح في السّفينة، كما أنّ الملّاح لو نوى الإقامة وهو في سفينة في موضعٍ من البحر ثم سافر إلى موضع آخر لحمل متاع أو غيره حكمنا بأنّه مسافر، ولو كان أهله معه، وهذا هو الذي يظهر لنا، ونفهم من معنى كلام الله ورسوله؛ لأنّ الله تعالى يقول:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} ، [النّساء، من الآية: 101].
وقال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، [البقرة، من الآية: 184].
أطلق سبحانه وتعالى للمسافر قصر الصّلاة والفطر في رمضان، ولم يخصّ في ذلك القروي دون البدوي، ولا مَن معه أهله دون مَن ليس معه أهله، ولا نعلم فيما ذكرنا خلافًا بين أهل العلم.
المسألة الثّانية: إذا أعطى الوالد ولده عطية وقبضها ثم مات قبل الرّجوع والتّسوية هل للإخوة الذين لم يعطوا الرّجوع عليه بعد موت المعطي أم لا؟
الجواب: الذي عليه أكثر أهل العلم، وهو الرّاجح عند كثير من الحنابلة وغيرهم أنّها تثبت للمعطى ولا يرجع عليه الذين لم يعطوا شيئًا. ويكون الإثم على الوالد، وهذا هو الذي كان يفتي به شيخنا -رحمه الله تعالى-.
والقول الثّاني: أنّهم يرجعون على المعطى ويكونون فيها سواء، وهذا اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، وهو أقرب إلى ظواهر الأدلّة. والله أعلم.
الثّالثة: عندنا امرأة أعطت أولادها الذّكور عطية دون البنات بزعم البنات .. الخ وهل الأم كالأب في وجوب التّسوية؟
فالجواب: كلام الشّارع صلى الله عليه وسلم في وجوب التّسوية شامل للأم، فإن كانت المرأة تزعم أنّها معطية البنات مثل ما أعطت الأولاد، وأمكن صدقها فحسن، ولا تعرضوا لها بشيء، فإن ثبت عندكم بأمارة أنّها بارّة الأولاد
وقاطعة البنات لزمكم أن تلزموها مثل ما أعطت الأولاد، أو على قدر ميراثهم للذّكر مثل حظّ الأنثيين على ظاهر كلام أحمد وغيره من أهل العلم.
فإن ادّعت بغير ذلك وزعمت أنّها ما أعطتهم هذا العطاء الجزيل إلّا لأجل أنّ عندها لهم شيئًا أو غير ذلك من الأعذار التي يمكن معها صدقها، فإن كانوا قد خلصوا عند أخوي حسين أو غيره فلا تعرضوا لهم.
الرّابعة: إذا فضل الوالد في صحّته بإذن الذين لم يفضلوا بعض الأولاد هل يصحّ هذا أم لا؟
الجواب: الذي يظهر لي صحّة ذلك إذا أذنوا بطيب نفس ورضيها؛ لأنّ الحقّ لهم في ذلك كما أنّه لا يجوز الوصية بزيادة على الثّلث إلّا بإذن الورثة. والله أعلم.
الخامسة: هل المفتَى به عندكم التّفرقة بين المملوكة وولدها بعد البلوغ أم لا؟
الجواب: هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وأنا أذكر لك المسألة وكلامهم فيها حتى يتبيّن لك وجه الصّواب إن شاء الله تعالى.
قال في الشّرح الكبير: ولا يفرق في البيع بين ذي رحم محرم إلّا بعد البلوغ على إحدى الرّوايتين، وأجمع أهل العلم على أنّ التّفرقة بين الأم وولها الطّفل غير جائز، ثم ذكر الدّليل والتّعليل، ثم قال: ولا فرق بين أن يكون الولد بالغًا أو طفلًا في ظاهر كلام الخرقي وإحدى الرّوايتين؛ ولعموم الخبر؛ ولأنّ الوالدة تتضرّر بمفارقة ولدها الكبير، ولهذا حرم عليه الجهاد إلّا بإذنها.
قال في الإنصاف: وهو المذهب، وجزم به في المنور وناظم المفردات، وهو منها واختاره ابن عبدوس وقدمه في المحرر وغيرها.
قال الشّارح (والرّواية الثّانية) يختصّ تحريم التّفريق بالصّغير، وهو قول الأكثرين منهم: مالك، والأوزاعي، واللّيث، وأبو ثور، وهو قول الشّافعي؛ لأنّ سلمة بن الأكوع أتى بامرأة وابنتها فنفله أبو بكر ابنتها فاستوهبها منه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فوهبها له، ولم ينكر التّفريق بينهما. ولأنّ الأحرار يتفرّقون بعد الكبر فإنّ المرأة تزوّج ابنتها وتفارقها، فالعبيد أولى انتهى. قال في الإنصاف: الثّانية: يجوز التّفريق ويصحّ البيع جزم به في العمدة، والوجيز، قال النّاظم: وهو أولى انتهى.
وهذا الحديث الذي احتجوا به نصّ في جواز التّفرقة بينهما بالهبة بعد البلوغ والبيع مثله إن شاء الله تعالى. وهو حديث صحيح ثابت. رواه مسلم وغيره، وهو الأصح عندنا.
قال في الإنصاف: حكم التّفرقة في القسمة وغيرها كأخذه بجناية والهبة والوصية والصّدقة وغيرها حكم البيع على ما تقدّم، ولا يحرم التّفريق بالعتق ولا بالافتداء بالأسرى على الصّحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب. قال الخطابي: لا أعلمهم يختلفون في العتق؛ لأنّه لا يمنع من الحضانة.
السّادسة: هل الحكم يختصّ بالأم أم يعمّ ذلك كلّ ذي رحم محرم كالأب والأخ ونحوهما؟
الجواب: قال في الشّرح: ولا يجوز التّفريق بين الأب وولده، وبه قال أصحاب الرّأي، والشّافعي. وقال مالك واللّيث: يجوز. وبه قال: بعض الشّافعية؛ لأنّه ليس من أهل الحضانة بنفسه. ولأنّه لا نصّ فيه، ولا هو في معنى المنصوص؛ لأنّ الأم أشفق منه. ولنا أنّه أحد الأبوين أشبه الأم، ولا نسلم أنّه من أهل الحضانة. انتهى.
قال في الإنصاف: لا يجوز التّفريق بين ذوي محرم هذا المذهب، وعليه الأصحاب. قال في المغني: وتبعه في الشّرح. قاله
أصحابنا غير الخرقي. وجزم به في الفروع والرّعايتين والحاويين وغيرها، فيدخل في ذلك العمة مع ابن أخيها، والخالة مع ابن أختها. وظاهر كلام الخرقي اختصاص ذلك بالأبوين، والجدّين، والأخوين ونصّره في المغني، والشّرح. وظاهر كلام المصنّف تحريم التّفريق ولو رضي به، وهو صحيح نصّ عليه أحمد. انتهى.
واحتجّ في الشّرح على تحريم ذلك بين الأخوة بحديث عليّ في الغلامين الأخوين فلما باع أحدهما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ردّه ردّه". رواه التّرمذي وحسّنه.
وبما روي أنّ عمر كتب إلى عماله: لا تفرّقوا بين الأخوين ولا بين الأمّ وولدها، وإنّما يحرم التّفريق بينهم في الصّغر، وما بعده فيه الرّوايتان كالأصل. الأولى الجواز؛ لأنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أهديت له مارية وأختها سيرين، فأمسك مارية ووهب سيرين لحسان بن ثابت. والله أعلم.
الثامنة: عبد عتق وتحته أمّة الخ.
الجواب: الذي يظهر من كلامهم أنّه لا بأس باستدامة نكاح الأمة؛ لأنّهم نصّوا في الحرّ المسلم إذا وجد فيه الشّرطان المبيحان للنّكاح وهما: عدم وجود الطّول لنكاح الحرّة المسلمة وخوف العنت، فتزوج الأمة لذلك ثم أيسر وزال خوف العنت أنّه يجوز استدامة نكاح الأمة. قالوا: لأنّ الاستدامة ليست كابتداء النّكاح، قالوا: واستدامة النّكاح تخالف ابتداءه بدليل أنّ العدّة والرّدّة وأمن العنت يمنع ابتداءه دون استدامته. قالوا: وكذلك لا يبطل نكاح بتزوّج حرّة عليها على الأصحّ؛ لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه قال: إذا تزوّج الحرّة على الأمة قسم لها ليلتين، وللأمة ليلة، ثم رأيت بعض فقهاء الشّافعية صرح بذلك في المسألة التي تسأل عنها، فقال: والصّحيح أنّ العبد إذا أعتق وتحته أمة أنّه لا خيار له. قلت: وظاهر هذا
يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم.
يقتضي جواز استدامة العبد إذا عتق نكاح الأمة. والله أعلم.
التّاسعة: امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثًا وشهد معها أبوها والزّوج منكر.
الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين): وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلًا ظاهرًا جدّا على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصًا.
فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ رحمه الله يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة.
العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا.
فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف
امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثًا وشهد معها أبوها والزّوج منكر.
الجواب: قال ابن القيم في (إعلام الموقّعين): وفي حديث عمرو بن شعيب إذا شهد الشّاهد الواحد وحلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يحكم عليه، وإن لم يحلف حلفت المّرأة ويقضى عليه، وقد احتجّ الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب ففي هذا الحديث أنّه يقضي بشاهدٍ وما يقوم مقام شاهدٍ آخر من النّكول ويمين المرأة بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزّوج أنّه يطلق فيمين الزّوج عارضت شهادة الشّاهد وترجّح جانبه بكون الأصل معه، وأمّا إذ نكل الزّوج فإنّه يجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهدٍ آخر، ولكن هنا لم يقض بالشّاهد ويمين المرأة ابتداء؛ لأنّ الرّجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا؟ فإذا نكل كان ذلك دليلًا ظاهرًا جدّا على صدق المرأة فلم يقض بالنّكول وحده ولا يمين المرأة إنّما قضى بالشّاهد المقوّى بالنّكول ويمين المرأة. انتهى كلامه ملخّصًا.
فأنت تحكم بينهم بهذا الحكم. ويذكر لي محمّد بن سلطان أنّ والدي الشّيخ رحمه الله يقول هذا الذي نفتِي به إذا وقعت المسألة.
العاشرة: رجل وأخوه بينهما شركة في أرضٍ تصرف أحدهما في الأرض بزرع وبناء وادّعى أنّه اشتراها من أخيه ولكن الشّهود ماتوا.
فالجواب: الذي نفهم أنّ هذا على الأصل يلزم مدّعي الشّراء بيّنة، فإن لم يجد بيّنة حلف المنكر أنّه لم يبعها عليه، وأنّها في ملكه إلى الآن، فإذا حلف فهو على نصيبه من الأرض، وأمّا كونها في يد أحدهما ويتصرّف
فيها من قدر ثمان سنين فمثل هذا ما يصير بيّنة ولا يحكم باليد في مثل هذه الصورة؛ لكونه يدّعي أنّه اشتراها والآخرة منكر، ولم يدع أنّها ملكه لا حقّ للآخر فيها بل هو مقرّ بملك أخيه فيها لكنه يدّعي الشّراء، وهذا الذي تقرّر عندنا. والأخ حمد بن ناصر.
الحادية عشرة: رجل وقع على امرأته بعد ما تبيّن الفجر ووضح الصّبح وهو ناس لصومه.
الجواب: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال مشهورة، وهي روايات عن الإمام أحمد:
أحدهما: أنّ النّاسي كالعامد يقضي ويكفر وهو قول مالك والظّاهرية.
الثّاني: لا يكفر وليس عليه إلّا القضاء اختاره ابن بطة، وهو رواية عن مالك.
الثّالث: لا يقضي ولا يكفر، اختاره الآجري أبو محمّد الجوزي والشّيخ تقيّ الدّين، وهو مذهب أبي حنيفة والشّافعي. قال في شرح مسلم: وهو قول جمهور العلماء، وهذا القول هو الذي يترجّح عندنا.
الثّانية عشرة: ما قولكم في الوقف على مَن يقرأ للميّت بالإدارة، أو غيرها؟
فنقول: في فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جواب عن هذه المسألة بعينها، قال في الجواب: أمّا قراءة القرآن ففي وصوله للميّت نزاع إذا قرأ لله. فأمّا استئجار مَن يقرأ ويهدي إلى الميّت فهذا لم يستحبّه أحد من العلماء المشهورين، فإنّ المعطي لم يتصدّق لله لكن عاوضوا على القراءة والقارئ قرأ للعوض والاستئجار على نفس التّلاوة غير جائز، وإنّما النّزاع في الاستئجار على التّعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثّواب لا يصل إلى الميّت إلّا إذا كان العمل لله، وما وقع بالأجر فلا ثواب فيه.
وإن قيل: يصح الاستئجار عليه، وإذا تصدّق على مَن يقرأ القرآن ويتعلّمه كان له مثل أجر مَن
أعانه على القراءة من غير أن ينقص من أجورهم شيء. وينتفع الميّت بذلك، وإذا أوصى الميّت أن يصرف ماله في هذه الختمة وقصده التّقرب إلى الله فصرف في محاويج يقرؤون القرآن ختمة أو أكثر كان ذلك أفضل وأحسن.
الثالثة عشرة: هل يجوز تحمل الشّهادة وأداؤها بعد التّحمّل إن لم يعلم الشّاهد إلّا بعد التّحمّل أم لا؟
فالجواب: لا يجوز لقوله عليه السلام: "إنِّي لا أشهد على جور". والجور لا يجوز الشّهادة عليه، وأمّا قوله عليه السلام:"أشهد على هذا غيري"، فأجاب عنه بعض العلماء بأنّ هذا على سبيل الزّجر والرّدع، كقوله:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} ، [فصلت، من الآية: 40]، وقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} ، [الكهف، من الآية: 29].
الرابعة عشرة: هل يجوز الاعتمار من مكّة بعد طواف الإفاضة من التّنعيم؟
فالجواب: المسألة فيها خلاف بين العلماء، والذي عليه الأكثر جواز ذلك واستحبابه. واختار الشّيخ 1 وتلميذه ابن القيم أنّه لا يسنّ ولا يستحبّ؛ لأنّه لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه سوى عائشة، فإنّه أذن لها في ذلك تطييبًا لقلبها، ولو كان ذلك سنة لفعله الصّحابة وبادروا إليه وهم الأسوة والقدوة في الدّين.
الخامسة عشرة: وهي ما ذكر لك أنّ بعض العيال أفتى أنّ مَن لم يطف يوم العيد وأراد أن يطوف بعده فعليه أن يحرم بعد رمي جمرة العقبة والذّبح والحلق، فالذي أفتى به الأخ عليّ -عفا الله عنه- لحديث بلغه في ذلك، لكن
1 يعنِي: ابن تيمية، بدليل ذكر تلميذه، وخالف بهذا الإطلاق اصطلاح فقهاء الحنابلة بإطلاق لقب الشّيخ على ابن قدامة، ولكن إذا أطلق شيخ الإسلام انصرف إلى ابن تيمية.
ما لزم أحدًا فعله ونحن ما جسرنا على الفتيا به؛ لأجل أنّه خلاف أقوال العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم، وهو ما روته أم سلمة قالت كانت ليلى التي يصير إلَيَّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مساء يوم النّحر فصار إلي فدخل وهب بن زمعة ومعه رجل متقمصين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لوهب بن زمعة:"هل أفضت أبا عبد الله؟ "، قال: لا والله يا رسول الله. قال: "انزع عنك القميص". فنَزعه من رأسه ونزع صاحبه قميصه من رأسه، ثم قال: وَلِمَ يا رسول الله؟ قال: "إنّ هذا يوم رخص لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلّوا من كلّ ما أحرمتم منه إلّا النّساء، فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا صرتم حرمًا كهيئتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به". قال ابن جماعة: رواه أبو داود بإسنادٍ صحيحٍ. قال البيهقي: لا أعلم أحدًا من القدماء قال به. قال: النّووي فيكون الحديث منسوخًا دلّ الإجماع على نسخه. الله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 22 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان بن ناصر.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، خطّك وصل وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة كثرة السّؤال فالحرص على العلم ينفع الله به، ولا ينقد على الإنسان إلّا الغفلة عمّا أشكل عليه.
فأمّا المسألة الأولى وهي: قوله إن زرعت أرضي حبّا فهي بكذا كيلًا مسمّى، أو شعيرًا بكذا، أو قطنا بكذا، وزنًا معلومًا فهذه المسألة فيها
خلاف مشهور في القديم والحديث، والذي نعمل عليه من أقوال العلماء أنّ هذا لا بأس به إذا كان كيلًا معلومًا، أو وزنًا معلوما، أو جزأ مشاعًا معلومًا؛ كالثّلث، والرّبع ونحو ذلك. والله أعلم.
وأمّا قوله: إلّا أن يكره بحقّ كمَن يكره على بيع ماله لوفاء دينه فهذا لا بأس بالشّراء منه سواء رضي بذلك أو لم يرض.
وأمّا العمرى والرّقى ففيها خلاف مشهور، والأحاديث فيها متعارضة، والذي نختاره أنّه إذا شرط فيها الرّجوع رجعت إلى مالكها. والله أعلم.
وأمّا الفرق بين العطية والوصية فالفرق بينهما ظاهر كما ذكره في الشّرح أنّها تفارقها في أربعة أشياء.
وأمّا كون أهل بلدٍ لا يفرّقون بينهما فالألفاظ لا يعتبر بها فإذا كان عندهم أنّ الوصيّة بمعنى العطية والهبة فهي كذلك، وكذلك لفظ الصّدقة، فكلّ هذا ينظر إلى مقصود المتكلّم بذلك وعرفه في بلده. فإن كان مراده أنه ممضيها له في حياته وبعد موته صارت بمعنى العطية والهبة، وإن كان العرف عندهم أنّ مراده بذلك إن مات فهي بمعنى الوصية يثبت لها أحكامها. والله أعلم.
