المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ 4 -(رسالة ضافية في الربا وحكم نقود الجدد الزيوف فيه) - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌القسم الأول‌‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهابوأبنائه رحمهم الله

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌(2)(رسالة عامة في الزجر عن الغلول ووجوب التذكير والموعظة)

- ‌(3)(رسالة في نصاب الزكاة بالريالات)

- ‌(4)(رسالة في المعاملات الربوية وأحكام الطلاق والعدة)

- ‌(5)(رسالة في مواعظ عامة في مهمات الدين)

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌{مسائل في الصلاة وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها}

- ‌مسائل في نصاب الزكاة وزكاة العروض

- ‌{مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في الرهن وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما}

- ‌{مسائل في المعاملات وأنواعها}

- ‌{مسائل في الخيار وما في معناه}

- ‌{مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به}

- ‌{مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في الوقف}

- ‌{مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه}

- ‌{مسائل في العدد وما في معناها}

- ‌{مسائل في الإحداد وما يتعلق به}

- ‌من جواب) لعبد الله بن الشيخ رحمه الله:

- ‌(8){مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

- ‌القسم الثانيرسائل وفتاوى أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن

- ‌ 4 -(رسالة ضافية في الرّبا وحكم نقود الجدد الزّيوف فيه)

- ‌قال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في أثناء كلامٍ له*:

- ‌{فائدة}:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌[فوائد]

- ‌مسألة: إذا غارس رجل رجلًا في أرضٍ، على أن يغرس فيها قدرًا معلومًا من النّخل والنّخل من العامل وينفق عليه العامل حتّى يثمر، ثم يقتسمان النّخل والأرض، هل يصحّ ذلك؟ أم لا يصحّ إلّا على أنّ الأرض لربّها والنّخل بينهما؟ أو تصحّ في الصّورتين كما أفتى به أبو العبّاس

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فائدة:

- ‌فائدة أصوليّة نافعة:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌ جواب عبد الله بن الشّيخ إلى بعض الإخوان

- ‌من عليّ بن الشّيخ حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر

- ‌فتويان من فتاوى الشيخ سليمان بن علي، جد شيخ الإسلام

- ‌فصل:

- ‌رسالة للشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، والد شيخ الإسلام

- ‌القسم الثالثرسائل وفتاوى لغير سلالة الشيخ من علماء نجد

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حمد بن ناصر بن معمر

- ‌[نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

- ‌{فائدة لأبي بطين}:

- ‌{مسألة} ما حكم ما يغرس أو ينبت من النّخل ونحوه على ماء الشّريك في المشاع إذا أراد الشّركاء القسمة

- ‌ سُئِل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى: "مَن كفّر مسلمًا فقد كفر

- ‌ اعلم أنّ ضدّ التّوحيد الشّرك، وهو ثلاثة أنواع:

- ‌(مسألة): ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس

- ‌ حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب، هل يفرق بين كون البدوي حربًا للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالًا للبائع، فما الحكم في ذلك

- ‌[فوائد]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة للإمام عبد العزيز آل سعود

- ‌رسالة للشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير الأشيقري

- ‌رسالة للشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل

- ‌{رسالة للشّيخ عبد العزيز بن عبد الجبّار}

- ‌رسالة للشيخ حمد بن عتيق

- ‌رسالة لبعض علماء الرياض

- ‌رسالة لبعض علماء نجد

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير

- ‌{رسالة لبعض علماء الدّرعية}

- ‌{رسالة للشّيخ محمّد بن عمر بن سليم}

الفصل: ‌ 4 -(رسالة ضافية في الربا وحكم نقود الجدد الزيوف فيه)

وأمّا مَن يوصي بثلث ماله وله ذرية ضعفاء فقراء، فإن كانت الوصية على أعمال البر جاز لمتولّيها أن يدفع إليهم من الوصيّة يستعينون به في حاجاتهم، وإن كان الوصية لأناس معينين أعطوا ما وصى لهم به، فإن كان على حجّ غير حجّة الإسلام فتصرف على المحتاج من ذرّيّته، وكذلك ما كان على أضحية صرفت على فقراء ذريّته؛ لأنّ الصّدقة عليهم أفضل إذا احتاجوا إليها، فلا بدّ من تنفيذ الوصية ابتداء، ثم يكون النّظر للمتولي عليه. انتهى.

-‌

‌ 4 -

(رسالة ضافية في الرّبا وحكم نقود الجدد الزّيوف فيه)

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين ولا حول ولا قوّة إلّا الله.

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} ، [الكهف: 1]، ورفع لِمَن ائتم به فأحلَّ حلاله، وحرّم حرامه في مراقي السّعادة درجًا، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهادة مَن حقّقها فاز ونجا، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الذي مَن استمسك بهديه نال من التّوفيق فلجا وبلجا، اللهم صلّ على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه الذين مَن اقتدى بهم سما بالعلم وابتهجا، وسلّم تسليمًا كثيرًا. أمّا بعد؛

فلما كان الواجب على المسلمين، خصوصًا منَ ينسب للعلم منهم والدّين، أن يهتمّ بما عليه من النّصيحة لله تعالى وعباده على وفق شرعه ومراده، وجهت بعض الهمة إلى بيان ما لعلّه أن يكون عونًا لِمَن أراد الله به خيرًا على التّعاون على البرّ والتّقوى، والتّواصي بالحقّ الذي هو أقوم وأقوى،

ص: 331

والله أسأل أن يكون ذلك مؤسّسًا على الإخلاص، وإرادة النّصيحة والسّلامة للمسلمين والخلاص.

فأقول -مستمدًا من الله تعالى العون والتّأييد، والتّوفيق والتّسديد- إن مما كثر البحث عنه والسّؤال، وعمت به البلوى بين العوام من الجهال، الاعتياض بالنّقود المسمّاة بالجدد عن الرّيال، وقد ورد علينا ونحن بالدّيار المصرية، من بعض أعيان بلادنا النّجدية، كتاب يتضمن السّؤال عن ذلك، ويستدعي الجواب عمّا وقع هنالك.

فأجاب شيخنا شيخ الإسلام، خاتمة الأئمة الأعلام عبد الله بن الشّيخ الإمام القدوة الدّاعي شيخ الكلّ محمّد بن عبد الوهّاب -أجزل الله لهم الأجر والثّواب- بما حاصله: إذا كان يعرف بين أهل الخبرة والاستعمال، أن يبذل من هذا النّقد في الرّيال، يشتمل من الفضّة على أكثر مما فيه منها فهو ربا بلا إشكالٍ، وكذا إذا كانت الزّيادة من الفضّة أو المساواة يتطرّق إليهما الاحتمال، فهو من الرّبا باتّفاق أهل النّظر والاستدلال؛ لأنّ من أصول هذا الباب، عند ذوي العقول والألبان، أنّ الجهل بالتّماثل كالعلم بالتّفاضل بغير شكّ ولا ارتياب.

ولما يسّر الله تعالى رجوعي من تلك الدّيار، وحصل لي بالوطن مكث واستقرار، رأيت أنّ ما يتعيّن علي تنبيه إمام المسلمين -وفّقه لطاعته- بأن يصرف الهمة إلى منهج الصّواب والسّداد، لما في ذلك من صلاح البلاد والعباد فبادر إلى ما أشرت إليه، أيّده الله ووالى نعمه وإحسانه عليه، فدفع إلى مَن يرضى أمانته عشرين من تلك النّقود، وأمره أن يختبر ما فيها من الفضّة بالسّبك على الوجه المعهود، وأشار إلى مملي هذه الأوراق بالحضور، ليكون ذلك من قبيل المعلوم المشهور، فحضرت تصفيتها مع ذلك الثّقة المأمور،

ص: 332

فحصل من العشرين خمسة بزنة المثقال، وهذا القدر لا يزيد على ما في الرّيال منها ولا ينقص بحال، فأفتيت بعد ذلك التّحرير والاختبار، بأنّ هذه المصارفة لا تحلّ إذا زادت الجدد عن ذلك المقدار.

ولما كانت أكثر النّفوس لا تقبل الحقّ إلّا إذا كان في قالب هواها، وتميل بالطّبع إلى أن تؤتى شهوتها ومناها، شرعت في إيضاح هذا الحكم المذكور، وإن كان عند أهل العلم في غاية الظّهور:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} ، [النّور، من الآية: 40]. فهذه براهين الكتاب والسّنة تملَى عليك، وبنات أفكار أهل التّحقيق تجلى وتزف إليك، والله أرجو أن يجعلنا مِمَن يقبل الحقّ إذا ورد عليه، وينقاد للهدى إذا دعي إليه.

اعلم -وفّقنا الله وإيّاك- أنّ الله تعالى نهى عباده عن أكل الرّبا وأنزل بتحريمه القرآن المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيمٍ حميدٍ، وزجر عنه عباده بضروبٍ من التّحذير والتّهديد، والوعيد الشّديد. فقال -عزّ من قائلٍ-:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ، [البقرة، الآيتان: 275 - 276].

قال ابن عبّاس في معنى الآية آكل الرّبا يبعث يوم القيامة مجنونًا يخفق. رواه ابن أبي حاتم.

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، [البقرة، من الآيتين 278 - 279]- إلى قوله -: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} ، [البقرة: 281]. قال البخاري -رحمه الله

ص: 333

تعالى- في صحيحه: قال ابن عبّاس هذه آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} ، [آل عمران، من الآية: 130]. إلى غير ذلك من الآيات المحكمات.

وقد جاءت السّنة الصّحيحة بالزّجر عنه والتّحذير وإيضاح، ما أجمل منه بالبيان والتّفسير. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا السّبع الموبقات -قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال-: الشّرك بالله، وقتل النّفس التي حرّم الله إلّا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل اليتيم والتّولي يوم الزّحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات". رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنّسائي.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الرّبا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه". وقال: "هم سواء". رواه مسلم.

وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت اللّيلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدّسة فانطلقنا حتى أتينا على نهرٍ من دمّ فيه رجل قائم وعلى شطّ النّهر رجل بين يديه حجارة فأقبل الرّجل الذي في النّهر فإذا أراد أن يخرج رمي الرّجل بحجر في فيه فردّه حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان فقلت ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النّهر آكل الرّبا". رواه البخاري في صحيحه.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنها قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشترى الثّمرة حتّى تطعم، وقال:"إذا ظهر الزّنا والرّبا في قريةٍ فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله". رواه الحاكم. وقال: صحيح الإسناد.

وفي حديث الإسراء أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ ليلتئذٍ بأقوام لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل هؤلاء أكلة الرّبا. رواه البيهقي.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على النّاس زمان

ص: 334

يأكلون فيه الرّبا". قال: قيل له: النّاس كلّهم؟ قال: "مَن لم يأكله منهم ناله من غباره". رواه الإمام أحمد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "الرّبا ثلاثة وسبعون بابًا". رواه ابن ماجه والحاكم في مستدركه وزاد: "أيسرها أن ينكح الرّجل أمّه وأن أربى الرّبا عرض الرّجل المسلم". وقال على شرط الشّيخين ولم يخرجاه ورواه محمّد بن نصر موقوفًا عن ابن مسعود قال: "الرّبا بضع وسبعون بابًا والشّرك نحو ذلك". رواه أيضًا عن أبي هريرة موقوفًا قال: "الرّبا سبعون حوبًا أدناهن مثل ما يقع الرّجل على أمّه وأربى الرّبا استطالة المرء في عرض أخيه". وروي أيضًا عن أبي هريرة مرفوعًا قال: "ليأتين على النّاس زمانٌ لا يبالي المرء بما أخذ من المال بحلّ أو بحرام". ورواه البخاري. ولفظه: "لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام".

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تبيعوا الذّهب بالذّهب إلّا مثلًا بمثلٍ، ولا تشفّوا بعضها على بعضٍ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلّا مثلاص بمثلٍ، ولا تشفّوا بعضها على بعضٍ، ولا تبيعوا منها شيئًا غائبًا بناجز". رواه مالك والبخاري والنّسائي. وللبخاري: "الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح سواء بسواء مَن زاد أو ازداد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء".

وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهما أنّ أبا سعيد حدّثه مثل ذلك حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عبد الله بن عمر فقال يا أبا سعيد ما هذا الذي تحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو سعيد في الصّرف؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الذّهب بالذّهب مثلًا بمثل، والورق بالورق مثلًا بمثلٍ". رواه البخاري.

وقال محمّد بن نصر المروزي: حدّثنا إسحاق بن

ص: 335

إبراهيم أنا روح بن عبادة حدّثنا حبان بن عبد الله العدوي، وكان ثقة قال: سألت أبا مجلز عن الصّرف فقال: كان ابن عبّاس لا يرى به بأسًا زمانًا ما كان يدًا بيد فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: إلى متى ألا تتقي الله حتّى متى تُوكل النّاس الرّبا؟ أما بلغك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو عند زوجته أم سلمة: "إنِّي لأشتهي تمر عجوة". فبعث بصاعين فأتى بصاع عجوة. فقال: "من أين لكم هذا؟ ". فأخبروه فقال: "ردّوه؛ التّمر بالتّمر، والحنطة بالحنطة، والشّعر بالشّعير، والذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، يدًا بيدٍ، عينًا بعينٍ، مثلًا بمثل، فما زاد فهو ربا". ثم قال: "وكذلك ما يكال أو يوزن أيضًا".

فقال ابن عبّاس جزاك الله الخير يا أبا سعيد ذكّرتَنِي أمرًا كنت نسيبته فأستغفر الله وأتوب إليه. قال فكان ينهى عنه بعد. قال روح: وكان حبان رجل صدوق.

وعن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينهى عن بيع الذّهب بالذّهب، والفضّة بالفضّة، والبرّ بالبرّ، والشّعير بالشّعير، والتّمر بالتّمر، والملح بالملح إلّا سواء بسواء، عينًا بعينٍ". رواه مسلم.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ مثلًا بمثلٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ مثلًا بمثلٍ، فَمَن زاد أو استزاد فقد أربى". رواه مسلم والنّسائي.

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفضّة بالفضّة، والذّهب بالذّهب، إلّا سواء بسواء، وأمرنا أن نبتاع الذّهب بالفضّة كيف شئنا والفضّة بالذّهب كيف شئنا". رواه البخاري والنّسائي. وله في رواية: "نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيع الفضّة بالفضّة إلّا عينًا بعينٍ سواء بسواء".

وعن مجاهد أنّه قال: كنت مع عبد الله بن عمر فجاءه صائغ فقال: يا أبا

ص: 336

عبد الرّحمن إنِّي أصوغ الذّهب ثم أبيع الشّيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل من ذلك قدر عمل يدي فنهاه عبد الله عن ذلك فجعل الصّائغ يردّد عليه المسألة وعبد الله ينهاه حتّى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد الله بن عمر: الدّينار بالدّينار، والدّرهم بالدّرهم، لا فضل بيهما، هذا عهد نبيّنا إلينا وعهدنا إليكم. رواه مالك والنّسائي.

وعن سعيد بن المسيّب عن بلال قال: كان عندي تمر دون فابتعت به من السّوق تمرًا أجود منه بنصف كيله، فقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ما رأيت كاليوم تمرًا أجود منه. من أين لك هذا يا بلال؟ ". قال: فحدّثته بما صنعت فقال: "انطلق فردَّه إلى صاحبه وخذ تمرك فبعه بحنطةٍ أو شعيرٍ واشتر به من هذا التّمر". قال: ففعلت ثم أتيت به، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"التّمر بالتّمر مثلًا بمثلٍ، والملح بالملح مثلًا بمثلٍ، والذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ، فما كان من فضل فهو ربا". رواه الإمام محمّد بن نصر المروزي.

فتضمنّت هذه النّصوص تحريم بيع الجنس من هذه الأجناس السّتة ونحوها بجنسه ما لم تعلم مساواته للآخر. وفرّق النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بين الحلال والحرام بقوله: "مثلًا بمثلٍ، يدًا بيدٍ، سواء بسواء، وزنًا بوزنٍ، عينًا بعينٍ". وأكّد ذلك بقوله: "فما كان من فضل فهو ربا". وبقوله: "فما زاد فهو ربا". وبقوله: "فمَن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء". فليس فوق هذا البيان بيان، وبهذا يعلم أنّ الصّور في بيع الجنس الرّبوي بجنسه ثلاث.

(صورة) منها: تحلّ وهي ما إذا علم التّماثل وحصل التّقابض في المجلس.

و (صورتان) لا تحلّ وهما: ما إذا جهل التّماثل أو علم

ص: 337

التّفاضل. وعلى هذا دلّت الأحاديث الصّحيحة وبه صرّح العلماء -رحمهم الله تعالى-.

قال ابن حزم رحمه الله: وافترض رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يباع الذّهب أو الفضّة بشيءٍ من نوعه إلّا عينًا بعينٍ، وزنًا بوزنٍ، أن لا يباع شيء من الإنصاف الأربعة بشيء من نوعه إلّا كيلًا بكيلٍ وعينًا بعينٍ، فإذا بَانَ في أحد الأنواع المذكورة خلط شيء مضاف إليه فلا سبيل إلى بيعه بشيء من نوعه عينًا بعينٍ، ولا كيلًا بكيلٍ، ولا وزنًا بوزن؛ لأنّه لا يقدر على ذلك أصلًا. انتهى.

وقال العماد بن كثير في تفسيره قال الفقهاء الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة. انتهى.

وهذا الذي حكاه العماد عن الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يكفينا عن تتّبع أقوالهم. وقال في الشّرح الكبير: وأمّا ربا الفضل فيحرم في كلّ مكيلٍ أو موزونٍ بيع بجنسه وإن كان يسيرًا، وإن لم يأت فيه المكيل أو الوزن إمّا لقلته كالحبّة والحفنة أو ما دون الأرزة من الذّهب والفضّة أو كثرته كالصّبرة العظيمة. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنّ ذلك لا يجوز إذا كان من جنسٍ واحدٍ، وفي الكافي وغيره: الرّبا في كلّ ما كان جنسه مكيلًا أو موزونًا. وإن تعذر الكيل فيه والوزن إمّا لقلته كالثّمرة والقبضة وما دون الأرزة من الذّهب والفضّة، وإمّا لعظمه كالزّبرة العظيمة وإمّا للعادة كلحم الطّير؛ لأنّه من جنس فيه الرّبا. وفي المنتهى: يحرم ربا فضل في كلّ مكيلٍ أو موزونٍ بجنسه، وإن قلّ كتمرة بتمرة. قال المحشي: قوله وإن قلّ، لعدم العلم بالتّساوي. انتهى.

