الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب
…
رسائل وفتاوى
الشّيخ حسن بن الشّيخ حسين بن الشّيخ محمّد -رحمهم الله تعالى-:
- 1 -
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمدك اللهمّ على نعمك وآلائك، ونصلّي ونسلّم على خاتم رسلك وأنبيائك.
(من حسن بن حسين إلى الأخ إبراهيم بن عيدة)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد؛
فقد وصل الكتاب بطلب الجواب عن سؤالات ثلاثة، وهذا جوابها وقدمنا الجواب عن معنى الحديثين وإن تأخّر في السّؤال تعظيمًا لهما وإجلالًا.
السّؤال الأوّل: عن معنى قوله عليه السلام: "لا ضرر ولا ضرار".
فالجواب: قال أبو الفرج ابن رجب في شرح الأربعين في الكلام على هذا الحديث: وقد اختلفوا هل بين اللّفظتين -أعنِي الضّرر والضّرار- فرق أم لا؟
فمنهم مَن قال: هما بمعنىً واحدٍ على وجه التّأكيد. والمشهور أنّ بينهما فرقًا، ثم قيل: إنّ الضّرر: الاسم، والضّرار: الفعل، فالمعنى: أنّ الضّرر نفسه منتفٍ في الشّرع، وإدخال الضّرر بغير حقٍّ كذلك.
وقيل: الضّرر أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع به هو، والضّرار أن يدخل على غيره ضررًا بما لا منفعة له به؛ كمَن منع ما لا يضرّه ويتضرّره به الممنوع.
وقيل: إنّ الضّرر أن يضرّ بِمَن لا يضرّه، والضّرار أن يضرّ بِمَن قد أضرّ به بوجهٍ غير جائز.
وبكلّ حال فالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنّما نفى الضّرر والضّرار بغير حقٍّ. فأمّا إدخال الضّرر على أحد بحقٍّ إمّا لكونه تعدّى حدود الله فيعاقب
بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهذا غير مراد قطعًا. وإنّما المراد إلحاق الضّرر بغير حقٍّ. وهذا على نوعين:
أحدهما: أن يكون في ذلك غرض سواء ضرر بذلك أو لا، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه. وقد ورد النّهي في القرآن عن المضارّة في مواضع؛
منها: الوصيّة، قال الله تعالى:{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} ، [النّساء، من الآية: 12]. والإضرار بالوصيّة يكون تارة بأن يخصّ بعض الورثة بزيادة على فرضه الذي كتب الله له فيستضرّ بقية الورثة بتخصيصه. ولهذا قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لا وصيّة لوارثٍ". وتارة بأن يوصي لأجنبِيّ بزيادة على الثّلث فينقص حقوق الورثة، ولهذا قال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"الثّلث والثّلث كثير". ومتى أوصى لوارثٍ أو لأجنَبِيٍّ بزيادةٍ على الثّلث لم ينفّذ ما أوصى به؛ إلّا بإجازة الورثة، وسواء قصد المضارة أو لم يقصد.
وأمّا إن قصد المضارة لأجنَبِيّ بالثّلث فإنّه يأثم بقصده المضارة، وهل ترد الوصية إذا ثبت ذلك بإقراره أم لا؟
حكى ابن عطيّة رواية عن مالك أنّها ترد، وقيل: إنّه قياس مذهب أحمد.
ومنها: الرّجعة في النّكاح، قال الله تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الآية، [البقرة، من الآية: 231].
وقال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} ، [البقرة، من الآية: 228]. فدلّ ذلك على أنّ مَن كان قصده بالرّجعة المضارة فإنّه آثم بذلك.
ومنها: الإيلاء، فإنّ الله تعالى جعل مدّة الإيلاء للمولي أربعة أشهر إذا حلف على امتناع وطء زوجته؛ فإنّه يضرب له أربعة أشهر، فإن فاء ورجع إلى الوطء كان ذلك توبة، وإن أصرّ على الامتناع لم يمكن من ذلك. ثم فيه قولان للسّلف والخلف:
أحدهما: أنّها تطلق عليه بمضي هذه
المدّة.
والثّاني: أنّه يوقف فإن فاء وإلّا أمر بالطّلاق.
ومنها: الرّضاع، قال الله تعالى:{لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} ، [البقرة، من الآية: 233]. قال مجاهد: لا يمنع أمّه أن ترضعه ليحزنها بذلك. وقال عطاء وقتادة والسّدّي والزّهري وسفيان وغيرهم: إذا رضيت بما يرضى به غيرها فهي أحقّ به، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ولو كانت الأم في حبال الزّوج. وقيل: إن كانت الأم في حبال الزّوج فله منعها عن إرضاعه إلّا أن لا يمكن ارتضاعه من غيرها وهو قول الشّافعي وبعض أصحابنا. لكن إنّما يجوز ذلك إذا قصد الزّوج توفير الزّوجة للاستمتاع لا مجرّد إدخال الضّرر عليها.
ومنها: البيع، وقد ورد النّهي عن بيع المضطرّ، وقال حرب: سُئِلَ أحمد عن بيع المضطّر فكرهه. فقيل له: كيف هو؟ قال: يجيئك فتبيعه ما يساوي عشرة بعشرين. وقال أبو طالب: قيل لأحمد: إن ربح العشرة خمسة فكره ذلك.
ومن أنواع الضّرر في الشّرع التّفريق بين الوالدة وولدها في البيع، فإن كان صغيرًا حرم بالاتّفاق، فإن رضيت الأم بذلك ففي جوازه اختلاف. ومسائل الضّرر في الأحكام كثيرة، وإنّما ذكر هذا على وجه المثال.
وأمّا النّوع الثّاني: أن يكون له غرض غير صحيحٍ؛ مثل: أن يتضرّر في ملكه بما فيه مصلحة له فيتعدّى ذلك إلى ضرر غيره أو يمنع غيره من الانتفاع في ملكه توفيرًا فيتضرّر الممنوع.
فأمّا الأوّل: فإن كان على غير الوجه المعتاد مثل أن يؤجج في أرضه نارًا في يوم عاصفٍ فيحترق ما يليه فإنّه متعدٍ بذلك وعليه الضّمان،
وإن كان على الوجه المعتاد ففيه للعلماء قولان مشهوران:
أحدهما: لا يمنع من ذلك. وهو قول الشّافعي وأبي حنيفة وغيرهما.
