المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌القسم الأول‌‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهابوأبنائه رحمهم الله

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌(2)(رسالة عامة في الزجر عن الغلول ووجوب التذكير والموعظة)

- ‌(3)(رسالة في نصاب الزكاة بالريالات)

- ‌(4)(رسالة في المعاملات الربوية وأحكام الطلاق والعدة)

- ‌(5)(رسالة في مواعظ عامة في مهمات الدين)

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌{مسائل في الصلاة وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها}

- ‌مسائل في نصاب الزكاة وزكاة العروض

- ‌{مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في الرهن وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما}

- ‌{مسائل في المعاملات وأنواعها}

- ‌{مسائل في الخيار وما في معناه}

- ‌{مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به}

- ‌{مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في الوقف}

- ‌{مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه}

- ‌{مسائل في العدد وما في معناها}

- ‌{مسائل في الإحداد وما يتعلق به}

- ‌من جواب) لعبد الله بن الشيخ رحمه الله:

- ‌(8){مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

- ‌القسم الثانيرسائل وفتاوى أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن

- ‌ 4 -(رسالة ضافية في الرّبا وحكم نقود الجدد الزّيوف فيه)

- ‌قال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في أثناء كلامٍ له*:

- ‌{فائدة}:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌[فوائد]

- ‌مسألة: إذا غارس رجل رجلًا في أرضٍ، على أن يغرس فيها قدرًا معلومًا من النّخل والنّخل من العامل وينفق عليه العامل حتّى يثمر، ثم يقتسمان النّخل والأرض، هل يصحّ ذلك؟ أم لا يصحّ إلّا على أنّ الأرض لربّها والنّخل بينهما؟ أو تصحّ في الصّورتين كما أفتى به أبو العبّاس

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فائدة:

- ‌فائدة أصوليّة نافعة:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌ جواب عبد الله بن الشّيخ إلى بعض الإخوان

- ‌من عليّ بن الشّيخ حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر

- ‌فتويان من فتاوى الشيخ سليمان بن علي، جد شيخ الإسلام

- ‌فصل:

- ‌رسالة للشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، والد شيخ الإسلام

- ‌القسم الثالثرسائل وفتاوى لغير سلالة الشيخ من علماء نجد

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حمد بن ناصر بن معمر

- ‌[نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

- ‌{فائدة لأبي بطين}:

- ‌{مسألة} ما حكم ما يغرس أو ينبت من النّخل ونحوه على ماء الشّريك في المشاع إذا أراد الشّركاء القسمة

- ‌ سُئِل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى: "مَن كفّر مسلمًا فقد كفر

- ‌ اعلم أنّ ضدّ التّوحيد الشّرك، وهو ثلاثة أنواع:

- ‌(مسألة): ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس

- ‌ حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب، هل يفرق بين كون البدوي حربًا للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالًا للبائع، فما الحكم في ذلك

- ‌[فوائد]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة للإمام عبد العزيز آل سعود

- ‌رسالة للشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير الأشيقري

- ‌رسالة للشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل

- ‌{رسالة للشّيخ عبد العزيز بن عبد الجبّار}

- ‌رسالة للشيخ حمد بن عتيق

- ‌رسالة لبعض علماء الرياض

- ‌رسالة لبعض علماء نجد

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير

- ‌{رسالة لبعض علماء الدّرعية}

- ‌{رسالة للشّيخ محمّد بن عمر بن سليم}

الفصل: ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

رسائل وفتاوى

{الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين}

- 1 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ جمعان بن ناصر زاده الله علمًا وفهمًا، ووهب لنا وله حكمًا، ووفّقنا وإيّاه لسلوك صراطه المستقيم، ورزقنا وإيّاه الاستقامة، وجنّبنا طريق الضّلال أصحاب الجحيم.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فموجب الخط إبلاغ المحبّ جزيل السّلام والسّؤال عن الأحوال لا زلتم بخيرٍ وخطكم الشّريف وصل، أوصلكم الله إلى الخيرات. ومن طرف ما ذكرت من الأخبار فالحمد لله ربّ العالمين حمدًا كثيرًا كما هو أهله وكما ينبغي لعزّ جلاله وكرم وجهه. ومن طرف الأخبار البيعدة فلم نتحقّق إلى الآن أمرًا بيّنًا والطّائفتان متقابلتان. نسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، ويهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما أشرت إليه من أنّا مستوجبون لما هو أعظم مما ذكرت، فالأمر كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، [الشّورى: 30]. نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع المسلمين: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} ، [القصص، من الآية: 68].

ويا أخي، دفعنا إلى هذا الزّمان الذي ترى القابض فيه على دِينه كالقابض على الجمر، والقائم فيه بالحقّ كأنّما يجرع النّاس كأس المرّ، نفوس استحلّت مذاق الباطل، وقلوب استولى عليها حبّ العاجل، وأكثر طلبة العلم اليوم صاروا إمّا في الإفراط أو التّفريط. نسأل الله لنا ولكم الهدى والسّداد.

وأيضًا يا أخي لما أراد الله

ص: 593

سبحانه ما ترى فالذي ينبغي لمثلنا حثّ النّاس على الخير حسب الاستطاعة، واستعمال الرّفق والمداراة من غير مداهنة، والفرقة عذاب، والجماعة رحمة. كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجماعة رحمة والفرقة عذاب. وما تكرهون في الجماعة خير مما تحبّون في الفرقة، ونسأل الله أن يصلح مَن في صلاحه صلاح المسلمين، وأن يهلك مَن في هلاكه صلاح المسلمين. وما ذكرت من المسائل:

المسألة الأولى: فيمَن استأجر أرضًا لغرسٍ أو بناءٍ مدّةً معلومةً الخ؟

فالمذهب كما ذكرتم أنّ مالك الأرض يخيّر بين تملّك الغراس أو البناء بقيمته أو تركه بأجرة المثل مدّة بقائه أو قلعه وضمان نقصه، فإن اختار صاحب الغراس أو البناء قلعه فله ذلك وليس لربّ الأرض منعه إذا أراده. وهذا ما لم يشترط قلعه عند انقضاء المدّة.

وأمّا صفة تقويمه إذا اختار ربّ الأرض أخذه بقيمته، فقال في المغنِي والشّرح: لا يمكن إيجاب قيمته باقيًا؛ لأنّ البقاء غير مستحقّ ولا قيمته مقلوعًا؛ لأنّه لو كان كذلك لملك القلع مجانًا، ولأنّه قد لا يكون له قيمة إذا قلع قالا ولم يذكر أصحابنا كيفية وجوب القيمة.

والظّاهر أنّ الأرض تقوّم مغروسة ومبنية ثم تقوّم خالية فيكون ما بينهما قيمة الغرس والبناء. انتهى.

وجزم بذلك ابن زرين في شرحه وتبعه في الإقناع وشرحه. وكذا في شرح المنتهى، وبيان ذلك إذا قوّمت الأرض خالية بمائة ومغروسة أو مبنية بمائتين مثلًا، صار قيمة الغراس أو البناء مائة، فإن اختار مالك الأرض القلع مع ضمان النّقص وقيمة الأض خالية مائة وقيمتها مغروسة مائتان

ص: 594

فقيمة الغرس أو البناء مائة، فإذا قلع صارت قيمته عشرين مثلًا، تبيّنّا أنّ النّقص بالقلع ثمانون يدفعها صاحب الأرض لصاحب الغراس أو الباء، وهكذا الحكم لو اشترى أرضًا فغرس فيها أو بنى ثم فسخ العقد بنحو عيبٍ أو إقالةٍ. قال في الإنصاف: على الصّحيح من المذهب. قال: وأمّا البيع بعقدٍ فاسدٍ إذا غرس فيه المشتري أو بنى فالصّحيح من المذهب أنّ حكمه حكم الستعير إذا غرس أو بنى. ذكره القاضي وابن عقيل والمصنّف في المغنِي وقدّمه في الفروع. انتهى.

وأمّا العارية التي لم يشترط فيها القلع على المستعير عند رجوع المعير فمالك الأرض يخيّر بين القلع وضمان النّقص وبين أخذه بقيمته لا تبقيته بالأجرة بغير رضا المستعير، قالوا: فإن أبى المالك من أخذه بقيمته وقلعه وضمان نقصه ولم يتراضيا على تبقيته بالأجرة بيع عليهما إن رضيا أو أحدهما ويجبر الممتنع منهما إذا طلب صاحبه البيع وقسم الثّمن بينهما يقسط على الأرض والغراس كما تقدّم. ولم يقولوا بالبيع والحالة هذه في صورة الإجارة السّابقة، إلّا أنّ صاحب الغاية قال: ويتّجه لو أبى صاحب الأرض الثّلاث، ومالك الغرس أو البناء قلعه بيعت الأرض بما فيها كعارية. انتهى.

وقول صاحب المحرّر في العارية: إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه بقي في أرضه مجانًا. وهذا وجه في المذهب.

والوجه الثّاني: وهو المشهور، أنّه إذا امتنع المالك من أخذه بقيمته ومن قلعه مع ضمان نقصه ولم يتراضيا على أجرة بيع عليهما بطلب أحدهما، وما ذكرتم من عبارة التّحفة فيحتمل أن يكون مراده بالتّقويم كما ذكرنا ويحتمل أنّه يريد أن يقوّم الغرس وحده قائمًا كما هو قول لبعض أصحابنا.

ص: 595

وقال الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله: ليس لأحد أن يقلع غراس المتسأجر وزرعه وبناءه صحيحةً كانت الإجارة أو فاسدةً. بل يبقى وعلى ربّه أجرة المثل ما دام قائمًا فيها. وقال فيمَن احتكر أرضًا بنى فيها مسجدًا أو بناء وفقه عليه فمتى فرغت المدّة وانهدم البناء زال حكم الوقف وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها، وما دام البناء قائمًا فيها فعليه أجرة المثل. قال في الإنصاف: وهو الصّواب، ولا يسع النّاسع إلّا ذلك.