وفي الكافي: وما جرى الرّبا فيه اعتبرت فيه المماثلة في المكيل كيلًا وفي الموزون وزنًا، لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الذّهب بالذّهب وزنًا بوزنٍ، والفضّة بالفضّة وزنًا بوزنٍ،

ص: 338

والبرّ بالبرّ كيلًا بكيلٍ، والشّعير بالشّعير كيلًا بكيلٍ". رواه الأثرم. قال: ولا يجوز بيع خالصه بمشوبه كحنطة فيها شعير أو زوان بخالصة أو غير خالصة، ولبن مشوبٍ بخالصٍ أو مشوب أو عسل بشمعه بمثله إلّا أن يكون الخلط يسيرًا لا وقع له كيسير التّراب والزّوان الذي لا يظهر في المكيل ولا يمكن التّحرّز منه. انتهى.

قلت: فتأمّل كيف أفاد أنّ ما يخل من الخلط بالتّماثل يمنع من بيع الجنس بجنسه، وهو صريح كلام الجميع ولا يخفى أنّ النّحاس المخالط للفضّة في الجدد يخل بالتّماثل، وما يخل بالتّماثل لا يجوز، ومن نظائرها ما نصّ عليه في شرح المغني والكافي وغيرهم من أنّه لا يجوز بيع الزّبد بالسّمن، قالوا: لأنّ في الزّبد لبنًا يسيرًا يحيل التّماثل.

قلت: فإذا كان الخلط اليسير من اللّبن في الزّبد يحيل التّماثل، فالنّحاس مع الفضّة من باب أولى؛ لكونها أصلًا وذاك فرع. فإن قال قائل: إنّ الفضّة فيها تبع قلت: هذا باطل من وجوه:

الأوّل: أنّه لا قيمة للنّحاس الذي فيها إذ لو وصفت الفضّة عنه لعاد خبثًا.

الثّاني: إنّ الفضّة أصل في باب الرّبا وفي التّمنية وهو فرع فيهما فلا يجعل ما هو أصل تبعًا لفرعه. وأيضًا فالفضّة جوهر ثمين فلا تكون تابعة لما ليس كذلك. قال ابن حزم: وحبّة ذهبٍ أو فضّةٍ لها بال عند المساكين نعم وعند التّجار وعند أكثر النّاس ولا يحلّ أن يزيدهما في الموازنة. انتهى. وبما أسلفته من الأحاديث يبطل هذا الاعتراض. فإن قيل: قد جوّز الفقهاء درهمًا فيه نحاس بنحاس واختلاف.

قلت: هذا عليكم لا لكم؛ لأنّ الفضّة ليست من جنس النّحاس واختلاف الجنس لا يمنع التّفاضل بالاتّفاق. وأمّا ما كان من النّحاس في

ص: 339

الدّرهم فقد أخرجته الصّنعة عن أصله وما أخرجته الصّنعة مما أصله الوزن فلا يجري فيه الرّبا غير الذّهب والفضّة نصّ عليه في المنتهى.

فإن قيل: قد أجازوا بيع درهم بمساويه في غشّ؟

قلت: هذا أيضًا من الحجّة عليكم؛ لأنّه لا سبيل إلى العلم بتساوي الدّرهمين المتساويين وزنًا في الغشّ إلّا من جهة العلم بتساويهما في الفضّة وبالعلم بالتّساوي يزول المانع بخلاف مسألتكم فإنّ التّساوي فيها غير معلوم.

فإن قيل: قد رأيناهم جوّزوا بيع التّمر فيه النّوى بمثله؟

قلت: هو كذلك، ولكنّه قد اشتمل على شيئين بأصل الخلقة، وما اشتمل على شيئين كذلك جاز. نصّ عليه في الكافي وغيره، ففارقت هذه المسألة، وقد نصّ الفقهاء رحمهم الله على أنّه لو نزع النّوى من التّمر لم يجز بيع التّمر المنْزوع منه النّوى بتمرٍ فيه نوى سواء ترك معه أو لا. ومسألتكم أولى بالمنع ولا بدّ. وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد صرّح في الفتاوى المصرية أنّها إذا كانت الفضّة المغشوشة أكثر من المفردة فإنّه لا يجوز بيع أحدهما بالأخرى، وهي مسألتكم بعينها. وعلى المنع منها اتّفق العلماء رحمهم الله.

وأمّا مسألة مدّ عجوة ودرهم التي منع الجمهور منها فللبطلان فيها مأخذان:

أحدهما: سدّ ذريعة الرّبا في كلام الإمام إيماء إلى ذلك.

الثّاني: وهو مأخذ القاضي وأصحابه أنّ الصّفقة إذا اشتملت على شيئين مختلفي القيمة يقسط الثّمن على قيمتها. وهذا يؤدّي هنا إمّا إلى يقين التّفاضل، وإمّا إلى الجهل بالتّساوي، وكلاهما مبطل للعقد؛ فإنّه إذا باع درهمًا ومدا يساوي درهمين بمدّين يتساويان ثلاثة، فالدّرهم في مقابلة ثلثي مدّ ويبقي مدّ في مقابلة مدّ وثلث وذلك ربا. فلو فرض التّساوي كمدّ يساوي درهمًا ودرهم بمدّ يساوي درهمًا ودرهمٍ لم يصحّ أيضًا؛ لأنّ التّقويم ظنّ وتخمين فلا تتحقّق معه المساواة.

ص: 340

والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل. انتهى. عثمان عن م ص.

وأجازها أبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه وعليه فلا تشبه هذه المسألة بحالٍ، فإنّ المجوّزين لها اشترطوا شروطًا لم يوجد واحد منها في هذه المسألة، فمنها: أنّهم يشترطون أن يكون المفرد أكثر من الذي معه غيره وبعضهم اشترط أن يكون الزّائد يسيرًا بقدر قيمة ما مع الجنس. وهذا الثّاني نصّ عليه الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله في الفتاوى المصرية. فقال: إذا كانت الفضّة المفردة أكثر من الفضّة المغشوشة بشيءٍ يسيرٍ بقدر النّحاس فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء. انتهى.

فأفهم كلامه أنّه إذا لم توجد القيود الثّلاثة امتنع الجواز، وذلك في أربع صور:

إحداها: أن لا تكون المفردة أكثر وذلك بأن علم أنّها أقل أو جهل وأن تكون أكثر بشيء غير يسير أو بيسير أكثر من قيمة النّحاس ومسألتكم لا تخرج عن هذه الأربع فلا تجوز.

ومن المتأخّرين كصاحب المستوعب مَن يشترط في مسألة مدّ عجوة إذا كان مع كلّ واحدٍ من غير جنسه من الجانبين التّساوي جعلًا لكلّ جنس في مقابلة جنسه. قال في الإنصاف وهو أولى من جعل الجنس في مقابلة غيره لاسيما مع اختلافهما في القيمة. انتهى.

واشترطوا أيضًا أن لا يكون حيلة على الرّبا. وبعضهم اشترط أن لا يكون الجنس الذي مع غيره مقصودًا كالسّيف المحلى، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. وعلى كلٍّ فالمجوّزون لمسألة مدّ عجوة محجوجون عند الجمهور بما تقدّم من الأحاديث، وبما في السّنن وغيرها من حديث فضالة بن عبيد. قال أبو داود (باب في حلية السّيف) تباع بالدّرهم والقلادة فيها الذّهب والفضّة حدّثنا محمّد بن عيسى وأبو بكر

ص: 341

ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع قالوا: حدّثنا ابن المبارك وحدّثنا ابن العلاء أنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد حدّثنِي خالد بن أبي عمران عن فضالة بن عبيد، قال: أُتِيَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، قال أبو بكر وابن منيع: فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو بسبعة دنانير، قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"لا حتّى تميّزوا بينهما". قال ابن حزم: فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكتف بنيّته في أنّه إنّما كان غرضه الخرز ويكون الذّهب تبعًا ولا راعى كثرة من قلّة وواجب التّمييز في الموازنة ولا بدّ. انتهى.

قال الشّيخ: فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة. وقد أتينا في هذه الرّسالة بما لعلّك لا تجده مجموعًا في غيرها. وما توفيقي إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.

وصلّى الله على عبده ورسوله محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

- 6 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الإخوان من أهل العلم والفهم سلّمهم الله تعالى.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

تفهمون حبّ الدّنيا وضرّتها على الدّين ويقع من الذين لهم مع الكدادة معاملة بدين السّلم وأنا قد أشرفت على شيءٍ من أناسٍ مظنة للخير. ولكن إذا وجد له شبهة طار بها فرحًا لما فيها من بعض الرّاحة من التّعب، ولو يلتزم المشروع هان عليه العمل به ووجد له راحة أعظم. وفي الأحاديث المتّفق عليها كحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال:"مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتّى يستوفيه". وفي لفظٍ: "حتّى يقبضه". وعن ابن عبّاس مثله. وهذه الأحاديث صريحة في النّهي عن بيعة قبل القبض والاستيفاء

ص: 342

فلا يصدق على القبض والاستيفاء إلّا حصوله كلّه مقبوضًا.

وأمّا إذا أخذ دراهم البدوي مثلًا وتمالأ هو وإيّاه على السّعر روح 1 وكيله أو هذا بنفسه وأمر الكداد أن يصرم لهما ويزن للبدوي بدراهمه وصار يكيل للبدوي كلّ زبيل يعلقه مرتين فهذه حيلة رديئة؛ لأنّه قد باع الكلّ قبل قبضه الذي دلّت عليه الأحاديث فيكون قد باع ما لم يبقض ولم يدخل في ضمانه. وإنّما هو مال صاحب النّخل باعه له غريمه، فإذا قبضه والحالة هذه صار الكلّ مالًا للمدين فيقع الغريم في خطرٍ عظيمٍ. وتصرّفه في هذه الدّراهم تصرف في مال الغير، فإن أنفق على نفسه وأهله منه صار ينفق عليهم من مال غيره، فإن بقيت هذه الدّراهم وعامل بها مرّة ثانية صار يعامل في مال غيره للغير ربحه ورأس ماله وربّما أنّه يأخذ معه ثلاثين سنة أو أكثر وهو يعامله بماله وتصير تجارة لغيره وليس له إلّا الدّين الأوّل في ذمّة الغريم، ويكون جزءًا بالنّسبة إلى ما أخذ من المال ثمن المال أو غيره، ولا دخل في ضمانه وإنّما ضمانه على صاحب الثّمر لو أتلفه أو تلف. فهذا مما يترتّب على مخالفة المشروع مع تحمل الآثام المخالفة.

فإن قال قائل: هذا أخذ الدّراهم في ذمّته.

قلنا: هذا سلم. ولا يجوز بالاتّفاق والواقع يمنع صحّة هذه الدّعوى؛ لأنّه ما قام بنفسه إلّا أنّه يكيل له من نخل هذا المدين بخصوصه، فهذه من الحيل التي لا حقيقة لها، ولا للإنسان مخرج إلّا في العمل بما شرعه الله ورسوله وترك الحيل رأسًا فهو الذي إن باع باعَ حلالًا، وإن أكل أكلَ حلالًا، وإن عامل فبالحلال. هذا وأنتم سالمين 2 والسّلام.

1 كذا في الأصل.

2 كذا، ومقتضى الإعراب أن يقال: سالمون، ولعلّ أصله: ودمتم سالمين.

ص: 343

- 7 -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد وآله وصحبه أجمعين. وسلّم تسليمًا.

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ راشد بن مطر -سلّمه الله وهداه، وأعانه على طاعته وتقواه-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

الخط وصل وسرنا ما أفهم من معرفتكم للإسلام وقبوله، زادكم الله من ذلك، وبصّركم آياته وبيّناته، وكرّه إليكم كلّ مفتون وضلالاته، وتذكر أنّه في جهتكم أناس من الجهمية والرّافضة والمعتزلة فلا ريب أنّ هذه الفرق الثّلاث هي أصل ضلال مَن ضلّ من الأمّة. فأصل الرّافضة خرجوا في خلافة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فلمّا اطّلع على سوء معتقدهم خدّ الأخاديد وجعل فيها الحطب وأضرمها بالنّار فقذفهم فيها وهم الذين أحدثوا الشّرك في صدر هذه الأمّة بنوا على القبور وعمّت بهم البلوى ولهم عقائد سوء يطول ذكرها.

وأمّا المعتزلة فأوّلهم نفاة القدر جحدوا أصلًا من أصول الإيمان الّتي في سؤال جبرائيل للنّبيّ صلى الله عليه وسلم قال فأخبرني عن الإيمان قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه". وأنكر أصحابه رضي الله عنهم عليهم ما أحدثوا من هذه البدعة، ولهم عقائد سوء يقولون بتخليد أهل المعاصي في النّار. ونفوا صفات الرّب تعالى. ووافقوا الجهميّة فخرج أولهم في عصر التّابعين. وأوّلُهم الجعد بن درهم أنكر الصّفات، وزعم أن الله لم يتّخذ إبراهيم خليلًا، ولم يكلّم موسى تكليمًا؛ فضحى به خالد بن عبد الله

ص: 344

القسري أمير واسط يوم الأضحى. وظهر بعده جهم بن صفوان الّذي تنسب إليه الجهمية. وهذا المذهب الخبيث وانتشرت مقالته في خلافة المأمون بن الرّشيد فعطلوا الصّفات ونفوا الحكمة وقالوا بالجبر.

فهذه الطّوائف الثّلاث أصل الشّرّ في هذه الأمّة، وصارت فتنة الجهمية أكثر انتشارًا ودخل فيها مَن يدّعي أنّه على السّنة وليس كذلك، فخالف الكتاب والسّنة وسلف الأمّة وأئمتها، وعمّ ضررهم فجحدوا الصّفات وتوحيد الألوهية الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهم خصوم أهل التّوحيد والسّنة إلى اليوم، فإيّاكم أن تغترّوا بَمَن هذه حاله -ولو كان له صورة ودعوى في العلم- مِمَّن امتلأ قلبه من فرث التّعطيل، وحال بينه وبين فهم الأدلّة الصّحيحة الصّريحة شبهات التّأويل.

قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ النّاس من جهة التّأويل والقياس. فصنّف المتأخّرون من هؤلاء على مذهبهم الفاسد مصنّفات كالأرجوزة التي يسمّونُها جوهر التّوحيد، وهي إلحاد وتعطيل لا يجوز النّظر إليها، ولهم مصنّفات أخرى نفوا فيها علوّ الرّبّ تعالى، والكتاب والسّنة يردّ بدعتهم ويبطل مقالتهم. فإنّ الله تعالى أثبت استواءه على عشره في سبعة مواضع من كتابه. كقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} ، [الفرقان، من الآية: 59].

وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} ، [المعارج، من الآية: 4].

وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} ، [النّحل، من الآية: 50].

{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، [آل عمران، من الآية: 55].

{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} ، [التّوبة، من الآية: 6].

إلى غير ذلك من أدلّة الصّفات الصّريحة في الكتاب والسّنة ولا تتّسع هذه الرّسالة لذكرها.

وهذه الطّائفة التي تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري وصفوا ربّ العاملين بصفات المعدوم والجماد، فلقد أعظموا الفرية على الله وخالفوا أهل الحقّ من

ص: 345

السّلف والأئمة وأتباعهم، وخالفوا مَن ينتسبون إليه؛ فإنّ أبا الحسن الأشعري صرح في كتابه:(الإبانة)، و (المقالات) بإثبات الصّفات، فهذه الطّائفة المنحرفة عن الحقّ قد تجردت شياطينهم لصدّ النّاس عن سبيل الله فجحدوا توحيد الله في الألهية وأجازوا الشّرك الذي لا يغفره الله، فجوّزوا أن يعبد غيره من دونه، وجحدوا توحيد صفاته بالتّعطيل، فالأئمة من أهل السّنة وأتباعهم لهم المصنّفات المعروفة في الرّدّ على هذه الطّائفة الكافرة المعاندة 1. كشفوا فيها كلّ شبهة لهم، وبيّنوا فيها الحقّ الذي دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله، وما عليه سلف الأمّة وأئمتها من كلّ إمامٍ رواية ودراية. ومن له نهمة في طلب الأدلّة على الحقّ ففي كتاب الله وسنة رسوله ما يكفي ويشفي. وهما سلاح كلّ موحِّدٍ ومثبتٍ. لكن كتب أهل السّنة تزيد الرّاغب وتعينه على الفهم، وعندكم من مصنّفات شيخنا رحمه الله ما يكفي مع التّأمّل فيجب عليكم هجر أهل البدع والإنكار عليهم.

وأمّا رفع الأيدي بالدّعاء بعد المكتوبة، فليس من السّنة.

وأمّا الأفغانية الذين جاؤوا ووصلوا إلى جهتكم فهم أهل تشديد وغلوّ مع جهل كثيف أشبهوا الخوارج الذين كفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بمروقهم وأمر أصحابه بقتلهم ولهم عبادة وزهد لكنهم أخطأوا في فهم الكتاب والسّنة، واستغنوا بجهلهم عن أن يأخذوا

1 يعني الشّيخ بعض مَن ينتسب إلى الأشعري بالباطل ككثيرٍ من أهل زمانه. وأمّا أتباع الأشعري المعروفون فلم يكفّرهم أحد من أهل السّنة، وإن بالغ بعضهم في التّأويل. بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنّ من مزايا أهل السّنة عدم تكفير المخالف المتأوِّل.

ص: 346

العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال العلّامة ابن القيم رحمه الله:

ولهم نصوص قصروا في فهمها

فأتوا من التّقصير في العرفان

وقد ناظر ابن عبّاس رضي الله عنهما أهل النّهروان فرجع بعضهم إلى الحقّ، واستمرّ بعضهم على الباطل حتّى قتلهم عليّ رضي الله عنه بالنّهروان. ففيهم المخدج الذي أخبر به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت هذه الطّائفة قد خرجت في عهد الخلفاء الرّاشدين فلا بدّ أن يكون لهم أشباه في هذه الأمّة فاحذروهم.

وتأمّل قوله تعالى في حقّ سادات الأمّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، [الحجرات، الآيتان: 7 - 8].

فليس العجب مِمَّن هلك كيف هلك، إنّما العجب مِمَّن نجا كيف نجا.

والله أعلم. وصلّى الله على محمّدٍ سيّد المرسلين، وإمام المتّقين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وسلّم تسليمًا كثيرًا.