والثّاني: المنع. وهو قول أحمد ووافقه مالك في بعض الصّور.
فمن صور ذلك أن يفتح كوة في بنائه العالي مشرفة على جاره، أو أن يبنِي عاليًا ليشرف على جاره ولا يستره فإنّه يلزمه أن يستره، نصّ عليه أحمد. ووافقه طائفة من أصحاب الشّافعي. قال الرّويانِي منهم في كتاب الحلية: يجتهد الحاكم في ذلك، ويمنع إذا ظهر له التّعفن في الفساد. قال وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشّمس والقمر. وقد خرج الخرائطي وابن عدي بإسنادٍ ضعيفٍ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعًا حديثًا طويلًا في حقّ الجارية، وفيه:"ولا يستطيل عليه بالبناء فيحجب عنه الرّيح إلّا بإذنه".
ومنها: أن يحفر بئرًا بالقرب من بئر جاره، فيذهب ماءها، فإنّها تطم في مذهب مالك وأحمد. وأخرج أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تضارّوا في الحفر". وذلك أن يحفر الرّجل إلى جنب بئر الرّجل ليذهب بمائه.
ومنها: أن يحدث بما يضرّ بملك جاره من هزّ ودقّ ونحوهما، فإنّه يمنع منه في ظاهر مذهب مالك وأحمد، وهو أحد الوجوه للشافعية.
ومنها: أن يكون له ملك في أرض غيره ويتضرّر صاحب الأرض بدخوله إلى أرضه، فإنّه يجبر على إزالته ليدفع به ضرر الدّخول، وخرّج أبو داود في سننه من حديث أبي جعفر محمّد بن عليّ أنّه حدّث عن سمرة بن جندب أنّه كان له عضيد من نخلٍ في حائط رجلٍ من الأنصار، ومع الرّجل أهله فكان سمرة يدخل إلى أهله فيتأذى به، ويشقّ عليه، فطلب إليه أن ينقله فأبى، فأتى النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فطلب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن
ينقله فأبى. قال: "فهبه لي ولك كذا وكذا "، أمرًا أرغبه فيه. قال: فقال: أنت مضارّ فقال النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار: "اذهب فاقلع نخله". وقد روي عن أبي جعفر مرسلًا. قال أحمد في رواية حنبل بعد أن ذكر له هذا الحديث: فما كان على هذه الجهة وفيه ضرر يمنع من ذلك، فإن أجاب وإلّا أجبره السّلطان ولا يضرّ بأخيه في ذلك إذا كان من فعاله. وذكر حديثًا من نحوه، ثم قال: ففي هذا والذي قبله إجباره على المعاوضة حيث كان على شريكه أو جاره ضرر في شركة وعلى وجوب العمارة على الشّريك الْممتنع من العمارة وعلى إيجاب البيع إذا تعذرت القسمة. ومتى تعذرت القسمة بكون المقسوم يتضرّر بقسمته وطلب أحد الشّريكين البيع أجبر الآخر وقسم الثّمن. نصّ عليه الإمام أحمد وأبو عبيدة وغيرهما من الأئمة.
وأمّا الثّاني: وهو منع الجار من الانتفاع بملكه والارتفاق به، فإن كان ذلك يضرّ بِمَن انتفع بملكه فله المنع، وأمّا إن لم يضرّ به فهل يجب عليه التّمكين ويحرم عليه الامتناع أم لا؟
فَمَن قال في القسم الأوّل: لا يمنع المالك من التّصرّف في ملكه، وإن أضرّ بجاره قال هنا للجار المنع من التّصرّف في ملكه بغير إذنه.
ومَن قال هناك بالمنع فاختلفوا ههنا على قولين:
أحدهما: المنع ههنا. وهو قول مالك.
والثّاني: أنّه لا يجوز المنع. وهو مذهب أحمد في طرح الخشب على جدار جاره. ووافقه الشّافعي في القديم. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبه على جداره". قال أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين، والله
لأرميَنّها بين أكتافكم. وقضى عمر بن الخطاب على محمّد بن مسلمة أن يجري ماء جاره في أرضه. وقال: ليمرّن ولو على بطنك. وفي الإجبار على ذلك روايتان عن أحمد، ومذهب أبي ذرّ الإجبار على إجراء المال بأرض جاره إذا أجراه في قتاة في باطن أرضه. نقله عنه حرب الكرماني.
ومما ينهى عن منعه للضّرر الماء والكلأ، وذكر حديث أبي هريرة وغيره، ثم قال: وذهب أكثر العلماء إلى أنّه لا يمنع الماء الجاري والنّابع مطلقًا سواء قيل إنّ الماء لمالك أرضه أم لا؟
ومِمَّا يدخل في عموم قوله: "لا ضرر ولا ضرار"، أنّ الله لم يكلّف عباده ما يضرّهم البتة، فإنّ ما يأمرهم به هو عين صلاح دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عين فسادهم في دينهم ودنياهم، لكنه ما يأمر عباده بشيءٍ هو ضارّ لهم في أبدانهم أيضًا، ولهذا أسقط الطّهارة بالماء عن المريض، وأسقط الصّيام عن المريض والمسافر، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام عمّا كان مريضًا أو به أذى من رأسه وأمره بالفدية.
ومِمَّا يدخل في عمومه أيضًا أنّ مَن عليه دَين لم يطالب به مع إعساره بل ينظر إلى حال يساره. انتهى كلام ابن رجب ملخّصًا في الفتح المبين في الكلام على هذا الحديث.
وينبنِي عليه - يعنِي على القاعدة المشهورة - أنّ الضّرر يزال في كثيرٍ من أبواب الفقه؛ كالرّدّ بالعيب، وجميع أنواع الخيار من إخلاف الوصف المشروط والتّعزير وإفلاس المشتري وغير ذلك، والحجر بأنواعه والشّفعة؛ لأنّها شرعت لدفع ضرر القسمة، والقصاص والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، ونصيب الأئمة والقضاة، ودفع الصّائل، وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النّكاح بالعيوب أو الإعسار والقسمة. انتهى.