وأمّا التي ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، واعتدّت بسنةٍ ثم عاودها الدّم قبل مضي السّنة؛ فإنّها ترجع وتعتدّ بالحيض، ولا تحتسب بما تقدّم كالبكر إذا اعتدت بالأشهر ثم جاءتها الحيضة فإنّها تعتدّ بالإقراء. والله أعلم.
وأمّا إذا آجر إنسان أرضه لِمَن يزرعها قطنًا وشرط عليه أنّه لا أجرة له في السّنة الأولى، فإذا خرج عنها فالشّجر والثّمر لربّها عن أجرة أرضه. فالظّاهر أنّ مثل هذا لا يجوزه الفقهاء؛ لما فيه من الغرر، وإنّما تجوز الإجارة بشيء معلوم. والله أعلم.
وأمّا إذا احتاج أهل بلدٍ إلى أرض إنسانٍ يجعلونها مسجدًا فطلبوا من صاحب المال بيعها أو وقفها فأبى فالظّاهر أنّه لا يجبر. والله أعلم.
- 23 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخطّ وصلك الله إلى رضوانه.
وإن سألت عنا فنحمد إليك الله في خيرٍ وعافيةٍ وما ذكرت من المسائل:
فالأولى: شهادة المملوك هل تقبل في الحدود والقصاص والأموال أم لا؟
الجواب: أنّ الذي عليه جمهور العلماء أنّها تقبل في الأموال. قال في الإنصاف: شهادة العبد لا يخلو إما أن تكون في الحدود والقصاص أو في غيرهما، فإن كانت في غيرهما قبلت على الصّحيح من المذهب، وإن كانت في الحدود والقصاص قبلت أيضًا على الصّحيح من المذهب، نصّ عليه. انتهى.
قلت: واختار هذا القول جمع من الحنابلة وغيرهم منهم: الشّيخ تقيّ الدّين -رحمه الله تعالى-، قال في الاختيارات: ولا تشترط الحرية في الشّهادة، وهذا مذهب أحمد، وظاهر كلام أبي العباس، ولو في الحدود والقصاص، وهو رواية عن أحمد. انتهى.
قال بعضهم: لا أعلم أحدًا ردّ شهادة العبد، وهذا إن شاء الله هو الصّواب، لاسيما إذا كانت شهادته في الأموال والمراد بذلك إذا كان عدلًا قد تمت فيه شروط قبول الشّهادة. والله أعلم.
المسألة الثّانية: هل تكره الصّلاة على أحدٍ من أموات هذه الأمةّ غير الغالّ، وقاتل نفسه أم لا؟
وهل الكراهة للإمام فقط أم للكل؟
الجواب: أنّ الصّلاة تكره على غير الغالّ، وقاتل نفسه؛ مثل: المجاهر بالفسق والكبائر، فقد قال الشّيخ تقيّ الدّين: ينبغي لأهل العلم والدّين أن يدعوا الصّلاة عليه عقوبةً ونكالًا لأمثاله، لتركه صلى الله عليه وسلم الصّلاة على قاتل
نفسه، وعلى الغالّ، والمدين الذي لا وفاء له، وإن كان منافقًا كمَن علم نفاقه لم يصلّ عليه، ومَن لم يعلم نفاقه صلّي عليه، ومَن مات مظهرًا للفسق منع ما فيه من الإيمان كأهل الكبائر فلا بدّ أن يصلّي عليهم بعض النّاس، ومَن امتنع من الصّلاة على أحدٍ منهم زجرًا لأمثاله كان أحسن. ولو امتنع في الظّاهر ودعا له في الباطن ليجمع بين المصلحتين كان أولى من تفويت أحدهما. انتهى.
والمراد بكراهة الصّلاة على أهل الكبائر للإمام خاصّة، أو لأهل العلم والدّين المقتدى بهم. والله أعلم.
المسألة الثّالثة: جراح العبد إذا جني عليه الحرّ عمدًا فيما دون النّفس هل يجب فيه قصاص عند مَن يمنع القود به في النّفس أم ليس هنا إلّا القيمة في النّفس وما دونها؟
الجواب: قال في الإنصاف: كلّ مَن أقيد بغيره في النّفس أقيد به فيما دونها، ومَن لا فلا. يعني: ومَن لا يقاد بغيره في النّفس لا يقاد به فيما دونها. وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. كذا ذكره في أوّل باب ما يوجب القصاص، فيما دون النّفس، وقال في باب شروط القصاص: ولا يقتل حرّ بعبدٍ، وهذا المذهب، وعليه الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدّين: ليس في العبد نصوص صحيحة صريحة تمنع قتل الحر به، وقوّى أنّه يقتل به. وقال هذا الرّاجح، وأقوى على قول أحمد.
ثم قال: في الإنصاف: ولا يقتل مسلم بكافرٍ، ولا حرّ بعبدٍ إلّا أن يقتل وهو مثله، أو يجرحه ثم يسلم القاتل أو الجارح، أو يعتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به، يعني: إذا قتل عبد عبدًا، أو ذمي أو مرتدٌّ ذميا، أو جرحه ثم أسلم القاتل أو الجارح، أو عتق ويموت المجروح؛ فإنّه يقتل به على الصّحيح من المذهب. نصّ عليه، وعليه جماهير الأصحاب. انتهى.
المسألة الرّابعة: عمد المملوك إذا جنى على الحرّ ما حكمه؟
فجوابها يعرف من التي قبلها، وهو أنّه إن كان موجبًا للقصاص في النّفس أو فيما دونها فإنّه يقتصّ منه، وإن عفي عنه إلى الدّية فإنّها تكون في رقبة العبد دَين في ذمّته يباع فيها.
المسألة الخامسة: هل للإمام أو نائبه أو الحاكم أن يلزموا المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الأرش أم ليس لهم ذلك؟
وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلّا القصاص منه يوافق على أخذ القصاص منه أم العبرة بالمجني عليه؟
والجواب أنّه لا يجوز للإمام ولا لنائبه إلزام المجني عليه أن يأخذ القصاص من الجاني، ولو طلب الدّية إلّا في مسألة الغيلة؛ فإنّ مذهب مالك أنّه يقتل حدًّا، وأمره إلى الإمام، ولو عفا أولياء القتيل، وهو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين، لا يمكن التّحرز منه بالمحاربة، وكذلك قاتل الأئمة فإنّ القاضي خرج وجهًا في المذهب أنّه يقتل حدًا.
وقال السّائل: وهل إذا امتنع الجاني عن بذل الأرش إلّا القصاص منه يوافق على ذلك أم العبرة بالمجني عليه؟
فهذه المسألة مبنية على أصلٍ وهو أنّه هل الواجب بقتل العمد أحد شيئين: القصاص أو الدّية، أو أنّ الواجب في قتل العمد القصاص عينًا؟
وفي ذلك قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد. قال في الشّرح الكبير: اختلفت الرّوايات عن أحمد -رحمه الله تعالى- في موجب العمد فروي عنه أنّ موجبه القصاص عينًا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن قتل عمدًا فهو قود".
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، [البقرة، من الآية: 178]. والمكتوب لا يتخيّر فيه. ولأنّه متلف يجب به البدل فكان معينًا كسائر المتلفات. وبه قال النّخعي ومالك وأبو حنيفة. قالوا: ليس للأولياء إلّا القتل
إلّا أن يصطلحا على الدّيّة برضا الجاني.
والمشهور في المذهب أنّ الواجب أحد شيئين: إما القتل أو الدّية، والخيرة في ذلك إلى الولي إن شاء اقتصّ، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء قتل البعض إذا كان القاتلون جماعة؛ لأنّ كلّ مَن له قتله فله العفو عنه، كالمنفرد، ولا يسقط القصاص عن البعض بعفو عن البعض؛ لأنّهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، فمتى اختار الأولياء أخذ الدّية من القاتل أو من بعض القتلة، كان لهم هذا من غير رضا الجاني. وبه قال سعيد بن المسيب، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، والشّافعي، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر، وهي رواية عن مالك لقوله تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَان} ، [البقرة، من الآية: 178].
قال ابن عبّاس: كان في بني إسرائيل القصاص ولم يكن فيهم الدّية، فأنزل الله هذه الآية:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} ، [البقرة، من الآية: 178]. انتهى.
والعفو أن يقبل في العمد الدّية فاتّباع بالمعروف يتّبع بمعروف، ويؤدّي إليه المطلوب بإحسان، ذلك تخفيف من رّبكم ورحمة مما كتب على بني إسرائيل. رواه البخاري.
وروى أبو هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَن قتل له قتيل فهو بخير النّظرين: إمّا أن يؤدى، وإمّا أن يقاد". متّفق عليه.
وروى أبو شريح أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل، وأنا والله عاقله، فمَن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن أحبّوا قتلوا، وإن أحبّوا أخذوا الدّية". رواه أبو داود وغيره.
فإذا قلنا موجبه القصاص، فله العفو إلى الدّية، والعفو مطلقًا فإذا عفا مطلقًا لم يجب شيء. وهذا ظاهر مذهب الشّافعي، وقال بعضهم: تجب الدّية لئلا يبطل الدّم. وليس بشيء؛ فإنّه لو عفا عن الدّية بعد وجوبها صحّ عفو ومتى عفا عن القصاص مطلقًا إلى غير مالٍ لم يجب شيء إذا
قلنا الواجب القصاص عينًا. فإن عفا عن الدّية لم يصحّ عفوه؛ لأنّها لم تجب، وإن قلنا الواجب أحد شيئين لا بعينه، فعفا عن القصاص مطلقًا أو إلى الدّية وجبت الدّية؛ لأنّ الواجب غير معيّن، فإذا ترك أحدهما تعيّن الآخر. وإن اختار الدّية سقط القصاص، ولم يملك طلبه؛ لأنّ الواجب أحد شيئين، فإذا تعيّن أحدهما سقط الآخر. وإن اختار القصاص تعيّن لذلك، وإن اختار بعد ذلك العفو إلى الدّية فله ذلك. ذكره القاضي؛ لأنّ القصاص أعلى فكان له الانتقال إلى الأدنى، ويكون بدلًا عن القصاص، وليست التي وجبت بالقتل كما قلنا في الرّواية الأولى إنّ الواجب عينًا، وله العفو إلى الدّية. ويحتمل أنّه ليس له ذلك؛ لأنّه أسقطها باختياره القود فلم يعد إليها. وعنه أنّ الواجب القصاص عينًا وله العفو إلى الدّية، وإن سخط الجاني؛ لما ذكرنا. قال في الإنصاف: وهذا الصّحيح على هذه الرّواية. وقال في المحرّر: وعنه موجبه القود عينًا مع التّخيير بينهما. وعنه أنّ موجبه القود عينًا وأنّه ليس له العفو على الدّية بدون رضا الجاني فيكون قوده بحاله. انتهى.
والصّحيح إن شاء الله أنّ موجبه أحد شيئين: القصاص أو الدّية، وأنّ الخيرة في ذلك إلى الولي. والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 24 -
بسم الله الرحمن الرحيم
فتاوى للشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن أسئلة وردت عليه من سعيد بن حجي وهي هذه:
سألت -رحمك الله- عن مسائل:
الأولى: إذا أسلم رجل آخر في دراهم في تمر ثم صلحت الثّمرة فأخذ من التّمرة خرصًا على رءوس النّخل وتصرفه
فيه ببيع، أو نححوه هل يكون هذا قبضًا لدين السّلم أم لا؟
فإن قلتم قبضًا فما تفعل بقولهم يحصل القبض فيما بيع بالكيل أو الوزن بكيله أو وزنه؟ وذكروا الأدلّة على ذلك. ثم قالوا: وعن أحمد رواية أنّ قبض جميع الأشياء بالتّخلية.
فنقول: وبالله التّوفيق: يجوز أن يأخذ المسلم فيه جزافًا مثل أن يأخذ ثمرة من التّمر خرصًا على رؤوس النّخل أو في البيدر.
قال البخاري رحمه الله: باب إذا قاص أو جازف في الدّين فهو جائز تمر بتمر أو غيره ثم روى بإسناده عن جابر أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجل من اليهود فاستنظره جابر فأبى أن ينظر فكلم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّم اليهود ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى فدخل النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فمشى فيها ثم قال لجابر:"جذّه له فأوف له الذي له"، فجذه بعدما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوفاه ثلاثين وسقًا، وفضل له سبعة عشر وسقًا فجاء جابر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيخبره بالذي كان فوجده يصلّي العصر فلما انصرف أخبره بالفضل فقال:"أخبر بذلك ابن الخطاب"، فذهب جابر إلى عمر فأخبره، فقال: لقد علمت حين مشى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليباركن الله فيها. اهـ.
فترجمة البخاري والحديث الذي ذكره دالّ على جوازه، وهو اختيار شيخنا رحمه الله. وترجمة البخاري على حديث جابر ترجمة أخرى، فقال: باب إذا قضى دون حقّه وحلله فهو جائز. انتهى.
وباب الإيفاء عندهم أسع من باب البيع، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في البيع.
وأمّا كلام الفقهاء، فقال في المغني والشّرح: لا يقبض ما أسلم فيه كيلًا إلّا بالكيل، ولا وزنًا إلّا بالوزن، ولا بغير ما قدر به وقت العقد؛ لأنّ الكيل والوزن يختلفان، فإنّ قبضه بذلك أي قبض المكيل وزنًا والموزون كيلًا فهو كقبضه جزافًا. ومتى قبضه فإنّه يأخذ قدر حقّه
ويردّ الباقي ويطالب بالنّقص إن نقص.
وهل له أن يتصرف في قدر حقّ من قبل أن يعتبره؟ على وجهين انتهى.
فمعنى كلامهم أنّه إذا قبضه جزافًا لا بأس به لكن لا يتصرف ببيع أو نحوه حتى يعتبره بما قدر به. وهذا على الرّواية الأولى التي هي المذهب عندهم وقد عرفت أنّ الرّاجح الجواز.
المسألة الثّانية: إذا باع العامي دين السّلم قبل قبضه فمعلوم أنّه غير متناول هل يصحّ هذا البيع أم لا؟
فإن قلتم يصحّ، فما نصنع بقولهم في الشّرح: ولا يجوز مسلم فيه قبل قبضه بغير خلاف علمناه، وذكر الحديث في النّهي. وقال في الإنصاف: وعنه يجوز اختاره الشّيخ. انتهى.
فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز كما نصّ عليه في الشّرح، واستدلّ عليه في الحديث الصّحيح.
وأمّا الرّواية الثّانية التي اختارها الشّيخ فالمراد جواز بيعه من بائعه فقط مطلقًا، بدليل تعليل الشّيخ تقي الدّين بذلك. قال في الأنصاف: وفي المربع وغيره رواية بأنّه يصحّ، يعنِي: بيع المسلم فيه قبل قبضه اختاره الشّيخ تقي الدّين. وقال: هو قول ابن عبّاس، لكن يكون بقدر القيمة فقط؛ لئلا يربح فيما لم يضمن. قال: وكذا ذكره أحمد في بدل القرض. انتهى. وبدليل ما ذكره صاحب الإنصاف عند قول صاحب المقنع: ومَن اشترى مكيلًا أو موزونًا لم يجز بيعه حتّى يقبضه. هذا هو المذهب مطلقًا، وعليه الأصحاب، وعنه يجوز لبائعه. اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، وجوّز التّولية فيه والشّركة. انتهى.
فدلّ ذلك على أنّ المراد بيعه من بائعه. والصّحيح عندنا عدم جواز بيعه من بائعه وغيره حتّى يقبضه، فيكون بيع العامي المسؤول عنه باطلًا لمخالفته لحديث نهي عن بيع الطّعام قبل قبضه. والله أعلم.
ثم رأيت كلام الشّيخ في الاختيارات على عمومه كما ذكره صاحب الإنصاف في السلّم: فقال يصحّ بيع الدِّين في الذّمّة من الغريم وغيره، ولا فرق بين دين السّلم وغيره، وهو رواية عن أحمد، وقاله ابن عبّاس لكن بقدر القيمة لئلا يربح فيما لم يضمن. انتهى.
المسألة الثّالثة: قال في الكافي وغيره: وإن وكله في البيع وأطلق لم يملك البيع بأقلّ من ثمن المثل -إلى أن قال-: فإن باع بأقل من ثمن المثل وبأقل مما قدر له فنعه البيع، وعنه يصحّ ويضمن الوكيل النّقص ولا عبرة بما يتغابن به النّاس كدرهم من عشرة. وكذلك ذكروا إذا وكل في الشّراء وأطلق فما المفتَى به؟
فنقول: في الاختيارات قال في المحرر: وإذا اشترى الوكيل أو المضارب بأكثر من ثمن المثل، أو باع بدونه صحّ ولزمه النّقص في مسألة البيع. قال أبو العبّاس: وكذلك الشّريك والوصي والنّاظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك. قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرط.
وأمّا إذا احتاط في البيع والشّراء ثم ظهر غبن أو بيع لم يقصر فيه فهذا معذور يشبه خطأ الإمام أو الحاكم، ويشبه تصرفه قبل عمله بالعزل أبين من هذا النّاظر والوصي والإمام والقاضي إذا باع أو أجر أو زارع أو ضارب ثم تبيّن أنّه بدون القيمة بعد الاجتهاد، أو تصرف تصرفًا ثم تبيّن الخطأ فيه، مثل: أن يأمر بعمارة أو غرس ، نحو ذلك، ثم تبيّن أنّ المصلحة في خلافه. وهذا باب واسع، وكذلك المضارب والشّريك، فإنّ عامة مَن يتصرّف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة وحصول المفسدة، ولا لوم عليه ولا تضمين بمثل هذا. انتهى كلامه.
فقد عرفت أنّ اختيار الشّيخ عدم تضمينه إذا لم يفرط ومقتضى كلام الشّيخ القول المشهور في المذهب، وهو صحّة البيع وتضمين الوكيل
النّقص وشرط الشّيخ في ذلك إذا فرط وهو الأظهر عندنا.