- 8 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الإخوان عليّ بن حمد الجريوي وإخوانه، رزقنا الله وإيّاهم قبول الإسلام، وهدانا وإيّاهم سبل السّلام.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلكم الله إلى ما يرضيه، وتذكرون أمر الهتيمي الذي معه الحيّات، ويبيع سقوة على النّاس البدو والحضر يسقيهم من ريقه ويأخذ عليهم العهد ويدّعي أنّ مَن سقاه من ريقه أنّ الحيّة ما تلدغه ولا

ص: 347

أنكر عليه في سدير إلّا عبد العزيز بن عبد الجبّار -جزاه الله خيرًا-.

وتذكرون أنّ عثمان بن منصور تابعه وقبل منه سقوته هذا تحقّقناه منكم ومن سبيع الذين جاءونا من جهتكم ويذكرون أنّهم توقفوا عنه في مبدأ أمره، وأهل القرى كذلك حتّى واجه ابن منصور. وقبل منه وخط معه خطًا وبعد هذا تزاحم عليه البدوي والحضر، منهم الذي سقوته بدارهم، والذي بتمر، والذي بعيش، والذي بغنمٍ، والذي بسمنٍ، والذي حصل منهم باعه في تمير، وبعد هذا طب المجمعة 1 وطردوه، وخطّ عبد العزيز بن عبد الجبّار أشرفنا عليه وذكر كلام العلماء وإنكارهم على مَن فعل هذا، وأخذ الحيَّات، وأنّ هذه أحوال شيطانية تحصل بواسطة الشّياطين 2 إذا تقربت إليهم بالشّرك بالله، وهذا ما يوجد إلّا في أجهل النّاس وأبعدهم عن الله وعن دينه وعبد العزيز -جزاه الله خيرًا- أدّى الذي عليه.

وأمّا ابن منصور، فالله أعلم أنّه معاقب فلا ندري هذا كلّه جهل أو له مقصد شرّ، وإلّا فالذي على فطرة أو لَه عقل ينكر هذا بفطرته وعقله. وذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في كتاب الفرقان من الأحوال الشّيطانية أمورًا من هذه تركنا ذكرها لئلا يطول الجواب.

فهذا من

1 طبّ البلد، بمعنى: جاءه ونزله. لغة نجدية أو بدوية.

2 الذي عرفناه من الثّقات بما ثبت عندهم من التّجارب العديدة مع هؤلاء المشعوذّين الذين ينتسبون إلى الشّيخ أحمد الرّفاعي، ويعطون العهد باسمه على أخذ الحيات والثّعابين ويزعمون أنّها لا تلدغ مَن أخذ العهد، وشرب الماء الذي يرقيه الشّيخ، أو لا يضرّه سمّها إذا لدغته، أنّ عملهم حيلة إنسية لا جنّيّة، وهو أنّ أحدهم يأخذ بعض الحيّات غير السّامة ويقلع أسنانها، ويجعله في جرابه يخوف النّاس منها، ومن سقاه العهد أعطاه واحدة منها أو أكثر فيلاعبها وربما عضته بفيها وليس لها أسنان تلدغ بها. وللّدغ ناب خاص في أفواه الثّعابين السّامة يفرز السّمّ.

ص: 348

جنس أحوال الكهان مع الشّياطين، والكهانة أنواع، هذا منها.

وفي الحديث: "مَن أتى كاهنًا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّدٍ صلى الله عليه وسلم".

وأمور الكهانة وما شابهها من الاستمتاع بالشّياطين والاستكثار منهم محاها الله سبحانه بما أطلع في نجد من الدّعوة إلى توحيد الله، وامتدت إلى كثير من الجزائر، كما محا الله أحوال الكهان ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسدّ صلى الله عليه وسلم أبواب الشّرك وأحوال الجاهلية وحمَى الإسلام. فَمِن ذل ما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:"إنّ الرّقى والتّمائم والتّولة شرك"، فلم يبح من الرّقى إلّا ما خصّه الدّليل من الآيات القرآنية، والأذكار النّبويّة، والدّعوات المعروفة بالألفاظ العربية.

وأمّا ما كان بأسماء الشّياطين أو بما لا يعرف معناه فينهى عنه، لهذا الحديث. وحكمه التّحريم.

فإذا كان هذا حال الرّقى التي فيها من الألفاظ ما لا يعرف معناه، فكيف بما هو ظاهر أنّه من أعمال الشّياطين مع مَنْ تولّاهم؟ مثل هذا الهتيمي وأمثاله مِمَّن شاهدناهم بمصر لا شكّ أنّه من أعمال الشّيطان. ولهؤلاء اعتقادات شركية في معبودهم الذي يعبدونه من دون الله، وأكثر هذه الطّرائق محشوة بالشّرك والبدع.

وقوله في الحديث: "والتّولة شرك"، ذكر العلماء أنّها تشبه السّحر، وما يشبه السّحر فهو شرك. وكذلك التّمائم شرك للتّعلّق بها والاعتماد عليها من دون الله. وفي بعضها أسماء الشّياطين وما لا يعرف معناه، فكلّ هذه الأمور لا تجامع الإسلام الصّحيح، بل تنافيه إذا اشتملت على ما هو شرك بالله من التّوكّل على غيره ونحوه ذلك. وقد وقع في نفوس كثيرٍ من الجهّال الذين أخذوا عن هذا الهتيمي كثير من تصديقه وقبول ما جاءهم به من هذه الضّلالة. وهذه فتنة وقانا الله

ص: 349

شرّها. وبسط القول في ذلك، وذكر ما قاله العلماء له موضع آخر إن شاء الله تعالى.

وبلّغ سلامنا الإخوان وخواص الإخوان. والشّيخ عليّ، والشّيخ عبد اللّطيف ينهون السّلام وأنتم سالمين والسّلام.

- 9 -

بسم الله الرحمن الرحيم

فائدة: قال الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى-.

سألتم عما أحدّثه بعض النّاس عند بيع الطّعام من جعلهم ميزانين، زعموا أنّ أحدهما للقبض والثّاني للبيع، هل يكون ذلك قبضًا شرعيًا مبيحًا للبيع أم لا؟

الجواب: ليس هذا قبضًا شرعيًا، ولا يكون فاعله خارجًا عما نهي عنه من بيع الطّعام قبل قبضه؛ فإنّ الأحاديث مصرّحة بالنّهي عنه لحديث ابن عمر:"مَن اشترى طعامًا فلا يبعه حتّى يستوفيه".

وعند مسلم عن ابن عمر: كنا نبتاع الطّعام فيبعث إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه.

وحديث ابن عمر: "مَن اشترى طعامًا بكيلٍ أو وزنٍ فلا يبعه حتّى يقبضه". رواه أبو داود والنّسائي ولفظه: "نهى أن يبيع أحد طعامًا اشتراه بكيلٍ حتّى يستوفيه".

وحديث جابر: نهى عن بيع الطّعام حتّى يجري فيه الصّاعان: صاع البائع وصاع المشتري.

هذه الأحاديث ظاهرة في النّهي عن بيع الطّعام قبل قبضه بألفاظ مختلفة. والمراد منها واحد، ففيها:"حتّى يستوفيه"، "وحتّى يقبضه"، وفيها:"وكان يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه في إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه"، فليس بعد ذلك بيان.

وقول القائل: هذا خاصّ بما بيع جزافًا.

فمردود بقول الشّارع صلى الله عليه وسلم: "حتّى يستوفيه". و"حتّى يقبضه"، وبقوله: "مَن اشترى طعامًا بكيلٍ أو وزنٍ فلا يبعه

ص: 350

حتّى يقبضه".

ولفظ: القبض والاستيفاء يكذب معنى التّخصيص بالجزاف، وقد ذكر الفقهاء أنّ قبض المكيل بالكيل، وقبض الموزون بالوزن، فيقال لصاحب الموازين من أين جئت بهذا، وفي أيّ كتاب وجدته، فإنّا لم نجد ذلك لأحدٍ من العلماء المتقدّمين، ولا المتأخّرين، وإنّما فسرتم ألفاظ النّصوص بما تهوونه وتحبّونه، ولم تذكروا ذلك عن أحدٍ من العلماء، فهل يكون ذلك حجّة شرعية؟ وأبلغ من ذلك أنّ مذهب محمّد بن إسماعيل البخاري وطائفة أنّ استيفاء المبيع المنقول وتبقيته في منْزل البائع لا يكون قبضًا شرعيًا، حتّى ينقله المشتري إلى مكانٍ لا اختصاص للبائع به، قال: وهو منقول عن الشّافعي.

ودليله: ما رواه أحمد عن ابن عمر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبتاع السّلع حتّى يحوزها التّجار إلى رحالهم.

وفي صحيح مسلم: كنا نبتاع الطّعام ويبعث علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن يأمرنا بنقله من المكان الذي ابتعناه فيه إلى مكانٍ سواه قبل أن نبيعه. وقد تقدم.

فيا عباد الله أين عقولكم؟ ويا طلبة العلم أين أفهامكم؟ قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، [النّور، من الآية: 63].

وصلّى الله على محمّدٍ وآله وصحبه وسلّم.

- 10 -

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا العلّامة عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى وكثّر فوائده- جوابًا عن مسائل سأله عنها الفقير إلى الله عبد الرّحمن بن عدوان. قال بعد السّلام: هذا جواب المسائل:

أمّا الأولى: وهي ما إذا قبض دين السّلم قبضًا تامًّا يتمكّن من التّصرّف فيه فإنّه يجوز له أن يبيعه على مَن وافاه به مطلقًا وليست هذه صور عكس العينة.

ص: 351

الثّانية: رجل اشترى تمرًا بنسيئةٍ من آخر ثمّ ردّه عليه عمّا في ذمّته.

الجواب: إن كان قبضه قبضًا صحيحًا جاز أن يوفيه به المشتري، إذا كان له قدرة على أن يوفيه دينه من غيره بخلاف ما إذا كان لا يقدر على الوفاء لعسرته واضطرّه إلى أن يستدين له من نفسه ليوفيه. فهذا لا يجوز لوجهين:

أحدهما: أنّ المعسر يجب إنظاره وهذا إضرار به يريد به عسرته.

الثّاني: أنّه من قلب الدّين الذي نصّ عليه العلماء رحمهم الله كشيخ الإسلام ابن تيمية.

الثّالثة: خرص النّخل وإعطاؤه للشّريك ليأخذ مثله وقت الجذاذ، فالظّاهر أنّ هذا لا يجوز؛ لأنّه من صور بيع الجنس بجنسه، وشرط جوازه التّماثل والتَّقابض، والذي يجوز في ذلك أن يقتسماه على رؤوس النّخل خرصًا فيأخذ كلّ واحدٍ منهما مثل ما أخذه شريكه فيختصّ كلّ واحدٍ بما أخذ بالقسمة فلا يكون في ذمّة أحدهما للآخر شيء.

الرّابعة: مليء عليه دين لآخر فأسلم إليه دراهم فقضاه دينه منها.

الجواب: هذه الصّورة من صور قلب الدّين، وقد نصّوا على أنّه يضارع الرّبا، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّ السّلف منعوا منه. وأفتى هو بالمنع، وكذا شيخنا الإمام -رحمه الله تعالى-. وذلك لأنّه تنمية للدّين في ذمّة المدين بمجرّد القلب وهو بمعنى ربا الجاهلية، إمّا أن تقضي وإمّا أن تربي.

الخامسة: إذا تقايلا دين السّلم فهل يجوز التّفرّق قبل قبض رأس المال أم لا؟

الجواب: قال في المنتهى: ويجوز إقالة في سلم وبعضه بدون قبض رأس ماله، أو عوضه إن تعذر في مجلسها؛ لأنّه إذا حصل الفسخ ثبت الثّمن في ذمّة البائع فلم يشترط قبض بدله في المجلس كالقرض. وفيه وجه يشترط. انتهى.

ص: 352

السّادسة: ما تراه الحائض من النّشاف في أيّام الحيض؟

الجواب: النّقاء طهر وإن لم يرَ معه بياض فعليها أن تغتسل وتصلّي، وفيه قول أنّ البياض الذي يأتي المرأة عقب انقطاع الحيض هو الطّهر الصّحيح. وإليه يميل شيخنا رحمه الله فيما يرى. والله أعلم.

- 13 -

بسم الله الرحمن الرحيم

سُئِلَ الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن عن بعض مسائل الحجّ فأجاب -رحمه الله تعالى- على سبيل الاختصار:

في العمرة والحجّ ينوي العمرة ويحجّ لها 1 عن عمرة الإسلام وحجّة الإسلام فيحرم من الميقات بنيّة العمرة والحجّ عنها قائلًا عند دخوله في الإحرام: لبّيك عمر ويلبّي حتّى يطوف بالبيت طواف العمرة سبعة أشواط يرمل في الثّلاثة الأول، ثم يصلّي ركعتين خلف المقام، ثم يخرج إلى الصّفا من بابه ويرقى على الصّفا، ثم يسعى بين الصّفا والمروة سبعة أشواط، ثم يحلّ من عمرته بالحلق أو التّقصير. ثم إذا أراد الخروج إلى عرفة في اليوم الثّامن طاف بالبيت وصّلى ركعتين، وأحرم بالحجّ. وقال: لبّيك حجًّا عن فلان باسمه 2، ويخرج إلى عرفات ويدفع منها إلى بعد غروب الشّمس، ويبيت بمزدلفة ثم يفعل ما يفعل الحاجّ، فإذا أتى منى يوم العيد رمى جمرة العقبة خاصّة، ثم يذبح الهدي؛ هدي التّمتّع، وأدناه جذع الضّأن

1 الضّمير في (لها) يعود إلى امرأة أنابت رجلًا ليحجّ عنها كما يعلم من آخر الجواب، وكان ينبغي لجامع هذه المسائل أن يذكر أنّ السّؤال وقع من ذلك.

2 لعلّ الأصل: "عن فلانة باسمها"، لأنّ المستنيبة امرأة فحرّفه النّاسخ.

ص: 353

له ستة أشهر، ثم يفيض إلى مكّة ويطوف طواف الزّيارة وهو ركن، ويسعى بين الصّفا والمروة، وهو ركن أيضًا. ثم يرجع إلى منى ويرمي الجمرات الثّلاث كلّ يومٍ إذا زالت الشّمس كلّ جمرة سبع حصيات صغار أكبر من الحمص ثم إذا أراد أن يخرج طاف طواف الوداع فإذا فعل ذلك تَمَّ حجّه وعمرته عمَّن استنيب عنها.

- 14 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الابن صالح بن محمّد الشّثري -سلّمه الله تعالى-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا طيبك وعافيتك. والحمد الله على ذلك. وما ذكرت من عبارة الفقهاء في الحجّ.

فأمّا قولهم: أركان الحجّ الوقوف؛ وطواف الزّيارة بلا نزاع فيهما، فإنّ ترك طواف الزّيارة رجع معتمرًا؛ لأنّه على بقية إحرامه، فهذا في حقّ مَن تركه.

قال في الإنصاف: وأمّا المحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل ومتى زال الحصر أتى بطوافه، وتَمَّ حجّه وذبح هديًا في موضع حصره. وهذا المذهب. واختار ابن القيم رحمه الله في الهدي أنّه لا يلزم المحصر هدي. وأمّا مَن أحصر لمرضٍ أو ذهاب نفقةٍ لم يكن له التّحلّل حتّى يقدر على المبيت، فإن فاته الحجّ تحلّل بعمرة، ويحتمل أنّه يجوز له التّحلّل كَمَن حصره عدوّ. وهو رواية عن أحد. قال الزّركشي: ولعلّها أظهر. واختارها الشّيخ تقيّ الدّين. قال: ومثله حائض تعذر مقامها وحرم طوافها أو رجعت ولم تطف لجهلها بوجوب طواف الزّيارة أو لعجزها عنه، ولو لذهاب الرّفقة. وقال في الفروع:

ص: 354

وكذا مَن ضلّ الطّريق ذكره في المستوعب.

هذا حاصل ما ذكره في الإنصاف في حكم مَن فاته طواف الزّيارة لهذه الأسباب.

وأمّا إذا أحصر عن فعل واجب؛ فإنّه يتحلّل على الصّحيح من المذهب. وعليه دم له وحجّه صحيح.

وقال القاضي: يتوجّه فيمَن حصر بعد تحلّله الثّاني يتحلّل.

قلت: ولعلّ مراده أنّه لم يبق عليه من المناسك شيء إلّا أن يكون طواف الوداع أو رمي الجمار والمبيت بمنى. وهذه الأفعال يأتي بها الحاج بعد التّحلّل. وأمّا إذا بقي عليه شيء من المناسك التي محلّها قبل التّحلّل الثّاني؛ فإنّه يبقى محرمًا ليأتي بها، كما يأتي بها مَن لم يحصر عن واجبٍ؛ كالمبيت بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة، فلا يجوز أن يأتي بذلك إلّا وهو محرم. فتدبّر.

وسلّم لنا على الشّيخ عبد الملك وحمد وعيسى والحمولة، وخواص إخواننا ومن لدينا عبد اللّطيف وإخوانه وحمولتنا، وخواص الإخوان بخير. وينهون السّلام.

- 15 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ المحبّ الشّيخ المكرم عبد الله بن عبد الرّحمن -ألبسه الله حلل الإيمان-.

سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا حيث أشعر بطيبك وصحّة حالك. والمحبّ بحمد الله تعالى بخير وعافية.

وما ذكرت من المسألة التي وقعت عندكم أنّ صورتها: أنّ امرأة دفعت حليها إلى بنتها تجمل به لزوجها وهم في بيتٍ واحدٍ فكانت تستعمله في حياة أمّها فلمّا ماتت ادّعت البنت استحقاقها لذلك.

ص: 355

فالجواب: أنّ الذي يظهر لنا أنّ البنت لما لم تدع الهبة لا تملكه بمجرّد الإذن في الاستعمال. والظّاهر أنّ ذلك إعارة لا تمليك. ومفهوم كلام الأصحاب رحمهم الله الذي أشرتم إليه يدلّ على هذا؛ لأنّ الأم لم تجهّزها به إلى بيت زوجها، فلم يوجد ما هو تمليك.

وأمّا الصّورة التي سُئِل عنها الشّيخ سليمان بن عليّ رحمه الله فالفرق بينها وبين مسألتنا ظاهر، وذلك أنّ الأم ادّعت أنّ ذلك الحلي الذي اشترته وألبسته البنت أنّه ليس للبنت، والظّاهر أنّ ما كان عليها فهو لها بحكم اليد، وليس لهذا أصل يعارض هذا الظّاهر.