وقال عبد الرّحمن الحضرمي الشّافعي في شرح الأربعين في الكلام على هذا الحديث: فائدة: يؤخذ من هذا الحديث قاعدتان عظيمتان وهما: رعاية المصالح ودرء المفاسد، ويتفرّع منهما أيضًا قواعد أخرى كقولهم: الضّرر يزال، وقولهم: إذا ضاق الأمر اتّسع، والمشقّة تجلب التّيسير والضّرر يبيح المحظورات، وما أبيح للضّرورة يقدّر بقدرها، والضّرر لا يزال بالضّرر، وقولهم: يراعى أخف الضّررين، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، والحاجة، أو العامّة، أو الخاصّة تُنَزَّل مَنْزلة الضّرورة. وكلّ واحدةٍ من هذه القواعد لها فروع منتشرة في كتب الفقه لا يمكن حصرها. انتهى.
السّؤال الثّاني: ما معنى قوله عليه السلام: "الأرواح جنود مُجَّنَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف"؟
فالجواب: قال النّووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مُنَجَّدةٌ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". قال العلماء معناه: جموع مجتمعة وأنواع مختلفة.
أمّا تعارفها فهو لأمرٍ جبلها الله عليه، وقيل: إنّها موافقة صفاتها التي خلقها الله تعالى عليها وتناسبها في شبهها، وقيل: لأنّها خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسادها فمَن وافق قسيمه ألفه، ومَن باعده نافره وخالفه. قال الخطابي وغيره: تألّفها هو ما خلقها الله عليه من السّعادة والشّقاوة في المبتدأ، وخلقت الأرواح قمسين متاقبلين من ائتلافٍ واختلافٍ.
- 2 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من حسن بن حسين إلى الإخوان: جمعان بن ناصر، ومحمّد بن المبارك، ومَن معهم من الإخوان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل، وبه السّرور حصل حيث أفاد المحب عن طيب أحبابه، وصحّة أمور خلاصة أصحابه.
بعد؛
فيا أيّها الإخوان ألهمكم الله الصّبر والاحتساب، وأحسن لنا ولكم العزاء في المصاب، والحمد لله، على كلّ حالٍ. المأمول فيكم الصّبر والاحتساب والتّعزّي بعزاء الله تعالى، فقد قال بعض العلماء رحمه الله: إنّك لن تجد أهل العلم والإيمان إلّا وهم أقلّ النّاس انزعاجًا عند المصائب، وأحسنهم طمأنينة، وأقلّهم قلقًا عند النّوازل، وما ذاك إلّا لما أوتوا مِمّا حرمه الجاهلون، قال الله سبحانه:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} ، [البقرة الآيات: 155 - 157]. فهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في العاجلة والآجلة، فإنّها تضمنت أصلين عظيمين إذا تحقّق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته:
أوّلًا: أنّ العبد وأهله وماله ملك لله تعالى، يتصرّف فيه كيف يشاء، جعله تبارك وتعالى عند عبده عارية والمعير مالك قاهر قادر، وهو محفوف بعدمين: عدم قبله وعدم بعده، وملك العبد متعة معارة.
الثّاني: أنّ مصير العبد ومرجعه ومردّه إلى مولاه الحقّ
الذي له الحكم والأمر والأبدان يخلف ما خوله في هذه الدّار وراء ظهره، ويأتي فردًا بلا أهلٍ ولا مالٍ ولا عشيرةٍ، ولكن بالحسنات والسّيّئات، ومَن هذه حاله لا يفرح بموجودٍ ولا يأسف على مفقودٍ، وإذا علم المؤمن علم يقين أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه هانت عليه المصيبة. وقد قيل:
ما قد قضي يا نفس فاصطبري له
…
ولك الأمان من الذي لم يقدر
ولتعلمي أنّ المقدر كائن
…
يجري عليك عذرت أو لم تعذري
ومن صفات المؤمن أنّه عند الزّلازل وقور، وفي الرّخاء شكور، ومما يخفّف المصائب بردّ التّأسي فانظروا يمينًا وشمالًا، وأمامًا ووراء فإنّكم لا تجدون إلّا مَن قد وقع به ما هو أعظم من مصيبتكم أو مثلها أو قريب منها ولم يبق إلّا التفاوت في عوض الفائت، نعوذ بالله من الخسران، ولو أمعن البصير نظره في هذا العالم جميعه لم ير إلّا مبتلى إمّا بفوات محبوب أو حصول مكروه، وأنّ سرور الدّنيا أحلام ليل أو كظلٍّ زائلٍ، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن أحسنت حينًا أساءت دهرًا، جمعها إلى انصداع، ووصلها إلى انقطاع، إقبالها خديعة، وإدبارها فجيعة، لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزالها، حالها انتقال، وسكونها زلزال، غرّارة خدوع، معطية منوع، ملبسة نزوع، ويكفي في هوانها على الله أنّه لا يعطي إلّا فيها، ولا ينال ما عنده إلّا بتركها، مع أنّ المصائب من حيث هي رحمة للمؤمن وزيادة في درجاته، كما قال بعض السّلف: لولا مصائب الدّنيا وردنا الآخرة مفاليس، والرّبّ سبحانه لم يرسل البلاء لعبده ليهلكه ولا ليعذّبه، ولكن امتحانًا لصبره ورضاه عنه، واختبارًا لإيمانه،
وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه منكسر القلب بين يديه، فهذا من حيث المصائب الدّنيوية.
وأمّا ما جرى عليكم فأنتم به بالتهنئة أجدر من التّعزية، كيف وقد نالكم من الأذى والتّطريد كما نال الرّسل وأتباعهم، فهذا سيّد المرسلين غير خافٍ ما جرى عليه، وتطرق من الأذى إليه، فنسأل الحيّ القيّوم الذي لا تأخذه سنة أن يجعل لنا ولكم فيه أسوة حسنة، ولعمر الله إنّ مَن سلم دِينه فالمحن في حقّه منح، والبلايا عطايا، والمكروهات له محبوبات إلى غير ذلك.
وأمّا المصيبة والخطاب الأكبر والكسر الذي لا يجبر والعثار الذي لا يقال، فهي المصيبة في الدِّين كما قيل:
من كلّ شيءٍ إذا ضيعته عوض
…
وما من الله إن ضيعته عوض
وقد مضت عادة أحكم الحاكمين لِمَن أراد به خيرًا وإمامة في الدِّين أن يقدّم له الابتلاء بين يدي ذلك. قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} ، [السّجدة: 24].