وإذا بقي الغراس أو البناء بأجرةٍ لم يشترط تقدير المدّة؛ لأنهم لم يذكروا ذلك، وهو ظاهر. بل يشترط تقدير أجرة كلّ سنة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

المسألة الثّانية: نكاح الرّجل المرأة في عدّة أختها أو خالتها ونحوهما، ونكاحه خامسة في عدّة رابعة؟

فإن كان الطّلاق رجعيًّا فهذا النّكاح باطل عند جميع العلماء. وإن كانت العدّة من طلاق بائن ففيه خلاف مشهور. والمذهب التّحريم. قال في الشّرح الكبير: إذا تزوّج الرّجل امرأة حرمت عليه أختها وعمّتها وخالتها وبنت أخيها وبنت أختها تحريم جمع، وكذلك إذا تزوّج الحرّ أربعًا حرمت عليه الخامسة تحريم جمعٍ بلا خلاف. فإذا طلّق وزجته طلاقًا رجعيًّا فالتّحريم باقٍ بحاله في قولهم جميعًا. وإن كان الطّلاق بائنًا أو فسخًا فكذلك حتّى تنقضي عدّتها. روي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وزيد بن ثابت. وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد والنّخعي والثّوري وأصحاب الرّأي. وقال القاسم بن محمّد وعروة ومالك والشّافعي وأبو عبيد وابن المنذر له نكاح جميع مَن سمّيناه من تحريم.

المسألة الثّالثة: في الفرق بين الباطل والفاسد؟

فقال في مختصر التّحرير

ص: 596

وشرحه: وبطلان وفساد مترادفان يقابلان الصّحّة الشّرعية، أي: فيقال: لكلّ ما ليس بصحيحٍ باطل وفاسد سواء كان عبادة أو عقدًا. قال: وفرّق أبو حنيفة بين البطلان والفساد، وفرّق أصحابنا وأصحاب الشّافعي بين الفاسد والباطل في الفقه في مسائل كثيرة.

قال في شرح التّحرير. قلت: غالب المسائل التي حكموا عليها بالفساد إذا كانت مختلفًا فيها بين العلماء، والتي حكموا عليها بالبطلان إذا كانت مجمعًا عليها أو الخلاف فيها شاذ، قال ثم وجدت بعض أصحابنا. قال: الفاسد من النّكاح ما يسوغ فيه الاجتهاد والباطل ما كان مجمعًا على بطلانه.

المسألة الرّابعة: قول الزّوج لزوجته: طلّقي نفسك. وقوله لها: أمرك بيدك، ما الفرق بينهما مع كون كلّ من اللّفظين توكيلًا في الطّلاق؟

فأمّا قوله: طلّقي نفسك، ونحو هذا اللّفظ، فهذا وكالة صريحة كما لو قاله لغير زوجته. وقوله: أمرك بيدك، كناية في التّوكيل في الطّلاق يحتاج إلى نيّة الزّوج إن كان مراده تفويض أمرها إليها والفرق من جهة العربية أنّ قوله: أمرك بيدك يقتضي توكيلها في جميع أمرها؛ لأنّ قوله: أمرك اسم جنس مضاف، فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال: طلّقي نفسك ما شئت. وكذا لو قال لأجنبي: أمر زوجتي بيدك، ملك تطليقها ثلاثًا. قال في الشّرح: وإن قال لامرأته: طلّقي نفسك، فلها ذلك كالوكيل، فإن نوى عددًا فهو على ما نوى، وإن أطلق من غير نيّة لم تملك إلّا واحدة؛ لأنّ الأمر المطلق يتناول أقلّ ما يقع عليه الاسم، وكذلك الحكم لو وكل أجنبيًّا فقال: طلّق زوجتي فالحكم على ما ذكرنا.

قال أحمد فيمَن قال لامرأته: طلّقي نفسك، ونوى ثلاثًا فطلّقت نفسها

ص: 597

ثلاثًا فهي ثلاث. وإن كان نوى واحدةً لم تطلق إلّا واحدةً؛ لأنّ الطّلاق يكون واحدةً ويكون ثلاثًا فأيّهما نواه فقد نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو تناول اليقين، وهو واحدة.

ثم قال الشّارح: ولا يطلق الوكيل أكثر من واحدة إلّا أن يجعل ذلك إليه، لأنّ الأمر المطلق يتناول أقل ما يقع عليه الاسم، إلّا أن يجعل إليه أكثر من واحدةٍ بلفظه أو نيّته. نصّ عليه. والقول قوله في نيّته؛ لأنّه أعلم بها.

ثم قال الشّارح: إذا قال لامرأته: أمرك بيدك، كان لها أن تطلق ثلاثًا، وإن نوى أقلّ منها. هذا ظاهر المذهب؛ لأنّها من الكنايات الظّاهرة. روي ذلك عن عثمان وابن عمر وابن عبّاس، وبه قال سعيد بن المسيب والزّهري. قالوا: إذا طلقت ثلاثًا؟ فقال: لم أجعل لها إلّا واحدة لم يلتفت إلى قوله والقضاء قضت به، وعن ابن عمر وابن مسعود أنّها طلقة واحدة، وبه قال عطاء ومجاهد والقاسم ومالك والأوزاعي. وقال الشّافعي: إن نوى ثلاثًا فلها أن تطلق ثلاثًا وإن نوى غير ذلك لم تطلق ثلاثًا والقول قوله في نيّته.

ثم احتجّ الشّارح للقول الأوّل بما ذكرناه أوّلًا من أنّ قوله: "أمرك"، اسم جنس مضاف فيتناول الطّلقات الثّلاث أشبه ما لو قال طلّقي نفسك ما شئت. انتهى.

فإن ادّعى الزّوج بأنّه لم يرد بقوله لزوجته أمرك بيدك تفويض الطّلاق إليها فالقول قوله: ما لم يقع ذلك جوابًا بسؤالها الطّلاق ونحوه.

وأمّا قول العامّة قلطتك على نفسك، فالذي يظهر أنّ هذا كناية في الوكالة تملك به واحدة وتعتبر نيّته أيضًا أو يكون ذلك جوابًا لسؤالها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

المسألة الخامسة: في حكم الطّلاق في النّكاح الفاسد. قال في الإنصاف:

ص: 598

ويقع الطّلاق في النّكاح المختلف فيه كالنّكاح بلا وليٍّ عند أصحابنا. ونصّ عليه أحمد رحمه الله وهو المذهب. ثم ذكر وجهًا بعدم الوقوع، ثم قال: وحيث قلنا بالوقوع فيه فإنّه يكون طلاقًا بائنًا. قال في الرّعاية والفروع والنّظم وغرها. قال: فيعايا بها. انتهى. فعلى هذا يحسب من الطّلقات الثّلاث.

المسألة السّادسة: في صفة تقويم المريض إذا أتلفه متلف. فقال المجد في شرح الهداية: مَن استهلك على رجلٍ زرعًا أخضر ضمن قيمته على رجاء السّلامة والعطب. قال: وهذا مذهب مالك وقياس مذهبنا في تقويم المريض والجاين ونحوهما. انتهى. إنّ صفة ذلك في تقويم المريض ونحوه أن يقال: يساوي إذا كان ترجى حياته ويخاف موته ثلاثين ريالًا مثلًا، وإن لم يخف عليه الموت من ذلك المرض ساوى خمسين مثلًا، وإن كان لا يرجى سلامته يساوي مثلًا عشرة، فإذا كان ترجى حياته ويخاف موته صارت قيمته ثلاثين، فهي الواجب فيه. والله أعلم.

المسألة السّابعة: إذا اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ؟

فقال أصحابنا: وإن اقتتلت طائفتان لعصبيةٍ أو طلب رياسةٍ فهما ظالمتان، وتضمن كلّ واحدةٍ ما أتلفت على الأخرى. قال الشّيخ تقيّ الدّين: فأوجبوا الضّمان على مجموع الطّائفة وإن لم يعلم عين المتلف. قال: وإن تقابلا تقاصا؛ لأنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور. وإن جهل ما نهبه كلّ طائفة من الأخرى تساوتا. اهـ. فصرّح الشّيخ أنّ المباشر والمعين سواء عند الجمهور كقطاع الطّريق، وهذا ظاهر كلام الأصحاب لقولهم وتضمن كلّ طائفةٍ ما أتلفت على الأخرى. ومعلوم أنّه لا بدّ أن يكون فيهم غالبًا مَن لم يباشر القتل أو النّهب.

ومعنى قول الشّيخ رحمه الله: وإن تقابلا تقاصا، مراده إذا تحققنا

ص: 599

أنّ ما أتلفته كلّ واحدةٍ على الأخرى يساوي ألفًا مثلًا تقاصا فلا يؤخذ من طائفةٍ ما لزمها ويدفع على الأخرى، وأمّا إذا اعترض جماعة رجلًا وبينه وبين بعضهم عداوة فثور عليه قتله فإن كان الذي معه ردأ له فحكمهم حكمه؛ لأنّهم قطاع طريق؛ لأنّ القطع في الصّحراء والبنيان سواء، فإن لم يكونوا قطاعًا بل كانوا ذاهبين في حاجة لهم مثلًا فرأى بعضهم من بينه وبينه عداوة أو شحناء فثور عليه فقتله اختصّ الحكم به إن لم يدفعوا عنه من أراده، وهذا يحتاج إلى نظرٍ وتفصيلٍ. والله سبحانه وتعالى أعلم.