وأمّا مسألتنا: فالأصل فيها قويّ ولم يوجد ما ينقل عن ذلك الأصل القويّ فيبقى حكم الأصل. هذا ما ظهر لي في حكم المسألة. والله أعلم. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 16 -

بسم الله الرحمن الرحيم

وقال شيخنا عبد الرّحمن بن حسن في جوابٍ له*:

وما ذكرت من أمر مواريث كانت في الأصل فصارت اليوم في يد غير أهلها يتصرّفون فيها تصرّف الملّاك.

فالجواب: أنّ الذي استقرّ عليه فتوى شيخنا شيخ الإسلام إمام هذه الدّعوة الإسلامية أنّ العقار ونحوه إذا كان في يد إنسانٍ يتصرّف فيه تصرّف المالك من نحو ثلاث سنين فأكثر ليس له فيه منازع في تلك المدّة أنّ القول قوله أنّه ملكه؛ إلّا أن تقوم بيّنة عادلة تشهد بسبب وضع اليد أنّه مستعير أو مستأجر أو نحو ذلك. وأمّا الأصل فلا يلتفت إليه مع هذا الظّاهر.

فقدم شيخنا -رحمه الله تعالى- الظّاهر هنا على الأصل

* هنا جواب على ثلاث مسائل، تكرر بعد ذلك في (1/ 402). [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 356

لقوّته وعدم المعارض. والله أعلم.

وأمّا ما ذكرت من عقد المساقاة هل هو جائز أم لازم؟

فالصّحيح اللّزوم. وهو الذي عليه الفتوى من شيخنا شيخ الإسلام، ومَن أخذ عنه لا يختلف فيه اثنان منهم. واستمرّ الأمر على ذلك إلى الآن، وهو الصّواب. واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وقول بعض متقدّمي الأصحاب؛ لأنّه عقد معاوضة، فكان لازمًا كالإجارة. فيفتقر إلى ضرب مدّةٍ. وأمّا ما كره الفقهاء من أنّ مؤنة ردّ مبيع تقايلاه على البائع فهو المشهور. والسّلام.

وأمّا قوله في النّخل: أن تحمرّ، أو تصفرّ فهو الذي تراه بعينك بعد الخضرة إلى الحمرة أو الصّفرة.

وأمّا أخذ بعض دين السّلم خرصًا فالجمهور على المنع، وذكر ابن عبد البرّ رحمه الله عن بعض العلماء أنّه يجوز إذا أخذ دون حقّه وبه أفتى شيخنا الشّيخ عبد الله بن الشّيخ. رحمهم الله أجمعين.

- 17 -

بسم الله الرحمن الرحيم

سُئِلَ شيخنا العالم العلّامة عبد الرّحمن بن حسن رحمه الله عمّا يخصّ به يوم المولد من النّحر ويسمّونه نافلة، وما يفعل في السّابع والعشرين من رجب من تخصيص بالصّوم والنّحر، وما يفعل في ليلة النّصف من شعبان من النّحر وصيام اليوم، وما يخصّ به يوم عاشوراء من النّحر أيضًا، هل هو محرم؟ وهل الأكل من ذلك محرّم أو مكروه أو مباح؟ وهل يجب على الأمراء والعلماء إنكار ذلك ويأثمون بالسّكوت أم لا؟

فأجاب -ألهمه الله الصّواب-: هذه الأمور المذكورة من البدع

ص: 357

كما ثبت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ".

وقوله في الحديث الآخر: "وإيّاكم ومحدثات الأمور فإنّ كلّ محدثةٍ بدعةٌ وكلّ بدعةٍ ضلالة".

والعبادات مبناها على الأمر والنّهي والاتّباع. وهذه الأمور لم يأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الخلفاء الرّاشدون ولا الصّحابة والتّابعون، وقد قال صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث الصّحيح:"مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". وهذه الأمور ليس عليها أمره صلى الله عليه وسلم فتكون مردودة يجب إنكارها لدخولها فيما أنكر الله ورسوله.

قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، [الشّورى، من الآية: 21]. وهذه الأمور مما أحدثها الجهّال بغير هدى من الله. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا حديث التّوسعة على العيال يوم عاشوراء فضعّفه شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن تحصل التّوسعة بدون اتّخاذه عيدًا. والله أعلم.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 18 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ الشّيخ جمعان بن ناصر -سلّمه الله تعالى-، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه وسرّنا ما ذكرت من السّكون واستقامة الحال، والأحوال من فضل الله على ما تحبّ. وجاءك منا خط مع فالح من رجال الأمير عائض. وما ذكرت من عبارة الإقناع: إن الطّلاق يقع في النّكاح الفاسد -وهو المختلف فيه- كالنّكاح

ص: 358

بولاية فاسقٍ، أو شهادة فاسقين، ونكاح الأخت في عدّة أختها ثم قال: ولا يقع في النّكاح الباطل إجماعًا.

الجواب -وبالله التّوفيق-: أنّ الفاسد هنا هو ما اختلف في صحّته؛ لأنّ كلًّا من المختلفين إمام مجتهد، وله استدلال على ما ذهب إليه. فإذا قال الإمام أحمد رحمه الله إنّ النّكاح لا يصحّ لحديث كذا، وقال فيه أصحابه ومَن تبعه لقوّة دليله عندهم. ورأينا غيره يقول بالصّحّة، ويقدح في إسناد حديثه مثلًا، فإنّا لا نحكم والحالة هذه بأنّ النّكاح لم ينعقد فنقول هو فاسد، ولا يخرج من ذلك إلّا بالطّلاق خروجًا من خلاف العلماء.

وأمّا الباطل فهو ما أجمع على بطلانه لظهور دليله وعدم المعارض، فيكون غير منعقد من أصله فلا يحتاج إلى طلاقٍ ما لم ينعقد بيقين.

وأمّا طلاق الثّلاث فإنّه يقع عند الجمهور مفرقًا أو مجموعًا، وهو الذي عليه العمل سلفًا وخلفًا من خلافة عمر ومن بعده، وهو كذلك عند الأئمة الأربعة، وهو الأصحّ في مذاهبهم عند أصحابهم، وإن كان الخلاف فيه إنّما اشتهر عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامّة ابن القيم -رحمهما الله تعالى- أخذا بما كان الأمر عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، والجمهور أخذوا بالآخر من اجتهاد عمر، ولهم أجوبة عمّا استدلّ به شيخ الإسلام معروفة. وعمدتهم فيما ذهبوا إليه من إيقاع الثّلاث مطلقًا ظاهر القرآن؛ فإنّ الله تعالى لم يجعل له إلّا ثلاث تطليقات، قال تعالى:{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} ، [البقرة، من الآية: 229]، وثم قال:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، [البقرة، من الآية: 230]. وبذلك أفتى ابن عبّاس رضي الله عنهما وغيره، وهو حبر الأمّة، فالاستدلال بفتي ابن عبّاس والصّحابة أحقّ،

ص: 359

والاستدلال بقول شيخنا أولى من الاستدلال بقول الشّوكاني؛ لأنّه رجل من أهل صنعاء يخطئ كثيرًا، وإن كان يصيب في بعض، فليس هو حجّة على أحدٍ ولا يحتج بقوله، ولو لم يكن إلّا أنّه مجهول الحال في العلم والدّين لكفى، وإن كان ينظر في الكتب فالذي بضاعته ما يأخذه عن الشّوكاني مزجى البضاعة، وافي الغباوة والوضاعة.

وبلّغ عبد الرّحمن وصالح وإبراهيم وإخوانهم السّلام، ومن لدينا الحاضر من آل الشّيخ وإخوانهم ينهون السّلام.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 19 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ حمد بن عبد الله بن عمران، سلّمه الله تعالى وتولّاه، واستعمله فيما يحبّه ويرضاه، وأعانه على القيام بشكره فيما أعطاه من نعمه وأولاه التي أعظمها نعمة الإسلام والإيمان، جعلنا الله وإيّاه مِمَّن عرف النّعمة فقبلها وأحبّها وعمل بها إنّه ولي ذلك، والقادر عليه، يهدي مَنْ يشاء برحمته وفضله، ويضلّ مَن يشاء بحكمته وعدله، لا إله غيره، ولا ربّ سواه.

والخط وصل وصلك الله إلى ما يرضيه وثبّتنا وإيّاك على الإخلاص الذي هو سبب الخلاص، وعلى الإسلام الذي هو مركب السّلامة، وعلى الأمان الذي هو تمام الإيمان، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

وتسأل عن أناس يسافرون من نجد لأخذ ما أوصى به الموصون بأن يحجّ به عنهم بالنّيابة فلا يخفاك أنّ الذين يأتون إليكم ما يطلعوننا على ما قصدوه وأرادوه لكثرة السّفار إلى الأقطار، وقد نشرت لطلبة العلم ولِمَن سألنِي من عوام المسلمين أنّه لا تصحّ النّيابة

ص: 360

في الحجّ إذا أخذ ما أوصى به الموصي إلّا إذا أخذه ليحجّ، فيكون القصد أن يتوصل بما يأخذه إلى بيت الله رغبة في رؤية البيت والطّواف به وكثرة ثواب العلم به كما قال الخليل عليه السلام:{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} ، [إبراهيم، من الآية: 37].

وبعض النّاس مولع بزيارة هذا البيت فيطلب ما يتوصّل به إليه فتصحّ نيابته في الحجّ والعمرة على هذا الوجه. وأمّا إذا حجّ ليأخذ الأجرة فلا يصحّ حجّه، وإن سمّاه بعض الفقهاء جعلًا فهو استئجار بلا ريب، وقد نصّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- على أنّه لا يجوز أخذ الأجرة على عملٍ يكون قربة يتقرّب به إلى الله؛ كالأذان والصّلاة، وأظنّ أنّ أكثر مَن يسار لأخذ الوصايا بالحجّ إنّما قصدوا هذا الثّاني. والله أعلم بما تنطوي عليه الضّمائر من الإرادات والنّيّات والمقاصد، فهذا الذي ذكرت لك هو الذي نأخذ به ونفتي به المستفتين ونبيّنه للجاهلين بحسب القدرة والطّاقة.

هذا، وبلّغ سلامنا الإخوان وفاطمة بنت قضيب، وأمثالك من الإخوان الكرام العارفين. قدر ما أنعم الله به من نعمة الإسلام التي ضلّ عنها مَن ضلّ. وزلّ عنها وعن معرفة حقيقتها مَن زلّ. ومن لدينا الإمام وأولاده وابنا عبد اللّطيف، وإخوانه، وأولاده وأولاد الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب وخواص إخواننا من المسلمين بخيرٍ وعافيةٍ. وأنت سالم. والسّلام.

- 20 -

بسم الله الرحمن الرحيم

سُئِلَ شيخنا عبد الرّحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- عن تنصيف المهر، وذلك أنّ الرّجل إذا خطب المرأة من الحمولة وأجابوه وقرّبوه

ص: 361

وعقدوا له على ريالين أو نحوهما يسمّونه مهرًا، ومن المعلوم أنّ المقصود غيره ربّما يقع الطّلاق قبل الدّخول فما الذي يتنصف هل هو الْمُسَمَّى عند العقد أو المعتاد؟

أجاب -رحمه الله تعالى- بقوله: اعلم أنّ هذه المسألة تكثر الفكرة فيها، ولم نقف على نصٍّ صريحٍ فيها، ولكن الذي يستقرّ في القلب ويغلب في الاعتقاد وهو أقرب إلى أصول الشّرع أنّ التنصيف يكون فيما يسمى جهازًا، وهو الذي يبذل قبل الدّخول في العادة في مثل نساء هذه المرأة، ثم وجدنا في الاخيتارات ما يقرّر ذلك ويوافقه، ولفظه، والشّرط المتقدّم كالمقارن والاطّراد العرفي كاللّفظي. قال أبو العبّاس -رحمه الله تعالى-: وقد سُئِلت عن مسألة من هذا. وقيل: ما مهر مثل هذا؟

فقلت: ما جرت العادة بأن يؤخذ من الزّوج. فقالوا: إنّما يؤخذ المعجل قبل الدّخول. فقلت: هذا مهر مثلها. انتهى. وهو واضح لا غبار عليه. ويبلغ على ظنّي أنِّي قد أفتيت به سابقًا. والله أعلم صلى الله عليه وسلم.

- 21 -

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في نصيحة للمسلمين في مسألة الرّهن:

وأمّا مسألة الرّهن فقد تكرر السّؤال عنها. فنقول: الذي عليه جمهور العلماء والصّحيح من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض فلو تصرف فيه الرّاهن قبل قبضه صحّ تصرّفه، واستدّلوا بقوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، [البقرة: من الآية: 283]. واستدامته شرط في اللّزوم للآية، فإن أخرجه المرتهن عن يده زال اللّزوم فإن ردّه الرّاهن عليه عاد اللّزوم بحكم القصد السّابق؛ لأنّه أقبضه باختياره فلزم به كالأوّل.

ص: 362

فإن أزيلت بعدوان كغصبٍ ونحوه فالرّهن بحاله؛ لأنّ يده ثابتة حكمًا. هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله تعالى- ومن كتبهم نقلنا.

وأمّا قلب الدّين على المدين فمن صوره أنّه إاذ كان له على شخص دراهم ثمن زاد أسلم إليه دراهم في زاد ليستوفي منه بتلك الدّارهم وكلّ منهما يعلم أنّ رأس المال راجع إلى صاحبه فتكون حقيقته تربية الدّين في ذمّة المدين، وهذه الصّورة وأمثالها ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّها تضار ربا الجاهلية، وأفتى شيخنا شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- بالمنع من هذه الصّورة وأمثالها. والله أعلم.

- 22 -

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن رحمه الله تعالى:

مسألة: مراعاة شرط الواقف فيما ذكر هل هو صحيح أم لا؟

فالجواب منصوص علمائنا -رحمهم الله تعالى- في كتبهم أنّه يلزم الشّرط المستحب خاصّة، وأنّ الشّرط المكروه باطل اتّفاقًا. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وقول الفقهاء: (شروط الواقف كنصوص الشّارع)، يعنِي في الفهم والدّلالة لا في وجوب العمل مع أنّ التّحقيق أنّ لفظ الواقف والموصي والنّاذر والحالف وكلّ عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلّم بها ووافقت لغة العرب أو لغة الشّارع أو لا، وقال: لا خلاف أنّ مَن وقف على صلاة أو صيام وقراءة أو جهاد غير شرعي لم يصحّ. والشّروط إنّما يلزم الوفاء بها إذا لم يفض ذلك إلى الإخلال بالمقصود الشّرعي. انتهى ما أفاده شيخنا رحمه الله تعالى.

ص: 363

- 23 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ في الله الشّيخ رجب سلّمه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط أوصلك الله إلى رضاه، وجعلنا وإيّاك مِمَّن الجنة مسكنه ومأواه، آمين. وبعد، فما ذكرت من المسائل:

المسألة الأولى: إذا كان أحد أولاد الرّجل ضعيفًا وأعطاه لضعفه فهل يجوز أن يخصّه بذلك أم لا؟

الجواب: أنّ الولد الضّعيف يلزم أباه الغني أن ينفق عليه فيكون من باب الواجب الذي سببُ وجوبِه حاجّة الابن، فإن كان من الأولاد مَن هو مثله وجب له مثل ما يجب لأخيه الماضي.

المسألة الثّانية: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تستحلفوا النّاس على صدقاته"، وتابعه عمر رضي الله عنه، فمعنى الحديث -والله أعلم- إذا كان العامل يظنّ له مالًا فلا يحلفه على مجرّد ظنّه، وأمّا إذا عرف له مال وجحد أو ادّعاه لغيره مثلًا مِمَّن هو غائب فالتّهمة قائمة فيجتهد العامل إلّا أن يكون موثوقًا به يعرف منه الصّدق والدّيانة فلا يحلف، فالمسألة لها صور ثلاث، ولها مسألة رابعة وهي: ما إذا عرف أنّ هذا الذي في يده من المال ليس لغيره فتؤخذ منه الزّكاة على كلّ حالٍ.

المسألة الثّالثة: إذا كان لرجل أرض فوهبها لابنه الصّغير فإن أقبضها وأشهد أو جعلها في يد رجلٍ آخر وجعله وكيلًا في قبضها منه لابنه لزمه ذلك لوفاء شرطه، وإن لم يقبض فلا لزوم، وعلى كلّ حالٍ للوالد

ص: 364

أن يرجع في هبته للولد، وأمّا إذا مات وصحّ القبض فلا رجوع على ما ذهب إليه الأكثرون من العلماء.

المسألة الرّابعة: فيمَن ماله مائة وخمسون، وقد أوصى لرجلٍ بثلث ماله ولآخر بعشرة، فإذا لم يجز الورثة ما زاد على الثّلث فيجعل الثّلث وهو خمسون ستة أسهم، لصاحب الثّلث خمسة أسهم كلّ سهم ثمانية وثلث، ولصاحب العشرة واحد من ثمانية وثلث، وأمّا الحديث فلم أقف عليه ومعناه صحيح. والله أعلم.

- 24 -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصّلاة والسّلام على مَن لا نَبِيَّ بعد، تأمّل -رحمك الله وهداك وتولّاك- ما ذكره بعض العلماء في مسألة عمت بها البلوى، وهي: ما إذا اشترى مسلم دابّة من بعض أسواق المسلمين، وهو لا يعلم أنّها مغصوبة فادّعى عليه آخر أنّها دابّته، قد أخذت منه بغير حقٍّ، وقد اعتمد بعض المفتين في قطرنا أنّه إذا أقام شاهدين أو شاهدًا ويمينًا أنّها دابّته أخذت منه نهبًا أن يفتى بنَزعها من يد المشتري مجانًا فيذهب على المشتري ثمنها والحالة هذه، وفي كلام العلماء من أئمة مذهبنا ومن بعدهم من متأخري الحنابلة أنّه لا يأخذها إلّا بالثّمن الذي اشتريت به، وهو أعدل إن شاء الله تعالى. وله أصل في كلام أئمة المذهب. قال في الشرح الكبير: إذا علم مال ارمرئ مسلم قبل قسمة الغنيمة وجب ردّه وصاحبه أحقّ به فأمّا إن أدركه بعد القسم؛ ففيه روايتان:

إحداهما: أنّ صاحبه أحقّ به بالثّمن، وهذا قول أبي حنيفة والثّوري والأوزاعي ومالك، لئلا يفضي إلى حرمان آخذه من

ص: 365

الغنيمة أو تضييع الثّمن على المشتري من الغنيمة.