وأمّا إذا فرط فحينئذٍ يتوجه القول بالبطلان وعدم انعقاد البيع، كما هو قول أهل العلم. والله أعلم.
المسألة الرّابعة: إذا علق الرّجل طلاق امرأته على شرطٍ وأراد إبطاله قبل وجود الشّرط برجعتها، أو قال: أبطلت ما علقت هل له ذلك أم لا؟
فنقول: قال في الإنصاف: إذا علق الطّلاق على شرطٍ لزم وليس له إبطاله. هذا المذهب، وعليه الأصحاب قاطبة وقطعوا به. وذكر في الانتصار والواضح رواية بجواز فسخ العتق المعلّق على شرطّ. قال في الفروع: ويتوجه ذلك في طلاقه. ذكره في باب التّدبير.
وقال الشّيخ تقيّ الدّين أيضًا: لو قال: إن أعطيتِنِي أو إذا أعطيتِنِي أو متى أعطيتِنِي ألفًا فأنتِ طالق، أنّ الشّرط ليس بلازمٍ من جهته؛ كالكتابة عنده. قال في الفروع: ووافق الشّيخ تقي الدّين على شرط محض؛ كإن قدم زيد فأنت طالق. قال الشّيخ تقي الدّين التّعليق الذي يقصد به إيقاع الجزاء إن كان معاوضة فهو معاوضة، فإن كانت لازمة فلازم، وإلّا فلا يلزم الخلع قبل القبول، وإلّا الكتابة، وقول مَن قال التّعليق لازم دعوى محررة. انتهى.
فتحرّر أنّ التّعليق على شرط قسمان:
أحدهما: تعليق محض بلا شرط معاوضة؛ كقوله: إن قدم زيد فأنتِ طالقٌ، أو إن دخلتِ الدّارَ فأنتِ طالق، أو إن خرجتِ فأنتِ طالق، فهذا ليس له إبطاله على قول الجماعة، ووافقهم الشّيخ تقيّ الدّين على ذلك وهو الصّواب.
القسم الثّاني: تعليق بشرط معاوضة؛ كقوله: إن أعطيتِنِي ألفًا فأنتِ طالق، أو متى أعطيتِنِي، أو إذا، فهذا تعليق بشرط معاوضة، وليس بلازمٍ من جهة الزّوج عند الشّيخ تقي الدّين.
وأمّا قولك -أيّدك الله بروحٍ منه-: هل له إبطال الشّرط برجعتها؟
فمعلوم أنّ الطّلاق لا يقع حتّى يوجد الشّرط فكيف يراجعها؟
وأمّا قولك: وهل الطلقتان والثّلاث في ذلك سواء؟
فهما سواء ولا فرق بينهما في ذلك بلا نزاع نعلمه.
الخامسة: إذا ذهب لرجلٍ دابة وحلى عليها بشيء وهي التي يسمّيها البدو الحلاوة والبلاسة، بأن يقول: مَن رأى أو أخبرنِي بدابتِي فله كذا، فأخبره، ولم يعمل شيئًا وإنّما هو مجرّد الخبر، هل يحلّ له ذلك للخبر أم لا؟ لأنّه من التّعاون على البر والتّقوى، وأخبر أخاك الخ، وهل يلزم ربّ الدّابّة ما قال؛ لأنّه من تمام الوعد أم لا؟ أم هي مسألة اجتهاد؛ لأنّها مصلحة لحفظ المال؟
فنقول: جزم الفقهاء بأنّ الجعل جائز؛ فلو التقطها مثلًا بعد أن يعلم بالجعالة لم يستحقّ الجعل، قال في الشّرح الكبير في باب الجعالة: هي أن يقول: مَن ردّ عبدي أو لقطتِي فله كذا، فإذا قال ذلك فمَن فعله بعد أن بلغه الجعل استحقّه لما ذكرنا من الآية، وحديث أبي سعيد، يعنِي قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} ، [يوسف، من الآية: 72]. وحديث أبِي سعيد في رقية اللّديغ.
قال: وإن فعل قبل ذلك لم يستحقّه، سواء ردّه قبل بلوغه الجعل أو بعد، إذا التقط لقطة قبل أن يبلغه الجعل لم يستحقّ الجعل؛ لأنّه؛ لأنّه التقطها بغير عوضٍ وعملٍ في مال غيره بغير جعلٍ فلم يستحقّ شيئًا كما لو التقطها ولم يجعل فيها ربّها شيئًا، وفارق الملتقط بعد بلوغ الجعل؛ فإنّه إنّما بذل منافعه بعوض جعله فاستحقّه؛ كالأجير إذا عمل بعد العقد، وسواء كان التقاطه لها بعد الجعل أو قبله لما ذكرناه. ولا يستحقّ أخذ الجعل بردّها؛ لأنّ الرّدّ واجب عليه من غير عوضٍ فلم يجز أخذ العوض عن الواجب؛ كسائر الواجبات، وسواء ردّها
قبل العلم بالجعل أو بعده؛ لذلك إن صحّ يأخذه الملتقط في موضع يجوز له أخذه عوضًا عن الالتقاط المباح. انتهى.
وقال في الفروع: فَمَن فعله بعد علمه استحقّه كدين، وإلّا حرم. نقل حنبل في اللّقطة إن وجدها بعد ما سمع النّداء فلا بأس أن يأخذ منه وإلّا ردّها ولا جعل له. انتهى.
فإذا تقرّر هذا فلا يخلو إمّا أن يجد الدّابّة قبل أن يسمع النّداء أو يبلغه، ويخبر فهذا صريح كلامهم أنّه لا يستحقّ جعلًا، وإن ردّها، فكيف إذا لم يعمل شيئًا، وإنّما هو مجرّد الخبر، وأمّا إن سمع النّداء أو الجعالة أنّ مَن ردّ دابتِي أو عبدي أو أخبرنِي بها فله كذا وكذا، ثم بحث عنها وسأل عنها في البوادي والبرية وغيرها حتى وجدها أو ردّها لصاحبها خبر؛ فإنّه يستحقّ الجعالة المذكورة. والله أعلم.
وفّقنا الله وإيّاك الحسن الفهم والعمل، وجنّبنا وإيّاك سوء الفهم والعمل.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 25 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وأدخله في سلك أهل ولايته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، فأمّا ما سألت عنه من قول صاحب الإقناع وشارحه في (باب التّعزير): وإن ظلم صبيًا أو بهيمة اقتصّ من الظّالم، هل يعمل بهذا أم لا؟
فنقول: اعلم قبل ذلك أنّ العلماء ذكروا أنّ التّعزير أصل عظيم من أصول الشّريعة المحمّدية الآتية بالحكم والمصالح والغايات المحمودة في المعاش والمعاد.
قال ابن عقيل رحمه الله في الفنون: للسّلطان سلوك السّياسة،
وهو الحزم عندنا، ولا تقف السّياسة على ما نطق به الشّرع إذ الخلفاء الرّاشدون قتلوا ومثّلوا وحرقوا المصاحف ونفى عمر نصر بن الحجاج، ولينل من عرضه مثل أن يقول له: يا ظالم، يا معتدي، وبإقامته من المجلس، والذين قدروا التّعزير من أصحابنا إنّما هو فيما إذا كان تعزيرًا عامًا من فعلٍ أو تركٍ. فإن كان تعزيرًا لأجل ترك ما هو فاعلٍ له فهو بمنْزلة قتل المرتدّ والحربي والباغي، وهنا تعزير ليس يقدر بل ينتهي إلى القتل كما في الصّائل الآخذ للمال يجوز أن يمنع مع الأخذ ولو بالقتل، وعلى هذا فإن كان المقصود دفع الفساد ولم يرتدع بل استمرّ على الفساد فهو كالصّائل الذي لا يندفع إلّا بالقتل فيتقل، ويمكن منه التّجسس، وقد ذكر شيئًا من هذا الحنفية والمالكية وإليه يرجع قول ابن عقيل: وهو أصل عظيم في صلاح النّاس، وكذا طلب الفعل فلا يزال يعاقب حتّى يفعل.
والتّعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنّه لم يختلف أصحابه في أنّ العقوبات في المال غير منسوخة كلّها، وهو قول الشّيخ أبي محمّد المقدسي، ولا يجوز أخذ ماله وهو المعزر فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظّلمة.
والتّعزير يكون على فعل المحرّمات وترك الواجبات، فمن جنس ترك الواجبات: من كتم ما يجب بيانه؛ كالبائع المدلِّس، والمؤجِّر، والنّاكح، وغيرهم من المعاملين، وكذا الشّاهد، والمخبِر، والمفتِي والحاكم، ونحوهم، فإنّ كتمان الحقّ شبيه بالكذب، وينبغي أن يكون سببًا للضّمان، كما أنّ الكذب سبب للضّمان.
قال: ترك الواجبات عندنا في الضّمان كترك المحرّمات
حتّى قلنا فيمَن قدر على إنجاء شخصٍ بإطعامٍ أو سقي فلم يفعل فمات ضمنه، وعلى هذا فلو كتم شهادة أبطل بها حقّ مسلمٍ ضمنه، ومن هذا الباب لو كان في القرية أو المحلّة أو البلدة رجل ظالم فسأل الوالي الغريم عن مكانه ليأخذه منه الحقّ فإنّه يجب دلالته بخلاف ما لو كان قصده أكثر من الحقّ. فعلى هذا إذا كتموا ذلك حتّى تلف الحقّ ضمنوه، ويملك السّلطان تعزير مَن ثبت عنده أنّه كتم الخبر الواجب كما يملك تعزير المقرّ إقرارًا مجهولًا حتّى يفسره، ومَن كتم الإقرار، وقد يكون التّعزير بترك المستحبّ كما يعزّر العاطس الذي لم يجهر بترك تشميته.
إذا عرفت هذا، فلنرجع إلى جواب المسألة المسؤول عنها، وهي: ما إذا ظلم صبي صبيًّا، أو بهيمة بهيمةً اقتصّ للمظلوم إلى آخره.
فنقول: يعمل بذلك؛ لأنّ ذلك في الغالب لا يخلو عن ردع للظّالم، وإن لم يكن مكلّفًا. قال الشّيخ تقيّ الدّين: لا نزاع بين العلماء أنّ غير المكلَّف كالصّبي المميّز يعاقب على الفاحشة تعزيرًا بليغًا، وكذلك المجنون يضرب على ما فعل لينْزجر لكن لا عقوبة بقتل أو قطع.
قال في الفروع: قال في الواضح: من شرع في عشر صلح تأديبه في تعزير على طهارة وصلاة، وكذا في زنا، وهو معنى كلام القاضي، وذكر ما نقله الشّالنجي في الغلمان يتمردون لا بأس في ضربهم، وظاهر ما ذكره الشّيخ عن القاضي، يجب ضربه على صلاة. قال الشّيخ لِمَن أوجبها هو تأديب وتعويد على خط وقراءة وصناعة وشبهها، وكذا قال صاحب المحرّر كتأديبه اليتيم والمجنون والدّواب؛ فإنّه شرع لا لترك واجب. وظاهر كلامهم في تأديبه في الإجارة والدّيات أنّه جائز في الإجارة.
فأمّا القصاص مثل أن يظلم صبي صبيًّا أو مجنون مجنونًا أو بهيمة بهيمة، فيقتصّ للمظلوم من الظّالم، وإن
لم يكن في ذلك زجر عن المستقبل. لكن لاستيفاء للمظلوم، وأخذ حقّه يتوجّه أن يقال بفعل ذلك، ولا يخلو عن ردع وزجر في المستقبل ففعله لأجل الزّجر وإلّا لم يشرع لعدم الأثرية والفائدة في الدّنيا.
وأمّا في الآخر فالله تعالى يتولّى ذلك للعدل بين خلقه فلا يلزم منه فعلنا نحن كما قال ابن حامد: القصاص بين البهائم والشّجر والعيدان جائز شرعًا، بإيقاع مثل ما كان في الدّنيا. وكما قال أبو محمّد البربهاري في القصاص في الْحَجَر التي نالت إصبع الرّجل، وهذا ظاهر كلامهم السّابق في التّعزير أو صريحه فيما لا يميّز.
وقال شيخنا: القصاص موافق للشّريعة واحتجّ بثبوته في الأموال وبوجوب دية الخطأ، وبقتال البغاة المفغور لهم. قال: فتبيّن بذلك أنّ الظّلم والعدوان يؤدّي في حقّ المظلوم مع عدم التّكليف؛ فإنّه من العدل وحرَّم الله الظّلمَ على نفسه، وجعله محرمًا بين عباده. كذا قال. وبتقديره فإنّما يدلّ على الآدميين. انتهى كلام صاحب الفروع. وقد عرفتَ أنّه قول كثير من العلماء.
فأمّا الصّبيان فمعلوم أنّ ذلك زجر لهم في المستقبل إذا اقتصّ لبعضهم من بعضٍ، والذي نرى أنّ الذي يقتصّ لهم الأمير أوالقاضي إلّا إذا لم يَخْفَ من تعدّي الصّبِيّ في اقتصاصه لنفسه؛ لأنّه أشفى لنفسه.
وأمّا البهيمة فيقتصّ لها مالكها، ومعلوم أنّ بعض البهائم يتأدّب إذا أدّب. والله أعلم بالصّواب.
المسألة الثّانية: إذا وجد مع امرأته رجلًا من غير زنا بها أنّه يضرب مائة سوطٍ كما في رواية يعقوب، واحتجّ بفعل عليّ رضي الله عنه، فذكر هذه المسألة في الإنصاف، وذكر أنّه يعزّر بذلك. انتهى.
والتّعزير يرجع
إلى اجتهاد الإمام، لكن الذي نختاره أنّه يعزّر بذلك اتباعًا للخليفة الرّاشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
المسألة الثّالثة: إن أرى الإمام العفو عنه جاز، فقد قال في المبدع: معناه من الشّرح ما كان من التّعزير منصوصًا عليه كوطء جارية امرأته أو الجارية المشتركة فيجب امتثال الأمر فيه، وما لم يكن، إن رأى الإمام المصلحة فيه وجب كالحدّ، وإن رأى العفو جاز للأخبار إلى آخر الكلام.
فنقول: اعلم أنّ في وجوب التّعزير وعدمه روايتين في مذهب أحمد:
إحداهما: الوجوب مطلقًا. وهي المذهب، وعليه الأصحاب. وهو من مفردات المذهب. ومال إلى وجوبه الشّيخ تقيّ الدّين، وعنه مندوب نصّ عليه في تعزير رقيقه على معصيته وشاهد الزّور. قال في المغني والشّرح: إن كان التّعزير منصوصًا عليه كوطء جارية امرأته أو المشتركة وجب، وإن كان غير منصوص عليه وجب إذا رأى المصلحة فيه أو علم أنّه لا ينْزجر إلّا به، وإن رأى العفو عنه جاز. انتهى.
قلت: ومراده إذا كان في العفو عنه مصلحة، قال في الكافي: يجب التّعزير في الموضعين الذين ورد فيهما الخبر إلّا إن جاء تائبًا فله تركه. انتهى.
قلت: ومراده بالموضعين: إذا وطئ أمة امرأته مع تحليلها له أو الأمة المشتركة وهو معنى كلام صاحب المبدع الذي ذكرته في السّؤال، وليس في ذلك معارضة لما تقدم من كلامهم؛ لأنّه إذا جاء تائبًا نادمًا جاز ترك تعزيره، كما روي في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، [هود، من الآية: 114]، أنّ رجلًا أصاب من امرأة قبلة وفعل بها كلّ شيء إلّا الجماع ثم جاء تائبًا، وذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} الآية.
فقال الرّجل: ألي ذلك يا رسول الله أم لجميع النّاس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل لجميع أمتّي". رواه الأئمة من طرق مختلفة.
قال المجد: فإن جاء من يستوجب التّعزير تائبًا لم يعزّر عندي. انتهى. قال في الرّعاية: إن تشاتم اثنان عزرا، ويحتمل عدمه. قال في الفروع: فدلّ على أنّ ما رآه يتعيّن فلا يبطله غيره وأنّه يتعيّن قدر تعزيره خلافًا لمالك. انتهى.
قلت: يعنِي: إذا عين الإمام التّعزير للمصلحة فلا يجوز لغيره إبطاله، وأنّه يتعيّن قدر تعزير عينه الإمام. قال في الإنصاف: ويجب إذا طالب الآدمي بحقّه. قال: في الفروع وفي المغني في قذف صغيرة: لا يحتاج في التّعزير إلى مطالبة؛ لأنّه مشرع لتأديبه فللإمام تعزيره إذا رآه. ويؤيّده نصّه فيمَن سبّ صحابيًّا يجب على السّلطان تأديبه ولم يقيّده بطلبٍ أو إرث مع أنّ أكثرهم أو كثيرًا منهم له وراث، وقد نصّ في مواضع على التّعزير ولم يقيّده وهو ظاهر كلام الأصحاب.
ويأتي في أوّل آداب القاضي إذا افتات خصم على الحاكم له تعزيره مع أنّه لا يحكم لنفسه إجماعًا، فدلّ على أنّه ليس كحقّ الآدمي المفتقر جواز إقامته إلى طلب. ولهذا أجاب في المغني عن قول الأنصاري للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الزّبير: أن كان ابن عمّتك، وأنّه لم يعزّره وعن قول الرّجل: إنّ هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، بأنّ للإمام العفو عنه. وفي البخاري أنّ عيينة بن حصن لما أغضب عمر هَمَّ به فتلا عليه الحر بن قيس {خُذِ الْعَفْوَ} الآية [الأعراف، من الآية: 199]، قاله في شرح مسلم في قول عائشة رضي الله عنها ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلّا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله. أنّه يستحبّ لولاة الأمور التّخلق بهذا، فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حقّ الله. انتهى كلام صاحب الفروع.