المسألة الثّامنة: إذا استثنى صاحب النّخل ثمرة نخلةٍ أو أكثر خالصّة له دون العامل فالعقد فاسد لكن سوغ بعض فقهاء متأخري نجد فيما إذا كانت نخلة وقفًا على بكرة مثلًا أن يشرط للعامل جزءًا يسيرًا من ثمرتها صحّ ذلك، وكذا لو شرط الواقف بأنّ هذه النّخلة على البركة أو السّاقي لا يزال عنها ذلك فلا يزال.

المسألة التّاسعة: ما نقله في الإنصاف عن عمد الأدلّة لابن عقيل بعد ذكر التّحكيم أي بعد أن تكلّم على مسألة ما إذا حكم المتنازعان بينهما رجلًا صالحًا للقضاء. قال وكذا يجز أن يتولّى متقدمو الأسواق والمساجد الوساطات والصّلح عند الفورة والمخاصمة الخ. فالذي يظهر أنّ المراد بقوله: متقدمو الأسواق والمساجد؛ الذين يفوض إليهم وليّ الأمر النّظر على أهل الأسواق بإلزامهم بالشّرع وإنصاف بعضهم من بعضٍ ونحو ذلك، وكذلك الذي يجعل لهم النّظر على المساجد بصيانها وإصلاحها والاحتساب على المصلّين بها والمؤذّنين ونحو ذلك، فمَن فوّض إليه شيء من ذلك جاز له

ص: 600

على ما ذكره ابن عقيل تولّي الوساطات، والذي يظهر أنّ المراد بالوساطات التّوسّط بين المتنازعين والصّلح عند الفورة، لعلّ المراد أنّه إذا حصل تنازع بين أهل السّوق أو المسجد يجوز لهم التّوسيط والصّلح بين المتنازعين فورًا حال التّنازع لأجل كف الشّر في الحال. والله أعلم.

وأمّا قولهم: فعل الحاكم حكم كتزويج يتيمة الخ.

فهذه مسألة مستقلّة ومعناها: أنّ الحاكم إذا فعل ذلك صار حكمًا منه يرفع الخلاف؛ لأنّ حكم الحاكم في المسائل المختلف فيها يرفع الخلاف، فكذا فعله نحو ما إذا زوّج صغيرة بإذنها كبنت تسع صار حكمًا منه بصحّة النّكاح فلا يجوز لِمَن لا يرى جواز تزويج الصّغيرة فسخ هذا النّكاح ونحو ذلك من المسائل المختلف فيها، فلا ينقض من حكم حاكمٍ إلّا ما خالف نصّ الكتاب أو نصّ السّنة أو إجماعًا قطعيًّا أو إذا حكم بخلاف ما يعتقده. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا تضمين مَن نهب مال مسلم في مثل هذه الحادثة فالذي نعتقده وجوب ردّه على صاحبه وتضمينه إن تلف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

نسأل الله تعالى صلاح أحوال المسلمين، وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالّين.

- 2 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الحبيب والشّيخ المفهم الأديب جمعان بن ناصر أسبغ الله علينا وعليه من نعمه باطنها وظاهرها، وأوزعنا جميعًا شكرها.

ص: 601

سلام عليك أيها الأخ المكرم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فموجب الخط إبلاغكم جزيل السّلام والاستخبار عن الأحوال أصلح الله أحوالنا وإيّاكم في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل، حيث أفادنا عن صحّة أحوالكم وظهور الحقّ في بلادكم، والحمد لله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، وفهمنا ما تضمنه كتابكم من البحث عن المسائل التي تضمنها. نسأل الله لنا ولكم التّوفيق والسّداد، وأن يهب لنا جميعًا ولكم حكمًا ويلحقنا بالصّالحين.

المسألة الأولى: إذا كسدت السّكة بتحريم السّلطان لها أو بغيره أو رخصت.

فقد بسط القول في هذه المسألة ناظم المفردات وشارحها فنتحفك بنقل كلاهما ملخّصًا. قال النّاظم:

والعقد في المبيع حيث عينا

وبعد ذا كساده تبينا

بل قيمة الفلوس يوم العقد

بها فمنه عندنا لا تقبل

نحو الفلوس ثم لا يعامل

والقرض أيضًا هكذا في الرّدّ

أي: إذا وقع العقد بنقدٍ معيّنٍ كدارهم مكسرة أو مغشوشة أو بفلوس ثم حرّمها السّلطان فمنع المعاملة بها قبل قبض البائع لها لم يلزم البائع قبضها بل له الطّلب بقيمتها يوم العقد، وكذلك لو أقرضه نقدًا أو فلوسًا فحرم السّلطان المعاملة بذلك فردّ المقترض لم يلزم المقرض قبوله ولو كان باقيًا بعينه لم يتغيّر وله الطّلب بقيمة ذلك يوم القرض وتكون من غير جنس النّقد إن أفضى إلى ربا الفضل، فإذا كان دراهم أعطى عنها دنانير وبالعكس لئلا يؤدّي إلى الرّبا:

ومثله مَن رام عود الثّمن

من ردّه الْمبيع خذ بالأحسن

ص: 602

قد ذكر الأصحاب ذا في ذي الصور

والنص في القرض عيانا قد ظهر

أي: مثل ما تقدم مَن اشترى معيبًا أو نحوه بدراهم مسكرة أو مغشوشة أو فلوس وأقبضها للبائع فحرمها السّلطان ثم ردّ المشتري المبيع لعيبٍ ونحوه وكان الثّمن باقيًا فردّه لم يلزم المشتري قبوله منه لتعيبه عنده والأصحاب ذكروا هذه الصّور بالقياس على القرض، والنّصّ عن الإمام إنّما ورد في القرض في الدّارهم المسكرة. قال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه. وقال مالك واللّيث والشّافعي: ليس له إلّا مثل ما أقرضه؛ لأنّ ذلك ليس بعيبٍ حدث بها فهو كرخص سعرها، ولنا أنّ تحريمها منع إنفاقها وأبطل ماليتها فأشبه كسرها.

والنّصّ بالقيمة في بطلانها

لا في ازدياد القدر أو نقصانها

بل إن غلت فالمثل فيها أحرى

كدانق عشرين صار عشرا

يعنِي: أنّ النّصّ في ردّ القيمة إنّما ورد عن الإمام فيما إذا أبطلها السّلطان فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التّعامل بها وعدم تحريم السّلطان لها فيردّ مثلها سواء غلّت، أو رخصت، أو كسدت إلى أن قال:

وشيخ الإسلام فتى تيمية

قال قياس القرض عن جلية

الطّرد في الدّيون كالصّداق

وعوض للخلع والإعتاق

والغصب والصّلح عن القصص

ونحو ذا طرًا بلا اختصاص

أي: قال شيخ الإسلام بحر العلوم أبو العبّاس تقيّ الدِّين ابن تيمية رحمه الله في شرح المحرّر: قياس ذلك أي: القرض فيما إذا كانت مسكرة أو فلوسًا وحرّمها السّلطان وقلنا يردّ قيمتها في جميع الدُّيون في بدل المتلف

ص: 603

والمغصوب مطلقًا والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص والكتابة. انتهى.

قال وجاء في الدَّين نصٌّ [مطلقُ] *

حرّره الأثرم إذا يحقّقُ

يعنِي: قال ابن تيمية إنّ الأصحاب إنّما ذكروا النّصّ عن أحمد في القرض وكذلك المنصوص عن أحمد في سائر الدّيون. قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سُئِلَ عن رجلٍ له على رجلٍ دراهم مكسرة فسقطت المكسرة. قال: يكون له بقيمتها من الذّهب.

وقولهم إنّ الكساد نقصا

فذاك نقص النّوع عاقب رخصا

قال ونقص النّوع ليس يعقل

فيما سوى القيمة ذا لا يجهل

يعنِي: أنّ تعليل القاضي ومَن تابعه من الأصحاب بوجوب ردّ قيمة الفلوس إذا كسدت لمنع السّلطان التّعامل بها بأنّ الكساد يوجب النّقصان، وهو نوع عيب معناه: عيب النّوع؛ إذ ليس المراد عيب الشّيء المعيّن؛ فإنّه ليس هو المستحق وإنّما المراد عيب النّوع والأنواع لا يعقل عيبها إلّا نقصان قيمتها. هذا معنى كلام الشّيخ تقيّ الدِّين في الاستدلال لما ذكره المصنّف عنه في البيتين المذكورين كما ستقف عليه بعد ذلك إلى أن قال:

وخرج القيمة في المثليّ

بنقص نوعٍ ليس بالخفيّ

واختاره وقال عدل ماضي

خوف انتضار السّعر بالتّقاضي

ثم نقل الشّارح كلام الشّيخ إلى أن قال: فإذا أقرضه أو غصبه طعامًا فنقصت قيمته فهو نقص النّوع فلا يجبر على أخذه ناقصًا فيرجع إلى القيمة. وهذا هو العدل؛ فإنّ المالين إنّما يتماثلان إذا استوت قيمتهما. وأمّا مع اختلاف القيمة فلا تماثل. قال: ويخرج في جميع الدَّين من الثّمن والصّداق والفداء والصّلح عن القصاص مثل ذلك كما في الأثمان. انتهى ملخّصًا.

وكثير من الأصحاب تابعوا الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- إلحاقًا لسائر

* سقطت من الأصل المطبوع. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 604

الدّيون بالقرض.

وأمّا رخص السّعر فكلام الشّيخ صريح في أنّه يوجب ردّ القيمة أيضًا. وهو أقوى. فإذا رفع إلينا مثل ذلك وسطنا بالصّلح بحسب الإمكان هيبة للجزم بذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله رحمه الله: أو غصبه الخ.