خاتمة: روى الإمام أحمد والطّبرانِي عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طوبَى للغرباء"، قلنا: ومَن الغرباء؟ قال: "قوم صالحون قليل في قومٍ سوءٍ كثيرٍ مَن يعصيهم أكثر مِمَّن يطعيهم". وفي لفظٍ: قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "الفرّارون بدِينهم يبعثهم الله مع عيسى بن مريم عليه السلام". كذا ورد في بعض طرق الحديث المشهور. وعن ابن مسعود قال: سَمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سيأتي النّاس زمان لا يسلم لذي دِينٍ دِينُهُ إلّا مَن فرَّ بدِينه من قريةٍ إلى قريةٍ، ومِن شاهقٍ إلى
شاهقٍ، ومِن جحرٍ إلى جحرٍ كالثّعلب". قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: "إذا لم تنل المعيشة إلّا بمعاصي الله" الحديث. وروى الطّبراني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ لكلّ شيءٍ إقبالًا وإدبارًا، وإنّ لهذا الدِّين إقبالًا وإدبارًا، وإنّ من إدبار الدِّين ما كنتم عليه من العمى والجهالة وما بعثني به، ومن إقبال الدِّين أن تفقه القبيلة بأسرها حتّى لا يوجد فيها إلّا الفاسق والفاسقان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلّما قمعا وقهرا واضطهدا، ألا وإنّ من إدبار الدِّين أن تجفو القبيلة بأسرّها حتّى لا يوجد فيها إلّا الفقيه والفقيهان، فهما مقهوران ذليلان إن تكلّما فأمرا بمعروفٍ أو نهيا عن منكرٍ قمعا وقهرا واضطهدا فهما مقهوران ذليلان لا يجدان على الحقّ أعوانًا ولا أنصارًا". إلى غير ذلك مما لا تتّسع لذكره هذه الورقة. وما أحسن ما قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:
قد عرف المنكر وأنكر الـ
…
معروف في أيّامنا الصّعبه
صار أهل العلم في وهدة
…
وصار أهل الجهل في رتبه
فقلت للأبرار أهل التّقى
…
والدِّين لما اشتدّت الكربه
لا تنكروا أحوالكم قد أتت
…
نوبتكم في زمن الغربه
يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبًا" الخ.
وصلّى الله على محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
- 3 -
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله على نعمه وآلائه، وأصلّي وأسلّم على خاتم رسله وأنبيائه.
من حسن بن حسين إلى الأخ راشد بن مبارك أولاه الله من نعمه وبارك.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإن تسأل عنِّي فأحمد إليك الله، وأشكره كما شكره الأواه، بخيرٍ وعافية، ونعم وافيه، وقد سألت رحمك الله عن مسألتين والخاطر مشغول، وقد آن بحمد الله أن نشرع في الجواب:
المسألة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة: "وللعامل منهم أجر خمسين". قيل يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". كيف ساووا الصّحابة رضي الله عنهم وهم أفضل النّاس ولن يبلغ من بعدهم أدنى درجة من درجاتهم.
فالجواب -وبالله التّوفيق-: اعلم أوّلًا أنّ هذا الحديث المشار إليه خرجه أبو داود والتّرمذي وابن ماجه من طريق عتبة بن حكيم عن عمرو بن حارثة عن أبي أمية الشّعباني عن أبي ثعلبة الخشنِي رضي الله عنهم في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، [المائدة، من الآية: 105]. أمّا والله لقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحًا مطاعًا وهوى متّبعًا ودنيا مؤثّرة، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا بدّ لك منه -وفي بعضها لا يدان لك به- فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام، فإنّ وراءكم أيّام الصّبر، فمَن صبر فيهن كان كَمَن قبض على الجمر للعامل فيهن أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله". قالوا: يا رسول الله أجر خمسين
منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم". وعتبة هذا قال الحافظ المنذري في مختصر السّنن لأبي داود هو: العبّاس بن أبي حكيم الهمدانِي الشّامي، وثّقه غير واحدٍ، وتكلّم فيه غير واحدٍ.
قلت: وقد حكم التّرمذي على هذا الحديث أنّه حسن غريب.
إذا عرفت ذلك فالمعنى الذي لأجله استحقّ الأجر العظيم والثّواب، وساوى فضل خمسين من الصّحاب، إنّما هو لعدم المعاون والمساعد على ما ذكره الحافظ أبو سليمان الخطابي، وأبو الفرج عبد الرّحمن بن رجب وغيرهما، فالمستقيم على المنهج السّويّ، والطّريق النّبويّ عند فساد الزّمان، ومروج الأديان غريب، ولو عند الحبيب، إذ قد توفرت الموانع، وكثرت الآفات، وتظاهرت القبائح والمنكرات، وظهر التّغيير في الدِّين والتّبديل، واتّباع الهوى والتّضليل، وفقد المعين، وعزَّ مَن تلوذ به من الموحِّدين، وصار النّاس كالشّيء المشوب، ودارت بين الكلّ رحى الفتن والحروب، وانتشر شرّ المنافقين، وعيل صبر المتّقين، وتقطعت سبل المسالك، وترادفت الضّلالات والمهالك، ومنع الخلاص، ولات حين مناص. فالموحِّد بينهم أعزّ من الكبريب الأحمر، ومع ذلك فليس له مجيب ولا راعٍ، ولا قابل لما يقول ولا واعٍ، وقد نصبت له رايات الخلاف، ورمي بقوس العداوة والاعتساف، ونظرت إليه شزر العيون، وأتاه الأذى من كلّ منافقٍ مفتونٍ، واستحكمت له الغربة، وأفلاذ كبده تقطعت مما جرى في دين الإسلام، وعراه من الانثلام والانفصام، والباطل قد اضطرمت ناره، وتطاير في الآفاق شراره، ومع هذا كلّه فهو على الدِّين الحنيف مستقيم، ولحجج الله وبراهينه مقيم. فبالله قل لي
هل يصدر هذا إلّا عن يقين صدقٍ راسخٍ في الجنان، وكمال توحيدٍ وإيمانٍ، وصبر ورضا وتسليم لما قدره الرّحمن، وقد وعد الله الصّابرين الثّواب:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ، [الزّمر، من الآية: 10].