فعلم مِمّا تقدم أنّ الأمير أو الحاكم إذا رأى التّعزير في المعصية جاز له ذلك، وإن كان لحقّ آدمي، ولا يفتقر جوازه إلى طلب صاحب الحقّ؛ لأنّ ذلك من باب إنكار منكرٍ وإزالة الظّلم الذي يتعلّق بالأئمة والأمراء. والله أعلم.
المسألة الرّابعة: من نائب الإمام؟
فالمعروف عندنا أنّ نائب الإمام الأمير والقاضي جميعًا. والله أعلم.
المسألة الخامسة: هل يجوز إخراج العروض بقيمتها كالثّياب ونحوها عن زكاة النّقدين، وعن زكاة الثّمار، والحبوب؟
فقد أجبناك عنها قبل ذلك، وأطلنا الكلام، وذكرنا اختلاف العلماء، وأنّ البخاري ترجم لجواز ذلك في صحيحه، وذكر الآثار والأحاديث الدّالّة على هذه المسألة، فراجعه يتبيّن لك الصّواب إن شاء الله. والسّلام. والحمد لله ربّ العالمين. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه أجمعين.
- 26 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد حفظه الله تعالى)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد؛
سألتَ -وفّقنا الله وإيّاك- عَمَّن قال لزوجته: أنتِ طالق بالثّلاث، ويحلف أنّه قاصد أصابعه الثّلاث.
الجواب: هذا المقصد مشكل مع أنّه بعيد، وهذا يشبه ما قاله شيخ الإسلام أنّ النَّيّة إن أسقطت شيئًا من الطّلاق لم يقبل مثل قوله: أنتِ طالق ثلاثًا، وقال: نويت واحدة، فإنّه لا يقبل روايةً واحدةً. وإن لم تسقط من الطّلاق وإنّما عدل به من حالٍ إلى حالٍ، مثل: أن ينوي من
وثاق وعقال ودخول الدّار إلى سنة ونحو ذلك، فهذا على روايتين:
إحداها: يقبل. قال في شرح المنتهى إلّا أن تكذبه قرينة من غضب أو سؤالها الطّلاق، والمقدَّم في المذهب أنّه يدين ولا يقبل في الحكم.
وأمّا مَن قال لامرأته: إن كان كذا ما جرى فأنتِ فسخ.
فالجواب: هذا تعليق، وذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في كتاب الخلع ما يفيد أنّه كناية إذا نوى به الطّلاق صار طلاقًا، وصرح به في الاختيارات، فقال: ولا يقع الطّلاق بالكناية إلّا بنية، إلّا مع قرينة إرادة الطّلاق، كما إذا قرن الكناية بلفظٍ يدلّ على الطّلاق مثل أن يقول: فسخت النّكاح، وقطعت الزّوجية، ورفعت العلاقة بينِي وبين زوجتِي. انتهى. وبه يتمّ الجواب.
وأمّا الحلف بالطّلاق للمختلعة فيبنَى على صحّة الخلع وعدمها، فإن كان غير صحيحٍ كما إذا ضارها الزّوج لتفتدي منه فالخلع غير صحيحٍ، فإذا كان بلفظ الطّلاق أو نيّته مع اللّفظ الصّريح للخلع لحقها الطّلاق، فإن كان بفظ الخلع من غير نيّة الطّلاق فالزّوجة بحالها ويقع الطّلاق أيضًا.
وأمّا إذا وقع الخلع صحيحًا فلا يلحقها الطّلاق على المختار عند الأصحاب. وهذا مذهب أحمد رحمه الله، وقول ابن عبّاس، وابن الزّبير وجمعٍ من التّابعين، وبه يقول مالك والشّافعي. وحكي عن أبي حنيفة أنّه يلحقها الطّلاق الصّريح دون الكناية. وروي عن سعيد بن المسّيب وجماعة لما روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"المختلعة يلحقها الطّلاق ما دامت في العدّة"، ولم يمكن آخر هذا اليوم كشف بحر 1 الحديث وسنده، وإن صحّ فهو الحجّة. والله أعلم.
1 كذا، ولعلّه نصّ الحديث.
- 27 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، ونبشّرك نحن طيّبون -ولله الحمد- ولا نستنكر شيئًا، كذلك سعود وعياله وآل الشّيخ من حيث الجملة. وما أشرت إليه من العذر عن الجيد فأنت معذور، وأرجو أنّ الله يعيننا وإيّاك ويرزقك العلم والعمل والمعونة، والعبد ما له طاقة على شيء من الأشياء إلّا بإعانة الله، وأكثر الدّعاء بما أمر الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم حيث قال:{وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ، [الإسراء: 80]. قال قتادة في تفسير الآية: علّم نَبِيّ الله أنّه لا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطان من الله نسأل الله سلطانًا نصيرًا. وما أشرت إليه من المسائل:
فالأولى: على القول بأنّ الرّاعي لا ضمان عليه، هل هو لكلّ راعٍ سواء رعى جماعة أو هو مختصّ بمنفعة واحدٍ؟
فالظّاهر من كلام أهل العلم أنّ الرّاعي لا ضمان عليه إلّا بالتّعدّي والتّفريط سواء كان لجماعة أو لشخص معيَّن، ولا أعلم في ذلك خلافًا.
والثّانية: في الجائفة والمأمومة عمدًا هلها تحمل العاقلة لعدم إمكان استيفاء القصاص؟
فالذي ذكر أهل العلم أنّ العاقلة لا تحمل إلّا الخطأ في الجائفة وما فوقها، وأمّا ما دون الجائفة في الخطأ، ففيه خلاف بين العلماء والذي يفتى به عندنا أنّها لا تحمل ما دون الثّلث، وإنّما تحمل الثّلث
فأكثر في الخطأ خاصة، فدية الجائفة والمأمومة على الجاني خاصّة في العمد، والظّاهر أنّها ليست بمنجمة كالدّية بل هي حالّة.
والثّالثة: تحمل الشّهادة ما يشترط لها عند أهل العلم من الشّروط؟
فالذي ذكر في الإنصاف أنّها تقبل الشّهادة على الشّهادة فيما يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي وترد فيما يرد فيه، ولا تقبل إلّا أن يتعذر شهود الأصل بموتٍ أو مرضٍ أو غيبةٍ إلى مسافة القصر. وذكر أيضًا أنّه لا يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلّا أن يستدعيه شاهد الأصل، فيقول: أشهد على شهادتِي أنِّي أشهد على فلان بن فلان وقد عرفته باسمه وعينه ونسبه، أقرّ عندي وأشهدنِي على نفسه طوعًا بكذا أو شهدت عليه أو أقرّ عندي بكذا، وذكر ابن عقيل رواية يجوز أن يشهد سواء استدعاه أو لا، وقدمه في التّبصرة وهذه الرّواية هي الصّواب إن شاء الله تعالى.
والرّابعة: أرش العيب إذا قدرت السّلعة بما ينقصها هل تقوم بالثّمن الذي اشتريت به سليمة فما نقص عنه بالعيب رجع به المشتري أم لا عبرة بالثّمن، وإنّما تقوم أنّها تسوي صحيحة كذا، وما نقص عنه بالعيب طاح قدره من الثّمن؟
فالذي ذكره العلماء أنّها تقوم بالثّمن الذي اشتريت به. قال في الإقناع: والأرش قسط ما بين قيمة الصّحيح والمعيب، فيرجع بنسبته من ثمنه فيقوم المعيب صحيحًا ثم يقوم معيبًا، فإذا كان الثّمن مثلًا مائة وخمسين فيقوم المعيب صحيحًا بمائة ومعيبًا بتسعين فالعيب نقص عشرة نسبتها إلى قيمته صحيحًا عشرة فينسب ذلك إلى المائة والخمسين تجده خمسة عشر، وهو الواجب للمشتري. هذا على القول بأنّه مخيّر يبن الرّدّ وأخذ الأرش مع الإمساك.
وأمّا على المفتَى به عندنا، وهو الرّواية الأخرى
عن أحمد واختيار الشّيخ تقيّ الدّين أنّ المشتري إذا وجد بها عيبًا لم يعلمه فليس له إلّا الإمساك بلا أرش أو الرّدّ.
والخامسة: الشّفعة هل تثبت بالشّركة في البئر والطّريق ومسير الماء؟
فالمفتّى به عندنا أنّها تثبت بذلك، كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من العلماء. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
- 28 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وما ذكرت من جهة المسألة التي أشكلت عليك؛ وهي: أنّ أهل بلدكم يجعلون للأجير الذي يسقي الزّرع جزءًا منه مشاعًا، وأنّك نهيتهم عن ذلك؛ لأنّك وقفت على كلامٍ لبعض أهل العلم في اشتراط معرفة الأجرة، فإن كانت مجهولة لم يصحّ.
فاعلم أنّ الذي يظهر من كلام أهل العلم أنّ مثل هذه المسألة لا بأس بها، ويكون ذلك من باب المشاركة لا من باب الإجارة، كما إذا دفع أرضه لِمَن يزرعها بجزء مشاعٍ من الزّرع، أو نخله لِمَن يقوم عليه ويصلحه بجزء من ثمره، أو ثوبه إلى مَن يخيطه، أو غزلًا إلى مَن ينسجه بجزء منه مشاع فقد نصّوا على أنّ مثل هذا جائز. وكذلك إذا دفع ثوبه إلى مَن يخيطه أو غزلًا إلى مَن ينسجه بجزءٍ من ربحه فإنّ هذا جائز.
قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله مضانًا ليبيعها له وله نصف ربحها بحقّ عمله جاز، نصّ عليه في رواية حرب، وإن دفع غزلًا إلى رجلٍ ينسجه ثوبًا بثلث
ثمنه أو ربعه جاز، نصّ عليه. وهذه المسائل أبلغ في الجهالة والغرر من مسألتكم، فمسألتكم أولى بالجواز. والجهالة في مثل هذه المسائل مغتفرة كما اغتفرت في المزارعة والمساقاة التي ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوازها وهي في الحقيقة أجرة للأرض.
- 29 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
فإن سألت عنا فنحن -ولله الحمد- طيّبون، كذلك العيال وآل الشّيخ طيّبون جميعًا، ولله الحمد، والخط وصل، وما ذكرت فيه من المسائل:
فالمسألة الأولى: فيمَن سرق مال الغير أو غصبه إلى آخر.
فالجواب: أنّ الفقهاء قد ذكروا هذه المسألة وذكروا أنّ المغصوب منه يأخذ عين ماله أينما وجده سواء كان من الغاصب أو المشتري أو المنتهب، ويرجع المشتري على الغاصب أو السّارق بالثّمن ولا فرق في ذلك بين أن يكون الغاصب غنيًّا أو فقيرًا.
والمسألة الثّانية: إذا وقف إنسان قدرًا أو رحى هل ذلك وقف عام ينتفع به كالمساجد والمقبرة أم لا؟
فالجواب: أنّ ذلك يرجع إلى شرط الواقف، فإن قال ذلك وأطلق كان ذلك وقفًا عامًا ينتفع به، وإن قيّد ذلك على شخصٍ أو جهةٍ تقيد به.
والمسألة الثّالثة: إذا اشترى إنسان من آخر طعامًا ووكّل البائع على كيله ولم يحضره الخ؟
فالجواب: أنّ ذلك صحيح إذ لا مانع منه وقد نصّ على ذلك الفقهاء في (باب الوكالة)، ولا يدخل ذلك في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه؛ لأنّ هذا قبض صحيح؛ لأنّ قبض وكيله كقبضه. وهذه وكالة صحيحة، ولا يقدح في ذلك كون الوكيل يتولّى طرفي العقد.
والمسألة الرّابعة: فيمَن قال: عليَّ الطّلاق لأفعلن كذا، ثم حنث وله زوجة ما الحكم؟
فالجواب: أنّ هذه المسألة، الخلاف فيها مشهور بين السّلف والخلف، وفيها روايتان عن أحمد:
إحداهما: تطلق ثلاثًا، صحّحه في التّصحيح. قال في الرّوضة: هو قول جمهور أصحابنا؛ لأنّ الألف واللام للاستغراق، فتقتضي استغراق الكلّ وهو ثلاث.
والرّواية الثّانية: لا تطلق إلّا واحدة، وهو المذهب؛ لأنّه يحتمل أن تعود الألف واللام إلى معهود يريد الطّلاق الذي أوقعته.
قال الموفّق: والأشبه في هذا جميعًا أن يكون واحدةً في حال الإطلاق؛ لأنّ أهل العرف لا يعتقدونه ثلاثًا، ولهذا ينكر أحدهم أن يكون طلق ثلاثًا، ولا يعتقد إلّا أنّه طلق واحدة. انتهى.
وإنّما الرّوايتان عن أحمد، إذا قال ذلك وأطلق ولم ينو شيئًا، فإن نوى ثلاثًا فإنّه يقع به ثلاث طلقات. وأمّا الشّيخ تقيّ الدّين فإنّه فرّق بين أن يقصد الحالف إيقاع الطّلاق أو لا يقصد، فإن كان يكره وقوع الجزاء ولكنه علقه على شرط ليحثّ نفسه على فعل شيءٍ أو تركه، فهذا يكون عنده من باب الأيمان، وتكون كفارته كفارة يمينٍ، وإن كان يقصد إيقاع الطّلاق ولا يكره وقوع الجزاء فهذا إذا وقع الجزاء وقع عليه الطّلاق.
- 30 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وما ذكرت من العذر من عدم المواجهة في سفر الحجّ فأنت معذور لسبب كثرة الأشغال علينا وعليكم.
والمسائل التي وصلتنا قبل الحجّ سافرت بها معي؛ لأنِّي أبغي أن أجاوب عنها، والله أعلم أنّها ضاعت منِّي. وأمّا المسائل الأخيرة:
فالمسألة الأولى: هل يجوز بيع الذّهب والفضّة بعرض كالجدد وغيرها نسيئة؟
فالجواب: أنّ ذلك لا يجوز إذا كان العرض جددًا؛ لأنّها بمنْزلة الأثمان، إذا اختلفت أجناسها يجوز بيع بعضها ببعض ولا يجوز نسيئة.
وأمّا العروض التي ليست بأثمان فلا بأس بذلك، ولا أعلم في هذه المسألة نزاعًا بين العلماء.
والثّانية: قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "أنّهاكم عن الدبا والحنتم" الخ.
يذكر أهل العلم في شرحه أنّه نهاهم عن الانتباذ في هذه الأوعية؛ لأنّها أوعية حارّة فيشربون منها المسكر ولا يشعرون بذلك. وورد في حديثٍ صحيحٍ أنّه أرخص فيه بعد ذلك، وقال:"لا تشربوا مسكرًا".
والثّالثة: إذا كان عند إنسانٍ تمر أو حبّ وحار في يده لأجل رخصه، وأراد أن يسلفه إنسانًا إلى الثّمرة المقبلة؛ لأجل منفعة الثّمر المقبل، فهذا لا يجوز؛ لأنّه قرض يجرّ نفعًا إليه، وكلّ قرضٍ يجرّ منفعة فهو ربا.
والرّابعة: فيمَن أسلم إلى رجلٍ دراهم بتمرٍ أو حبٍّ فلما حلّ الأجل وخاف صاحب السّلم أنّ التّمر الذي أسلم فيه لا يساوي رأس ماله. وقال صاحبه: ما أبغى إلّا رأس مالي إلى أجل ولولا الأجل ما رضي صاحب الدَّين.
فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم، والأحسن الأحوط تركها.
- 31 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه. وأنا ولله الحمد طيّب، كذلك عيالنا وآل الشّيخ. وما ذكرت من المسائل:
فالأولى: إذا أفسدت دابّة إنسانٍ باللّيل ملك الغير ما كيفية الضّمان؟
فالجواب: أنّ صفة التّقويم في الزّرع الأخضر ونحوه أن ينظر أهل المعرفة ما نقص الزّرع من الثّمن فيغرم له قيمة ذلك النّاقص. هذا هو الذي يظهر من كلام الفقهاء.
الثّانية: رجلان اشتركا بأموالهما من عقارٍ وأصولٍ وعروضٍ وأثمانٍ وغيرها، هل هذه شركة صحيحة أو فاسدة؟
فقال في الإنصاف: مِن شرط صحّة الشّركة أن يكون المالان معلومين، وإن اشتركا في مختلط بينهما شائع صحّ إن علما قدر ما لكلّ واحدٍ منها، ثم قال: ويشترط أن يعملا فيه أو أحدهما على الصّحيح، لكن بشرط أن يكن له أكثر من ربح ماله. وهي شركة عنان على الصّحيح من المذهب، وقيل: مضاربة، فإن شرط له ربحًا قدر ماله فهو إبضاع.
وأمّا الشّركة في العقار ونحوه، فلم أرَ في كلامهم تصريحًا بجوازه، وقضية إطلاقهم الأموال يقتضي جوازه في العروض والعقار، فإذا عرف قدر ماليهما واشتركا في العمل فيه ثم فسخ أحدهما تقاسما الرّبح على قدر ماليهما، ورجع العقار إلى مالكه الأوّل.
والثّالثة: في الوظائف التي تعنِي أهل الإسلام، فالأحسن فيها أن يجعل ذلك على قدر المال من عقار وغيره، وتسقط النّائبة على قدر الأموال كما هو المعمول به في بلدان المسلمين.
والرّابعة: بيع الإبل بالغنم نسيئة، ففيه خلاف، ومَن منعه احتجّ بالحديث المروي أنّه نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة، ومَن أجازه احتجّ بالحديث الصّحيح في قصّة وفد هوازن أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ومَن لم تطب نفسه فله بكلّ فريضةٍ ستة فرائض من أوّل ما يفيء الله علينا". والتّفريق بينما كان معدًا للحم وغيره عند مالك وغيره إنّما هو في مسألة بيع اللّحم بالحيوان، هل يصحّ ذلك أم لا؟ فمنعه مالك فيما كان معدًّا للحم دون ما هو معدّ للرّكوب وغيره.