فهذا اختاره أيضًا بأنّ نقص قيمة المغصوب مضمون على الغاصب، وهو رواية عن أحمد في المغصوب.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن باع بَيعتين في بيعةٍ فله أوكسهما أو الرّبا". فهذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود. قال الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله*: للنّاس في البَيعتين في البيعة تفسيران:

أحدهما: أن يقول: هو لك بنقدٍ بكذا وبنسيئة بكذا، كما رواه سماك بن حرب عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقةٍ، قال سماك: هو الرّجل يبيع البيع فيقول: هو بنساء بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا. رواه الإمام أحمد. وعلى هذا فله وجهان: أحدهما: أن يبيعه بأحدهما مبهمًا ويتفرّقان على ذلك. وهذا تفسير جماعة من أهل العلم لكنه يتعذر من هذا الحديث؛ فإنّه لا مدخل للرّبا هنا، ولا صفقتين هنا، وإنّما هي صفة واحدة بثمنٍ مبهمٍ.

والثّاني: أن يقول: هي بنقدٍ بكذا وأبيعكها بنسيئة بكذا؛ كالصّورة التي ذكرها ابن عبّاس. قال: إذا استقمت بنقدٍ فبعت بنقدٍ فلا بأس، وإذا استقمت بنقدٍ فبعت بنسيئة فلا خير فيه. ومعنى استقمت، أي: قوّمت السّلعة، يعنِي: إذا قوّمت السّلعة بنقدٍ فلا تبعها بنسيئة، معناه: إذا قوّمتها بنقدٍ بعشر مثلًا فلا تبعها بأكثر نسيئة، يعنِي: إذا قلت هي بنقدٍ بكذا وأبيعها بنسيئة بكذا، فيكون قد جمع صفتي النّقد والنّسيئة في صفقةٍ واحدةٍ، وجعل

* في كتاب "إقامة الدليل على بطلان التحليل" ص 138. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]

ص: 605

النّقد معيار النّسيئة. وهذا مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: "فله أوكسهما أو الرّبا"، فإنّ مقصوده حينئذٍ هو بيع دراهم عاجلة بآجلة، فلا يستحقّ إلّا رأس ماله. وهو أوكس الصّفقتين، وهو مقدار القيمة العاجلة، فإن أخذ الرّبا فهو مربي.

التّفسير الثّاني: أن يبيعه الشيء بثمنٍ على أن يشتري المشتري منه ذلك الثّمن وأولى منه أن يبيعه السّلعة على أن يشتريها البائع بعد ذلك. وهذا أولى بلفظ البيِّعتين في بيعةٍ، فإنّه باع السّلعة وابتاعها أو باع الثّمن وباعه. وهذه صفقتان في صفقةٍ، وهذا بعينه هو العينة المحرّمة، وما أشبهها مثل أن يبيعه نساء ثم يشتري بأقلّ منه نقدًا، أو بنقدٍ ثم يشتري بأكثر منه نساء، ونحو ذلك، فيعود حاصل هاتين الصّفقتين إلى أن يعطيه دراهم ويأخذ أكثر منها، وسلعته عادت إليه فلا يكون له إلّا أوكس الصّفقتين، وهو النّقد. فإن ازداد فقد أربى. انتهى كلام الشّيخ ملخّصًا على هذا الحديث.

وقد صحّ عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه نهى عن بيِّعَتين في بيعةٍ. وقال: "لا يحلّ سلف وبيع". وقد ذكر العلماء -رحمهم الله تعالى- لذلك صورًا كثيرةً، وضابطها: أن يشترط أحد المتعاقدين على صاحبه عقدًا آخر.

وقد نصّ الإمام أحمد رحمه الله على صورٍ من ذلك نحو: أن يشترط أحدهما على صاحبه سلمًا أو إجارة أو بيعًا أو قرضًا أو شركةً أو صرفًا للثّمن أو غيره. قال الأصحاب: وكذلك كلّما كان في معنى ذلك، مثل: أن يقول: بعتك كذا بكذا بشرط أن تزوّجنِي ابنتك أو أزوّجك ابنتِي. وكذا على أن تنفق على عبدي أو دابّتي أو نصيبِي من ذلك قرضًا أو مجانًا وذكروا صورًا أخر.

فإذا عرفت ضابط المسألة تبيّن لك تفصيلها وأنواعها، فإذا آجره أرضه

ص: 606

أو زارعه عليها وشرط عليه أن يقرضه أو يبيعه كذا، أو ساقاه على نخله وشرط أن يبيعه أو يسلم إليه كذا، ونحو ذلك من اشتراط عقد في عقد آخر، فهذا ونحوه من نحو بيِّعتين في بعيةٍ وصفقتان في صفقةٍ. وقد روى الإمام أحمد عن ابن مسعود أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقةٍ.

وأمّا مَن مات ولم يحجّ فهذا إن كان قد وجب عليه الحجّ قبل موته لاستكمال شروط الوجوب في حقّه مع سعة الوقت وجب أن يحجّ عنه من رأس ماله أوصى به أو لا. وإن كان الميّت لم يجب عليه الحجّ قبل موته لعدم تكامل شرائط الوجوب في حقّه في حياته لم يجب أن يُحَجّ عنه من مال إن لم يوص به، فإن أوصى به فمن ثلثه. هذا ما ذكره أصحابنا وغيرهم.

قال أصحابنا من لزمه حجّ أو عمرة فتوفي قبله وجب قضاؤه فرط أو لا، من رأس ماله كالزّكاة والدَّين ولو لم يوص به. واحتّجوا بحديث ابن عبّاس أنّ امرأة قالت: يا رسول الله إنّ أمِّي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتّى ماتت، أفأحج عنها؟ قال:"نعم. حجّي عنها، أرأيت لو كان على أمِّك دين أكنتِ قاضيته؟ قافضوا الله، فالله أحقّ بالوفاء". رواه البخاري.

وأمّا ثبوت الجائحة في إجارة الأرض ونحوها فاختيار الشّيخ تقيّ الدِّين معلوم لديكم وأكثر العلماء على خلافه، قال في المغنِي: فإن استأجر أرضًا فزرعها فتلف الزّرع فلا شيء على المستأجر نصّ عليه أحمد ولا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّ المعقود عليه منافع الأرض ولم تتلف إنّما تلف مال المستأجر فيها فصار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابًا فتلفت الثّياب فيها. انتهى.

فظاهر قوله: فلا شيء على المؤجّر يتماول الأجرة وغيرها، لكن قال في الاختيارات لما ذكر إثبات الجائحة في أجرة الأرض: وبعض النّاس

ص: 607

يظنّ أنّ هذا خلاف ما في المغنِي من الإجماع وهو غلط، فإنّ الذي في المغنِي أنّ نفس الزّرع إذا تلف يكون من ضمان المستأجر صاحب الزّرع لا يكون كالثّمرة المشتراة، فهذا ما فيه خلاف، وإنّما الخلاف في نفس أجرة الأرض ونقص قيمتها فيكون كما لو انقطع الماء عن الرّحى. انتهى.

وقد ذكر الشّيخ عن اختياره أنّه خلاف ما رآه عن أحمد ولم يحك صاحب الإنصاف إثبات الجائحة في صورة الإجارة عن غير الشّيخ إلّا ما حكاه عن أبي الفضل بن حمزة في الحمام. وفرّق الأصحاب بين الثّمرة المشتراة وبين الأجرة بأنّ المعقود عليه في الإجارة نفع الأرض فالتّالف غير المعقود عليه، والمعقود عليه في الثّمرة المشتراة هو نفس الثّمرة فهي التّالفة. والله سبحانه وتعالى أعلم.

والذي نعتمده في المسألة هو الإلزام بجميع الأجرة إن تعذر الصّلح بين الخصوم.

وأمّا حديث: "الخراج بالضّمان"، وفي لفظٍ آخر:"الغلة بالضّمان"، فهذا الحديث وإن كان واردًا في صورة ردّ المبيع بالعيب فيتناول بعمومه صورًا كثيرةً، ذكرها الفقهاء في مواضعها؛ وكالنّماء الحاصل في مدّة الخيار، وكذا المبيع إذا رجع بالإقالة، وقد حصل منه غلّة أو نماء عند المشتري، وكذا الشّقص المشفوع إذا أخذه الشّفيع والعين عند المفلس إذا استردها بائعها، وكذا هبة الأب لولده إذا رجع فيها وقد نمت عند الولد، وكذلك الصّداق إذا نمى بيد الزّوجة ثم رجع نصفه إلى الزّوج بطلاق قبل الدّخول ونحوه، وغير ذلك من الصّور يعرفها مَن تتبّع مظانها من كتب الفقه. والله أعلم.

وأمّا تأثير الخلطة في غير الماشية في الزّكاة فالخلاف في ذلك مشهور

ص: 608

بين القائلين بتأثير الخلطة في الماشية فالمشهور في مذهب أحمد عدم تأثير الخلطة في غير الماشية، وهو مذهب مالك في غير المساقاة، فخلطة المساقاة تؤثّر عند مالك. رحمه الله.

وعن أحمد رواية أخرى بتأثير خلطة الأعيان في غير السّائمة وهو مذهب الشّافعي المشهور عنه، وعلى هذا فهل تؤثّر خلطة الأوصاف؟ فيه وجهان للأصحاب ودليل كلّ من القولين مذكور في محلّه، وإن كانت حجّة القول الأوّل أظهر والقائلون به أكثر. والله سبحانه وتعالى أعلم.

وأمّا ضمّ ثمرة العام الواحد وزرعه بعضه إلى بعضٍ لتكميل النّصاب فامّا الثّمار فلا يضمّ جنس منها إلى آخر كالتّمر إلى الزّبيب بإجماع العلماء، وتضمّ أنواع الجنس بعضها إلى بعض، وأمّا الزّرع فالمشهور من مذهب أحمد أنّه لا يضم جنس منه إلى آخر وهو مذهب الشّافعي وهو قول الحنفية.