وقد قال بعض العلماء -رحمهم الله تعالى- مَن اتّبع القرآن والسّنة وهاجر إلى الله بقلبه واتّبع آثار الصّحابة لم يسبقه الصّحابة إلّا بكونهم رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اهـ. وفي ذلك الزّمان فالكلّ له أعوان وأخوان ومساعدون ومعاضدون، ولهذا قال علي بن المدينِي -رحمه الله تعالى- كما ذكره عنه ابن الجوزي في كتاب صفوة الصّفوة: ما قام أحد بالإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قام أحمد بن حنبل، قيل: يا أبا الحسن ولا أبو بكر الصّدّيق؟ قال: إنّ أبا بكرٍ الصّدّيق رضي الله عنه كان له أصحاب وأعوان وأحمد بن حنبل لم يكن له أعوان ولا أصحاب. اهـ.
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بدا الإسلام غريبًا وسيعود غربيًا كما بدأ فطوبى الغرباء". قيل: يا رسول الله: ومَن الغرباء؟ قال: "النّزاع من القبائل". ورواه أبو بكر الآجري الحنبلي. وعنده قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: "الذين يصلحون إذا فسد النّاس". ورواه غيره. وعنده قال: "الذين يفرّون بدِينهم من الفتن".
ورواه التّرمذي عن كثيرٍ عن عبد الله المزني عن أبيه عن جدّه عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بلفظٍ: "الذين يصلون ما أفسد النّاس من سنتِي". ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص. ورواه الطّبراني من حديث عبد الله بن عمر عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "طوبى للغرباء". قيل: ومَن الغرباء؟ قال: "قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير مَن يعصيهم أكثر مِمَّن يطيعهم". قال الأوزاعي في تفسيره:
أمّا أنّه ما يذهب الإسلام ولكن يذهب أهل السّنة حتّى ما يبقى في البلد منهم إلّا رجلٌ واحدٌ أو رجلان. رواه البخاري عن مرداس السّلمي رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يذهب الصّالحون الأوّل فالأوّل ويبقى حثالة كحثالة الشّعير أو التّمر لا يباليهم الله باله". وكان الحسن البصري يقول لأصحابه: يا أهل السّنة ترفقوا - رحمكم الله - فإنّكم من أوّل النّاس، وقال يوسف بن عبيد ليس شيء أغرب من السّنة، وأغرب منها من يعرفها.
وروى أبو القاسم الطّبراني وغيره بإسنادٍ فيه نظر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المتمسّك بسنّتِي عند اختلاف أمّتِي له أجر شهيدٍ".
وروى مسلم في صحيح عن معقل بن يسار أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العبادة في الهرج كهجرة إلِيَّ". وعن الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: لو أنّ رجلًا من الصّدر الأوّل بعث ما عرف من الإسلام شيئًا إلّا هذه الصّلاة، ثم قال: أمّا والله لئن عاش على هذه المنكرات فرأى صاحب بدعة يدعوا إلى بدعته وصاحب دنيا يدعو إلى دنياه فعصمه الله، وقلبه يحن إلى ذلك السّلف ويتّبع آثارهم ويستنّ بسنّتهم ويتّبع سبيلهم كان له أجرٌ عظيمٌ.
وروى المبارك بن فضالة أحد علماء الحديث بالبصرة عن الحسن البصري أنّه ذكر الغني المترف الذي له سلطان يأخذ المال ويدّعي أنّه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضّال الذي خرج على المسلمين، وتأوّل ما أنزل الله في الكفّار على المسلمين ثم قال: سنّتكم والله الذي لا إله إلّا هو بينها وبين الغالي والجافي والمترف والجاهل فاصبروا عليها. فإنّ أهل السّنة كانوا أقلّ النّاس الذين لم يأخذوا مع أهل الأتراف في أترافهم ولا مع أهل البدع أهواءهم وصبروا على سنّتهم حتّى أتوا ربّهم فكذلك فكونوا إن شاء الله، ثم قال: والله لو أنّ رجلًا
أدرك هذه المنكرات يقول هذا هلم إليّ، ويقول هذا: هلم إليّ، فيقول: لا أريد إلّا سنة محمّد صلى الله عليه وسلم يطلبها ويسال عنها أنّ هذا له أجرٌ عظيمٌ، فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى، وعن مورق رحمه الله قال المتمسّك بطاعة الله إذا جنب النّاس عنها كالكارّ بعد الفارّ. قال أبو السّعادات بن الأثير في النّهاية: أي: إذا ترك النّاس الطّاعات ورغبوا عنها كان المتمسّك بها له ثواب كثواب الكارّ في الغزو بعد أن فرّ النّاس عنه.
فصل: ولنذكر طرفًا مما في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذ له تعلّق بما تقدّم. قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ، [آل عمران: 104].
وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، [آل عمران: من الآية: 110].
وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، [التّوبة، من الآية: 71].
وقال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ، [المائدة الآيتان: 78 - 79].
وقال تعالى: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} ، [الأعراف، من الآية: 165]. والآيات في هذا الباب كثيرة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وروى مسلم أيضًا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبِيٍّ بعثه الله في أمّةٍ قبلي إلّا كان له من أمّته حواريّون وأصحاب يأخذون بسنّته ويقتدون بأمره ثم إنّها تخلف من بعدهم خلوف يقولون
ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان وزن خردل من إيمانٍ".
وقد روى الإمام أحمد عن أمّ سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمّهم الله بعذابٍ من عنده". فقلت: يا رسول الله! أمّا فيهم يومئذٍ صالحون؟ قال: "بلى". قلت: فكيف يصنع بأولئك؟ قال: "يصيبهم ما أصاب النّاس ثم يصيرون إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ".
وروى البخاري عن زينب بنت جحش قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال: "نعم. إذا كثر الخبث".
وروى التّرمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم".
وروى الإمام أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي من حديث عمرو بن مرّة عن سالم عن أبي الجعد عن أبي عيبدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ مَن كان قبلكم كان إذا عمل العامل فيهم بالخطيئة جاءه النّاهي تعزيرًا فإذا كان الغد جالسه وآكله وشاربه، كأنّه لم يره على خطيئةٍ بالأمس، فلمّا رأى الله عز وجل ذلك منهم ضرب بلقوب بعضهم على بعض ثم لعنهم على لسان نبيّهم داود وعيسى بن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ، [البقرة، من الآية: 61، وآل عمران، من الآية: 112، والمائدة، من الآية: 78].