والرّواية الثّانية: أنّه لا حقّ له فيه بحالٍ. نصّ عيله. ثم قال: إن أخذه أحد الرّعية بهبةٍ أو سرقةٍ أو بغير شيء فصاحبه أحقّ به. وقال أبو حنيفة: لا يأخذه إلّا بالقيمة وهو محجوج بحديث ناقة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ولأنّه لم يحصل في يده بِعَوَضٍ. انتهى.

قلت: فتأمّل قول إمام مذهبنا: ولأنّه لم يحصل في يده بعِوَضٍ، وتأمّله قوله فيما تقدم: لئلا يفضي إلى حرمان مَن أخذه من الغنيمة، أو تضييع الثّمن على المشتري من الغنيمة. فتأمّل هذا التّعليل يظهر لك منه الدّليل؛ إذ لا فرق بين أن يشتريه من الغنيمة أو من بعض أسواق المسلمين. وهذا واضح بحمد الله.

وما نقلته من الشّرح الكبير نقله الخطابي في شرح السّنن عن هؤلاء الأئمة وبالله التّوفيق.

وقال في الاختيارات: وما باعه الإمام من الغنيمة أو قسمه وقلنا لم يملكوه ثم عرفه ربّه فالأشبه أنّ المالك لا يملك انْتزاعه من المشتري مجانًا؛ لأنّ قبض الإمام بحقّ ظاهرًا وباطنًا، ويشبه هذا ما يبيعه الوكيل والوصي ثم يتبيّن مودعًا أو مغصوبًا، وهي قاعدة في كلّ مَن قبض مال الغير وهو لا يعلم به إما من مباحٍ أو من مغصوبٍ، أو من راهنٍ. انتهى. وقال في القواعد: كالمأذون له. انتهى.

وقال الشّيخ أحمد بن يحيى بن عطوة شيخ صاحب الإقناع: إذا اشتريت دابّة ونحوها من ظالمٍ وهو غاصبها ثم عرفها ربّها ثم نزعها بحجّةٍ شرعيةٍ رجع المشتري عليه بالثّمن. صرّح بذلك أبو العبّاس فيمَن خلص مال غيره من التّلف. إذا لم يقدر على تخليصه إلّا بما أدّى عنه رجع به واضح قولي العلماء؛ لأنّ ما خلص الدّابة إلّا دراهم المغرور، لقول صلى الله عليه وسلم:"لا ضرر ولا ضرار". ولا يزال ضرر صاحب الدّابة يضرّ المبتاع فيردّ عليه الذي

ص: 366

خلصها به وهو الثّمن الذي أسلمه للظّالم على الصّحيح.

قال الشيّخ إسماعيل بن رميح في تحفته: (فائدة جليلة) فيمَن خلص مال غيره من التّلف إذا لم يمكن تخليصه إلّا بما أدّى عنه رجع بما أدّى عنه في أظهر قولي العلماء. وذكره أبو العبّاس، وكذا معاوضة الرّاعي ببعض المسترعى عليه خوفًا من ذهاب الجميع جاز ذلك ووجب دفع أعلى الضّررين بأدناهما. وما بقي كان بينهم، ولو كان الملّاك لم يفعلوا إلّا هذا وإلّا عدّوا سفهاء. وأمّا أبو العبّاس فقال: من صودر على مال فأكره أقاربه أو أصدقاؤه فأدّوا عنه فلهم الرّجوع؛ لأنّهم ظلموا الأجلة. انتهى.

فعلى هذا، إذا اشتريت دابّة من غاصبها ثم عرفها مالكها عند المشتري المغرور، رجع بالذي خلصها به من الغاصب على مالكها، وقد ذكر في الإقناع كلام أبي العبّاس المذكور. وقال الشّهاب بن عطوة في روضته: قال شيخنا: فيمن وقف وقفًا وأشهد عليه وباعه على رجلٍ لم يعلم بالحال أنّ الوقف باطل والحالة هذه غير لازم بل يحكم الحاكم ببطلان الوقف مراعاة وحفظًا لمال المغرور، ولو فتح هذا الباب لتسلّط كلّ مكار وظالم على أموال المسلمين، واتّسع فتق لا يرقع، وفتح قلبه لذلك كلّ شيطانٍ لا يشبع، ويأبى الله ورسوله أن يجمع لهذا المخادع مال المبيوع ودراهم المخدوع، وقد أكذب نفسه وشهوده وبيّنته، فإذا شهدوا بالوقف وأنّه قد وقفه ثم أنّه قد باعه فكما قال الواقف فهي تكذبه، وهو يكذبها، فإذا شهدت البيّنة بالوقف فقد أكذبها بالبيع فبطلت وهو كذلك، ولا حيلة ولا ظلم ولا خديعة ولا غشّ بأكبر ولا أعظم من رجلٍ وقف أو وهب ماله لأقرب قرابته سرًا خفيًا ثم يبيعه على مسلمٍ غرّ ثم ينصب لذلك شهودًا وقضاة ينصرونه على ذلك لا كثّر الله منهم. انتهى.

ص: 367

ومن جواب للشّيخ عبد الله بن ذهلان وأصل السّؤال في شأن وقفٍ باعه مستحقّه وقبض ثمنه ثم أراد إفساد البيع الصّادر منه، وأكل الثّمن، وحاصل ما تكلّم به أنّه إذا باع إنسان عقارًا لا يعلم مشتريه كونه وقفًا ثم ادّعى بائعه وقفيته أنّ دعواه لا تسمع ولا بيّنته. انتهى.

قلت: وفي هذا القول الذي تقرّر سلامة المفتي من خطأ الشّهود وعدم عدّ التّهم باطنًا وظاهرًا؛ لأنّ العدل في هذه الأزمنة يعزّ وجوده؛ لأنّ أكثر الشّهود لا يشهد إلّا على الوهم كما في الحديث: "يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون لا يؤتمنون". فاتّق الله أيّها الحاكم ولا تقدّم إلّا بيقين، وإيّاك أن تختار ما لعلّه خلاف المختار، أو تعمد إلى ما لعلّه خلاف المختار، وتعتمد على ما لعلّه خلاف الصّحيح. والله يهدي مَن يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ.

وصلّى الله على سيّد المرسلين وإمام المتّقين محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 25 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ المحبّ الشّيخ عيد بن حمد سلّمه الله.

سلام عليكم ورحمة الله وبركته. وبعد؛

وصل الخط أوصلك الله إلى ما يرضيه، وسرّنا حيث أشعر بطيبك وصحّة ذاتك، ولأخ يحمد إليك الله على ما أنعم، جعلنا الله وإيّاكم من الشّاكرين، وإخوانكم في الحال التي تسرّكم، وما ذكرت من حالكم سرّنا جعلها الله حالًا مرضية، ومن نزغات الشّيطان محمية، وما ذكرت من عبارة الإنصاف نقلًا عن الفروع فهذه المسألة خالف فيها شيخ الإسلام الأئمة وأكثر العلماء، فجوّز إجارة الشّجر مفردًا بآصع معلومة مثلًا لِمَن يقوم عليها

ص: 368

بالسّقي وتكون الثّمرة له أي: للعامل، وليس لصاحب الشّجر إلّا ما وقع عليه العقد من الأجرة سواء كانت الأجرة من جنس ما يحمل به ذلك الشّجر أو غيره، كما تجوز إجارة الزّرع بجامع أنّ كلًّا منهما إنّما قصد مغله، بخلاف بيع السّنتين، وهو بيع ما أثمر هذا البستان من الثّمر مثلًا سنة أو سنتين فأكثر من غير أن يقوم عليه، وإنّما اشترى ثمار سنتين معدومة، فهذا لا يجوز بالإجماع؛ لأنّ الثّمرة لا يجوز بيعها قبل بدوّ صلاحها، ولو كانت موجودة فكيف إذا كانت معدومة؟ وهذا هو الذي دلّت السّنة على المنع منه.

وأمّا إجارة الشّجر لِمَن يعمل عليه لأجل الثّمرة فليس بيعًا للثّمرة قبل وجودها وإنّما وقع العقد على الشّجر كالأرض تستأجر للزّرع لكن لما ورد على طريقة الشّيخ أنّ هذا شجر قد لا يحمل وقد تنقص ثمرته عن العادة فيكون الضّرر على المستأجر.

أجاب عن ذلك بأنّ الثّمرة لو لم توجد أن وجدت ثم تلفت قبل أوان جذاذها فلا أجرة، ويرجع بها المؤجّر إن كان قد قبضها منه لعدم حصول المقصود بعقد الإجارة، وإن نقصت ثمرة الشّجر عن العادة فله الفسخ ويرجع بالأجرة وقدر عمله، أو أرش النقص، كما إذا كانت العادة أنّها تثمر بألف مثلًا فلم يحصل منها هذا العام إلّا نصفه مثلًا رجع بنصف الأجرة أو ثلاثة أرباعه فكذلك. وهذا كالجائحة أي كما توضع الجوائح عن مستأجر الأرض أو الحوانيت ونحوها إذا أصاب الزّرع جائحة من الآفات؛ فإنّه يوضع من الأجرة عن المستأجر بقدر ما نقص المغلّ بالجائحة نصفًا كان أو أقل أو أكثر.

هذا، وبلِّغ الإخوان من الطّلبة والأولاد والأمراء وإبراهيم الشّثري وصالح وحمد، ومَن يعزّ عليك السّلام.

ومن لدينا الإمام والشّيخ

ص: 369

عليّ وآل الشّيخ، والشّيخ إبراهيم بن سيف وخواص الإخوان والطّلبة بخيرٍ وينهون إليكم السّلام.

- 26 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ فائز بن عليّ وإخوانه من طلبة العلم سلّمهم الله تعالى.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل خطك أوصلك الله إلى ما يرضيه. والذي أوصيكم به جميعًا ونفسي تقوى الله تعالى، والإخلاص لوجهه الكريم في طلب العلم وغيره لتفوزوا بالأجر العظيم، وليحذر كلّ عاقلٍ أن يطلب العلم للمماراة والمباهاة؛ فإنّ في ذلك خطرًا عظيمًا، ومثل ذلك طلب العلم لغرض الدّنيا والجاه والتّرؤّس بين أهلها وطلب المحمدة، وذلك هو الخسران المبين. ولو لم يكن في الزّجر عن ذلك إلّا قوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، [هود: 15 - 16].

وفي حديث أنس مرفوعًا: "مَن تعلّم العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السّفهاء، أو ليصرف به وجوه النّاس إليه فهو في النّار". وهذا القدر كافٍ في النّصيحة. وفّقنا الله. وإيّاكم لحسن القول.

وقد بلغني أنّكم اختلفتم في مسائل أدّى إلى النِّزاع والجدال وليس هذا شأن طلاب الآخرة، فاتّقوا الله، وتأدّبدوا بآداب العلم واطلبوا ثواب الله في تعلّمه وتعليمه، وأتبعوا العلم بالعمل؛ فإنّه ثمرته والسّبب في حصوله كما في الأثر:"مَن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم". وكونوا متعاونين على البر

ص: 370

والتّقوى، ومن علامات إخلاص طالب العلم أن يكون صموتًا عما لا يعنيه، متذلّلًا لربّه، متواضعًا لعباده، متورعًا متأدّبًا لا يبالي ظهر الحقّ على لسانه أو على لسان غيره، لا ينتصر ولا يفتخر، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يميل به الهوى، ولا يركن إلى زينة الدّنيا.

وأمّا المسألة الأولى وهي: هل يصحّ من الحائض إذا قدمت مكّة أن تسعى قبل الطّواف أم لا؟

الجواب: لا يصحّ السّعي إلّا بعد طوافٍ صحيحٍ لنسكٍ من الأنساك، أمّا المفرد والقارن فسعيهما بعد طواف القدوم مجزئ لحجتهما كما يجزئ القارن لعمرته. وأمّا المتمتّع فيسعى بعد طواف العمرة لها. ولا يجزئه للحجّ إلّا أن يسعى بعد الإفاضة بعد طواف. قال بعضهم: يطوف للقدوم ويسعى بعده، والمختار أنّه لا يطوف للقدوم وليس إلّا طواف الزّيارة وعليه أن يسعى بعده للحجّ، فإن سعى قبله لم يجزه، قالوا: ويجب أن يكون السّعي بعد طواف واجب أو مستحبّ. هذا كلام الحنابلة لا خلاف بينهم في ذلك. وقال الشّافعي: لو سعى ثم تيقن أنّه ترك شيئًا من الطّواف لم يصحّ سعيه فيلزمه أن يأتي ببقية الطّواف، فإذا أتى ببقيته أعاد السّعي نصّ عليه الشّافعي. وبنحوه قال مالك وأبو حنيفة. ومِمَّا يستدلّ به لذلك حديث عائشة رضي الله عنها وفيه: فلما كنا في بعض الطّريق حضت فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال: "ما يبكيكِ؟ "، قلت: وددت أنِّي لم أكن خرجت العام. فقال: "ارفضي عمرتكِ، وانقضي رأسكِ، وامتشطي وأهلي بالحجّ". ومعنى ارفضي العمرة: ارفضي أعمالها، فلو صحّ سعي قبل الطّواف لما منع منه حيضها كما لا يمنع من سائر المناسك. والله أعلم.

ص: 371

وأمّا السّؤال عن قوله صلى الله عليه وسلم في شأن الرّجل الذي صلّى بالتّيمّم ولم يعد لما وصل إلى الماء: "أصبت السّنة وأجزأتك صلاتك". وقال لذي أعاد: "لك الأجر مرّتين". فلا شكّ أنّ الذي لم يعد قد أصاب الحكم الشّرعي بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "أصبت السّنة وأجزأتك صلاتك"، وأمّا الذي أعاد فهو مجتهد فيما فعل فإنّه يثاب على الصّلاة الأولى والثّانية، وهو كونه صلّى الثّانية مجتهدًا فأثيب على اجتهاده للصّلاة الثّانية كما أثيب على الصّلاة الأولى، ومن المعلوم أنّ الفريضة أفضل من التّطوّع من جنسه وغير جنسه إلّا في أربعة أشياء ليس هذا محلّ ذكرها.

وأمّا السّؤال الثّالث فيمَن نوى جمع تأخير حيث يجوز الجمع فدخل وقت الثّانية قبل أن يَصِلُوا إلى الماء، فالأفضل في حقّهم أن يؤخّروا الصّلاة إلى الماء ما لم يدخل وقت الضّرورة، فإن صلّوا قبل وصولهم إليه أجزأتهم الصّلاة بالتّيمّم ولا إعادة عليهم.

وقول السّائل: وهل يكون وقت الاختيار للثّانية وقت للأولى أم لا؟

الجواب: يكون وقتًا لها في حقّ مَن يجوز له الجمع، إذا نواه فتنبّه. والله أعلم.

يقول كاتبه إبراهيم بن راشد: إنّه لما قال ممليه ليس هذا محلّ ذكرها طلبت منه أن يذكرها فأملى علي نظمًا بيتين للسّيوطي والأخير لمحمّد الخلوتي:

الفرض أفضل من تطوّع عابد

حتّى ولو قد جاء منه بأكثر

إلّا التّوضؤ قبل وقت وابتدا

بالسّلام وإبراء لمعسر 1

وكذا ختان كان قبل بلوغه

أنعم به نظم الإمام المكثر

1 كذا في الأصل، ووزنه غير مستقيم.

ص: 372

- 27 -

بسم الله الرحمن الرحيم

ما قولكم فيمَن يقول لِمَن شرب (هنيئًا) ويدعي جواز ذلك وقد يستدلّ بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} ، [الطّور، من الآية: 19، والحاقّة، من الآية: 24، والمرسلات، من الآية: 43].

وبقوله: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} ، [النّساء، من الآية: 4]، فهل الاستدلال بالآتين على جواز ذلك صحيح أم لا؟ أفيدونا.

الجواب: وبالله التّوفيق ليس في الآيتين ما يدلّ على مشروعية ذلك في حقّ كلّ مَن شرب. أمّا الآية الأولى فإنّ ذلك يقال لأهل الجنّة إذا دخلوها نسأل الله الجنّة برحمته، وليس في الآية ما يدلّ على أنّه يقال لهم كلّما أكلوا منها أو شربوا.

وأمّا آية النّساء، فإنّها في أمرٍ خاصٍّ، يبيّن تعالى للأزواج أنّه لا يحلّ لهم أن يأكلوا من مال المرأة إلّا ما طابت به نفس وليس فيها أنّ هذا القول يقال عند كلّ أكلٍ وشربٍ.

إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه لم يبلغنا عن أحدٍ من الصّحابة والتّابعين والأئمة أنّهم كانوا يستعملون ذلك فيما بينهم، فاتّخاذ ذلك عادة يخالف ما كان عليه السّلف والأئمة، ولو كان مشروعًا لسبق إليه مَن سلف من الأمّة فلا ينبغي أن يتّخذ ذلك شعارًا في حقّ كلّ مَن شرب. والله أعلم.

- 28 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سليمان بن عبد الله سلّمه الله تعالى.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه. وما أشرت إليه من أنّ بعض النّاس يوقف عقاره وشجره على ذرّيّته الذكور ما تناسلوا، والأنثى

ص: 373

حياتها.

فهذا وقف الإثم والجنف لما فيه من الحيلة على حرمان أولاد البنات مما جعل الله لهم في العاقبة. وهذا الوقف على هذا الوجه بدعة، ما أنزل الله بها من سلطانٍ. وغايته تغيير فرائض الله بحيلة الوقف، وقد صنف فيه شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله وأبطل شبه المعارضين، ولا يجيزه إلّا مرتاب في هذه الدّعوة الإسلامية، وقصده مخالفة إمام المسلمين، أو جاهل لا يعرف السّنة من البدعة، والهدى من الضّلال، جاهلًا بأصول الشّرع ومقاصد الشّريعة. ونعوذ بالله من الإفتاء في دين الله وشريعته بلا علم. والسّلام.

المسألة الثّانية: فيمَن غرس أرضًا مستأجرة للغراس ومضت مدة الإجارة إلى آخره.

فالجواب: -وبالله التّوفيق- قال في الكافي لأبي محمّد عبد الله ابن أحمد بن قدامة وإن استأجرها للغراس جاز وله الغرس فيها، فإن غرس وانقضت المدة وكان مشروطًا عليه القلع عند انقضائها أخذ بشرطه، ولا يلزمه تسوية الحفر. فإن لم يكن شرط القلع لم يجب القلع، وللمستأجر قلع غرسه؛ لأنّه ملكه ولزمه تسوية الحفر، فإن لم يفعل فللمؤجّر دفع قيمته ليملكه، وإن أراد قلعه وكان لا ينقص بالقلع أو ينقص لكنه يضمن أرش النّقص فله ذلك، وإن اختار إقراره وبأجرة مثله فله ذلك. ولصاحب الشّجر بيعه للمالك ولغيره فيكون بمنْزلته. والبناء كالغراس في جميع ما ذكرنا. انتهى ملخّصًا فتأمّله، فإنّه كافٍ في الجواب عمّا في السّؤال. والله أعلم.