وعن أحمد رواية أخرى بضم الحنطة إلى الشّعير والقطاني بعضها إلى بعض، واختاره هذه الرّواية الخرقي وأبو بكر وهو مذهب مالك، وعن أحمد رواية ثالثة بضم الحبوب بعضها إلى بعضٍ مطلقًا. والله أعلم.

والقطاني اسم لحبوب كثيرة منها الحمص والعدس واللّوبيا والدّخن والرز والباقلا.

وأمّا المسألة الأخيرة وهي ما إذا طلبت المرأة من زوجها الخلع على عروض بذلته وقبله الزّوج. وقال الله يرزقك ونحو ذلك من ألفاظ العامّة، فهذه مسألة مشكلة جدًا؛ لأنّ الفقهاء من أصحابنا وغيرهم ذكروا كنايات الخلع والطّلاق ولم يذكروا فيها شيئًا من نحو هذه الألفاظ، وقالوا: إنّ ما لا يدلّ على الطّلاق من نحو: كلي واشربي وبارك الله عليك ونحو ذلك لا يقع

ص: 609

به طلاق ولو نواه؛ لأنّه لا يحتمل الطّلاق فلو وقع به الطّلاق وقع لمجرّد النّيّة، وكذا كنايات الخلع فمقتضى قولهم هذا أنّ قائل: الله يرزقك ونحوه ناويًا به طلاقًا أو خلعًا لا يقع به شيء من ذلك؛ لأنّ هذا اللّفظ ونحوه ليس من الكنايات المذكورة، فلو أوقعنا به طلاقًا أو خلعًا لكنّا قد أوقعناه بالنّيّة، ولكنّهم قد ذكروا من كنايات الطّلاق (أغناك الله) بلفظ الماضي ولم يذكروه بلفظ المضارع، كالله يغنيك، فيكون مثله الله يرزقك ونحوه، ولم يذكروا في ألفاظ الكنايات لفظ مضارعًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولو ذهب ذاهب إلى وقوع الخلع بقول العامي: الله يغنيك ونحوه، ناويًا به طلاقًا أو فسخًا مع بذل العوض وقبوله لم يبعد؛ لقول الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- المنقول عن أحمد وقدماء أصحابه ألفاظهم كلّها صريحة في أنّ الخلع بلفظ البيع فسخ وبأي لفظٍ كان.

وقال أيضًا بعد أن ذكر ألفاظ العقود في الماضي والمضارع واسم الفاعل واسم المفعول، وأنّها لا تنعقد بالمضارع، قال وما كان من هذه الألفاظ محتملًا فإنّه يكون كناية حيث تصحّ الكناية كالطّلاق ونحوه، ويعتبر دلالات الأحوال. قال: وهذا الباب عظيم المنفعة خصوصًا في الخلع وبابه. انتهى.

وأفتَى بعض متأخري الأصحاب النّجديّين بأنّ الزّوجة إذا طلبت التّخلية على عوضٍ بذلته لزوجها، فقال: خلعت جوازك صحّ. قال: لأنّ ذلك لغة أهل بلدنا، قال: والعبرة في ذلك ومثله بلغة المتكلّمين به. انتهى.

وقد ذهبت طائفة من العلماء -رحمه الله تعالى- إلى أنّ الخلع يصحّ بمجرّد بذل المال وقبوله من غير لفظٍ من الزّوج، وإلى ذلك ذهب أبو حفص

ص: 610

وابن شهاب العكبريان من أصحابنا، واحتجا بما رواه ابن منصور عن أحمد. قال: قلت لأحمد: كيف الخلع؟ قال: إذا أخذ المال فهي فرقة. وقال إبراهيم النّخعي: أخذ المال تطليقة بائنة. وروي عن الحسن نحوه. وروي عن عليّ رضي الله عنه مَنْ قبل مالًا على فراقٍ فهي تطليقة بائنة. وبكلّ حالٍ ففي هذه المسألة إشكال وعدم إيقاع الطّلاق أو الفسخ بنحو هذا اللّفظ أسلم. والله سبحانه تعالى أعلم.

وأمّا إيقاع الطّلاق الثّلاث بكلمةٍ واحدةٍ سواء كان في خلع أو غيره، فمذهب الشّيخ تقيّ الدِّين وكثير من أتباعه معلوم لديكم أنّ الزّوج إذا طلق امرأته ثلاثًا بكلمةٍ واحدةٍ أو بكلمات متفرّقة قبل رجعه أنّه لا يقع إلّا طلقة واحدة. والمفتى به في المذهب الأربعة خلاف ذلك، ونصوص الأئمة الأربعة بخلاف قول الشّيخ معروفة. ولا ينبغي مخالفتهم في ذلك، ولم نرَ أحدًا مِمَّن أدركناهم يفتي بقول الشّيخ في هذه المسألة.

وأخبرنِي بعض تلامذة الشّيخ محمّد -رحمه الله تعالى- أنّه قال: لم أفتِ بقول الشّيخ تقيّ الدِّين -رحمه الله تعالى- في هذه المسألة إلّا مرّة واحدة، ثم لم أفتِ إلّا بقول الجمهور رحم الله الجميع ورضي عنهم، وجمعنا وإيّاهم في جواره في جنّته. آمين يا ربّ العالمين.

- 3 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ الشّيخ جمعان بن ناصر وفّقه الوليّ القاهر وأمّنه مما يخشى ويحاذر.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

موجب الخط إبلاغ السّلام،

ص: 611

والسّؤال عن الأحوال أصلح الله حال الجميع في الدّنيا والآخرة، والخط وصل أوصلك الله إلى ما تحبّ، وسرّنا ما ذركت أتم الله علينا وعليكم نعمته، وأوزعنا شكرها. ومن أمر المسائل:

الأولى: فيما أشكل عليكم من عبارة المختصر في المزارعة حيث قال: وتصحّ إجارة أرض بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها الخ.

مراده: أنّه يصحّ إجارة الأرض إجارة حقيقية بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج منها. وهذا إذا وقع العقد بلفظ الإجارة؛ كأن يقول استأجرت منك هذه الأرض لزرعها مدة كذا بنصف الخارج منها، أو ربعه ونحو ذلك، ويكون ذلك إجارة حقيقية لازمة فيتشرط له شروط الإجارة من تعيين المدة وغيره.

وقد نصّ الإمام أحمد رحمه الله في رواية جماعة من أصحابه فيمَن قال: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أنّه يصحّ. فقال أبو الخطاب ومَن تبعه: هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فمعنى قوله: أجرتك هذه الأرض بثلث ما يخرج منها، أي: زارعتك بثلث عبر عن المزارعة بالإجارة على سبيل المجاز، وهذا على الرّواية التي يشترط فيها كون البذر من ربّ الأرض. وقال أكثر الأصحاب عن نصّ أحمد المتقدم: هي إجارة؛ لأنّها مذكورة بلفظها، فتكون إجارة حقيقية، وتصحّ ببعض الخارج من الأرض كما تصحّ بالدّارهم.

قال في الإنصاف بعد حكايته نصّ أحمد الذي ذكرناه: اختار المصنّف وأبو الخطاب وابن عقيل أنّ هذه مزارعة بلفظ الإجارة، فعلى هذا يكون ذلك على قولنا: لا يشترط كون البذر من ربّ الأرض، كما هو مختار المصنّف وجماعة. قال: والصّحيح من المذهب أنّ هذه إجارة، وأنّ الإجارة تصحّ بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج من الأرض المؤجّرة نصّ عليه، وعليه جماهير

ص: 612

الأصحاب. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: تصحّ إجارة الأرض للزّرع ببعض الخارج منها. وهذا ظاهر المذهب، وهو قول الجمهور إلى أن قال صاحب الإنصاف: وعنه لا تصحّ الإجارة بجزءٍ مما يخرج من المؤجّر. اختاره أبو الخطاب والمصنّف.

قال الشّارح: وهو الصّحيح. قال فعلى هذا المذهب يشترط لها شروط الإجارة من تعيين المدّة وغيره. انتهى ملخّصًا.

فتبيّن أنّ الصّحيح من المذهب صحّة إجارة الأرض للزّرع بجزءٍ معلومٍ مشاعٍ مما يخرج منها خلافًا لأبي الخطاب والموفّق والشّارح. وهذا معنى قوله في شرح الزّاد: تصحّ إجارة الأرض بجزءٍ مشاعٍ مما يخرج منها، فتكون إجارة حقيقة يثبت لها حكمها من اللّزوم وغيره.

والمذهب أيضًا صحّة المزارعة بلفظ الإجارة، وهو مراد شارح الزّاد بقوله: تصحّ مساقاة ومزارعة بلفظ إجارة وتكون مزارعة حقيقة لها حكمها.

وقولهم: فإن لم تزرع سواء قلنا: إنّها إجارة أو مزارعة نظر إلى معدل المغل، أي: المغل الموازن لما يخرج منها لو زرعت، فيجب القسط المسمَّى فيه، فإذا قيل: لو زرعت حصل من زرعها مائة صاع والعقد وقع على نصف الخارج منها فيجب لصاحبه خمسون صاعًا.

وأمّا إذا فسدت المساقاة أو المزارعة لشرطٍ شرط أوجب فساده ثم أسقط المشترط شرطه طلبًا لصحّة العقد، فإنّ العقد لا يعود صحيحًا بعد فساده. وهذا ظاهر.

وقد علّل الفقهاء رحمهم الله بقاء عقودٍ فاسدةٍ على فسادها بأنّ العقد لا ينقلب صحيحًا بعد فساده. والله أعلم.

المسألة الثّالثة: فيما إذا قال لزوجته: أنتِ طالق إلى مكّة

الخ.