والذي نفس محمّد بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السّفيه، ولتأطرنه على الحقّ إطرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم بعضًا ثم يلعنكم كما لعنهم".
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل
علينا بوجهه، وقال:"يا معاشر المهاجرين خمس خصال - وأعوذ بالله أن تدركوهن - ما ظهرت الفاشحة في قومٍ حتّى أعلنوها إلّا ابتلاهم الله بالطّواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نص قومٌ المكيال والميزان إلّا ابتلوا بالسّنين وشدّة المؤنة وجور السّلطان، وما منع قومٌ زكاة أموالهم إلّا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولا خفر قومٌ العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلّا جعل بأسهم بينهم".
وروى البخاري عن النّعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قومٍ استهموا في سفينة فصار لبعضهم أعلاها، ولبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على مَن فوقهم فقالوا: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم يؤذ مَن فوقنا فتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا". قال النّووي: القائم في حدود الله معناه: المنكر لها، القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود ما نهى الله عنها والأحاديث في هذا كثيرة، قد أفردنا لها رسالة وجمعنا فيها جميع ما ورد، ونقصنا سائر ما شرد. ولله الحمد، فلتراجع.
المسألة الثّانية: سألت عن قول الجدّ رحمه الله في ثمان الحالات كما جرى لسعد مع أمّه ما الذي جرى لسعد مع أمّه؟
فالجواب: سعد هو: ابن أبي وقاص، أحد الشعرة المبشّرين بالجنة رضي الله عنه. وأمّه: حمنة بنت أبي سفيان بن أبي أمية، وقصته معروفة. قال الحافظ الطّبرانِي: حدّثنا أحمد بن أيوب بن راشد حدّثنا مسلمة بن علقمة عن داود بن أبي هند عن سعد رضي الله عنه قال: كنت بارًّا بوالدتِي فقالت لي أمِّي:
يا سعد! ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دِينَك هذا أو لا آكل ولا أشرب ولا أستظلّ حتى أموت فتعير بي، ويقال: قاتل أمّه. فقلت: لا تفعلي يا أمّه؛ فإنِّي لا أدع هذا لشيءٍ. فمكثت يومًا وليلةً لم تأكل ولم تشرب ولم تستظلّ فأصبحت وقد اشتدّ جهدها فمكثت يومًا آخر وليلةً لا تأكل، فأصبحت وقد اشتد جهدها، فقلت: يا أمّه والله لو كان لكِ مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت دِينِي هذا لشيءٍ؛ فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فأكلت. رواه مسلم في صحيحه. حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب حدّثنا الحسن بن موسى حدّثنا زهير حدّثنا سماك بن حرب حدّثني مصعب بن سعد عن أبيه فذكره بنحو هذا السّياق. وفيه: فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أوجروها فنَزلت: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} الآية، [الأحقاف، من الآية: 15].
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم
- 4 -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله مانح الهداية والتّوفيق، والصّلاة والسّلام على محمّدٍ الهادي إلى أوضح طريق.
(من حسن بن حسين إلى الأخ إبراهيم بن عبيد)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل وصلك الله إلى رضوانه وتضمن السّؤال عن مسائل:
الأولى: في المرأة إذا جهّزها أبوها بجهاز إلى بيت زوجها هل تمكله بنقله أو لا تملكه؟
فالجواب: أنّها تملكه بذلك. قال في المغني في (باب الهبة): فرع
ما جهّزت به المرأة إلى بيت زوجها من مالها، أو مال أمّها، أو أبيها يكون ليس لواحدٍ منهما ولا غيرهما أخذه ولا شيء منه. وقال في الإقناع: وتنعقد بإيجاب وقبول وبمعاطاة بفعل يقترن بما يدلّ عليها فتجهيز ابنته بجهاز إلى بيت زوجها تمليك لها. انتهى.
وقال في الإنصاف في كتاب البيع: وتجهيز المرأة بجهاز إلى بيت زوجها تميلك لها. انتهى.
فعلى هذا، إذا أرادت أمّها أن تأخذ منه شيئًا لم يكن لها ذلك، وإن أراد الأب الرّجوع لأجل التّسوية بين أولاده كما ذكرت في السّؤال فلا مانع له بشرطه، وهو أن لا يتعلّق به حقّ غير أو رغبة نحو أن يتزوّج الولد أو يفلس أو يفعل ما يمنع التّصرّف مؤبّدًا أو مؤقّتًا. فإن تعلّق به شيء مما ذكر؛ فإنّه لا يرجع. اختاره المصنّف وابن عقيل والشّيخ تقيّ الدّين، وهو مذهب مالك. لأنّ في رجوعه إبطال حقّه يؤيّده قوله عليه السلام:"لا ضرر ولا ضرار". كذا علّلوا. هذا الذي يظهر لنا. والله أعلم.
الثّانية: ما المعتمد عليه من أقوال الفقهاء في رجوع الأمّ فيما أعطت ولدها، وهل هي كالأب أم لا؟
فالجواب: الخلاف في هذه المسألة مشهور في مذهب أحمد وغيره. ومذهب المتأخّرين من أصحابه أنّ الأم لا رجوع لها. قال في الإنصاف: وهو الصّحيح من المذهب نصّ عليه. وقيل: هي كالأب. اختاره المصنّف والشّارح. انتهى. وبه قال الشّافعي، والذي يترجّح هو الأوّل؛ لأنّ النّصّ إنّما ورد في الأب دون الأم، فقصره على مورده أولى. ولا يصحّ قياس الأم على الأب؛ لأنّ للأب ولاية ولده، ويحوز جميع المال في الميراث بخلاف الأم.
الثّالثة: متى تردّ شهادة الشّاهد هل تردّ بجرحه قبل تحمل الشّهادة وقبل أدائها، أو تردّ شهادته بما جرحه قبل التّحمّل وقبل الأداء؟
فالجواب: أنّه متى وجد الجرح المؤثّر سواء كان قبل التّحمّل أو بعده إذا كان قبل الأداء ردّت به شهادة الشّاهد إلّا أن يجرح بجرح سابق قد تاب منه قبل تحمّل الشّهادة؛ فإنّه لا يضرّ والحالة هذه. لأنّ التّوبة ماحية لما قبلها.