والخامسة: ثمر العام الواحد يضمّ بعضه إلى بعض في تكميل النّصاب المراد به عند بعضهم أن يزرع زرعين في عامٍ وحدٍ ولو كان ذلك دون السّنة الهلالية بأن يحصل ذلك في نحو ثمانية أشهر أو لتسعة أشهر أو دون ذلك، ولا ينظر إلى كون الزّرع الأوّل في آخر السّنة الأولى، والزّرع الثّاني في أوّل السّنة الثّانية؛ لأنّ ذلك حساب عامٍ واحدٍ واحترازهم بقولهم: ثمرة العام الواحد إشارة إلى كون إنسانٍ يزرع زرعًا في سنة ثم يزرع في السّنة التي بعدها بعد مضي اثني عشر شهرًا، فهذا لا يضمّ ثمرة هذا إلى هذا،
فإذا كمل النّصاب عنده بضمّ ثمرة إلى ثمرة في عامٍ واحدٍ وجبت عليه الزّكاة. هذا هو المفتَى به عندنا.
والسّادسة: إذا نقص الزّرع أو التّمر عن الخرص فالذي يعمل به عندنا أنّ الذي لا يتّهم في الزّكاة ويعرف بالدّيانة والأمانة يصدق في دعواه ومَن لا فلا.
والسّابعة: إذا دفع إنسان إلى آخر أرضه يغرسها وشرطا بينهما مدّة سنين إلى آخر المسألة.
فالجواب: أنّ الذي عليه كثير من العلماء أنّ مثل هذا لا يصحّ سواء سمّى مساقاةً أو مزارعةً أو لا، والذي اختاره الشّيخ تقيّ الدّين ابن تيمية جواز ذلك، وهو الذي تقتضيه الأصول والقواعد في المساقاة والمزارعة على النّصف أو الثّلث أو الرّبع كما ثبتت السّنة بذلك في قصة خيبر.
الثّامنة: المزارعة بجزء من الثّمرة إذا قيل بأنّها لازمة أو جائزة، فإذا زرعها العامل أو شغل الأرض بزرعه وفوت على صاحب الأرض أجرة أرضه فظاهر كلامهم أنّه يجب عليه قيمة مغل الأرض لصاحبها على ما تشارطا عليه. فإذا كان الأرض تغل كألف صاع مثلًا وزارعه عليها بثلثها وشغل أرضه ثم هرب العامل وجب ثلث الألف. هذا على القول بأنّها جائزة. وأمّا على القول بأنّها لازمة، فإنّه يستأجر الحاكم من ماله مَن يقوم على الزّرع. وأمّا إذا خرج منها قبل العمل وقيل إنّها جائزة فليس عليه شيء.
والتّاسعة: إذا خرج العامل في المساقاة وقد مضى بعض السّنة، فإن كان قبل ظهور الثّمرة فلا شيء له، فإن كان بعد ظهور الثّمرة استؤجر
من ماله مَن يقوم على النّخل إن أمكن، وإذا جاء برجلٍ أمينٍ قام مقامه في تتميم العمل.
والعاشرة: هل حكم نائب الإمام كالإمام؟
فالذي قرّره ابن القيم وغيره أنّ الإمام في هذا ونائبه سواء، وأن تصرّف الغير في مال المالك إذا كان لمصلحةٍ ظاهرةٍ ينفذ تصرّفه. واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ، [التّوبة، من الآية: 91].
والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 32 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ جمعان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن رجلٍ تشاجر هو وزوجته عند أميرٍ من الأمراء، فقالت الزّوجة للأمير: أنصفنِي وإلّا طلّقنِي من إمارتك، فحرص زوجها وقال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، فقالت: هبت ريحك، فقال لها: ما إمارة فلان، ويحلف أنّ كلامي هذا مجاوبة عن الأمير يوم قالت: طلّقنِي من إمارتك، فقلت أنا: يا أيّها الزّوج، أنت طالق عدد زقان الجراد من إمارته، ومعه على هذا شهود.
فالجواب -وبالله التّوفيق- قال الإمام زين الدّين عبد الرّحمن بن رجب الحنبلي في شرحه على الأربعين، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه رفع إليه رجل قالت امرأته: شبِّهنِي، قال: كأنّكِ ظبية، كأنّكِ حمامة، فقالت: لا أرضى حتّى تقول: أنتِ طالق، فقال ذلك. فقال عمر:
خذ بيدها فهي امرأتك. خرّجه أبو عبيدة.
وقال: أراد النّاقة تكون معقولة ثم تطلق من عقالها فيخلى عنها فهي خلية من عقالها، وهي طالق؛ لأنّها قد طلقت منه فأراد الرّجل ذلك فأسقط عنه عمر الطّلاق بنيّته.
قال: وهذا أصل لكلّ مَن تكلّم بشيء يشبه لفظ الطّلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أنّ القول فيه قوله فيما بينه وبين الله عز وجل، وفي الحكم على تأويل عمر رضي الله عنه.
ويروى عن الأشيمط السّدوسي قال: خطبت امرأة فقالوا: لا نزوّجك حتى تطلق امرأتك، فقلت: إنِّي طلّقتها ثلاثًا، فزوّجونِي، ثم نظروا فإذا امرأتي عندي، فقالوا: أليس قد طلّقتها ثلاثًا؟ قال: كان عندي فلانة فطلّقتها، وفلانة فطلّقتها. وأمّا هذه فلم أطلّقها، فأتيت شقيقًا أبا ثور وهو يريد الخروج إلى عثمان وافدًا، فقلت: سل أمير المؤمنين عن هذه، فسأله. فقال: نيّته. خرّجه أبو عبيدة في كتاب الطّلاق. وحكى إجماع العلماء على مثل ذلك.
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: حديث الأشيمط تعرفه؟ قال: من. السّدوسي، إنّما جعل نيّته بذلك. انتهى كلام ابن رجب.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّ المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطّلاق فإن حلف الزّوج أنّه لم يطلّق لم يقض عليه، وإن لم يحلف حلّفت المرأة ويقضى عليه. انتهى من إعلام الموقعّين لابن القيم.
فهذا كلام الخليفتين الرّاشدين: عمر وعثمان رضي الله عنهما أنّهما ردّا ما احتمل معنيين إلى نيّة المطلق. ولأنّ الأصل مع الزّوج وهو الزّوجية.
وفي حديث عمرو بن شعيب أنّ الزّوج يستحلف أنّه ما طلّق. إذا تقرّر هذا فإن كان الزّوج الذي قال لامرأته حين قالت للأمير: طلِّقْنِي من إمارتك، قال: أنتِ طالق عدد زقان الجراد من إمارة فلان، لم يقع عليها طلاقه؛ لأنّه وصله بما يصرف عن
ظاهره، فإن لم يكن وصل الطّلاق بقوله: من إمارة فلان، حلف الزّوج بالله الذي لا إله إلّا هو، ما أردتُ طلاق زوجتِي، وإنّما أردتُ طلاقها من إمارة فلان، فإن حلف فهي زوجته. وهذا الذي ذكرناه قد صرّح به بعض العلماء في كتبهم. لكن إن كانت الزّوجة قالت له: طلِّقنِي، وهي في شدّة الغضب، فقال لها: أنتِ طالق عدد زقان الجراد، ولم يصله بقوله: من إمارة فلان، فلا يقرّ بها إلّا بمراجعة العلماء فيه. والله أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 33 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من عبد الله بن الشّيخ إلى الأخ سعيد)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وكل مَن تسأل عنهم طيّبون، ولله الحمد، والشّيخ طيّب، ولله الحمد، ولا يبرح يظهر، وكذلك عبد العزيز والعيال.
وأمّا جواب المسألتين اللّتين ذكرتهما في كتابك، فنذكر لك كلام أهل العلم، ونسأل الله أن يوفّقنا وإيّاك للصّواب.
قال في المغني: إذا قال: أنتِ عليّ حرام، فإن نوى به الظّهار فهو ظهار في قول عامّتهم، وبه يقول أبو حنيفة، والشّافعي. وإن نوى به الطّلاق فقد ذكرناه في باب الطّلاق، وإن أطلق ففيه روايتان:
إحداهما: هو ظهار، ونصّ عليه أحمد في رواية جماعة من أصحابه. وذكره إبراهيم الحربي. وعن عثمان وابن عبّاس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبستي أنّهم قالوا الحرام ظهار. وروي عن أحمد رحمه الله ما يدلّ على أنّ التّحريم يمين وعن ابن عبّاس أنّه قال: التّحريم يمين في كتاب
الله عز وجل قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ، [التّحريم، من الآية: 1]، ثم قال:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ، [التّحريم، من الآية: 2]. وأكثر الفقهاء على أنّ التّحريم إذا لم ينويه الظّهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشّافعي، ووجه ذلك الآية المذكورة. وأنّ التّحريم يتنوّع فقد يكون بالظّهار وبالطّلاق وبالحرام وبالصّيام وبالحيض، ولا يكون صريحًا في واحدٍ منها، ولا ينصرف إليه بغير نيّةٍ كما لا ينصرف إلى تحريم الطّلاق، ووجه الأوّل: أنّه تحريم أوقعه بامرأته فكان بإطلاقه ظهارًا كتشبيهها بظهر أمّه. وقولهم: إنّ التّحريم يتنوّع قلنا: إنّ تلك الأنواع منتفية ولا يحصل منها إلّا الطّلاق. وهذا أولَى منه؛ لأنّ الطّلاق يُبَيِّن المرأة، وهذا يحرّمها مع بقاء الزّوجية، فكان أدنى التّحريم يمين فكان أولى.
فأمّا إن قال ذلك لمحرمة عليه بحيض أو نحوه وقصد الظّهار فهو ظهار، وإن قصد أنّها محرمة بذلك السّبب فلا شيء فيه، وإن أطلق فليس بظهارٍ؛ لأنّه يحتمل الخبر عن حالها، ويحتمل إنشاء التّحريم فيها بالظّهار فلا يتعيّن على أحدهما تعيين.
فصل
وإن قال: الحلّ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام، أو ما أنقلب إليه حرام وله امرأة فهو مظاهر، نصّ عليه في الصّور الثّلاث.
قال أحمد رحمه الله فيمَن قال: ما أحلّ الله عليّ حرام من أهل ومال: عليه كفّارة الظّهار، هو يمين. ويجزئه كفّارة واحدة في ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل أنّه يلزمه كفارتان للظّهار ولتحريم المال.
ولنا أنّها يمين واحدة، فلا توجب كفّارتين كما لو ظاهر من امرأتين أو حرم من ماله شيئين. وفي قول أحمد رحمه الله هو يمين إشارة إلى التّعليل بما ذكرنا. انتهى كلامه.
وأنتَ تفهم أنّ الشّرح غالبه مسلوب من المغني وعبارتهما متقاربة
والشّرح عند عليّ 1 وهو وحمد بن ناصر مع الغزو والله يحفظهم وينصرهم.
وقال البخاري رحمه الله: باب إذا قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام، قال الحسن بنيّته. قال في شرح البخاري لابن حجر العسقلاني: أي: تحمل على نيّته. وهذا التّعليق وصله البيهقي، ووقع لنا عاليًا في جزء محمّد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري، قال: حدّثنا الأشعث عن الحسن في الحرام إن نوى يمينًا فهو يمين، وإن نوى طلاقًا فهو طلاق، وبهذا قال النّخعي والشّافعي وإسحاق. وروي نحوه عن ابن مسعود وطاوس وابن عمر. وقال الأوزاعي وأبو ثور: الحرام يمين مكفّرة. وروي نحوه عن أبي بكر وعمر وعائشة وسعيد بن المسيّب وعطاء وطاوس واحتجّ أبو ثور بظاهر قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآية [التّحريم، من الآية: 1]. وقال سعيد بن جبير وأبو قلابة: مَن قال لامرأته: أنتِ عليّ حرام لزمته كفارة الظّهار، وكان مظاهرًا، وإن لم ينوه كان عليه كفّارة يمين مغلظة، وهي كفّارة الظّهار؛ لأنّه يصير مظاهرًا حقيقة وفيه بعد.
وقال أبو حنيفة وصاحباه والحكم وابن أبي ليلى في الحرام ثلاث تطليقات، ولا يُسَأل عن نيّته، وبه قال مالك. وعن مسروق والشّعبي وربيعة لا شيء فيه. وفي المسألة اختلاف كثير عن السّلف بلغها القرطبِي بالتّفسير إلى ثمانية عشر قولًا. ثم ذكر البخاري حديث ابن عبّاس أنّه قال: إذا حرم الرّجل امرأته ليس بشيء وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} [الأحزاب، من الآية: 21]. قال الشّارح: يشير بذلك إلى قصة التّحريم، وقد أخرج النّسائي بسندٍ صحيحٍ عن أنس أن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها
1 المراد بالشّرح: شرح المقنع الملقّب بالشرّح الكبير، والظّاهر أنّ سعيدًا سأله أن يذكر له نصّه مع نصّ الْمغنِي فاعتذر بما ذكر.
فلم تزل به حفصة وعائشة حتى حرّمها، فأنْزل الله هذه الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التّحريم، من الآية: 1]. وهذا أصحّ طرق هذا السّبب وله شاهد مرسل.
وقد اختلف في سبب التّحريم هل هو تحريم العسل، أو تحريم مارية القبطية، وقوله: ليس بشيء، يحتمل أن يريد بالنَّفي التّطليق، ويحتمل أن يريد به ما هو أعم من ذلك، والأوّل أقرب ويؤيّده ما تقدم في التّفسير بهذا الإسناد أنّه قال في الحرام يكفر، وفي روايةٍ إذا حرم الرّجل امرأته فإنّما هي يمين يكفّرها. فعرف أنّ المراد بقوله: ليس بشيء، أي: ليس بطلاق وأنت تفهم -رحمك الله- أنّ مذهب ابن عبّاس في هذه المسألة أقرب الأقوال إلى الكتاب والسّنة، وهو اختيار شيخنا رحمه الله. وذكر ابن القيم رحمه الله هذه المسألة ومسألة الحلف بالطّلاق في كتاب أعلام الموقعّين وبسطها فأحببت أن أنقل لك أوّل المسألة قال رحمه الله:
(فصل)
الثّامن مما تتغيّر به الفتوى لتغيّر العرف والعادة موجبات الأيمان والإقرار والنّذر وغيرها، فمن ذلك أنّ الحالف إذا حلف لا ركبت دابّة، وكان في بلد عرفهم في لفظ الدّابة الحمار خاصّة اختصّت يمينه به ولا يحنث بركوب الفرس والجمل، وكذلك إن كان الحالف مِمَّن عادته ركوب نوعٍ خاصٍّ من الدّواب كالأمراء ومَن جرى مجراهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدّواب، فيبقى في كلّ بلدٍ بحسب عرف أهله، ويفتي كلّ أحدٍ بحسب عادته.
وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته، ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك وعادته أن لا يباشر ذلك بنفسه؛ كالملوك حنث قطعًا بالإذن والتّوكيل فيه فإنّه نفس ما حلف عليه،
وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد النّاس، فإن قصد منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتّوكيل، وإن قصد عدم الفعل والمنع منه حنث بالتّوكيل، إن أطلق اعتبر سبب اليمين وبساطها وما هيجها وعلى هذا إذا قيل له جاريتك، أو عبدك مرتكبان الفاحشة، فقال ليس كذلك بل هما حرّان لا أعلم عليهما فاحشة فالحجّة المقطوع بها أنّهما لا يعتقان بذلك لا في الحكم ولا فيما بينه وبين الله تعالى.
ومن ذلك ما أخبرنِي به بعض أصحابنا أنّه قال لامرأته: إن أذنتُ لكِ في الخروج إلى الحمام فأنتِ طالق، فتهيّأت للخروج إلى الحمام فقال لها: أخرجِي وأبصري فاستفتي بعض النّاس فأفتوا بأنّها قد طلقت منه، فقال للمفتي بأي شيء أوقعتَ علي الطّلاق؟ فقال: بقولك لها: أخرجي، فقال: إنِّي لم أقل لها ذلك إذنًا، وأنا قلته تهديدًا، أي: أنّك لا يمكنك الخروج. وهذا كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت، من الآية: 40]، فهل هذا إذن لهم أن يعملوا ما شاؤوا؟ فقال: لا أدري أنت لفظت بالإذن. فقال له: ما أردت الإذن، فلم يفقه المفتي، وغلظ فهمه عن إدراكه وفرق بينه وبين امرأته بما لم يأذن الله به ولا رسوله ولا أحد من أئمة الإسلام - وأطلق الكلام - إلى أن قال:
(فصل):
ومن هذا الباب اليمين بالطّلاق والعتاق فإنّ إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعتق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقضاء عصر الصّحابة رضي الله عنهم فلا يحفظ عن صحابي في صفة القسم إلزام الطّلاق به أبدًا، وإنّما المحفوظ إلزام الطّلاق بصيغة الشّرط والجزاء الذي قصد به الطّلاق عند وجود الشّرط كما في صحيح البخاري عن نافع قال: طلّق رجل امرأته التبة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء، فهذا لا ينازع فيه إلّا مَن يمنع وقوع الطّلاق المعلّق
بالشّرط مطلقًا، وأمّا مَن يفصل بين القسم المحض والتّعليق الذي يقصد به الوقوع فإنّه يقول بالآثار المروية عن الصّحابة كلّها في هذا الباب؛ فإنّهم صحّ عنهم الإفتاء بالوقوع في صور وصحّ عنهم عدم الوقوع في صور، والصّواب ما أفتوا به في النّوعين ولا يؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضًا. إلى أن قال:
(فصل):
قد عرف أنّ الحلف بالطّلاق له صيغتان:
إحداهما: إن فعلتِ كذا فأنتِ طالق.
والثّانية: الطّلاق يلزمنِي لا أفعل كذا، وأنّ الخلاف في الصّيغتين حاصل قديمًا وحديثًا. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان:
إحداهما: إن فعلت كذا فأنتِ عليّ حرام، أو ما أحلّ الله عليّ حرام.