ص: 374

- 29 -

بسم الله الرحمن الرحيم

ما قولكم -دام فضلكم- في نخلٍ مشتركٍ طلب أهله القسمة، هل تكون على قدر الحصص أم على عدد النّخل وسعة الأرض؟

الجواب: أنّه على حسب سهام الميراث.

وأمّا مسألة الأجير فما التزمه لصاحب النّخل فإن قام به كلّه فله أجرة المثل، فإن ترك شيئًا مما التزمه نقص من الأجرة بحسب ذلك، لكن هذا يحتاج إلى نظر مَن له معرفة بهذه الأمور ويتحرّى فيها العدل من الجانبين لصعوبتها. والله أعلم.

وأمّا انتفاع النّخل من ماء الجار فهو والحالة هذه مضطرّ إلى ما فعل من إجراء الماء من تحتها فتكون المصلحة لصاحب الماء أكثر مما يأتي النّخلة من الماء فتعاد لا في المصلحة؛ لأنّ النّخلة لها حريم وقد أجرى الماء في حريمها. والله أعلم بالصّواب.

- 30 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سليمان بن عبد الرّحمن بن عثمان سلّمه الله تعالى وعافاه آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه، وما ذكرت كان معلومًا. وتسأل عما إذا غم على مطلع الهلال ليلة الثّلاثين من شعبان هل يصام يومها أم لا؟

ولا يخفى أنّ صيامها من مفردات مذهب الإمام أحمد. وشيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله نفى أن يكون الإمام أحمد أوجبه. وقال: ليس في كلام أحمد ما يدلّ على وجوبه. وقال: يحتمل الاستحباب والإباحة. وللإمام الحافظ محمّد بن عبد الهادي مصنّف ذكر فيه ما ورد فيه من النّهي

ص: 375

عن صيامه. وذكر في بعض روايات حديث ابن عمر: "فإن غم عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين". وذكره عن غير ابن عمر أيضًا مرفوعًا. وهذا يدلّ على المنع من صيامه. والأحاديث صحيحة مقطوع بصحّتها. والمنع من صيامه هو اختيار شيخنا محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- ومَن أخذ عنه وينهون عن ذلك لوجوه أربعة:

الأوّل: أنّ تلك اللّيلة من شعبان بحسب الأصل، ولا تكون من رمضان إلّا بيقين.

الوجه الثّاني: النّهي عن تقدّم رمضان بيوم أو يومين فمَن صامه فقد تقدّم رمضان.

الوجه الثّالث: الأحاديث التي فيها التّصريح بالنّهي عن صيامه، وذلك قوله:"فأكملوا العدّة ثلاثين" وفي بعضها تخصيص شعبان.

الوجه الرّابع: حديث عمار: "مَن صام يوم الشّكّ فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم"، وهو يوم شكّ بيقينٍ. هذا حاصل الجواب. وسلِّم لنا على أحمد وإخوانه. ومن لدينا إسماعيل وإخوانه بخيرٍ وينهون السّلام. وأنت سالم. والسّلام.

- 31 -

بسم الله الرحمن الرحيم

ومن رسالة لوالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن رحمه الله وقدّس روحه ونوّر ضريحه بمنه وكرمه-.

قال -رحمه الله تعالى وعفا عنه-:

وينبغي التّنبيه على أمرٍ مهمٍّ عمّت به البلوى عندكم ويتعيّن إنكاره، وهو الاستنجاء في البرك ونحوها، وفيه خطر عظيم لاسيما على الرّواية المشهورة في مذهب أحمد -رحمه الله تعالى- اختارها أكثر المتقدّمين والمتوسطّين. وهي أنّ الماء ينجس بملاقاة بول الآدمي وعذرته المائعة أو الجامدة إذا ذابت فيه، واستدلّوا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "لا يبولانّ أحدكم في الماء الدّائم

ص: 376

ولا يغتسل فيه من الجنابة". والنّهي يقتضي الفساد، على كلتا الرّوايتين فهو كالبول؛ لأنّه في معنى البول. وقد نصّ العلماء رحمهم الله أنّه مثل البول كالحافظ القرافي في شرح التّقريب وغيره، فيتعيّن عليكم أن تعلنوا بالنّهي عنه على رؤوس الأشهاد في مجامع النّاس لما فيه من خطر التّنجيس والوقوع في المنهي عنه من تقذير الماء. والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 32 -

بسم الله الرحمن الرحيم

وله رحمه الله جواب عن مسائل الشّيخ حمد بن مانع.

من عبد الرّحمن بن حسن بن محمّد بن عبد الوهّاب إلى أخيه حمد ابن مانع حفظه الله تعالى.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وأنا أحمد الله الذي لا إله إلّا هو بخير وعافية أتمّها الله علينا في الدّنيا والآخرة، وكلّ من تسأل عنه طيّب، والأمور على ما تحب، والإسلام يزداد ظهورًا، والشّرك يزداد وهنًا، نسأل الله تمام نعمته، وسر الخاطر ما ذكرت من جهة جماعتكم عسى الله أن يهدينا وإيّاكم الصّراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم عليهم.

وأمّا المسائل التي ذكرت فاعلم أوّلًا أنّ الحقّ إذا لاح واتّضح لم يضرّه كثرة المخالف ولا قلة الموافق، وقد عرفت غربة التّوحيد الذي هو أوضح من الصّلاة والصّوم ولم يضرّه ذلك، فإذا فهمت قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ، [النّساء، من الآية: 59]. وتحقّقت أنّ هذا حتم على المؤمنين كلّهم فاعلم أنّ مسألة الأوقاف النِّزاع فيها معروف في كتب

ص: 377

المختصرات، وفي شرح الإقناع في أوّل الوقف أنّهم اتّفقوا على صحّة الوقف في المساجد والقناطر، يعنِي بقعهما لا الوقف عليهما. واختلفوا فيما سوى ذلك.

إذا تبيّن ذلك فأنت تعلم أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال: "مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ". وفي لفظٍ: "مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ". وتقطع أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهذا ولو أمر به لكان الصّحابة أسبق النّاس إليه وأحرصهم عليه، وتقطع أيضًا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسدّ الذّرائع، وهو من عظم الأشياء ذريعة إلى تغيير حدود الله، هذا على تقدير أنّ العالم المنسوب إليه هذا يصحّح مثل أوقافنا وأنَّى ذلك وحاشا وكلا، بل إنّهم يبطلون الوقف الذي يقصد به وجه الله على أمرٍ مباحٍ ويقولون لا بدّ منه على أمر قربة، وأمّا كونه جعل ماله بعد الورثة على برّ فهذا لا يكون إلّا بعد انقراضهم وعادتنا نفتي ببطلان مثل هذا. ولا نلتفت إلى هذا المصرف الثّاني. وذكر بطلان مثل هذا في الشّرح الكبير وغيره.

المسألة الثّانية: وهي وقف المرأة على ولدها وليس لها زوج إلى آخره.

فكذلك تعرف أنّ الوقف على الورثة ليس من دين الرّسول صلى الله عليه وسلم، ولو شرعه لكان أصحابه أسرع النّاس إليه سواء شرط على قسم الله أم لا. وهذا في الحقيقة يريد أمرين:

الأوّل: تحريم ما أحلّ الله لهم من بيعه وهديته والتّصرّف فيه.

والثّاني: حرمان زوجات الذّكور وأزواج الإناث فيشابه مشابهة جيّدة ما ذكر الله عن المشركين في سورة الأنعام، ولكن كون الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر به كافٍ في فساده صلحت نيّة صاحبه أم فسدت.

المسألة الثّالثة: إذا لم يعلم هل هذا وقف على مَن يرث أم لا؟ ولكن الإفاضة على أنّه على مَن يرث. فأنا لا أدري شيئًا عن هذه المسألة،

ص: 378

لكن أرى لك التوقف عنها، ولا ينزع عن يد من يأكله إلا ببينة.

(المسألة الرابعة) وهي الوقف على المحتاج من ذريته فهو صحيح، ذكره البخاري عن ابن عمر أنه وقف نصيبه من دار عمر على المحتاج من ذريته من آل عبد الله.

(المسألة الخامسة) وهي مسألة الجَمْعَة، في باطلة لكونها وقفًا على الورثة، وأيضًا يحرم بعضهم، وأيضًا لم يشرع. وأما بيع الإنسان نصيبه من هذه الصبرة على صاحب وغيره، فلا يجوز، بل الصبرة باطلة من أصلها. فإن كان هذا الجواب أزال عنك الإشكال، وإلا فلو أردت التطويل وطولت لك وذكرت لك العبارات والأدلة. والسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

- 33 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرحمن بن حسن إلى الأخ علي بن فواز* -سلمه الله تعالى-.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

فهذا جواب المسائل: أما خروج النساء من البيوت بالزينة، فيحرم مخافة الفتنة بالنساء، فإنهن فتنة لكل مفتون.

وأما الدف، فيحصل الإعلان بضربه في النهار قبل الدخول في وقت من النهار، وأما ضربه في الليل ففيه من المفاسد ما لا يخفى، ومن أقرهم على ذلك ممن له قدرة على منعهم فقد ظلم نفسه.

وأما الاحتكار، فإذا اشتراه أحد من الأسواق ينتظر الغلاء فهو احتكار.

وأما خلط البر بالشعير للبيع، فلا يجوز، لما ورد في ذلك من الآثار التي رواها ابن أبي شيبة في مسنده.

وأما تلقي

* تكررت هذه الرسالة في ج 4/ص 408. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 379

الرّكبان للشّراء منهم ما جلبوه فيلزم منعهم من ذلك.

وأمّا التّزعفر فقد ورد ما يدلّ على جوازه فلا ينكر والحالة هذه.

وأمّا مذهب الخوارج فإنّهم يكفّرون أهل الإيمان بارتكاب الذّنوب ما كان منها دون الكفر والشّرك، وأنّهم قد خرجوا في خلافة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكفّروا الصّحابة بما جرى بينهم من القتال واستدلّوا على ذلك بآيات وأحاديث. لكنّهم أخطأوا في الاستدلال، فإنّ ما دون الشّرك والكفر من المعاصي لا يكفّر فاعله لكنّه ينهى عنه. وإذا أصرّ على كبيرةٍ ولم يتب منها يجب نهيه والقيام عليه، وكلّ منكرٍ يجب إنكاره من ترك واجبٍ أو ارتكاب محرَّمٍ، لكن لا يكفّر إلّا من فعل مكفِّرًا دلّ الكتاب والسّنة على أنّه كفر. وكذا ما اتّفق العلماء على أنّ فعله أو اعتقاده كفر كما إذا جحد وجوب ما هو معروف من الدّين بالضّرورة، أو استحلّ ما هو معروف بالضّرورة أنّه محرَّم. فهذا مما أجمع العلماء على أنّه كفر إذا جحد الوجوب إلّا إذا ترك الصّلاة تهاونًا وكسلًا فالمشهور في مذهب أحمد أنّه يستتاب فإن تاب وإلّا قتل كافرًا. وأمّا الثّلاثة فلا يكفرونه بالتّرك بل يعدونه من الكبائر، وكذلك إذا فعل كبيرة، كما تقدم فلا يكفر عند أهل السّنة والجماعة إلّا إذا استحلّها.

وأمّا السفر إلى بلاد المشركين للتّجارة فقد عمّت به البلوى، وهو نقص في دين مَن فعله، لكونه عرض نفسه للفتنة بمخالطة المشركين فينبغي هجره وكراهته. فهذا هو الذي يفعله المسلمون معه من غير تعنيف ولا سبّ ولا ضرب، ويكفي في حقّه إظهار الإنكار عليه، وإنكار فعله ولو لم يكن حاضرًا. والمعصية إذا وجدت أنكرت على مَن فعلها،

ص: 380

أو رضيها إذا اطّلع عليها.

وأمّا المعاصي التي فيها الحدّ فلا يقيمها إلّا الإمام أو نائبه.

وأمّا الحدود إذا بلغت السّلطان فالمراد بالسّلطان الأئمة والقضاة ومَن يستنيبهم الإمام ويولّيهم في بلدهم.

وذكرت في جوابي الذي في خاطري مما يوجب اجتماع الكلمة.

والسّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم. انتهى.

- 34 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى مَن يصل إليه من الإخوان وفّقنا الله وإيّاهم لسلوك منهج العلم والإيمان.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فقد سألنِي بعض الإخوان عن قلب الدَّين على المدين إذا كان له عقار وعوامل ونواضح ونحوها* فأجبت بأنّه لا يخلو من ثلاثة أحوال:

الحال الأوّل: أن يضيق المال عن الدَّين، فهذا مفلس في عرف العلماء -رحمهم الله تعالى- إذا سأل غرماؤه الحاكم ولو بعضهم لزمه الحجر عليه في ماله، وذهب جمع من المحقّقين إلى أنّه يكون محجورًا عليه بدون حكم حاكمٍ. وهذا لا يجوز قلب الدَّين عليه بحال لعجزه عن وفاء ما عليه من الدَّين.

الحال الثّاني: أن يكون ماله أكثر من دَيْنه لكنّه لا يقدر على وفاء دَيْنه إلّا بالاستدانة في ذمته. وهذا يشبه الأوّل، لا يجوز قلب الدَّين عليه؛ لأنّه غير مليء. ولا يخفَى أنّ المليء عند العلماء هو الذي إذا طولب بما عليه بذله من غير مشقّة عليه، وهو الواجد للوفاء.

الحال الثّالث: أن يكون عليه دَين وفي يده مال يقدر على الوفاء من غير استدانة. وهذا مليء ولكن منع بعض العلماء قلب الدَّين عليه حسمًا للمادّة وسدًّا للذّريعة.

* تكررت هذه المسألة في 4/ 368، لكنها ناقصة. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 381

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- وقد سُئل عن المعاملات التي يتوصّل بها إلى الرّبا*: فمن ذلك أن يكون المدين معسرًا فيقلب الدَّين في معاملة أخرى بزيادة مال وما يلزم ولاة الأمر في هذا.

وهل يرد على صاحب المال رأس ماله دون ما زاد؟

فأجاب: المراباة حرام بالكتاب والسّنة والإجماع. وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الرّبا، وموكلّه، وكاتبه، وشاهديه، ولعن المحلِّل والمحلَّل له، وكان أصل الرّبا في الجاهلية أنّ الرّجل يكون له على الرّجل المال المؤجَّل فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلّا زاد هذا في الأجل وزاد هذا في المال. فيتضاعف المال والأصل واحد. وهذا الرّبا حرام بإجماع المسلمين.

وأمّا إذا كان هذا هو المقصود لكن توسلوا بمعاملة أخرى فهذا تنازع فيه المتأخّرون. وأمّا الصّحابة فلم يكن منهم نزاع في أنّ هذا محرَّم. والآثار عنهم بذلك كثيرة. والله تعالى حرّم الرّبا لما فيه من ضرر المحتاجين، وأكل المال بالباطل، وهو موجود في المعاملات الرّبوية. فإذا حلّ الدَّين وكان الغريم معسرًا لم يجز بإجماع المسلمين أن يقلب عليه الدَّين بل يجب إنظاره. وإن كان موسرًا كان عليه الوفاء فلا حاجة إلى القلب لا مع يساره ولا مع إعساره. والواجب على ولاة الأمر بعد تعزير المعاملين بالمعاملة الرّبوية أن يأمروا المدين بأن يؤدّي رأس المال ويسقطوا الزّيادة الرّبوية. فإن كان معسرًا وله مغلات يوفي دَينه منها وفَّى دَينه منها بحسب الإمكان. والله تعالى أعلم. انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.

فتأمّلوا قوله: إن كان معسرًا وله مغلات، كيف سمّاه معسرًا مع وجود عقار يستغله.

ومن صور قلب الدَّين أنّه إذا حلّ أجل ما في ذمّة المدين من الدّراهم وعلم صاحب الدّين أنّه لا يجد دراهم يدفعها إليه. قال له بِعْنِي طعامًا في ذمّتك على كذا وكذا، فيسلم إليه الدّراهم بطعام في ذمّته، فإذا قبض منه

* هذه المسألة موجودة في "مجموع الفتاوى" 29/ 418.

ص: 382

رأس المال ردّها إليه وفاء عن دَينه الأوّل. وحقيقة الأمر أنّ الذي في ذمّة الأول قلبه طعامًا فينمو المال في الذّمّة والأصل واحد، وكذلك بيع دَين السّلم لا يجوز إلّا بعد قبضه ولو على مَن هو في ذمّته. وهذا قول جمهور العلماء. وهو الأصحّ إن شاء الله.

وأيضًا يذكر لنا أنّكم تعاملون كراء الأرض بحبٍ معلومٍ، وتشرطون على الزّراع جزاء من التّبن. وهذه إجارة يشترط فيها أن تكون الأجرة معلومةً وشرط التّبن شرط شيء مجهول تفسد به الإجارة. وطريق السّلامة من هذا أن تزيدوا في الأجرة شيئًا من الحبّ معلومًا وتتركوا اشتراط التّبن. والسّلام. وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 35 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان بن ناصر، وفّقه الله وهداه لما يحبّه ويرضاه.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فالخط وصل، وصلك الله إلى ما يرضيه، واعلم يا أخي أنّ أهمّ الأمور علينا وعليكم وأحق ما يهتم به معرفة التّوحيد الذي هو أصل الإيمان وأساسه والتّمسّك بأوثق عراه، والحبّ في الله والبغض في الله، والموالاة فيه والمعاداة فيه، وتمييز النّاس بما سلف منهم وبما يبدو على صفحات الوجوه وفلتات الألسن، فإنّ من أعظم الأمور خطرًا أن يحبّ لهواه ويقرب لدنياه ويبغض لهواه لا لطاعة مولاه فاجعل هذا منكم على بال. أعاذنا الله وإيّاكم من عبادة الرّجال.

وأمّا ما سألت عنه من المسائل الأربع:

فالجواب عن مسألة زوجة

ص: 383

المفقود إذا تعذر الإنفاق عليها من ماله فإنّ لها فسخ نكاحه بحكم حاكم الشرع، فإذا جاز ذلك في حقّ الموجود جاز في حقّ المفقود أيضًا. ولا فرق بينهما وكونه مفقودًا لا يمنع ثبوت الحكم بتعذّر ما يجب لها عليه.