الرّابعة: هل تقدم شهادة الجرح على شهود التّعديل أو بالعكس؟
فالجواب: قال في المقنع: وإن عدّله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى. قال في الإنصاف: هذا بلا نزاع. انتهى. ومراده في المذهب. وهو مذهب الشّافعي، وأبي حنيفة؛ لأنّ الجارح معه زيادة علم خفيت على المعدِّل، فوجب تقديمه؛ لأنّ التّعديل يتضمن ترك الذّنب والمحارم، والجارح مثبت لوجود ذلك، والإثبات مقدّم على النّفي. قاله في المغني. لكن قال في حاشية الإقناع: وإن قال الذين عدلّوه: ما جرحاه به قد تاب منه قدم التّعديل؛ لأنّ بيّنته ناقلة. وكذا إذا عصى في بلد فانتقل عنه فجرحه اثنان في بلده وزكاه اثنان في البلد الذي انتقل إليه قدم التّزكية. انتهى. فاعلم ذلك.
الخامسة: إذا أعطى إنسان بعض ورثته جميع ماله، وهو صحيح فقبض المعطى وتصرّف فيه برهنٍ أو هبةٍ أو غير ذلك، ثم مات المعطي فقام الوارث الذي منع من الإرث فلم يبق له شيء من مال مورثه لكونه صار في يد المعطى كلّه فطالبه وقد تعلّقت به حقوق النّاس ما الحكم في ذلك؟
فالجواب: إذا أعطى بعض أولاده عطية في حال الصّحّة وفضلهم على الآخرين أو خصّهم وقبض المعطى العطية ومات الوالد ولم يرجع في عطيته فإنّ هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فذهب الإمام أحمد في المشهور عنه ومالك والشّافعي وأصحاب الرّاي وأكثر العلماء إلى أنّه ليس لهم الرّجوع؛ لأنّها صارت لازمة في حقّ المعطى بانتقالها إليه في حياة المعطي واتّصل بها القبول والقبض، قالوا: والإثم على الوالد المفضل بينهم. وعن أحمد رواية ثانية: أنّها لا تثبت وللباقين الرّجوع. اختارها ابن بطة وأبو الوفاء ابن عقيل والشّيخ تقيّ الدّين الذي ذكره عنهم صاحب الإنصاف. وروي عن عروة بن الزّبير وإسحاق بن راهويه. فعلى هذه الرّواية الأخيرة إمّا أن تردّ، وإمّا أن تحسب عليه من ميراثه. قال الوالد والعمّ عبد الله في جوابهما للعماني: وهذا القول أقرب إلى الدّليل وأحوط. والله أعلم. انتهى. لكن الذي أفتى به شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب واستمرّت عليه الفتوى مذهب الجمهور.
السّادسة: رجل باع لآخر تمرًا وقت جذاذ النّخل بدراهم حالة، ولم يكن عند المشتري دراهم يوفيه منها، ونيّة البائع عند بيع الثّمرة طمع في معاملته، فلمّا جاء وقت ثوار الزّرع ما أعطاه المشتري وعجز عن الدّراهم ولم يكن عند البائع دراهم يسلّمها عليه فاستقرض دراهم وأسلمها عليه بآصع بر أو شعير فغاب بها قدر نصف يومٍ أو يوم ثم ردّها المسلم على مَن أقرضه إيّاها، وربّما كانت أمانة عند المسلم أخذها بغير إذن صاحبها فأسلمها على مَن اشترى منه التّمر بعيش ثمّ ردّها عليه وردّها المسلم مكانها حيث أخذ فكأنّه قلب ثمن التّمر الذي في ذمّته بعيش، هل تصحّ هذه الصّورة أم لا؟
فالجواب: قد علمت أنّ قلب الدَّين على المعسر لا يجوز؛ لأنّه إنّما قلبه عليه لعجزه عن الوفاء فكأنّه حيلة، فإن كان هذا المسؤول عنه مليئًا ولم يكن المسلم شرط عليه الوفاء بها، فإذا قبضها البائع وذهب بها إلى بيته قدر اليومين أو الثّلاثة وتملّكها تملكًا تامًّا بحيث يتصرّف فيها بما شاء فلا بأس أن يوفيه بها عمّا في ذمّته له من الدّراهم وكونها قرضًا لا يضرّ، وأمّا إن كان أخذها من أمانته بغير إذن صاحبها فإنّه لا يصح. اللهم إلّا أن يعلم منه الرّضا بذلك. هذا ما ظهر لنا. والله أعلم.
السّابعة: رجل له أرض فقال مَن أراد أن يبني له فيها دارًا يسكنها هو وأولاده ويكريها إن احتاج؛ فإذا أراد الانتقال عنها فليأخذ خشبه وأبوابه ولا يبيع ولتعد إلى أرضي فجاء إنسان فبنى في أرضه المذكورة فأخبر بعضهم بذلك الشّرط، وبعضهم سكت عنه مستكفيًا بما قال أوّلًا فبنا فيها أناس كثير وسكنوا فيها مدّة من الدّهر وتصرّفوا بنحو رهن وكراء، وبعضهم منذ عشرين سنة وبعضهم منذ عشر سنين، وبعضهم منذ خمس سنين، ثم بعد ذلك مات ربّ الأرض الذي أذن في سكناها، فهل يكون إذنه في عمارتها والسكنى فيها هبة لا رجوع فيها أو هبة بشرط الرّجوع؟ ومع عدمه لا ترجع أو ملحقة بالعارية فإن قلتم: ترجع على ربّها فإذا قال ساكنها: أعطني قيمة الخشب والأبواب وأتركها لك فأبى صاحب الأرض دفع القيمة، فهل يلزم به؛ لأنّه أذن له في إشغال ملكه بالخشب والأبواب التي في ملكه أو يؤمر بقلعه؟
فالجواب: أنّ هذه فيما يظهر من سؤالكم ملحقة بالعارية، ونحن نذكر لك كلام صاحب الشّرح الكبير في أوّل باب العارية ملخّصًا حتّى يتبيّن لك الصّواب. قال فيه:
باب العارية: وهي إباحة الانتفاع بعينٍ من أعيان المال وتنعقد بكلّ لفظٍ وفعلٍ يدلّ عليه، وهي هبة منفعة تجوز في كلّ المنافع إلّا منافع البضع، وتجوز مطلقة ومؤقتة، وللمعير الرّجوع فيها متى شاء سواء كانت مطلقة أو مؤقتة، وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعي. وقال مالك: إن كانت مؤقتة فليس له الرّجوع قبل الوقت، وإن لم يوقت مدّة لزمه تركه مدّة ينتفع بها في مثلها؛ لأنّ المعير قد ملكه المنفعة مدّة وصارت العين في يده بعقدٍ مباحٍ، فإن شغله بإذنه في شيء يستضرّ المستعير برجوعه لم يجز له الرّجوع. مثل: أن يعيره سفينة لحمل متاعه لم يجز له الرّجوع ما دامت في لجة البحر، وله الرّجوع قبل دخولها في البحر، وبعد خروجها منه لعدم الضّرر. وإن أعاره أرضًا للدّفن لم يرجع حتّى يبلى الميّت، وله الرّجوع فيها قبل الدّفن، وإن أعاره حائطًا ليضع عليه أطراف خشبه لم يرجع ما دام عليه، فإن سقط عنه بهدم أو غيره لم يملك ردّه، وإن أعاره أرضًا للزّرع لم يرجع إلى الحصاد، إلّا أن يكون مما يحصد قصيلًا فيحصده. وإن أعارها للغرس أو البناء وشرط عليه القلع في وقت أو عند رجوعه ثم رجع لزمه القلع. لقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:"المؤمنون على شروطهم". حديث صحيح. وليس على صاحب الأرض ضمان نقصه ولا نعلم في هذا خلافًا.