والثّانية: الحرام يلزمنِي لا أفعل كذا. فمَن قال في: "الطّلاق يلزمنِي"إنّه ليس بصريحٍ ولا كنايةٍ ولا يقع به شيء ففي قوله: الحرام يلزمنِي أولى. ومَن قال: إنّه كناية نوى به الطّلاق كان طلاقًا وإلّا فلا، فهكذا يقول في"الحرام يلزمنِي"، إن نوى به التّحريم كان كما لو نوى بالطّلاق التّعليق، فكأنّه التزم أن يحرم كما التزم ذلك أن يطلق ولا يجوز أن يفرّق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظٍ لم يوضع للطّلاق ولا نواه، وتلزمه كفّارة يمين لشدّة اليمين إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين فهي يمين منعقدة، وفيها كفّارة يمين وبه أفتى ابن عبّاس.
وفي قوله: أنتِ عليّ حرام، أو أنتِ عليّ حرام كالميتة، والدّم، ولحم الخنْزير، مذاهب:
أحدها: أنّه لغو وباطل لا يترتّب عليه شيء، وهو إحدى الرّوايتين عن ابن عبّاس، وبه قال مسروق والشّعبي وأبو سلمة وعطاء وداود وجميع أهل الظّاهر وأكثر أصحاب الحديث.
الثّاني: أنّها ثلاث تطليقات، وهو قول عليّ بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن عمر
والحسن ومحمّد بن عبد الرّحمن بن أبي ليلى.
الثّالث: أنّها حرام عليه، ولم يذكر أهل هذا القول طلاقًا.
الرّابع: الوقف فيها صحّ ذلك عن عليّ وهو قول الشّعبي.
الخامس: إن نوى به الطّلاق فهو طلاق وإلّا فيمينٌ. إلى أن قال:
التّاسع: أنّ فيه كفّارة الظّهار. صحّ ذلك عن ابن عبّاس أيضًا، وأبي قلابة وسعيد بن جبير، وهو مذهب ابن منبه. قال وهذا أقيس الأقوال وأفقهها. إلى أن قال:
الثالث عشر: أنّه يمين يكفّره ما يكفّر اليمين على كلّ حالٍ صحّ ذلك أيضًا عن أبي بكر الصّدّيق وعمر وابن عبّاس وعائشة وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وخلق سواهم رضي الله عنهم. وحجّة هذا القول ظاهر القرآن؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى فرض تحلة الأيمان عقب تحريم الحلال فلا بدّ أن يتناوله يقينًا فلا يجوز جعل تحلة الأيمان المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التّحلة التي قصد ذكرها لأجله.
وفي المسألة مذهب آخر وراء هذا كلّه، وهو أنّه إن أوقع التّحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطّلاق، وإن حلف به كان يمينًا مكفِّرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدلّ النّصّ والقياس، فإنّه إذا أوقع كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفّارة الظّهار مِمَّن شبّه امرأته بالمحرّمة، وإن حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو حلف بالتزام الحجّ والإعتاق والصّدقة، وهذا محض القياس والفقه ألا ترى أنّه إذا قال: لله عليّ أن أعتق، أو أحجّ، أو أصوم لزمه، ولو قال: إن كلمت فلانًا فلله عليّ ذلك عل وجه اليمين، فهو يمين، وكذلك لو قال: هو يهودي أو نصراني كفر بذلك، ولو قال:
إن فعلت كذا فهو يهودي أو نصراني كان يمينًا وطرد هذا 1 أيضًا إذا قال: أنت طالق كان طلاقًا، ولو قال: إن فعلت كذا فأنت طالق، كان يمينًا، فهذه هي الأصول الصّحيحة المطرّدة المأخوذة من الكتاب والسّنة والميزان. والله الموفّق. انتهى كلامه في هذه المسألة.
وقال في الإنصاف: لو قال: عليّ الحرام، أو يلزمنِي الحرام، أو الحرام يلزمنِي فهو لغو لا شيء فيه مع الإطلاق، وفيه قرينة أو نيّة، وجهان، وأطلق في المغني والشّرح والفروع.
قلت: الصّواب: أنّه مع النّيّة والقرينة كقوله: أنت عليّ حرام، ثم وجدت ابن رزين قدمه، وقال في الفروع ويتوجّه الوجهان إن نوى به طلاقًا، وإنّ العرف قرينة.
قلت: الصّواب: أنّه مع النّية أو القرينة كقوله: أنت عليّ حرام. انتهى. وقال في المغني.
(فصل):
واختلف أصحابنا في الحلف بالطّلاق فقال القاضي في الجامع وأبو الخطاب: هو تعليقه على شرط أي شرط كان إلّا قوله: إذا شئت فأنتِ طالق ونحوه فإنّه عليك، وإذا حضت فأنت طالق، فإنّه طلاق بدعة، وإذا طهرت فأنت طالق ونحوه؛ فإنّه طلاق سنة. وهذا قول أبي حنيفة؛ لأنّ ذلك يسمّى حلفًا عرفًا فيتعلّق الحكم به كما لو قال: إن دخلت الدّار، فأنت طالق؛ ولأن في الشّرط معنى القسم من حيث كونه جملة غير مستقلة دون الجواب فأشبه قوله: والله وبالله وتالله، وقال القاضي في المجرد
1 سقط هنا قوله: (بل نظيره من كلّ وجه أنّه إذا قال: أنت علي كظهر أمِّي، كان ظهارًا، فلو قال: إن فعلت كذا فأنت عليّ كظهر أمِّي كان يمينًا، وطرد هذا
…
) الخ.
هو تعليقه على شرط يقصد به الحثّ على الفعل والمنع كقوله: إن دخلت الدّار فأنتِ طالق، وإن لم تدخلي فأنتِ طالق أو قصد تصديق خبره مثل قوله: أنتِ طالق لقدوم زيد أو إن لم يقدم.
فأمّا التّعليق على غير ذلك نحو قوله: أنتِ طالق إن طلعت الشّمس، أو قدم الحاجّ، أو إن لم يقدم السّلطان فهو شرط محض ليس بحلفٍ؛ لأنّ صيغة الحلف القسم، وإنّما يسمّى تعليق الطّلاق على شرط حلفًا لمشاركة الحلف في المعنى المشهور، وهو الحثّ، أو المنع، أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا أفعل، أو لقد فعلت، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصحّ تشبيهه حلفًا. وهذا مذهب الشّافعي. فإذا قال لزوجته: فإذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشّمس فأنتِ طالق، لم تطلق في الحال على القول الثّاني؛ لأنّه ليس بحلفٍ وتطلق على الأوّل؛ لأنّه حلف.
وإن قال: إن كلمت أباك فأنتِ طالق طلقت على القولين جميعًا؛ لأنّه علّق طلاقها على شرط يمكن فعله وتركه، فكان حلفًا، كما لو قال: إن دخلت الدّار فأنت طالق. انتهى كلام صاحب المغني.
قال في الاختيارات: ومَن علّق الطّلاق على شرط أو التزم به لا يقصد بذلك إلّا الحض والمنع فإنّه يجزؤه فيه كفّارة يمينٍ إن حنث، وإن أراد الجزاء بتعليقه طلقت لحصول الشّرط، وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم وعليه يدلّ كلام أحمد في نذر اللّجاج والغضب. انتهى.
وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
{تَمَّ ذلك 1 في: 3 جمادى الآخرة سنة: 1343 هـ بقلم الرّبيعِي عبد الله} .
1 أي: تم نسخ ما تقدم - فهذا من الناسخ في نجد، لا من المغني.
- 34 -
بسم الله الرحمن الرحيم
سُئِل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ عن ديات الشّجاج فأجاب بما يعلم من يراه بأنّ دية الموضحة سواء كانت في الرّأس أو في الوجه بَانَ العظم لو قدر مغرز إبردة فديتها خمس من الإبل، فإن هشمت العظم فديتها عشر فإن طاح منها عظام فديتها خمسة عشر، وفي الرّجل المكسورة أو اليّد فإن كان نفعها زال بالكلّيّة فديتها خمسون ناقة، فإن كان ذهب بعض نفعها ثبت من الدّية بقدر ما ذهب من النّفع، والإصبع إذا قطعت فيها عشر من الإبل، وفي الفصلة منها خمس من الإبل، والرّصاصة أو الرّمح إذا هو في البطن ففيه ثلث الدّية، فإن خرقت الجنب الآخر ففيه ثلثا الدّيّة؛ لأنّها جائفتان، وفي الضّلع بعير إذا انكسر، وفي التّرقوة بعير، وفي الذّراع إذا انكسر بعيران.
والجروح غير التي ذكرنا يجتهد العمال في ديتها ولا يبلغون بها دية التي ذكرنا، وفي الفخذ إذا انكسر بعيران، وفي العضد إذا انكسر بعيران.
- 35 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(مسألة): سُئِلَ الشّيخ عبد الله أيرخص للرّجل يوم الجمعة -أي في ترك صلاتها-؟
فأجاب إذا كان قريبًا من بلد فلا رخصة له إلّا في فرسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ستة آلاف ذراع فجميع ذلك ثمانية عشر ألف ذراع. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.
- 36 -
ورد كتاب على العلامة الشّيخ عبد الله بن الشّيخ فيه أسئلة شرعية فأجاب صاحبها بما يأتي:
وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل كتابك تسأل فيه عن ثمان مسائل:
الأولى: رجل ادّعى على غائبٍ وأقام البيّنة بدعواه هل يسمعها الحاكم ويحكم بها أم لا؟ وهل للمسافة تحديد أم لا؟
فنقول: اعلم أنّ للعلماء في هذه المسألة قولين:
أحدهما: أنّه إذا طلب من الحاكم سماع البيّنة والحكم بها فعلى الحاكم إجابته إذا كملت الشّروط. وبه قال ابن شبرمة ومالك والشّافعي وأحمد والأوزاعي واللّيث وأبو عبيدة وإسحاق وابن المنذر. واحتجوا بحديث هند المتّفق عليه أنّها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطينِي ما يكفينِي وولدي. قال: "خذي ما يكفيك وولد بالمعروف". فقضى عليه ولم يكن حاضرًا.
والثّاني: أنّ الحاكم لا يحكم على الغائب ولا يسمع البيّنة عليه. وبهذا قال شريح وابن أبي ليلى والثّوري وأبو حنيفة، إلّا أنّ أبا حنيفة قال: تسمع البيّنة ولا يحكم بها إلّا أن يكون له وكيل أو شفيع جاز الحكم عليه. واحتجّوا بما روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال لعلِّي: "إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقتضِ للأوّل حتّى تسع كلام الآخر فإنّك لا تدري بما تقضي". قال التّرمذي: هذا حديث حسن، ولأنّه يجوز أن يكون للغائب ما يبطل البيّنة ويقدح فيها فلم يجز الحكم عليه. وهي
الرّواية الأخرى عن أحمد. قال في الفروع: وعنه لا يحكم على غائبٍ كحقّ الله فيقضي في السّرقة بالغرم فقط.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ القول الثّاني هو الرّاجح والعمل عليه عندنا لوجوه:
الأوّل: أنّ ما احتجّوا به لا يدلّ على موضع النِّزاع؛ لأنّ هذا استفتت النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم هل يجوز لها الأخذ من مال زوجها ما يكفيها وولدها فقال لها: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"، وليس هذا من باب القضاء على الغائب في شيءٍ يوضّحه.
الوجه الثّاني: وهو أنّه لو كان قضاء لأرسل إلى أبي سفيان يحضر مجلس الحكم؛ لأنّ الاستفتاء وقع بمكّة وأبو سفيان إذ ذاك حاضر فيها.
الوجه الثّالث: أنّه لو كان قضاء على الغائب لأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة البيّنة ولم يقض عليه حتّى يسمع البيّنة، والذي يقول بالقضاء على الغائب يشترط لجواز ذلك إقامة البيّنة المقبولة وغيبته مسافة القصر، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء على الغائب، وكيف يقضي عليه مع حضوره وعدم غيبته؟ وهم مجمعون على أنّ القضاء على الحاضر الذي لم يغب دون مسافة القصر لا يجوز، فدلّ هذا على أنّه فتوى لا قضاء. ولهذا تعقب الاستدلال بهذا الحديث على هذه المسألة النّووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم بأنّ القضية كانت بمكّة، وكان أبو سفيان حاضرًا بها فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء.
الوجه الرّابع: أنّه لو كان قضاء لاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تعذر عليها إقامة البيّنة الكاملة ولم ينقل شيء من ذلك، ولهذا في حديث الأشعث بن قيس في البخاري لما خاصم ابن عمّه في أرضٍ له وادّعى أنّها
له، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه" الحديث. ولهذا قال في الشّرح الكبير ردًّا على مَن احتجّ بحديث هند على أنّ الحاكم يحكم.
المسألة الثّانية: هل في المسافة تحديد؟
فالذين يرون جواز القضاء على الغائب يحدّدون المسافة بمسافة القصر، قالوا: لأنّ ما دونها في حكم المقيم.
المسألة الثّالثة: هل تجب اليمين مع بيّنةٍ كاملةٍ ومع عدمها أم لا؟ وهل في المسألة تفريق
…
الخ وما سبب الاختلاف؟
فنقول: عن ابن عمر أو ابن عبّاس رضي الله عنهم قال: لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى رجال أموال قومٍ ودماءهم، ولكن البيّنة على المدّعي واليمين على مَن أنكر. قال النّووي: حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا. وبعضه في الصّحيحين. وأصله في الصّحيحين عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى أناسٌ دماء رجالٍ وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعَى عليه".
وفيهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أنّ اليمين على المدّعَى عليه، وقد استدلّ العلماء بقوله:"اليمين على المدّعَى عليه" على أنّ المدّعي لا يمين عليه، وإنّما عليه البيّنة، وهو قول الأكثرين. قال ابن رجب في شرح هذا الحديث: وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه حلّف المدّعي مع بيّنته أنّ شهوده شهدوا الحقّ، وفعله أيضًا شريح وعبيد الله بن أبي عتبة بن مسعود وابن أبي ليلى وسوار العنبري وعبد الله بن الحسن ومحمّد بن عبد الله الأنصاري. وروي عن النّخعي أيضًا.
وقال إسحاق: إذا استراب وجب هذا. وسأل منها الإمام أحمد عن هذه المسألة فقال أحمد قد فعله عليّ. فقال: أيستقيم هذا؟ فقال: بل فعله عليّ. فأثبت القاضي هذا رواية عن أحمد لكنه حملها على
الدّعوى على الغائب والصّبي. وهذا لا يصحّ؛ لأنّ عليًّا رضي الله عنه إنّما حلّف المدّعي مع بيّنته على الحاضر معه، وهؤلاء يقولون هذه اليمين لتقوية الدّعوى إذا ضعفت باسترابة الشّهود كاليمين مع الشّاهد الواحد. وكان بعض المتقدّمين يحلف الشّهود إذا استراب بهم أيضًا. ومنهم سوار العنبري قاضي البصرة، وجوز ذلك القاضي أبو يعلى من أصحابنا لوالي المظالم دون القضاة. وقد قال ابن عبّاس رضي الله عنهما في المرأة الشّاهدة على الرّضاع أنّها تستحلف، وأخذ به الإمام أحمد، وقد دلّ القرآن على استحلاف الشّهود عند الارتياب بشهادتهم بالوصية في السّفر في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} ، [المائدة، من الآية: 106]. انتهى.
إذا عرفت ذلك، فالذي يتوجّه أنّ البيّنة الكاملة العادلة التي لا يستريب الحاكم في شهادتها لا يحلف معها المدّعي. وقال صاحب الإنصاف: وعنه يحلّف مع الرّيبة، ولنا وجه أن يحلف لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه"، فدلّ على الاكتفاء بالشّاهدين. وأمّا إذا استراب الحاكم بالشّهود وخصوصًا في هذه الأزمان فهنا يتوجّه القول بتحليف المدعّي كما فعله عليّ رضي الله عنه وغيره. ويتوّجه أيضًا تحليف الشّهود مع الرّيبة. والله أعلم.
المسألة الرّابعة: إذا كان لرجلٍ على رجلٍ حقّ وقدر على أخذ ماله هل يجوز له أخذ قدر حقّه أم لا؟ وهل قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" هل هو حكم أو فتيا؟
فنقول: هذه المسألة قد اختلف العلماء فيها على خمسة أقوال،
وتُسمَّى هذه المسألة مسألة الظّفر:
أحدها: أنّه ليس له أن يخون مَن خانه، ولا يجحد مَن جحده، ولا يغصب مَن غصبه. وهذا مذهب أحمد ومالك.
والثّاني: يجوز أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بماله سواء ظفر بجنسه أو بغير جنسه، وفي غير الجنس يدفعه إلى الحاكم ببيعه ويستوفي ثمنه منه. وهذا قول أصحاب الشّافعي.
والثّالث: يجوز له أن يستوفي قدر حقّه إذا ظفر بجنس ماله، وليس له أن يأخذ من غير الجنس. وهذا قول أصحاب أبي حنيفة.
والرّابع: إن كان عليه دين لغيره لم يكن له الأخذ، وإن لم يكن عليه دين فله الأخذ. وهذه إحدى الرّوايتين عن مالك.
والخامس: إن كان سبب الحقّ ظاهرًا كالنّكاح والقرابة وحقّ الضّيف جاز للمستحقّ الأخذ بقدر حقّه، كما أذن فيه النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال أبي سفيان ما يكفيها ويكفي بنيها، وكما أذن لِمَن نزل بقومٍ ولم يضيّفوه أن يعقبهم في مالهم بمثل قراه كما في الصّحيحين عن عقبة بن عارم قال: قلت للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إنّك تبعثنا فنَنْزل بقومٍ لا يقروننا فما ترى؟ فقال لنا: "إن نزلتم بقومٍ فأمروا لكم بما ينبغي للضّيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حقّ الضّيف الذي ينبغي لهم".