وأمّا مسألة المظاهر فاعلم أنّه يجب على المفتي أن يعتبر شواهد أحواله، فإذا عرف من شاهد الحال أنّه يقدر على أن يصوم شهرين متتابعين فلا يجوز للمفتي أن يفتح له باب الرّخصة في الإطعام بمجرّد قوله: لا أستطيع الصّيام، وشاهد الحال يكذّبه فلا ينتقل إلى الإطعام إلّا بتحقّق عجزه عن الصّيام.

وأمّا مسألة الشّفعة، فإنّ شريك الأصل أحقّ بالأخذ بها من شريك المصالح ما لم يترك الطّلب بها بغير خلافٍ. نصّ عليه في المغني، والشّرح، والإنصاف وغيرها. وأمّا عيب الجرب فحكمه حكم سائر العيوب، فإذا ادّعى المشتري انتقال المبيع بذلك العيب ولا بيّنة حلف المشتري على ما ادّعاه على الأصحّ. والله أعلم.

- 36 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّنا ما ذكرت من طيبك وصحّة حالك، وأخبرك أنِّي ولله الحمد بخير وعافية كذلك الشّيخ عبد الله وإبراهيم أعمامي وعيالي وعيالهم وآل مقرن.

وما ذكرت من حرصك على الزّيارة فأرجو أنّ الله يجمعنا وإيّاكم على خيرٍ وعافيةٍ ويستعملنا وإيّاكم في طاعته.

وما ذكرت من السّؤال: هل المرأة تعاقل الرّجل حتّى تبلغ ثلث ديته الخ؟

فالجواب: أنّ المرأة كالرّجل تساوي جراحها جراحه حتّى تبلغ ثلث

ص: 384

ديته على الصّحيح من المذهب. واستدلّ علماؤنا رحمهم الله في كتبهم بحديث عمرو بن شعيب الذي رواه النّسائي وبكلام سعيد بن المسيّب لربيعة وهو الظّاهر في أنّ المراد الثّلث من دية الرّجل، ولفظ الحديث الذي نقلته من شرح زاد المستقنع هو كما نقلت، وهو كذلك في المنتقى والمحرّر والجامع الصّغير ولفظه: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عقل المرأة مثل عقل الرّجل حتّى تبلغ الثّلث من ديتها". رواه النّسائي والدّارقطني. قال الحافظ ابن عبد الهادي في محرره: هو من رواية إسماعيل بن عياش، وهو كثير الخطأ، وعلى تقدير صحّته واستدلال الفقهاء به يحتمل أن يكون الضّمير للمضاف إليه المحذوف، أي: عقل جراح المرأة فهو راجع إلى الجراح، لكونه مفهومًا من الحديث لا إلى المرأة؛ إذ لو كان كذلك لما صحّ الاستدلال على أنّ جراح المرأة مثل جراح الرّجل حتّى تبلغ الثّلث من ديته مع مخالفته لكلام سعيد. وقد استدلّ العلماء بهما معًا على حكمٍ واحدٍ، وذلك ينبِيء عن الاتّفاق في المعنى. والله أعلم.

- 36 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ سعيد بن عيد.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط وصلك الله إلى ما يرضيه، والأحوال جميلة بحمد الله، نجملها بالإيمان والتّقوى.

وما ذكرت من حال المرأة النّاشز فقد قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} ، [النّساء، من الآية: 128].

وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا

ص: 385

إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}، [النساء، من الآية: 35].

فالذي عليه جمهور العلماء في معنى الآية أنّ الحاكم يبعث حكمًا ثقة من أهلها، وثقة من قوم الرّجل، فإن حصل بينهما التّوفيق وإلّا صارا إلى التّفريق. وإذا اتّفقا عليه ففرقا بطلقة أو طلقتين أو ثلاث على حسب ما يريان فهما حكمان من جهة الحاكم، ووكيلان من جهة الزّوجين إذا تراضيا على توكيلهما فلهما التّفريق. وعن الإمام أحمد أنّهما حاكمان يفعلان نصًّا ما يريانه من جمعٍ وتفريقٍ وغيره، ولو لم يرضيا ولا وكلا. وهذا مذهب جمهور العلماء، ولم يذكر العلماء فيما وقفت عليه بذل العوض. والله أعلم.

- 37 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخوين المحبّين: صالح بن محمّد وأحمد بن عتيق، كان الله في عونهما.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

وصل الخط أوصلكما الله إلى ما يرضيه. وما ذكرتما من توزيع الجمل على الجمل والأفراد على الجمل، والأفراد على الأفراد، فهذه الكلّيّة ذكرها الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في المسح على الخفّين، وفي مسألتكما هذه، وفي الوقف. وأنا أصوّرها في مسألة السّؤال وهي مدّ عجوة، ومن صورها مدّ ودرهم بدرهمين. فالجمهور من الفقهاء قالوا بعدم الجواز بناء على أنّ جملة المدّ والدرهم في مقابلة الدّرهمين، فلم يتميّز ما يقابل الدّرهم من جميع الدّرهمين ولا ما يقابل المدّ. وإنّما الجملة مقابلة للجملة فلا تحصل المماثلة بين الجنس الذي هو لغة للجمل بما يقابل كلّ جنس من جنسه، وكذلك إذا وزعت الأفراد على الجمل كما إذا اعتبر الدّرهم

ص: 386

الذي مع المدّ في مقابلة مجموع الجملة من الدّرهمين والمدّ كذلك، فلم يتميّز ما يقابل الجنس من جنسه، هل هو درهم أو أقل أو أكثر؟ والجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل، وذهب شيخ الإسلام كأبي حنيفة إلى الجواز فوزعوا الأفراد على الأفراد فصار الدّرهم يقابل درهمًا من غير زيادة المد يقابل الدّرهم الآخر. فجعلت المماثلة والتّساوي في الجنس. وهو مشكل. والله أعلم.

- 38 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الرّحمن بن حسن إلى الأخ جمعان، منحه الله من العلوم أنفعها ومن الفضائل أرفعها. آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فقد وصل إلينا كتابك فاستبان به مرامك وخطابك وسررنا به غاية السّرور، جعله الله تعالى من مكاسب الأجور، وقد سألت فيه أمدك الله عن ثنتَي عشرة مسألة:

أولاها: قول العلماء رضي الله عنهم: فيمَن حرم زوجته الخ؟

فالجواب - وبالله التّوفيق، ومنه أستمدّ العون -: والتّحقيق تحريم الزّوجة ظهار ولو نوى به طلاقًا أو يمينًا. نصّ عليه إمامنا رحمه الله في رواية الجماعة، وهو المذهب. ونقل عنه ما يدلّ على أنّه يمين وفاقًا للثّلاثة -رحمهم الله تعالى-. وجزم شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات والفتاوى المصرية في باب الظّهار بالأوّل، لكن قال ابن القيم رحمه الله في الإعلام: إنّه إن وقع التّحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطّلاق، وإن حلف به كان يمينًا مكفِّرة. وهذا اختيار شيخ الإسلام، وعليه يدلّ النّصّ والقياس. فإنّه إذا أوقعه كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفارة الظّهار مِمَّن شبّه

ص: 387

امرأته بالمحرم، وإذا حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو التزم الاعتاق والحجّ. وهذا محض القياس والفقه. انتهى.

قلت: قوله: وإذا حلف كان يمينًا إلى آخره، بناء على ما ذهب إليه من أنّ المعلّق للطّلاق على شرط يقصد بذلك الحض أو المنع أو الالتزام؛ فإنّه يجزئه فيه كفارة يمين إن حنث، وإن أراد الإيقاع عند وجوب المعلّق عليه طلّقت. وصرح به الشّيخ -رحمه الله تعالى- في باب تعليق الطّلاق بالشّروط. قال: وكذا الحلف بعتق وظهار وتحريم.

المسألة الثّانية: إذا أحال إنسان على آخر ولم يعلم بذلك حتّى قضاه دَينه أو قضاه مَن أحاله عليه ثانيًا. الخ؟

فالجواب: قد برئت ذمّة المدين من الدَّين إذا دفعه إلى صاحبه أو إلى مَن أذن له أن يدفعه إليه لوجوب القضاء بعد الطّلب فورًا، ولا يلزم المدين غرم ما قضاه من الدَّين؛ لأنّ الشّرائع لا تلزم إلّا بعد العلم فلا تبعة عليه فيما لم يعلم، وقد أفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقدّس روحه- هذه القاعدة وقرّر أدلّتها، فعلى هذا، يرجع مَن أحيل أوّلًا بدَينه على المحيل كما قبل الحوالة. والله أعلم.

المسألة الثّالثة: إذا رهن إنسان زرعه أو نخله ونحوه، فاحتاج الرّاهن لما يصلح الرّهن فطلب من المرتهن أن يداينه لذلك أو يطلق الرّهن لِمَن يداينه لإصلاحه فامتنع، وعلى الرّاهن ضرر؟

فالجواب: أنّ الصّحيح من أقوال العلماء أنّ القبض والاستدامة شرط للزوم الرّهن. قال في الشّر: ولا يلزم الرّهن إلّا بالقبض، ويكون قبل قبضه رهنًا جائزًا يجوز للرّاهن فسخه، وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعي. وقال

ص: 388

بعض أصحابنا في غير المكيل والموزون رواية أنّه يلزم بمجرّد العقد. ونصّ عليه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رواية الميموني. وهو مذهب مال رحمه الله.

ووجه الأولى: قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} ، [البقرة، من الآية: 283]. فعلى هذا، إن تصرّف الرّاهن فيه قبل القبض بهبةٍ، أو بيعٍ، أو عتقٍ، أو جعله صداقًا، أو رهنه ثانيًا بطل الرّهن الأوّل سواء قبض الهبة أو المبيع أو الرّهن الثّاني أو لم يقبضه. فإن أخرجه المرتهن إلى الرّاهن باختياره زال لزومه وبقي العقد كأنّه لم يوجد فيه قبض. انتهى.

قال في الإنصاف: هذا المهذب وعليه الأصحاب. وعنه أن استدامته في المعيّن ليس بشرط. واختاره في الفائق. انتهى ملخصًا.

فقد عرفت الأصحّ من الأقوال الذي عليه أكثر العلماء -رحمهم الله تعالى-، فعليه لا ضرر على الرّاهن لبطلان الرّهن بالتّصرّف إذا لم يكن في قبضة المرتهن. وقد ذكر العلماء أيضًا أنّ المرتهن لا يختص بثمن الرّهن إلّا إذا كان لازمًا وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة، ويترتّب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتّسع لذكره هذا الجواب.

وليس مع مَن أفتى به إلّا محض التّقليد. وأنّ العامّة تعارفوه فيما بينهم ورأوه لازمًا. وأنت خبير بأنّ هذا ليس بحجّة شرعية، وإنّما الحجة الشّرعية الكتاب والسّنة والإجماع. وهو اتّفاق مجتهدي العصر على حكمٍ ولا بدّ للإجماع من مستندٍ، والدّليل الرّابع القياس الصّحيح، وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله إلّا الله، كم غلب على أحكام الشّرع في هذه الأزمنة من التّساهل في التّرجيح. وعدم التّعويل على ما اعتمده المحقّقون من القول الصّحيح. وقد ادّعى بعضهم أنّ شيخنا الإمام شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب -رحمه الله تعالى- كان يفتي

ص: 389

بلزوم الرهن وإن لم يُقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله تعالى-. ولو فرضنا وقوع ذلك، فنحن بحمد الله متمسكون بأصلٍ عظيمٍ: وهو أنّه لا يجوز لنا العدول عن قولٍ موافقٍ لظاهر الكتاب والسنّة، لقول أحدٍ كائنًا مَن كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما منّا إلّا راد ومردود عليه إلّا صاحب هذا القبر، يعنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد زعم هذا الزّاعم من الله عليّ بالوقوف على جواب شيخنا الإمام -رحمه الله تعالى- فإذا هو جار على الأصحّ الذي عليه أكثر العلماء.

وصورة جوابه: أنّ الرّاجح الذي عليه كثير من العلماء رحمهم الله أو أكثرهم أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، وقبض كلّ شيء هو المتعارف، فقبض الدّار والعقار هو تسلم المرتهن له ورفع يد الرّاهن عنه. هذا هو القبض بالإجماع، ومَن زعم أنّ قوله مقبوض يصيره مقبوضًا فقد خرق الإجماع مع كونه زورًا مخالفًا للحسّ.

إذا ثبت هذا، فنحن إنّما أفتينا بلزوم هذا الرّهن لضرورة وحاجة، فإذا أراد صاحبه أن يأكل أموال النّاس ويخون في أمانته لمسألة مختلف فيها فالرّجوع إلى الفتوى بقول الجمهور في هذه المسألة. فإن رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في إيجاب العدل وتحريم الخيانة فهذا هو الأقرب قطعًا، وإن رجعنا إلى كلام غالب العلماء -رحمهم الله تعالى- فهم لا يلزمون ذلك إلّا برفع يد الرّاهن وكونه في يد المرتهن. انتهى المقصود.

فذكر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أنّ الرّاجح الذي عليه أكثر العلماء أنّ الرّهن لا يلزم إلّا بالقبض، وأنّه إنّما أفتى بخلافه لضرورة وحاجة، وأنّه رجع إلى قول الجمهور لما قد ترتّب على خلافه من الخروج من العدل، ومن

ص: 390

الخيانة، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله من الخروج عن العدل وأكل أموال النّاس بالباطل والخيانة في الأمانة قد رأيناه عيانًا. وسببه الإفتاء بخلاف قول الجمهور في هذه المسألة. وقد قرّر -رحمه الله تعالى- في هذه الفتيا أنّ قول الجمهور أقرب إلى العدل فلا يجوز أن ينسب إليه غير هذا القول المقرّر هنا. والله أعلم.

المسألة الرّابعة: إذا استأجر إنسان أرضًا للزّرع أو نحوه ثم رهنه فقصرت الثّمرة عن الدَّين والأجرة وعن الحداد والخراز إلى آخره.

فالجواب: إذا انتفى لزوم الرّهن لعدم القبض أو الاستدامة تحاصوا في الثّمرة وغيرها على قدر الذي لهم؛ لأنّ محلّ ذلك ذمّة المدين وتقديم أحدهم على غيره ترجيح من غير مرجّح، وما اشتهر بين النّاس من تقديم العامل في الزّرع ونحوه بأجرته فلم نقف له على أصلٍ يوجب المصير إليه. والله أعلم.

المسألة الخامسة: إذا دفع إنسان إلى آخر عروضًا مضاربة وجعل قيمتها رأس مال المضاربة هل يجوز هذا أم لا؟

الجواب: يشترط في المضاربة وشركة العنان أن يكون رأس المال من النّقدين، أو أحدهما، وهو المذهب. وعنه رواية أخرى: أنّها تصحّ بالعروض. اختاره أبو بكر وأبو الخطاب وصاحب الفائق وغيرهم. قال في الإنصاف: قلت: وهو الصّواب. فعلى هذه الرّواية يرجع عند المفارقة بقيمة العروض عند العقد كما جعلنا نصابها قيمتها. وسواء كانت مثلية أو غير مثلية. والله أعلم.

المسألة السّادسة: إذا دفع إنسان مالًا مضاربةً وعمل فيه المضارب

ص: 391

ثم تلف من المال شيء بخسارة أو نحوها ثم فسخ المضارب هل عليه أن يعمل فيه حتّى يكمل رأس المال أم لا؟

الجواب: في ذكر القواعد الفقهية عن ابن عقيل ما حاصله: أنّه لا يجوز للمضارب الفسخ حتّى ينض رأس المال ويعلم به ربّه لئلا يتضرّر بتعطيل ماله عن الرّبح. وأمّا المالك لا يملك الفسخ إذا توجه المال إلى الرّبح ولا يسقط به حقّ العامل. قال: وهو حسن جارٍ على قواعد المذهب في اعتبار المقاصد وسدّ الذّرائع. ولهذا قلنا: إنّ المضارب إذا ضارب الآخر من غير علم الأوّل وكان عليه في ذلك ضرر ردّ حقّه من الرّبح في شركة الأوّل. انتهى.

أقول: مراده بقوله: حتّى ينض رأس المال، يعنِي: به إذا لم ينقص، أمّا إذا نقص فليس على المضارب إلّا تنضيض ما بقي في يده من رأس المال؛ لأنّ المضاربة عقد جائز، ولا ضمان على المضارب فيما تلف من غير تعدٍ ولا تفريطٍ. الله أعلم.

المسألة السّابعة: هل يلزم صاحب الأصل إذا أكرى أرضه أو شجره عند مَن يجوّز ذلك ما يلزمه في عقد المساقاة من سدّ حائطٍ أو إجراء نهرٍ ونحوه أم لا؟

فالجواب: لم أقف في هذه المسألة للعلماء -رحمهم الله تعالى- على نصّ. والله أعلم.

المسألة الثّامنة: ما حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار ثم اشتراه بعض التّجار من آخذه ثم باعه على آخر الخ؟

فالجواب: أمّا حكم مال المسلم إذا أخذه الكفار الأصليّون فذكر القاضي أبو يعلى -رحمه الله تعالى- أنّهم يملكونه بالقهر، وهو المذهب عنده.

ص: 392

وقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنّهم لا يملكونه، يعنِي: ولو حازوه إلى دراهم. قال في الإنصاف: وهي رواية عن أحمد اختارها الآجري وأبو الخطاب في تعليقه وابن شهاب وأبو محمّد الجوزي وجزم به ابن عبدوس في تذكرته. قال في النّظم:

لا يملكونها في الأظهر

وذكر ابن عقيل في فنونه ومفرداته روايتين، وصحّح فيها عدم الملك، وصحّح في نهاية ابن رزين ونظمها. انتهى.

قال في الشّرح: وهو قول الشّافعي وابن المنذر لحديث ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنّه مال معصوم طرأت عليه يد عادية فلم يملك بها كالغصب. ولأنّ مَن لا يملك رقبة غيره لا يملك ماله به، أي: بالقهر، كالمسلم مع المسلم.

ووجه الأولى: أنّ القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فيملك به الكافر مال المسلم كالبيع، فعلى هذا يملكونها قبل حيازتها إلى دراهم. وهو قول مالك.

وذكر القاضي أنّهم إنّما يملكونها بالحيازة إلى دراهم. وهو قول أبي حنيفة. وحكي عن أحمد في ذلك روايتان. قال ابن رجب: ونصّ أحمد أنّهم لا يملكونها إلّا بالحيازة إلى دراهم. فعليها يمتنع ملكهم لغير المنقول كالعقار ونحوه؛ لأنّ دار الإسلام ليست لهم دارًا وإن دخلوها، لكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أنّ أحمد لم ينصّ على الملك؛ ولا على عدمه، وإنّما نصّ على أحكام أخذ منها ذلك. قال: والصّواب أنّهم يملكونها مقيدًا لا يساوي أملاك المسلمين من كلّ وجهٍ. انتهى.