فأمّا تسوية الحفر فإن كان مشروطًا عليه لزمه لما ذكرنا، وإلّا لم يلزمه، وإن لم يشرط المعير القلع لم يلزم المستعير لما فيه من الضّرر، فإن ضمن له النّقص لزمه، فإن قلع فعليه تسوية الأرض، وكذلك إن اختار أخذ بنائه وغراسه فإنّه يملكه، فإن أبى القلع في الحال التي لا يجبر عليها فبذل له المعير قيمة الغراس والبناء ليملكه أجبر المستعير قهرًا عليه؛
كالشّفيع مع المشتري، والمؤجّر مع المستأجر، فإن قيل: المستعير أنا أدفع قيمة الأرض لتصير لي لم يلزم المعير. وبهذا كلّه قال الشّافعي. وقال أبو حنيفة: يطالب المستعير بالقلع من غير ضمانٍ إلّا أن يكون أعاره مدّة معلومة فرجع قبل انقضائها؛ لأنّ المعير لم يعره، فإن امتنع المعير من دفع القيمة وأرش النّقص وامتنع المستعير من القلع ودفع الأجرة لم يقلع، ثم إن اتّفقا على البيع بيعت الأرض بغراسها وبنائها ودفع إلى كلّ واحدٍ منهما قدر حقّه، وإن أبيا البيع ترك بحاله وقلنا لهما انصرفا فلا حكم لكما عندنا حتّى تتّفقا. اهـ المقصود ملخصًّا. فتأمّله يستبين لك منه الجواب عن سؤالك ولاسيما قوله: وإن أعارها للغراس أو البناء إلى آخره.
المسألة الثّامنة: إذا كان نهر بين قومٍ لكلٍ منهم فيه نصيب وأراد أحدهم بيع نصيبه من النّهر المذكور هل يصحّ أم لا؟
فالجواب: جواز بيعه مبنِيّ على ملك الماء وعدمه، والصّحيح أنّ الماء يملك بالعمل فيه لا نفس النّبع؛ فإنّه لا يملك إذا لم يكن قد نبع في ملكه، والعمل هو احتفار السّواقي وإصلاحها وبعث الآبار وعمارتها فبهذا تكون مملوكة.
ونحن نذكر لك كلام صاحب الشّرح ملخّصًا، قال فيه: أمّا الأنهار النّابعة في غير ملك؛ كالأنهار الكبار فلا تملك بحالٍ، ولا يجوز بيعها ولو دخل إلى أرض رجلٍ لم يملكه بذلك كالطّير يدخل في أرضه، ولكلّ أحدٍ أخذه ويملكه إلّا أن يحفر منه ساقيه فيكون أحقّ بها من غيره.
وأمّا ما ينبع في ملكه كالبئر والعين المستنبطة فنفس البئر وأرض العين مملوكة لمالك الأرض والماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر المذهب.
وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشّافعي، والوجه الآخر يملك؛ لأنّه نماء الملك، وقد روي عن أحمد نحو ذلك. فإنّه قيل له في رجلٍ له أرض ولآخر ماء يشترك صاحب الماء وصاحب الأرض وصاحب الزّرع يكون بينهما. فقال: لا بأس. اختاره أبو بكر. وهذا يدلّ من قوله على أنّ الماء مملوك أصحابه، وجواز بيع ذلك مبنِيّ على ملكه. قال أحمد: لا يعجبنِي بيع الماء البتة. وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يُسأل عن قومٍ بينهم نهر تشرب منه أرضوهم لهذا يوم، ولهذا يومان، فيتّفقون عليه بالحصص فجاء يومي ولا أحتاج إليه أكريه بدارهم؟ قال: ما أدري. أمّا النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع الماء. قيل له: إنّه ليس بيعه إنّما يكريه. قال: إنّما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي شيءٍ هذا إلّا البيع؟!
وروى الأثر بإسناده عن جابر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الماء. وروى أبو عبيد والأثرم أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون شركاء في ثلاثة: الكلأ والنّار والماء".
فإن قلنا: يملك جاز بيعه، وإن قلنا: لا يملك فصاحب الأرض أحقّ به من غيره لكونه في ملكه. والخلاف في بيع ذلك إنّما هو قبل حيازته.
فأمّا ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله، أو يحوزه في رحله أو يأخذه من المعادن، فإنّه يملكه بذلك بغير خلافٍ بين أهل العلم. وليس لأحد أن يشرب منه ولا يأخذ ولا يتوضّا إلّا بإذن مالكه؛ لأنّه ملكه. قال أحمد: إنّما نهي عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره. ويجوز بيع البئر نفسها والعين ومشتريها أحقّ بمائها. ثم ذكر حديث بئر رومة. وقال: بعد ذكره: وفي هذا دليل على صحّة بيعها وتسبيلها وملك ما يستقيه منها، وجواز قسمة مائها بالمهايأة، وكون مالكها أحقّ بمائها وجواز قسمة ما فيه حقّ وليس مملوك.
فأمّا المصانع المتّخذة