وإن كان سبب الحقّ خفيًّا بحيث يتّهم بالأخذ والنّسبة إلى الخيانة ظاهرًا لم يكن له الأخذ، وتعريض نفسه للتّهمة والخيانة، وإن كان في الباطن آخذًا حقّه كما أنّه ليس له أن يتعرّض للتّهمة التي تسلّط النّاس على عرضه، وإن ادّعى أنّه محقّ غير متّهم. قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وهذا القول أصحّ الأقوال وأسدّها وأوفقها للقواعد الشّرعية، وبه تجتمع الأحاديث؛ فإنّه قد
روى أبو داود في سننه من حديث يوسف بن مالك قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فأدّاها إليهم فأدركت لهم من أموالهم مثلها، فقلت: اقبض الألف الذي ذهبوا به منك. قال: لا. حدّثنِي أبي أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تخن مَن خانك". وهذا وإن كان في حكم المنقطع فإنّ له شاهدًا من وجهٍ آخر. وفي المسند عن بشر بن الخصاصية أنّه قال: يا رسول الله إنّ لنا جيرانًا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلّا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه؟ قال: "لا. أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخن مَن خانك".
فهذه الأحاديث تبيّن أنّ المظلوم في نفس الأمر إذا كان ظلمه غير ظاهرٍ وقدر على مال لِمَن ظلمه وأخذه خيانة لم يكن له ذلك، وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقّه لكنه خان الذي ائتمنه، فإنّه إذا سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه ولا باستحقاق ظاهر كان خائنًا، وإذا قال: أنا أستحقّ في نفس الأمر لما أخذته لم يكن ما ادّعاه ظاهرًا معلومًا، وصار كالمتزوّج امرأة وأنكرت نكاحه ولا بيّنة له، فإذا قهرها على الوطء من غير حجّة ظاهرة فإنّه ليس له ذلك، ولو قدر أنّ الحاكم حكم على رجلٍ بطلاق امرأته ببيّنة اعتقد صدقها وكانت كاذبة في الباطن لم يكن له أن يطأها لما يعلم في الباطن.
فإن قيل: ليس هذا بخيانة بل هو استيفاء حقٍّ. والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة مَن خان، وهو أن يأخذ من مال ما لا يستحقّ نظيره.
فأجاب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذا السّؤال بأن قال: هذا ضعيف لوجوه:
أحدها: أنّ الحديث فيه: أنّ قومًا لا يدعون لنا شاذة إلّا أخذوها أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون منّا؟ فقال: "لا".
الثّاني: أنّه قال: "ولا تخن مَن خانك"، ولو أريد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين مَن خانه ومَن لم يخنه، وتحريم مثل هذا ظاهر، ولا يحتاج إلى بيان وسؤال، وهو قوله:"ولا تخن مَن خانك". فعلم أنّه أراد أنّك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك، فإذا أودع الرّجل مالًا فخانه في بعضه ثم أودع الأوّل نظيره فأراد أخذ ماله منه فهذا هو المراد بقوله:"ولا تخن مَن خانك".
الثّالث: إنّ كونه خيانة لا ريب فيه، وإنّما الكلام في جواز على وجه القصاص، فإنّ الأمور فيها ما يباح القصاص فيه، كالقتل، وقطع الطّريق، وأخذ المال. ومنها ما لا يباح فيه القصاص كالفواحش، والكذب ونحو ذلك. قال الله في الأول:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} ، [الشّورى، من الآية: 40]. وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} ، [النّحل: 126]. فأباح الاعتداء والعقوبة بالمثل. فلما قال صلى الله عليه وسلم ههنا: "ولا تخن مَن خانك"، عُلِمَ أنّ هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل. والله أعلم. انتهى.
فإذا تقرّر هذا، عرفت أنّ الصّواب في المثل ما رجّحه الشّيخ تقيّ الدّين وابن القيم -رحمهما الله تعالى- فيما تقدّم. وهذا هو الموافق لقواعد الشّرع. والله أعلم.
المسألة الخامسة: إذا كانت أرض بين رجلين لأحدهما الثّلثان، والآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمها ويتضرّر الآخر وطلب مَن لا يتضرّر القسم، هل يجبر الآخر عليه أم لا؟ وإن طلبها صاحب الثّلث هل يجبر الآخر أم لا؟ وإن طلب أحدهما القسمة بالزّمان أي: قسمة المنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟ وإذا رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته هل له ذلك أم لا حتّى ينقضي الدّور ويستوفي كلّ واحدٍ منهما حقّه؟
وكذا إذا تلفت المنافع في مدّة الآخر قبل تمكنّه من استيفاء حقّه فهل يرجع على الأوّل ببدل حصّته أم لا؟
فنقول: قال العلماء القسمة نوعان: قسمة تراضٍ، وهي: ما فيها ضرر أو ردّ عوضٍ من أحدهما كالدّور الصّغار والحمام والبيوت المتلاصقة التي لا يمكن قسمة كلّ عينٍ مفردة منها. والأرض التي في بعضها بئر أو بناء ونحوه لا يمكن قسمته بالإجزاء والتّعديل إذا رضوا بقسمتها أعيانًا بالقيمة جاز؛ لأنّ الحقّ لهم لا يخرج عنهم، وقد روضوا بقسمته، وهذه جارية مجرى البيع لا يجبر عليها الممتنع، ولا يجوز فيها إلّا ما يجوز في البيع، لما روى مالك في الموطّأ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا ضرر ولا ضرار". والضّرر المانع من القسمة هو نقص القيمة بالقسم. وقال الخرقي: هو ما لا يمكن قسمه ولا الانتفاع بنصيبه منفردًا فيما كان ينتفع به مع الشّركة، مثل أن يكون بينهما دار صغيرة إذا قسمت أصاب كلّ واحدٍ منهما موضعًا ضيّقًا لا ينتفع به، ولو أمكن أن ينتفع به في شيء غير الدّار ولا يمكن أن ينتفع به دارًا لم يجبر على القسمة أيضًا؛ لأنّه ضرر يجري مجرى الإتلاف. وهذه إحدى الرّوايتين عن أحمد.
والثّانية: أنّ المانع هو أن ينقص قيمة نصيب أحدهما بالقسمة عن حال الشّركة، وسواء انتفعوا به مقسومًا أو لم ينتفعوا، قال القاضي: هذا ظاهر كلام أحمد، وهذا ظاهر كلام الشّافعي؛ لأنّ نقص قيمته ضرر شرعًا، والضّرر ينتفي.
فأمّا إن كان الضّرر على أحدهما دون الآخر كرجلين لأحدهما الثّلثان وللآخر الثّلث ينتفع صاحب الثّلثين بقسمتها ويتضرّر الآخر فطلب مَن لا يتضرّر القسم لم يجبر الآخر، وإن طلبه الآخر أجبر الأوّل. قال القاضي: إن طلبه الأوّل أجبر الآخر. وذكره أبو الخطاب، وهو ظاهر كلام أحمد في
رواية حنبل. قال: كلّ قسمةٍ فيها ضرر لا أرى قسمتها. وبه قال ابن أبي ليلى وأبو ثور. قال في الفروع: إن طلبها المتضرّر أجبر الآخر. اختاره جماعة. قال في الشّرح: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
النّوع الثّاني: قسمة الإجبار. وهي ما لا ضرر فيها، ولا ردّ عوضٍ؛ كالأرض الواسعة والقرى والبساتين والدّور الكبار والدّكاكين الواسعة والمكيلات والموزونات والمائعات سواء قيل إنّ القسمة بيع أو إفراز حقٍّ؛ لأنّ بيعه جائز وإفرازه جائز، قالوا: وإذا طلب أحد الشّركاء القسمة في هذا النّوع أجبر الممتنع بثلاثة شروط:
أحدها: إن ثبت عند الحاكم ملكهم ببيّنة. قال في الفروع: ذكره جماعة. يعنِي: هذا الشّرط ولم يذكره آخرون. وجزم به في الرّوضة، واختاره شيخنا -يعنِي به الشّيخ تقيّ الدّين- وفي المرهون وجهان، وأنّ كلام أحمد في بيع ما لا ينقسم وقسم ثمنه عام فيما يثبت فيه ملكهما، وما لم يثبت لجميع الأموال التي تباع، وإنّ مثل ذلك لو جاءته امرأة فزعمت إنّها خلية لا ولي لها هل يزوّجها بلا وليّ فيه؟ وجهان.
الثّاني: أن لا يكون فيها ضرر فإن كان فيها ضرر لم يجبر الممتنع.
الثّالث: أن يمكن تعديل السّهام من غير شيء يجعل معها فإن لم يمكن ذلك لم يجبر الممتنع؛ لأنّها حينئذٍ تصير بيعًا والبيع لا يجبر عليه أحد المتبايعين. والله أعلم.
وأمّا قول السّائل -أرشده الله للصّواب-: وإذا طلب أحدهما القسمة بالزّمان، أي: بالمنافع فهل يجبر الممتنع على ذلك أم لا؟
ففيها قولان في مذهب أحمد؛ لكن الذي رجّعوه أنّ الممتنع لا يجبر، وعنه يجبر، اختار صاحب المحرّر الإجبار في القسمة.
وأمّا إذا اتّفقوا على المهايأة بزمانٍ بأن تجعل الدّار في يد أحدهما شهرًا،
أو عامًا ونحوه، وفي يد الآخر مثلها، أو اقتسموا مهايأة بمكانٍ كسكنى هذا في بيتٍ وسكنى الآخر في بيتٍ ونحوه جاز؛ لأنّ المنافع كالأعيان، ولو تهايؤا في الحيوان اللّبون بأن يحتلب هذا يومًا وهذا يومًا فإنّه لا يصحّ، ولو تهايؤا في الشّجر المثمر لتكون لهذا عامًا ولهذا عامًا لم يصحّ ذلك أيضًا؛ لما فيه من الغرر الظّاهر، لكن طريقه أن يبيح كلّ واحدٍ منهما نصيبه لصاحبه في المدّة التي تكون بيده ويكون من باب المنحة والإباحة لا القسمة، وتكون قسمة المنافع بالزّمان والمكان جائزة لا لازمة سواء عَيَّنَا مدّة أو لم يعيِّنَاها؛ كالعارية من الجهتين، فلو رجع أحدهما قبل استيفاء نوبته فله ذلك، وإن رجع بعد استيفاء نوبته غرم لشريكه ما انفرد به من الانتفاع بأجرة المثل. والله أعلم.
وأمّا إذا تلفت المنافع في مدّة أحدهما أو نوبته فلا إشكال في أنّه يرجع على صاحبه بقدر نصيبه الذي انتفع به. والله أعلم.
وأمّا المسألة السّادسة: هل قسمة الإجبار إفراز أو بيع، فإن قلتم إنّها بيع، فهل يجوز قسم الأرض المزروعة قبل اشتداد حبّها أم لا؟
فاعلم أنّ هذه المسألة فيها قولان للعلماء:
أحدهما: أنّها إفراز حقّ أحدهما من الآخر وليست بيعًا. وهذا أحد قولي الشّافعي.
والقول الثّاني: أنّها بيع. وحكي ذلك عن أبي عبد الله بن بطه؛ لأنّه يبدل نصيبه من أحد السّهمين بنصيب صاحبه من السّهم الآخر. وهذا حقيقة البيع. وذهب المجد وحفيده إلى أنّه إن كان فيها ردّ عوضٍ فهي بيع؛ لأنّ صاحب الرّدّ يبدل المال عوضًا عمّا حصل له من مال شريكه. وهذا هو البيع، وإن لم يكن فيها ردّ عوضٍ فهي إفراز.
وفائدة الخلاف: أنّها إذا لم تكن بيعًا جازت قسمة الثّمار خرصًا وما يكال وزنًا والموزون كيلًا. قال في التّرغيب في الأصحّ وتفرقهما قبل القبض فيما
يشترط فيه القبض في البيع وإذا حلف لا يبيع فقسم لم يحنث وإذا كان العقار أو بعضه وقفًا جازت قسمته. وعلى القول بأنّها بيع تنعكس الأحكام المتقدّمة كلّها.
قالوا: ولا شفعة مطلقًا أي: على كلا القولين لجهالة الثّمن.
المسألة السّابعة: إذا دفع رجل إلى امرأته خمسة حمران ثم بعد ذلك اختلف فقال الزّوج الخمسة من المهر، والمهر قدره عشرة حمران ولم يذكر الزّوج يوم العطاء أنّها من المهر، فهل القول قول الزّوج؛ لأنّه أعلم بنيّته أم لا؟ وإن قلتم: القول قوله فهل يلزمه يمين؟
فنقول: الذي يظهر من كلام الفهاء في مثل هذه الصّورة أنّ القول قوله بلا يمين؛ لأنّه علم بنيّته. هذا الذي يظهر لي في المسألة. والله أعلم.
وأمّا المسألة الثّامنة: قولهم: ومَن مرّ بثمرة لا حائطٍ لها ولا ناظر ففيه ثلاث روايات .. الخ:
إحداها: له الأكل ولا يحمل. قال ابن رجب: هذا الصّحيح المشهور في المذهب. قال في الهداية: اختاره عامة أصحابنا. قال في الشّرح الكبير: وهو المشهور في المذهب لما روي عن أبي زينب التّيمي قال: سافرت مع أنس بن مالك، وعبد الرّحمن بن سمرة وأبي برزة رضي الله عنهم فكانوا يمرّون بالثّمار فيأكلون في أفواههم. وقال عمر: يأكل ولا يتّخذ خبيئة، ثم ذكر القولين الآخرين، ثم قال: ولنا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن التّمر المعلّق فقال: "ما أصاب منه ذو الحاجة غير متّخذ خبيئة فلا شيء عليه، ومَن أخرج منه شيئًا فعليه غرامة مثليه والعقوبة". قال التّرمذي: هذا حديث حسن.
وروى أبو سعيد الخدري عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إذا مررت ببستانٍ فناد صاحب البستان ثلاثًا فإن أجابك، وإلّا فكل من غير أن تفسد".
وروى سعيد بإسناده عن الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم-
مثله ولأنّه قول مَن سمّينا من الصّحابة من غير مخالفٍ فكان إجماعًا.
فأمّا أحاديثهم فهي مخصوصة بما رويناه من الأحاديث والإجماع.
وأمّا الزّرع ولبن الماشية ففيهما روايتان. قال أحمد: لا يأكل إنّما رخص في الثّمار ليس الزّرع.
والثّانية: قال: يأكل من الفريك؛ لأنّ العادة جارية به يأكله رطبًا أشبه التّمر والزّبيب -إلى أن قال-: والأولى في الثّمار وغيرها أن لا يأكل منها إلّا بإذن لما فيها من الخلاف، ولبن الماشية روي عن أحمد كذلك فيه روايتان:
إ حداهما: يجوز أن يشرب ويحلب ولا يحمل لما روى الحسن عن سمرة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، وإن لم يكن فيها أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل". رواه التّرمذي. وقال: حديث حسن صحيح. والعمل عليه عند بعض أهل العلم. وهو قول إسحاق.
والثّانية: لا يجوز لما روى ابن عمر مرفوعًا: "لا يحلبن أحد ماشية أحدٍ إلّا بإذنه". متّفق عليه. والله أعلم. وأنت في أمان الله والسّلام. وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلم.
- 37 -
بسم الله الرّحمن الرّحيم.
من عبد الله بن الشّيخ إلى حضرة الأخ في الله عبد الوهّاب أبو نقطة سلّمه الله من الآفات، واستعمله بالباقيات الصّالحات.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وتسأل فيه عن الكلام الذي ذكره ابن موسى.
الأوّل: أنّه قال: مَن قال: يعلم الله كذا يكفر فالذي قال: هذا تائه وواهم وأظنّ أنّكم ما فهمتم معنى كلامه، والحقّ أنّه إذا قال: يعلم الله كذا وكذا، وهو
صادق فلا بأس بذلك، وإنّما الإثم والحرج على مَن قال: يعلم كذا وكذا وهو كاذب، فهذا كذب وافتراء ولا يجوز ولا يبلغ إلى الكفر.
والثّاني: قوله إنّ مَن صلّى على النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عشرًا صلّى الله عليه مائة، ومَن صلّى عليه مائة صلّى الله عليه ألفًا. فهذا حقّ وهو مقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:"مَن صلّى عليَّ مرّةً صلّى الله عليه بها عشرًا". وهو ثابت في الصّحيح.
وأمّا قول ابن عبد الهادي إنّ التّلفّظ بالنّيّة سنة عند الصّلاة فهو خطأ وجهالة، وإنّما غرّه بعض كلام المتأخّرين والقائل لذلك مخطئ، فإنّ السّنة هو ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم رحمه الله في الهدي: ولم ينقل عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه أنّه تلفّظ بالنّيّة ولا استحبّها أحدٌ من الأئمة الأربعة، ولا غيرهم. انتهى.
وإنّما استحبّها بعض المتأخّرين من أصحاب الشّافعي وغيره، فردّ عليهم المحقّقون من أهل مذهبه وغيرهم، وكلّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلّا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا ينبغي للمؤمن بل للمسلم أن يتّبع غلطات العلماء بل يعرض أقوالهم على الهدي النّبويّ، فما وافق ذلك قبله وما خالفه ردّه على قائله كائنًا مَن كان. فأنتم اذكروا لابن عبد الهادي كلامنا، ولا يخالف ويهون عن فتياه.
وكذلك إنكاره الخرص فالخارص الذي عليه الاجتهاد والتّحرّي، والخرص فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يبعث عمَّالَه إلى الثّمار يخرصونها عند استوائها، وقد قال الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، [الأحزاب، من الآية: 21].
وأمّا الموعظة والنّصيحة، فليس هنا أعظم من وصية الله تعالى للأولّين والآخرين. قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}، [النّساء، من الآية: 131]. وتقوى الله تبارك وتعالى أن يفعل ما أمر الله به، ويترك ما نهى الله عنه وهذا هو الدّين كلّه.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، [المائدة: 35]. فأخبر سبحانه عباده المؤمنين بسبب الفلاح، وهو تقواه وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله، فهذه الثّلاث هي مجامع الخير. زرقنا الله وإيّاكم إيمانًا صادقًا، وعملًا متقبّلًا، ونيّةً خالصةً.