قلت: قد صرّح في كتاب الصّارم والفتاوى المصرية وغيرها أنّ القيد المشار إليه هو إسلام آخذها. ونصّه: ولو أسلم الحربي وبيده مال مسلمٍ، قد أخذه من المسلمين بطريق الاغتنام ونحوه كان له ملكًا ولم يردّه إلى الذي

ص: 393

كان يملكه عند جماهير العلماء من التّابعين ومن بعدهم، وهو معنى ما جاء عن الخلفاء الرّاشدين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك ومنصوص أحمد رحمهم الله. وهو قول جماهير أصحاب أحمد بناء على أنّ الإسلام والعهد قرّر ما بيده من المال الذي كان يعتقده ملكًا له فلم يؤخذ منه كجميع ما بيده من العقود الفاسدة التي كان يستحقّها. قال في الاختيارات: قال أبو العبّاس: وهذا يرجع إلى أنّ كلّ ما قبضه الكفّار من الأموال قبضًا يعتقدون جوازه فإنّه يستقرّ لهم بالإسلام. قال: ومن العلماء مَن قال يرده على مالكه المسلم، وهو قول الشّافعي وأبي الخطاب بناء على أنّ اغتنامهم فعل محرّم ولا يملكون به مال المسلم؛ كالغصب؛ ولأنّه لو أخذه منهم المسلم أخذًا لا يملك به مسلم من مسلم؛ بأن يغنمنه أو يسرقه فإنّه يرد إلى مالكه المسلم لحديث ناقة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وهو مما اتّفق النّاس فيما نعلمه. ولو كان قد ملكوه لملكه الغانم منهم ولم يرد إلى مالكه. انتهى. واختار أنّ الكافر يملكه بالإسلام عليه.

أقول: تأمّل ما ذكره شيخ الإسلام من حجّة الشّافعي وموافقيه على أنّ الكفّار لا يملكون أموال المسلمين فلو كان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء أو بالحيازة إلى داره لم يردّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم على ابن عمر عبده وفرسه التي كان أخذها العدوّ لما ظهر عليهم المسلمون، فلو لم يكن باقيًا على ملك ابن عمر لم يرد إليه وليس لتخصيصه بذلك دون سائر الغانمين معنى غير ذلك. وعمل بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده، والأحاديث في ذلك مشهورة في كتب الأحكام وغيرها.

قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب إذا غنم المسلمون مال مسلم ثم وجده المسلم)، قال ابن نمير: حدّثنا

ص: 394

عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ذهب فرس له فأخذه العدوّ فظهر عليه المسلمون فردّ عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبق عبد له فلحق بالرّوم فظهر عليهم المسلمون فردّه عليه خالد بن الوليد بعد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثم ساقه بسنده متّصلًا.

وما استدلّ به القائلون بأنّهم يملكونها بالقهر من أنّ القهر سبب يملك به المسلم مال الكافر، فملك به الكافر مال المسلم. فهذا قياس مع الفارق لا يصحّ دليلًا لو لم يكن فيه مقابلة الأحاديث، فكيف والأحاديث تمنعه؟!

ولو لم يكن مع الشّافعي وأبي الخطاب وابن عقيل فيما صحّحه من الرّوايتين، ومَن وافقهم كابن المنذر إلّا حديث مسلم: أنّ قومًا أغاروا على سرح النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فأخذوا ناقته وجارية من الأنصار فأقامت عندهم أيامًا ثم خرجت في بعض اللّيل، قالت: فما وضعت يدي على ناقة إلّا رغت حتّى وضعتها على ناقة ذلول فامتطيتها ثم توجّهت إلى المدينة ونذرت إن نجّاني الله عليها أن أنحرها، فلمّا قدمت المدينة استعرفت النّاقة فإذا هي ناقة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فأخذها فقلت: يا رسول الله إنِّي نذرت أن أنحرها قال: "بئس ما جازيتها، لا نذر في معصية الله". وفي روايةٍ: "لا نذر فيما لا يملك ابن آدم". هذا هو الحديث المشار إليه فيما تقدم.

وقد عرفت من كلام شيخ الإسلام المتقدم أنّ من العلماء مَن قال: يرده على مالكه المسلم ولو أسلم عليه وعزاه إلى الشّافعي وأبي الخطاب. وذكر ما يدلّ لهذا القول. وأنا أذكر ما يدلّ لذلك أيضًا. وإن لم يذكره شيخ الإسلام. وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن وائل بن حجر، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان يختصمان في أرضٍ. فقال أحدهما: إنّ هذا انْتزى على أرضي يا رسول الله في الجاهلية، وهو امرؤ القيس بن عابس الكندي، وخصمه ربيعة بن

ص: 395

عبدان، قال:"بيّنتك؟ "، قال: ليس لي بيّنة. قال: "يمينك". قال: إذًا يذهب بها؟ قال: "ليس لك إلّا ذلك". الحديث.

وأمّا حكم ما أخذه المسلمون منهم مِمّا قد أخذوه من مال المسلم فالجمهور من العلماء يقولون: إذا علم صاحبها قبل قسمها ردّت إليه بغير شيءٍ. قال في الشّرح في قول عامّة أهل العلم منهم عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والنّخعي واللّيثي والثّوري ومالك والأوزاعي والشّافعي وأصحاب الرّأي. وحجّتهم ما تقدم من قصة ابن عمر. قال في الشّرح: وكذلك إذا علم الإمام بمال مسلم قبل قسمه فقسم وجب ردّه وصاحبه أحقّ به بغير شيء؛ لأنّ قسمته كانت باطلةً من أصلها، فهو كما لو لم يقسم.

فأمّا إن أدركه بعد القسم ففيه روايتان:

إحداهما: يكون صاحبه أحقّ به بالثّمن الذي حسب به على آخذه. وكذلك إن بيع ثم قسم بثمنه، فهو أحقّ به بالثّمن. وهذا قول أبي حنيفة والثّوري والأوزاعي ومالك. لئلا يفضي إلى حرمان آخذه من الغنيمة أو تضييع الثّمن على المشتري. يعنِي: من الغنيمة وحقّهما ينجبر بالثّمن، فيرجع صاحب المال في غير ماله بمنْزلة مشتري الشّقص المشفوع.

والرّواية الثّانية: أنّه لا حقّ له فيه بعد القسمة بحالٍ. نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود وغيره. وهو قول عمر وعلي وسلمان بن ربيعة وعطاء والنّخعي واللّيث. وقال الشّافعي وابن المنذر: يأخذه صاحبه قبل القسمة وبعدها، ويعطى مشتريه ثمنه من خمس المصالح؛ لأنّه لم يزل عن ملك صاحبه فوجب أن يستحقّه بغير شيءٍ كما قبل القسمة، ويعطى من حسب عليه القيمة لئلا يفضي إلى حرمان آخذه حقّه من الغنيمة. وجعل من سهم المصالح؛ لأنّ هذا منها، فإن أخذه أحد الرّعية بهبةٍ أو سرقةٍ أو بغير شيء فصاحبه أحقّ به بغير شيءٍ. وقال

ص: 396

أبو حنيفة: لا يأخذه إلّا بالقيمة، وهو محجوج بحديث ناقلة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم المتقدّم؛ ولأنّه لم يحصل في يده بعوضٍ فصار صاحبه أحقّ به بغير شيءٍ كما لو أدركه في الغنيمة قبل القسمة.

فأمّا إن اشتراه رجل من العدوّ فليس لصاحبه أخذه إلّا بثمنه. وهذا كلّه إنّما هو في الكافر الأصلي.

وأمّا المرتد فلا يملك مال المسلم بحال عند جميع العلماء، ولا يعلم أحد قال به. وقد تتبعت كتب الخلاف كالمغني والقواعد والإنصاف وغيرها فما رأيت خلافًا في أنّه لا يملكه، وإنّما الخلاف فيما أتلفه إذا كان في طائفةٍ ممتنعةٍ أو لحق بدار حربٍ، والمذهب أنّه يضمن ما تلف في يده مطلقًا، فافهم ذلك، فالمسلم يأخذ ماله من المرتدّ أو مِمَّن انتقل إليه بعوضٍ أو غيره بغير شيءٍ. وما تلف في يد المرتدّ من مال المسلم أو تلف عند مَن انتقل إليه من جهة المرتد فهو مضمون كالمغصوب.

ثم اعلم أنّه قد يغلط مَن لا تمييز عنده في معنى التّلف والإتلاف فيظنّ أنّه إذا استنفق المال أو باعه أو وهبه ونحو ذلك يعدّ إتلافًا، وليس كذلك بل هنا تصرّف وانتفاع.

وقد فرّق العلماء رحمهم الله بين هذا وبين الإتلاف. ومن صور الإتلاف والتّلف أن يضيّعه أو يضيّع أو يسرق أو يحرق أو يقتل ونحو ذلك. فإن كان بفعله فهو إتلاف، وإن كان بغير فعله فهو بالنّسبة إليه تلف يترتّب عليه أحكام ما تلف بيده، وبالنّسبة إلى الفاعل إتلاف. وضابطه: فوات الشّيء على وجه لا يعدّ من أنواع التّصرف.

إذا عرفت أنّ حكم المرتدّ يفارق حكم الكافر الأصلي. فاعلم أنّه قد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيمَن اشترى مال مسلمٍ من التتر لما دخلوا الشّام إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح وأعطي مشتريه ما اشتراه به؛ لأنّه لم

ص: 397

يصر لها إلّا بنفقته، وإن لم يقصد ذلك. انتهى من الإنصاف.

وسُئِل أيضًا* عمَّن اشترى فرسًا ثم ولدت عنده حصانًا، وأخذ السلطان الفرس وأهدى الحصان لرجلٍ فأعطاه عوضه، ثم ظهرت الفرس أنّها كانت مكسوبة نهبًا من قوم، فهل يحرم ثمن الحصان؟

فأجاب: إن كان صاحب الحصان معروفًا ردّت إليه فرسه، ورجع المشتري بالثّمن على بائعه ويرجع عليه بقيمة الحصان، أو قيمة نصفه الذي يستحقّه صاحبه لكونه غرّه. وإن كانت مكسوبة من التتر أو العرب الذين يُغير بعضهم على بعضٍ، فيأخذ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، ولم يعرف صاحبها لم يحرم على مُهدي الحصان عوض هديته. والله أعلم.

وقد صرّح شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- بأنّ هذا المنهوب يردّ إلى صاحبه أو قيمته إن تصّرف فيه ويرجع المشتري بالثّمن على البائع. وأنّه إن لم يعرف صاحب ما أخذ من التّتر والعرب لم يحرم عليه عوضه. فمفهومه أنّه إن عرف صاحبه فعوضه حرام على مَنِ اعتاض عنه لكونه ظهر مستحقًّا لمسلمٍ معصومٍ. وهذا أيضًا يفيده ما تقدم من قوله فيمَن اشترى مال مسلم من التّتر إن لم يعرف صاحبه صرف في المصالح

الخ. وهو صريح في أنّ التّتر لا يملكون مال المسلم بالاستيلاء والحيازة. ومن المعلوم أنّ التّتر من أعظم النّاس كفرًا لما جمعوه من المكفِّرات في الاعتقادات والأعمال. ومع ذلك قال شيخ الإسلام: يردّ ما أخذوه لصاحبه المسلم من غير أن يدفع إلى مشتريه منهم شيئًا كما يفيده الجواب الثّاني. ولم يقل فيه إنّه لا يحرم على مَن اعتاض عن الحصان شيئًا إلّا بقيد عدم معرفة صاحبه بناء على أصله في الأموال التي جهلت أربابها. ولذلك قال في المكوس: إذا أقطعها

* أي شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم أجد هذه المسألة فيما طبع من مصنفات شيخ الإسلام. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 398

الإمام الجند، هي حلال لهم إذا جهل مستحقّها.

وبهذا يظهر الجواب عن المسألة التّاسعة، وهو أنّ ما وقع في هذه السّنين من النّهب والظّلم يردّ ما وجد منه إلى مالكه من غير أخذ ثمنٍ ولا قيمةٍ. وحكم يد المشتري منهم حكم الأيدي المترتّبة على يد الغاصب لما تقرّر من أنّ الخلاف إنّما جرى في حقّ الكافر الأصلي.

وأمّا المرتدّ ونحوه فالقول بأنّه لا يملك مال المسلم مسألة وفاق. وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في الفتاوى المصرية ما يفهم به الفرق بين الكافر الحربي والمرتدّ. فقال: وإذا قدر على كافرٍ حربيٍ فنطق بالشّهادتين وجب الكفّ عنه بخلاف الخارجين عن الشّريعة؛ كالمرتدّين الذين قاتلهم أبو بكر - رضي الله - والتّتر وأمثال هؤلاء الطّوائف مِمَّن نطق بالشّهادة ولا يلتزم شعائر الإسلام. وأمّا الحربي فإذا نطق بها كفّ عنه.

وقال أيضًا: ويجب جهاد الكفّار واستنقاذ ما بأيديهم من بلاد المسلمين وأموالهم باتّفاق المسلمين، ويجب على المسلمين أن يكونوا يدًا واحدة على الكفّار، وأن يجتمعوا ويقاتلوا على طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله. انتهى.

فيعلم ما تقرّر أنّ الأموال المنهوبة في هذه السّنين غصوب يجري فيها حكم الغصب، وما يترتّب عليه. وبهذا أفتى شيخنا الشّيخ عبد الله بن شيخنا الإمام محمّد رحمهم الله. وأفتى به الشّيخ محمّد بن عليّ الشّوكاني قاضي صنعاء اليمن، وما ظننت أنّ أحدًا له أدنى ممارسة في العلم يخالف ذلك. والله أعلم.

المسألة العاشرة: قال السّائل: وجدت نقلًا عن الإقناع وشرحه: إذا ذبح السّارق المسلم أو الكتابي المسروق مسميًا حلّ لربّه ونحوه أكله

ص: 399

ولم يكن ميته كالمغصوب. انتهى. قال السّائل: وهل هذا إلّا مغصوب ويعارضه حديث عاصم بن كليب عن أبيه

الخ؟

الجواب: لا معارضة؛ إذ ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكل منها لا يدلّ على أنّها ميتة من وجوه:

منها: أنّها ليست ملكًا لهم، ولا لِمَن ذبحها فهي وإن حرمت عليهم فلا تحرم على مالكها، ولا مَن أذن له مالكها في الأكل منها، ويحتمل أنّه ترك الأكل منها تنَزُّهًا. ويدلّ على حلّها بهذه الذّكاة قوله:"أطعميه الأسارى". وهو لا يطعمهم ميتة. وقوله: كالمغصوب، راجع لقوله: حلّ، لا لقوله: ميتة شبه بذح الحيوان المغصوب في الحلّ لا في الحرمة. والله أعلم.

المسألة الحادية عشرة: إذا كان لإنسان على آخر دَين من طعامٍ أو نحوه فأشفق في الوفاء فطلب غريمه أن يعطيه الثّمرة عن ماله في ذمّته فهل يجوز ذلك أم لا؟

فالجواب -وبالله التّوفيق-: قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب إذا قاص أو جازفه في الدَّين فهو جائز). زاد في رواية كريمة: تمرًا بتمرٍ، أو غيره. وساق حديث جابر رضي الله عنه أنّ أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقًا لرجلٍ من اليهود فاستنظره جابر فأبَى ينظره، فكلّم جابر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشفع له إليه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّم اليهود ليأخذ تمر نخله بالذي له فأبى

الحديث. وبه استدلّ ابن عبد البرّ وغيره من العلماء رحمهم الله على جواز أخذ الثّمر على الشّجر عمّا في الذّمّة إذا علم أنّه دون حقّه إرفاقًا بالمدين، وإحسانًا إليه، وسماحة بأخذ الحقّ ناقصًا وترجم البخاري رحمه الله بهذا الشّرط فقال:(إذا قضى دون حقّه أو حلّله فهو جائز). ساق

ص: 400

حديث جابر رضي الله عنه أيضًا.

فأمّا إذا كان يحتمل أنّه دون حقّه أو مثله أو فوقه، فهذا غير جائزٍ أن يأخذ عمّا في الذّمّة شيئًا مجازفة، أو خرصًا لاسيما إذا كان دَين سلم. لما روى البخاري وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"مَن أسلف في شيءٍ فليسلف في كيلٍ معلومٍ أو وزنٍ معلومٍ إلى أجلٍ معلومٍ". ومضمون هذا الحديث عام. وبه أخذ الجمهور. وقد يقال: إنّ قضيّة جابر قضية عينٍ لا عموم لها. ويترجّح المنع سدًّا للذّريعة لاسيما في هذه الأوقات لكثرة الجهل والجراءة بأدنَى شبهة. والله أعلم.

المسألة الثّانية عشرة: ما حكم الباطل والفاسد عند أهل الأصول الخ؟

الجواب: هما مترادفان عند الأصوليّين والفقهاء من الحنابلة والشّافعية. وقال أبو حنيفة: إنّهما متباينان؛ فالباطل عنده: ما لم يشرع بالكلّيّة؛ كبيع المضامين والملاقيح. والفاسد؛ ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصفٍ محرّمٍ؛ كالرّبا. وعند الجمهور كلّ ما كان منهيًّا عنه إمّا لعينه أو وصفه ففاسد وباطل، لكن ذهب بعض الفقهاء من الحنابلة إلى التّفرقة بين ما أجمع على بطلانه وما لم يجمع عليه، فعبّروا عن الأوّل بالباطل وعن الثّاني بالفاسد ليتميّز هذا من هذا، لكون الثّاني تترتّب عليه أحكام الصّحيح غالبًا، أو أنّهم قصدوا الخروج من الخلاف في نفس التّعبير؛ لأنّ من عادة الفقهاء من أهل المذاهب -رحمهم الله تعالى- مراعاة الخروج من الخلاف. وبعضهم يعبّر بالباطل عن المختلف فيه مراعيًا للأصل. ولعلّ مَن فرّق بينهما في التّعبير لا يمنع من تسمية المختلف فيه باطلًا فلا اختلاف.

ومثل ذلك: خلافهم في الفرض والواجب. قال في القواعد الأصولية: إنّهما مترادفان شرعًا في أصحّ الرّوايتين عن أحمد.

ص: 401