ص: 613

فعبارة الإنصاف والإقناع وشرحه كما ذكرت مطلقة، قال في الإنصاف: لو قال: أنتِ طالق إلى مكّة، ولم ينوِ بلوغها طلّقت في الحال. جزم به بعض المتأخرّين. وإن قال: أنتِ طالق بعد مكّة طلقت في الحال، وكذا عبّر في الفروع والإقناع والمنتهى وغيرها. وإطلاققهم يدلّ على أنّها تطلق واحدة فقط. وهذا ظاهر. ولله الحمد، لأنّ اللّفظ لا يقتضي عددًا كقوله: أنت طالق إلى شهر.

الرّابعة: إذا ادّعت المرأة بعد دخول الزّوج بها عدم الإذن في العقد وادّعى زوجها أنّها أذنت.

فذكر أصحابنا أنّها لا تصدق. قالوا: لأنّها لو كانت صادقة لم تمكن نفسها، فتمكينها من الوطء دليل على الإذن، فكان القول قول الزّوج؛ لأنّ الظّاهر معه. هذا إذا كان اختلافها مع الزّوج.

وأمّاإذا اختلفت هي ووليّها في الإذن وعدمه بعد دخول الزّج بها.

فقال في الفروع: يتوجّه في دعوى الولي إذنها كذلك، وذكر شيخنا قبول قبول قولها. انتهى. وأن ما شهدت البيّة أنّها زوجة مكرهة أو بغير إذنها وهي مِمَّن يعتبر إذنه تبيّنّا بطلان العقد بشهادة البيّنة لا تصديقًا للمرأة، ولأنّهم علّلوا قبول قول الزّوج بأنّ الظّاهر معه، وهذا مما يقدم فيه الظّاهر على الأصل، فإذا شهدت البيّنة بما يخالف الظّاهر عمل بها، كما أنّ القاعدة في الدّعاوى أنّ القول قول مَنِ الأصل أو الظّاهر معه، فإذا وجدت بيّنة تخالف ذلك قدّمت ووجب العمل بها. والله سبحانه وتعالى أعلم.

- 4 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ المكرّم والشّيخ المفهم جمعان بن ناصر، لا زال محفوظًا بكلاءة القادر محفوفًا بعناية اللّطيف القاهر.

ص: 614

سلام عليكم أيّها الأخ الْمكرّم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

فموجب الخط هو إبلاغ المحبّ السّلام. رفع الله قدره بين الأنام وأسكننا وإيّاه بجواره في دار السّلام.

والمحب يحمد إليك الله على ما أولى من النّعم وصرف من النّقم، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم من الشّاكرين لنعمه، ومشرفكم الشّريف وصل وأقرّ العين، وبه السّرور حصل لا زلتم بنعم الله محفوفين وبحراسته محفوظين، ولا تنسنا يا أخي من المراسلة والدّعاء بظهر الغيب كما هو منا لكم كذلك وما أورد المحب من المسائل فهي موضحة. ولله الحمد في كتب الفقهاء لِمَن نظر فيها:

المسألة الأولى: هل بين النّكاح الفاسد والباطل بعد الدّخول فرق في وجوب المهر والعدة ولحوق النّسب؟

فالجواب: نعم. بينهما فرق في الجملة فيستقرّ المهر بالخلوة في النّكاح الفاسد على المذهب، بخلاف الباطل، فيجب للجهالة بالتّحريم فيه مهر المثل بالوطء فقط، ويجب في الفاسد الْمسَمَّى لا مهر المثل على الصّحيح من المذهب. قال في الإنصاف فيمَن نكاحها فاسد: وإن دخل بها استقرّ الْمسمَّى. هذا المذهب. نصّ عليه.

قال في القواعد الفقهية: وهي المشهورة عن أحمد، وهي المذهب عند أبي بكر وابن أبي موسى واختارها القاضي وأكثر أصحابه. وعنه يجب مثل المهر. قال المصنّف: وهي أصحّ. وهو ظاهر كلام الخرقي واختاره الشّارح. وقال في الإنصاف أيضًا: ويستقرّ بالخلوة في النّكاح الفاسد. هذا المذهب نصّ عليه. وعليه جماهير الأصحاب وهو من مفردات المذهب.

ص: 615

لكن هل الواجب الْمُسَمَّى أو مهر المثل؟ مبني على الذي قبله. انتهى.

وقال أيضًا: إذا كان نكاحها باطلًا فهي كمكرهة على الزّنا في وجوب المهر وعدمه على الصّحيح من المذهب، قدمّه في الفروع وغيره. وجزم به في الكافي والرّعاية وغيرهما. وفي التّرغيب رواية يلزم الْمُسَمَّى. انتهى. ومراده بوجوب المهر إذا لم تكن عالمة بالتّحريم، والواجب للمكرهة على الزّنا مهر المثل. قال في الإنصاف: هو المذهب مطلقًا. وعيله جماهير الأصحاب.

قال المصنّف والشّارح: هذا ظاهر المذهب. وعنه يجب للبكر خاصّة اختاره أبو بكر. وعنه لا يجب مطلقًا. ذكرها واختارها الشّيخ تقيّ الدِّين. وقال: هو خبيث. وقال في الشّرح: فأمّا مَن نكاحها باطل بالإجماع كالمزوّجة والمعتدّة، إذا نكحها رجل فوطئها عالمًا بالتّحريم وتحريم الوطء، وهي مطاوعة عالمة فلا مهر؛ لأنّه زنى يوجب الحدّ، وهي مطاوعة عليه، وإن جهلت تحريم ذلك، أو جهلت كونها في العدّة فلها المهر؛ لأنّه وطء شبهة، وفيه أيضًا: ويجب مهر المثل للموطوءة بشبهة بغير خلافٍ علمناه.

وقال في الإقناع وشرحه: وإذا تزوّج معتدّة من غيره وهما أي: العاقد والمعقود عليها عالمان بالعدّة.

قلت: ولم تكن مَن زنا وعالمان بتحريم النّكاح فيها أي العدّة، ووطئها فيها أيّ العدّة، فهما زاينان عليهما حدّ الزّنا، ولا مهر لها؛ لأنّها زانية مطاوعة، ولا نظر لشبهة العقد؛ لأنّه باطل مجمع على بطلانه، فلا أثر له بخلاف المعتدّة من زنا، فإنّ نكاحها فاسد، والوطء فيه حكمه حكم وطء الشّبهة للاختلاف في وجوبها، أي: ومحلّ سقوط مهرها إن لم تكن أمة، فإن كانت أمة لم يسقط؛ لأنّه لسيّدها فلا يسقط بمطاوعته لها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّه من زنا، وإن كانا -أي: النّاكح والمنكوحة-

ص: 616

جاهلين بالعدّة أو جاهلين التّحريم، ثبت النّسب، وانتفى الحدّ، ووجب المهر؛ لأنّه وطء شبهةٍ، وإن علم هو دونها فعليه الحدّ للزّنا، وعليه المهر بما نال من فرجها، ولا يلحقه النّسب؛ لأنّ زانٍ، وإن علمت هي دونه فعليها الحدّ، ولا مهر لها إن كانت حرّة؛ لأنّها زانية مطاوعة، ويلحقه النّسب؛ لأنّه وطء شبهة وصرّحوا بلحوق النّسب في النّكاح الباطل ووطء الشّبهة.

قال في الفروع: ويلحق في كلّ نكاحٍ فاسدٍ فيه شبهة نقله الجماعة. وقيل: إن لم يعتقد فساده. انتهى. وكذلك قال في الإنصاف. وقال أيضًا: ويلحقه الولد بوطء الشّبهة كعقد. نصّ عليه. وهو المذهب قدمه في المغنِي والشّرح والفروع وغيرها.

قال المصنّف والشّارح: هذا المذهب. وذكره الشّيخ تقيّ الدِّين، وقال أبو بكر: لا يلحقه. قال القاضي: وجدت بخط أبي بكر: لا يلحق به؛ لأنّ النّسب لا يلحق إلّا في نكاحٍ صحيحٍ أو فاسدٍ أو ملكٍ أو شبهة ملكٍ، ولم يوجد شيء من ذلك. انتهى. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله كلّ مَن درأت عنه الحدّ ألحقت به الولد.

وأمّا العدّة فتجب في النّكاح الفاسد بمجرّد الخلوة، وكذا تجب عليها عدة الوفاة على الصّحيح من المذهب فيهما، ولا تجب العدّة في النّكاح الباطل إلّا بالوطء إجماعًا، ولا تجب به عدّة الوفاة.

قال في الإنصاف: وإن كان النّكاح مجمعًا على بطلانه لم تعتدّ للوفاة من أجله وجهًا واحدًا، وذكر قبل ذلك وجوب العدّة بالخلوة في النّكاح الفاسد. قال: وهو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب. ونصّ عليه الإمام أحمد. قال ابن حامد: لا عدّة في الخلوة في النّكاح الفاسد بل بالوطء كالنّكاح

ص: 617

الباطل إجماعًا. وفي الإنصاف أيضًا وإذا مات عن امرأة نكاحها فاسد كالنّكاح المختلف فيه. قال القاضي: عليها عدّة الوفاة. نصّ عليه أحمد في رواية جعفر بن محمّد. وهو المذهب. اختاره أبو بكر وغيره. وقدّمه في الفروع والرّعايتين والحاوي والمحرّر والنّظم وغيرها. وقال ابن حامد: لا عدّة عليها للوفاة. انتهى.