وسلموا لنا على يحيى وجميع إخوانكم. وأنتم في أمان الله وحفظه. وعبد العزيز وسعود وآل الشّيخ طيّبون ويبلّغونكم السّلام.
- 38 -
(هذه مسائل فقهية سُئِل عنها الحافظ الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب)
(مسألة-1) ما قول سادة العلماء أئمة الدّين في رجلٍ طلّق امرأته وهي في الحيض، هل يقع عليها أم لا يقع؟
(مسألة-2) الطّلقات الثّلاث المجموعة، هل تقع واحدةً أم ثلاثًا؟
(مسألة-3) وهذه المسألة التي وقع الإشكال فيها وهي من أهم هذه المسائل، وهي التي نصرها الشّيخ تقيّ الدّين بالأدلّة، وهو الذي يُسَمَّى التّعليق، وجزموا أنّه متى وقع الشّرط وقع الجزاء بلا ريب عندهم، وصورته أنّه إذا كان بين رجلين شحناء وأراد أحدهم أن يتعدّى على الآخر وغضب، وقال: إن فعلت كذا، أو إن أخذت هذا، أو إن لم أفعل كذا، أو إن فعلت كذا، فامرأتي طالق، أو قال لامرأته: إن فعلت كذا، أو إن لم تفعلي كذا، فأنتِ طالق، هل يقع بما ذكرنا طلاق أم يمين؟ وإذا قلتم هذا يمين فما
كيفية التّعليق الذي يقع به الطّلاق؟ أفتونا مأجورين.
(مسألة-4) إذا زوجت امرأة قبل أن تعتد أو فسخت منه بسبب عقدٍ فاسدٍ، فهل إذا اعتدّت تكون بالخيار أم ترد على زوجها؟
(مسألة-5) إذا طلقت امرأة ومضى عليها ثلاثة أشهر ولم تحض فيهن إلّا حيضةً واحدةً، هل يجوز العقد عليها إذا أرادت التّزويج أم لا بدّ من ثلاث حيضات؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: -وبالله التّوفيق-:
أمّا مسألة الطلاق في الحيض، فالمشهور والمفتَى به عند علماء الأمصار من الصّحابة والتّابعين فمَن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم أنّ الطّلاق في الحيض طلاق بدعة ومعصية لله ولرسوله، ولكنّه لازم ويحسب عليه من الطّلقات الثّلاث. وهذا هو المعمول به عندنا، ودلائل ذلك كثيرة مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما. ومن أشهر ذلك أنّ ابن عمر رضي الله عنهما طلّق امرأته وهي حائض في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر عمر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره بمراجعتها حتّى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلّق وإن شاء أمسك. وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّها حسبت عليه طلقة. والله أعلم.
وأمّا الثّانية في الثّلاث المجموعة ففيها خلاف مشهور بين العلماء في جوازها، وفي كونها تقع ثلاثًا، فالذي عليه الأكثر أنّ التّلفّظ بها بكلمةٍ واحدةٍ بدعة ومعصية؛ لأنّ الله إنّما أباح الطّلاق للعدّة وقال:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ، [البقرة، من الآية: 229]. والمرتّان لا تكون إلّا مرّة
بعد أخرى، ولما أخرجه النّسائي وغيره أنّ رجلًا طلّق امرأته ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال:"أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ ". الحديث.
وأمّا كونها تلزم وتقع ثلاثًا فالذي عليه جمهور الصّحابة فَمَن بعدهم أنّها تقع ثلاثًا كما أمضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، وتبعه على ذلك جمهور الصّحابة والتّابعين لهم بإحسانٍ من الأئمة الأربعة وغيرهم. والأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الفقه، وشرح الحديث. وأجابوا عن حجج القائلين بعدم الوقوع وأنّها لا تقع إلّا واحدة بأجوبةٍ كثيرةٍ ليس هذا موضع ذكرها.
وأمّا تعليق الطّلاق فالذي عليه أكثر أهل العلم أنّه إذا علّقه على شرطٍ ووجد الشّرط وقع، وفرّق الشّيخ تقيّ الدّين وغيره من أهل العلم في ذلك فقالوا: إن كان قصده وقوع الطّلاق كما يقول: إن زنيت فأنتِ طالق، وإن سرقت فأنتِ طالق، وقع وإن كان قصده الحضّ والمنع للمرأة أو لنفسه عن فعل الشّرط وليس قصده وقوع الطّلاق لم تطلق المرأة بذلك ويكون يمينًا مكفِّرة نظرًا إلى كونه إنّما قصد بذلك الحلف والحضّ والمنع لا وقوع طلاقٍ، وهذا الذي يختاره شيخنا رحمه الله ويفتي به. والله أعلم.
وأمّا إذا تزوّج المرأة في العدّة أو بعقدٍ فاسدٍ وفسخ النّكاح، فإن كان الفاعل لذلك جاهلًا فإنّه يجوز له نكاحها إذا انقضت عدّتها بعقدٍ جديدٍ برضاء المرأة والولي، وإن كان فاعل ذلك عارفًا بالتّحريم، فإنّه يفرّق بينهما ولا تحلّ له أبدًا كما ذكر ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والله أعلم.
وأمّا عدّة الحائض فثلاث حيضات سواء كان ذلك طلاقًا أو فسخًا. هذا الذي عليه جمهور العلماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 39 -
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: إن قال: وحقّ الله، فهو يمين مكفّرة 1. هذا المذهب. وبه قال مالك والشّافعي. وقال أبو حنيفة: لا كفارة لها؛ لأنّ حقّ الله طاعاته ومفروضاته، وليست صفة له. ولنا أنّ لله حقوقًا يستحقّها لنفسه من البقاء والعظة والجلال، وقد اقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصّفة فينصرف إلى صفة الله، كقوله وقدرة الله عليه. وإذا قال: وعهد الله، فهي 1 يمين مكفّرة، وبه قال مالك. وقال الشّافعي: لا يكون يمينًا إلّا أن ينوي اليمين بعهد الله الذي هو صفته. وقال أبو حنيفة: ليس بيمينٍ، ولعلّهم ذهبوا إلى أنّ العهد من صفات الفعل فلا يكون الحلف به يمينًا. ولنا أنّ عهد الله يحتمل كلامه الذي أمرنا به ونهانا عنه لقوله تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} ، [يّس، من الآية: 60]. وكلامه قديم صفة له فوجب أن يكون يمينًا، وإذا قال: وأيم الله فهي مكفّرة؛ لأنّه عليه السلام كان يقسم بها، وإذا قال: وأمانة الله، فهو يمين مكفّرة. قال القاضي: لا يختلف المذهب فيه، وبه قال أبو حنيفة، وإن قال: أحلف بالله أو أشهد بالله، كان يمينًا إذا ذكر اسم الله. وهذا قول عامّة الفقهاء، ولا نعلم فيه خلافًا. انتهى من الشّرح تلخيصًا.
وإذا قال: حلفت ولم يكن حلف، قال الإمام هي كذبة ليس عليه يمين. وهذا المذهب قال المصنّف والشّارح وعنه عليه كفّارة؛ لأنّه أقرّ على نفسه. انتهى من الإنصاف.
قال في "اقتضاء الصّراط المستقيم" بعد أن ذكر الكراهة في تعلّم غير
1 فيه أنّه يُذَكِّر ضمير اليمين تارة ويؤنّثه أخرى، واليمين مؤنّثة، ولعلّ الاختلاف من النّاسخ وإن تذكير الضّمير باعتبار ما قبله.
اللّغة العربية، وأيضًا فإنّ نفس اللّغة العربية من الدّين ومعرفتها فرض واجب. فإنّ فهم الكتاب والسّنة فرض ولا يفهم إلّا بفهم اللّغة العربية، وما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب. انتهى المقصود منه.
وقال في شرح الإقناع في أوّل: (كتاب الشّهادات): وإذا تحملها أي الشّهادة الواجبة وجبت كتابتها، ويتأكّد ذلك في حقّ رديء الحفظ؛ لأنّ ما يتم الواجب إلّا به فهو واجب. انتهى المقصود منه.
مسألة*: ما حكم بيع المغروس في الأرض الذي يظهر ورقه كالقت والجزر والفجل والثّوم والبصل وشبه ذلك؟
فالجواب: اعلم أنّ في هذه المسألة قولين للعلماء:
أحدهما: أنّه لا يجوز حتّى يقلع كما هو مذهب الشّافعي ورواية عن أحمد. قالوا: لأنّ هذه أعيان غائبة لم تر.
والثّاني: جواز بيعه وإن لم يقلع. وهذا هو الصّواب؛ لأنّ هذا ليس من الغرر، بل أهل الخبرة يستدلّون بما ظهر من الورق على المغيب في الأرض كما يستدلّون بما يظهر في العقار من ظواهره على بواطنه، وكما يستدلّون بما يظهر من الحيوان على بواطنه، ومن سأل أهل الخبرة أخبروه بذلك، والمرجع في ذلك إليهم. وأيضًا العلم بالمبيع شرط في كلّ شيء بحسبه فما يظهر بعضه وكان في إظهار باطنه مشقّة إذا خرج اكتفى بظاهره كالعقار؛ فإنّه لا يشترط رؤية أساسه ودواخل الحيطان، وكذلك الحيوان وأمثال ذلك. وأيضًا إنّما احتيج إلى بيعه فإنّه يسوغ فيه ما لا يسوغ في غيره، فيبيحه الشّارع للحاجة مع قيام السّبب، كما أرخص في العرايا بخرصها، وأقام الخرص مكان الكيل بجنسه ولم يكن ذلك من المزابنة التي نهي عنها. والله أعلم.
* هذه المسألة والتي تليها هما من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، انظر "مجموع الفتاوى"(29/ 487 - 489)، وهما أحد "المسائل الماردينية". [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
مسألة: بيع المقاثي هل يصحّ بيع الموجود منها والحادث أم لا تباع إلّا لقطة لقطة؟
فالجواب: من أصحاب الشّافعي وأحمد مَن يمنع بيعها إلّا لقطة لقطة، وكثير من العلماء من أصحاب مالك وأحمد وغيرهما يجوزون بيعها مطلقًا على الوجه المعتاد، وهذا هو الصّواب؛ فإنّ بيعها لا يمكن في العادة إلّا على هذا الوجه، وبيعها لقطة لقطة إمّا متعذر وإما متعسر؛ فإنّه لا يتميّز لقطة عن لقطة إذ كثير من ذلك لا يمكن لقاطه بأسره فيبيع المقاثي بعد بدو صلاحها، وإن كان المبيع لم يتخلق بعد ولم ير، ولهذا إذا بدا صلاح بعض الشّجرة فإنّه صلاح لباقيها باتّفاق العلماء ويكون صلاحًا لسائرها في البستان من ذلك النّوع في أظهر قولي العلماء، وقول جمهورهم بل يكون صلاحًا لثمرة جميع البستان التي جرت العادة بأن يباع جميعه في أحد قولي العلماء، وقد ذكرنا هذه المسائل مبسوطة في غير هذا الموضع. انتهى.
- 40 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(هذه الأجوبة السّديدة عن المسائل المفيدة للشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب - رحمهما الله وعفا عنهما بِمنّه وكرمه)
الحمد لله الذي أوجب البيان على العلماء، وأوجب السّؤال على مَن لا علم عنده. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الكتاب وفهم الخطاب وسألت عن ستّ مسائل:
الأولى: ما قول العلماء رضي الله عنهم في رجلٍ خبب امرأة على زوجها؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: نكاح الثّاني الذي خببها على زوجها باطل
ويجب أن يفارقها؛ لأنّه عاصٍ لله بفعله ذلك.
الثّانية: إذا أرضعت امرأة طفلًا وله إخوة وأخوات لم يرضعوا منها لها بنون وبنات هل يجوز لإخوته وأخواته أن يتزوّجوا من أولاد التي أرضعته والعكس أم لا؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: إذا أرضعت المرأة طفلًا رضاعًا يحرِّم شرعيًّا في الحولين صار الطّفل ابنًا للمرضعة وابنًا لزوجها الذي نسب الحمل إليه فصار في التّحريم والخلوة ابنًا لهما وأولاده أولادهما، وإن نزلت درجتهم وجميع أولاد المرضعة إخوة للمرتضع وأخواته، وإن نزلت درجتهم. وأمّا المرتضع وهو المسؤول عن إخوته فالحرمة تنتشر إليه وإلى أولاده وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى مَن في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى أعلى منه كأبيه وأمّه فلا يحرم على زوجها نكاح أمّ الطّفل المرتضع من النّسب ولا نكاح أخته وعمّته، ولا بأس أن يتزوّج الرّجل أخت أخيه من الرّضاعة.
الثّالثة: ما صفة الإحداد، وهل المملوكة فيه كالحرّة أم لا؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: الإحداد واجب في عدّة الوفاة، وهي أربعة أشهر وعشر، أو شهران وخمسة أيام إن كانت أمة، فإن كانت حاملًا فعتدّتها بوضع حملها، وذلك على الحرّة والأمة والكبيرة والصّغير فيحرم على المحدة الزّينة كالأحمر والأصفر ونحوهما، ويباح لبس الأبيض وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة وغسل رأسها بالسّدر والمشط واستعمال الدّهن غير المطيّب، ويجب عليها عدّة الوفاة في المنْزل الذي مات زوجها فيه، وهي ساكنة فيه إلّا لعذر من خوفٍ أو هدمٍ ونحوهما، ولا تخرج
من منْزلها، ولها الخروج نهارًا لحوائجها وتجب العدّة من حين الموت.
الرّابعة: الرّجل الذي ليس من أهل البيت هل يسلم على المرأة في الإحداد وغيره أم لا؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: المرأة المحدّة وغيرها في ذلك سواء، فالمرأة مع الرّجل إن كانت زوجته أو أمته أو محرمًا من محارمه كأمه وابنته وأخته ونحوها فهي معه كالرّجل، فيستحبّ لكلّ واحدٍ منها ابتداء الآخر بالسّلام ويجب على الآخر ردّ السّلام عليه، وإن كانت المرأة أجنبية وكان جميلة يخاف الافتتان بها لم يسلّم الرّجل عليها، ولو سلّم لم يجز لها ردّ السّلام ولا تسلم هي عليه ابتداء، وإن سلمت لم تستحقّ جوابًا فإن أجابها كره له، وإن كانت عجوزًا لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرّجل وعلى الرّجل ردّ السّلام عليها.
الخامسة: إذا قال الرّجل: عليَّ (الطّلاق) بالثّلاث أن أفعل كذا، أو لا أفعل كذا ففعله؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: إذا لم ينو الطّلاق بل مراده الحثّ والمنع فهو يمين مكفِّرة يخيّر بين عتق رقبة أو كسوة عشرة مساكين أو إطعام عشرة مساكين لكلّ مسكينٍ مدي شعيرٍ، أو مدي تَمرٍ، أو مدُ بُرٍّ، فإن عجز عن ذلك صام ثلاثة أيام.
السّادسة: إذا كان لرجلٍ زوجتان أو أكثر فحاضت إحداهن هل عليه أن يبيت عندها ليلتها أم لا؟
الجواب -وبالله التّوفيق-: عليه أن يبيت عندها؛ لأنّ القسم يراد للإيواء إلّا إن أذنت له، ولكن لا يجامع الحائض والنّفساء حتّى يطهرن من الحيض وتغتسل بعده. والله أعلم.
وأمّا مسألة الحامل؛ إذا رأت الدّم فإنّه ينظر في حال المرأة فإن كان ذلك ليس بعادة لها إذا حملت فلا تلتفت إليه بل تصلّي فيه وتصوم ويكون حكمها حكم المستحاضة وليس في هذا اختلاف.
وأمّا إن كانت عادة المرأة أنّها تحيض وهي حامل ويأتيها في عادة الحيض وتطهر في عادة الطّهر فهذا الذي اختلف في العلماء والرّاجح أنّه حيض إذا كان على ما وصفنا.
وأمّا مسألة اليتيمة إذا طلبت الزّواج، فيجوز لوليّها تزويجها وإن لم تبلغ، إذا كنت لها تسع سنين، لكن لا يجبرها ولا يزوّجها إلّا برضاها إذا كانت يتيمة. وأمّا الأب فيجوز له إجبار الصّغير التي لم تبلغ. والبلوغ يحصل بالحيض وبإنبات الشّعر الخشن حول القبل.
وأمّا مسألة الأمي، فهو الذين لا يحسن الفاتحة أو يحلن فيها لحنا يحيل المعنى.
وأمّا إذا كان يحسن الفاتحة ولا يحيل ألفاظها عن معانيها فهذا لا يُسَمَّى أميًّا وأحقّ النّاس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله، فإذا وجد القارئ قدم على غيره. وأمّا إذا أقيمت الصّلاة ثم جاء القارئ وهم يصلّون جاز للقارئ أن يصلّي معهم إذا كان الإمام يحسن قراءة الفاتحة، ولا يلحن فيها لحنًا يحيل المعنى. وأمّا الذي يحلن فيها لحنًا يحيل المعنى فلا يجوز أن يصلّي إلّا بمثله.
وأمّا مسألة تعيين الإمام فإذا عيّن إمامًا وقصده أن لا يصلّي خلف غيره، فهذا إذا بان أنّه غيره لم تصحّ صلاته؛ لأنّه نوى أن لا يصلّي خلفه. وأمّا إذا عيّن إمامًا ونيّته أنّه يصلّي خلف مَن يصلّي بالجماعة وليس له قصد في تعيين الإمام كما هو الواقع في المساجد التي أئمتها راتبون، فهذا إذا بان له أنّه غير الإمام الرّاتب صحّت صلاته؛ لأنّ قصده الصّلاة مع الجماعة. والله أعلم.
وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه. وسلّم.
{تَمَّت رسائل الشّيخ عبد الله بن الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله} .