وقال في الشّرح لما تكلّم في حكم النّكاح الباطل: كمَن نكح ذات محرّم أو معتدّة من غير الخلوة بها كالخلوة بالأجنبية لا يوجب عدّة، وكذلك الموت عنها لا يوجب عدة الوفاة، وإن وطءها اعتدّت لوطئه بثلاثة قروء منذ وطئها سواء فارقها أو مات عنها، كالمزني بها من غير عقدٍ، فأمّا إن نكحها نكاحًا مختلفًا فيه فهو فاسد، فإن مات عنها فنقل جعفر بن محمّد أنّ عليها عدّة الوفاة، وهو اختيار أبي بكر. وقال أبو عبد الله بن حامد: ليس عليها عدّة الوفاة. وهو مذهب الشّافعي؛ لأنّه نكاح لا يثبت فأشبه الباطل، فعلى هذا إن كان قبل الدّخول فلا عدّة عليها، وإن كان بعده اعتدت بثلاثة قروء، ووجه الأوّل أنّه نكاح يلحق به النّسب فوجبت به العدّة كالنّكاح الصّحيح بخلاف الباطل؛ فإنّه لا يلحق به النّسب. انتهى.

وأمّا عبارة المنتهى، وهي قوله: لا فرق في عدّة وجبت بدون وطء

الخ.

فلا إشكال فيها؛ لأنّ العدّة تجب بمجرّد الخلوة بدون وطء على المذهب، ولا معارضة في ذلك للآية.

وأمّا قولك: وقد أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس لا عدّة عليها.

فليس ذلك بصواب. وأظنّ سبب الإيهام أنّ هذه العبارة عندكم في مختصر الشّرح هكذا كما هي فيه عندنا كذلك، وسقط من العبارة لفظ الخلوة.

ص: 618

فالصّواب في العبارة: أجمعوا على أنّ المطلقة قبل المسيس والخلوة لا عدّة عليها، وعبارة الشّرح: كلّ امرأةٍ فارقها زوجها قبل الخلوة فلا عدّة عليها أجمع العلماء على ذلك. ثم قال بعد ذلك: ولا خلاف بين أهل العلم في وجوبها على المطلقة بعد المسيس.

فأمّا إن خلا بها، ولم يصبها ثم طلّقها، فإنّ العدّة تجب عليها. روي ذلك عن الخلفاء الرّاشدين وزيد وابن عمر. وبه قال عروة وعلي بن الحسين وعطاء والزّهري والثّوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرّأي والشّافعي في قديم قوليه. وقال في الجديد: لا عدّة عليها، لقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} ، [الأحزاب، من الآية: 49]. وهذا نصّ؛ ولأنّها مطلقة لم تمس فأشبهت مَن لم يخل بها.

ولنا إجماع الصّحابة. فروى الإمام أحمد والأثر بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الرّاشدون أنّ مَن أرخى سترًا أو أغلق بابًا فقد وجب المهر، ووجبت العدّة، ورواه أيضًا عن الأحنف عن عمر وعليّ وعن سعيد بن المسيب عن ابن عمر وزيد بن ثاب رضي الله عنهم. وهذه قضايا اشتهرت فلم تنكر فصارت إجماعًا. وضعّف أحمد ما روي في خلاف ذلك؛ ولأنّه عقد على المنافع فالتّمكين فيه يجري مجرى الاستيفاء في الأحكام كعقد الإجارة، والآية مخصوصة بما ذكرنا، ولا يصحّ القياس على مَن لم يخل بها؛ لأنّه لم يوجد التّمكن. انتهى.

وقال في الإنصاف: وإن خلا بها وهي مطاوعة فعليها العدّة سواء كان بهما أو بأحدهما مانع من الوطء كالإحرام والصّيام والحيض والنّفاس والمرض والجبّ والعنة، أو لم يكن. هذا المذهب مطلقًا بشرطه الآتي، سواء كان

ص: 619

المانع شرعيًّا أو حسيًّا كما مثّل المصنّف. وعليه جماهير الأصحاب إلى أن قال: إلّا أن لا يعلم بها كالأعمى والطّفل فلا عدّة عليها، وكذا لو كانت طفلة. وهذا هو المشار إليه في قوله بشرطه الآتي.

وأمّا صور النّكاح الباطل منها ما ذكرتم وكنكاح المرأة على عمتها أو خالتها، ونكاح مطلقة ثلاثًا من قبل أن تنكح زوجًا غيره، ونكاح الوثنية والنّكاح الخالي من الولي والشّاهدين جميعًا وغير ذلك.

المسألة الثّانية: في قتل الجماعة بالواحد بشرطه الآتي. هو المذهب وهو قول جمهور العلماء. قال في الشّرح: ويقتل الجماعة بالواحد، إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم لو انفرد أوجب القصاص عليه. روى ذلك عن عمر وعلي والمغيرة بن شعبة وابن عبّاس رضي الله عنهم. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة. وهو مذهب مالك والثّوري والأوزاعي والشّافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب الرّأي. وعن أحمد رواية أخرى: لا يقتلون به. وتجب عليهم الدّيّة. والمذهب الأوّل إلى أن قال:

ولنا إجماع الصّحابة. فروى سعيد بن المسيب أنّ عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقلتهم جميعًا، وعن عليّ رضي الله عنه أنّه قتل ثلاثة قتلوا رجلًا، وعن ابن عبّاس أنّه قتل جماعة بواحدٍ ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفًا، فكان إجماعًا. ولأنّها عقوبة تجب للواحد على الجماعة كحدّ القذف. وتفارق الدّية فإنّها تبعض والقصاص لا يتبعّض. ولأنّ القصاص لو سقط بالاشتراك أدّى إلى تسارع القتل به فيؤدّي إلى إسقاط حكمة الرّدع والزّجر

إلى أن قال:

ولا يعتبر في وجوب القصاص على المشتركين التّساوي في سببه،

ص: 620

فلو جرحه أحدهما جرحًا والآخر مائه أو أوضحه أحدهما، وشجّه الآخر آمة أو أحدهما جائفة والآخ غير جائفة كانا سواء في القصاص والدّية؛ لأنّ اعتبار التّساوي يفضي إلى سقوط القصاص على المشتركين؛ إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كلّ وجهٍ، ولأنّ الجرح الواحد يحتمل أن يموت منه دون المائة كما يحتمل أن يموت من الموضحة دون الآمة، ومن غير الجائفة دون الجائفة

إلى أن قال:

وإذا اشترك ثلاثة في قتل فقطع واحد يده والآخر رجله، وأوضحه الثّالث فمات فللولي قتل جميعهم والعفو عنهم إلى الدّية، فيأخذ من كلّ واحدٍ ثلثها، وله العفو عن واحدٍ فيأخذ منه ثلث الدّية، ويقتل الآخرين، وأن يفعو عن اثنين فيأخذ منها ثلثي الدّية ويقتل الثّالث، وإن برئت جراحة أحدهم ومات من الجرحين الأخيرين، فله أن يقتصّ من الذي برئ جرحه بمثل جرحه، ويقتل الآخرين أو يأخذ منها دية كاملة أو يقتل أحدهما ويأخذ من الآخرين نصف الدّية. وله أن يعفو عن الذي برئ جرحه ويأخذ منه دية جرحه إلى أن قال:

وإن فعل أحدهما فعلًا لا تبقى معه الحياة كقطع خشونه أو مريئه أو ودجيه ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأوّل ويعزر الثّاني، وإن شقّ الأوّل بطنه أو قطع يده ثم ضرب الثّاني عنقه، فالثّاني هو القاتل، وعلى الأوّل ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدّية. انتهى.

وقال في الإنصاف: وتقتل الجماعة بالواحد، هذا المذهب بلا ريب عليه جماهير الأصحاب. قال في الهداية: عليه عامّة شيوخنا، وعنه لا يقتلون به نقلها حنبل إلى أن قال:

ص: 621

فعلى المذهب من شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به، قاله الأصحاب إلى أن قال:

ولو قتلوه بإفعالٍ لا يصحّ واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطًا في حالة أو متوالية فلا قود، وفيه عن تواطؤ وجهان في التّرغيب واقتصر عليه في الفروع.

قلت: الصّواب القود - إلى أن قال:

قال المصنّف رحمه الله والشّارح إن فعل ما يموت به يقينًا وبقيت معه حياة مستقرّة كما لو خرق خشوته ولم يبنها ثم ضرب آخر عنقه كان القاتل هو الثّاني؛ لأنّه في حكم الحياة لصحّة وصية عمر رضي الله عنه. قال في الفروع: ويتوجّه تخريج من مسألة الذّكاة أنّهما قاتلان. قلت: وهو الصّواب.

قال في الفروع: ولهذا اعتبروا إحداهما بالأخرى. قال: ولو كان فعل الثّاني كما فعل الأوّل لم يؤثّر مثل غرق حيوان في الماء يقتله مثله بعد ذبحه على إحدى الرّواتين. انتهى.

وقال في الإقناع وشرحه: وتقتل الجماعة بالواحد إذا كان فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به لو انفرد، وإن لم يصلح فعل كلّ واحدٍ من الجماعة للقتل كما لو ضربه كلّ واحدٍ منهم بحجرٍ صغيرٍ فمات فلا قصاص عليهم؛ لأنّه لم يحصل من واحدٍ منهم ما يوجب القود ما لم يتواطأوا على ذلك الفعل ليقتلوه فعليهم القصاص لئلا يتّخذ ذرية إلى ردّ القصاص إلى أن قال:

وإن قتله جماعة اثنان فأكر بأفعال لا يصلح واحد منها لقتله نحو أن يضربه كلّ واحدٍ سوطًا في حالة أو متوالية فلا قود فيه عن تواطؤ وجهان قاله في التّرغيب، والصّواب وجوب القود. انتهى ملخّصًا.

ومعنى قولهم: أن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به أي:

ص: 622

أن يكون فعل كلّ واحدٍ صالحًا لأن يكون سببًا لموت المجنِي عليه، لا أنّه يغلب حصول الموت من تلك الجناية؛ لأنّهم مثلوا بالموضحة مع أنّ حصول الموت بها نادر. وصرّحوا بأنّ القصاص إنّما يجب على المباشر بالشّرط المذكور. فخرج المشير والآمر، فلا يجب عليهما القصاص لاسيما وقد صرّحوا بعدم وجوب القصاص على الآمر في جملة. وإن كان بعض الأصحاب حكى رواية بوجوب القصاص على الآمر. فالمذهب خلافها.

قال في الشّرح: وإن أمر كبيرًا عاقلًا عالمًا بتحريم القتل فقتل فالقصاص على القاتل لا نعلم فيه خلافًا؛ لأنّه قاتل ظلمًا فوجب عليه القصاص كما لو لم يأمر. ثم ذكر حكم ما إذا أمر السّيّد عبده بقتل رجلٍ وما فيه من التّفصيل المذكور في كتب الفقه إلى أن قال:

وإن أمر السّلطان بقتل إنسانٍ بغير حقٍّ مَن يعلم ذلك فالقصاص على القاتل، وإن لم يعلم فعلى الآمر. فإذا كان المأمور يعلم أنّ الإنسان المأمور بقتله لا يستحقّ القتل فالقصاص عليه؛ لأنّه غير معذورٍ في فعله؛ فإنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق". وعنه عليه الصلاة والسلام: "مَن أمركم من الولاة بمعصية الله فلا تطيعوه". فلزمه القصاص كما لو أمره غير السّلطان. وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور؛ لأنّ المأمور معذور بوجوب طاعة الإمام في غير المعصية. فالظّاهر أنّه لا يأمر إلّا بالحقّ.

وإن كان الآمر غير السّلطان فالقصاص على القاتل بكلّ حالٍ علم أو لم يعلم؛ لأنّه لا تلزمه طاعته وليس له القتل بخلاف السّلطان، فإنّ إليه القتل في الرّدّة والزّنا، وقطع الطّريق إذا قتل القاطع ويستوفي القصاص للنّاس، وهذا ليس له شيء من ذلك. انتهى.

ص: 623

وقوله رحمه الله: وإن لم يعلم ذلك فالقصاص على الآمر دون المأمور، هكذا قال جماعة من الأصحاب. وقال الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله: هذا بناء على وجوب طاعة السّلطان في القتل المجهول. وفيه نظر. بل لا يطاع حتّى يعلم جواز قلته. وحينئذٍ فتكون الطّاعة له معصية لاسيما إذا كان معروفًا بالظّلم، فهنا الجهل بعدم الحلّ كالعلم بالحرمة. انتهى.

وما في شرح رسالة ابن أبي زيد: أنّه إذا باشر القتل بعضهم وحبسه البعض قتلوا جميعًا، فهذا مذهب مالك وهو رواية عن أحمد، واحتجّ بعض مَن قال بقتل الممسك بقول عمر: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: تعاونوا، والممسك له ليقتل معِين للقاتل. وأجاب الآخرون عن قول عمر: لو تمالأ عليه، أي: لو تشاوروا في قتله.

قال في الشّرح: وإن أمسكه له ليقتله مثل أن أمسكه له حتّى ذبحه فاختلف الرّواية فيه عن أحمد، فروي عنه أنّ الممسك يحبس حتّى يموت. وهذا قول عطاء وربية. وروي عن عليّ رضي الله عنه. وروي عن أحمد أنّه يقتل أيضًا. وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي وأبو ثور يعاقب ويأثم ولا يقتل. وأمّا القاتل فيقتل بغير خلافٍ.

فقوله رحمه الله وإن أمسكه له ليقتله. يدلّ من كلامه على أنّ هذا الحكم مخصوص بما إذا أمسكه له ليقتله لا ما إذا أمسكه له ولم يعلم أنّه يريد قتله، وهكذا قيّد كثير من الأصحاب.

قال في الإنصاف: شرط في المغنِي في الممسك أن يعلم أنّه يقتله. وتابعه الشّارح. قال القاضي: إذا أمسكه للعب أو الضّرب، وقتله القاتل فلا قود على الماسك. وذكره محلّ وفاق. وقال في منتخب الشّيرازي: لا مازحًا

ص: 624

متلاعبًا. انتهى. وظاهر كلام جماعة الإطلاق. انتهى.

وقال في الإقناع وشرحه: وإن كان الممسك لا يعلم أنّ القاتل يقتله فلا شيء عليه؛ لأنّ موته ليس بفعله ولا بأثر فعله بخلاف الجارح؛ فإنّه لا يعتبر فيه، قصد القتل؛ لأنّ السّراية أثر جرحه المقصود له. انتهى.

وأمّا الرّدء فلم يذكروه هنا لم يعطوه حكم المباشر في هذا الباب. وإنّما جعلوا حكم ردء قطاع الطّريق حكم مباشرهم للعلة التي علّلوا بها.

قال في الشّرح في (باب قطاع الطّريق) وحكم الرّدء حكم المباشر. وبهذا قال مالك وأبو حنيفة، وقال الشّافعي: ليس على الرّدء إلّا التّعزير؛ ولأنّ الحدّ يجب بارتكاب المعصية فلا يتعلّق بالمعين كسائر الحدود.

ولنا أنّه حكم يتعلّق بالمحاربة فاستوى فيه الرّدء والمباشر كاستحقاق الغنيمة؛ وذلك لأنّ المحاربة مبنية على حصول المنفعة والمعاضدة والمناصرة، فلا يتمكّن المباشر من فعله إلّا بقوّة الرّدء بخلاف سائر الحدود، فعلى هذا إذا قتل واحد منهم ثبت حكم القتل في حقّ جميعهم، فيجب قتل الكلّ، وإن قتل بعضهم وأخذ بعضهم المال جاز قتلهم وصلبهم كما لو فعل الأمرين واحد منهم. انتهى.

وقال في الإقناع وشرحه: وردء للمحارب وهو المساعد والمغيث له عند احتياجه إليه كمباشر وطليع وهو الذي يكشف للمحاربين حال القافلة. ليأتوا إليها كمباشر كما في جيش المسلمين إذا دخلوا دار الحرب وباشر بعضم القتال وأخذ المال ووقف الباقون للحفظ والحراسة مِمَّن يدهمهم من ورائهم أو أرسل الإمام عينًا ليتعرّف أحوال العدو، فإنّ الكلّ يشتركون في الغنيمة، وذكر أبو الفرج السّرقة كذلك. فإذا قتل واحد منهم ثبت

ص: 625

القتل في حقّ جميعهم فيجب قتل الكلّ؛ لأنّ حكم الرّدء حكم المباشر، وإن قتل بعضهم وأخذ المال بعضهم قتلوا كلّهم وجوبًا. انتهى.

قال في الإنصاف: وحكم الرّدء حكم المباشر. هذا المذهب. وعليه الأصحاب. قال في الفروع: وكذا الطّليع. واختار الشّيخ تقيّ الدِّين يقتل الآمر كردء، وإنّه في السّرقة كذلك. انتهى.

وقول عمر رضي الله عنه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء، أي: لو تعاون، وفي رواية: لو أنّ أهل صنعاء شركوا في قتله لقتلتهم أجمعين.

قال بعض العلماء في الكلام على أثر عمر المذكور: قوله: (تمالأ) مهموز -أي: تعاون- قال عليّ رضي الله عنه وأرضاه-: والله ما قتلت عثمان، ولا مالأت في قتله -أي: عاونت- قال الخطابي في تصاحيف الرّواة: هو مهموز من الملأ، أي: صاروا كلّهم ملأ واحدًا في قتله. قال: والمحدِّثون يقولونه بغير همز. والصّواب الهمز؛ لأنّ (الملأ) مهموز غير مقصور. انتهى.

واشترط الفقهاء المباشرة للقتل من الجميع وأن يكون فعل كلّ واحدٍ منهم صالحًا للقتل به، ومالك رحمه الله يلحق الممسك بالمباشر يدلّ على أنّهم حملوا قول عمر رضي الله عنه على التّعاون فقط، لا على التّشاور.

المسألة الثّالثة: إذا ادّعى شخص عند الحاكم بأنّه حكم له بكذا ولم يذكره الحاكم فشهد به شاهدان.

فالمذهب أنّه تقبل شهادتهما ما لم يتيّقن صواب نفسه. وهذا مذهب مالك. وقال أبو حنيفة والشّافعي: لا يقبل شهادتهما. ولا يرجع إلى قولهما حتّى يذكر أنّه حكم به. وظاهر كلام الأصحاب أنّه لا بدّ من شاهدين فلا يكفي الشّاهد ويمين المدّعي للحكم، وقد احتجّو لما ذكروه بقصة ذي اليدين واقصتارهم على الشّاهدين دليل على أنّه لا يكتفي

ص: 626

بغيرهما ولم يذكر في الفروع ولا في الإنصاف خلافًا. فدلّ على اعتبار الشّاهدين لاسيما والخلاف في عدم قبول الشّاهدين مشهور. والفقهاء يحكون الخلاف في قبول الشّاهدين وعدمه ولم يذكروا الشّاهد واليمين فدلّ على أنّه لا خلاف في عدم قبول الشّاهد مع اليمين. والله أعلم.

المسألة الرّابعة: ما صفة العدالة باطنًا؟ وهل يعتبر اليوم في الشّاهد ما ذكروه في صفة العدل من الشّروط أم لا؟

فالجواب: أنّه ليس مرادهم باطنًا معرفة ما في القلوب، فهذا أمر لا يعلمه إلّا الله. لكن مَن طالت صحبته لإنسان أو كثرت معاملته عرف من أحواله ما يستدلّ به على حسن باطنه. فهذا معنى العدالة في الباطن، ولهذا قالوا: يشترط في التّزكية خبرة المزكّي للشّاهد خبرة باطنة بصحبته ومعاملته ونحوهما.

قال في الشّرح: يحتمل أن يريد الأصحاب بما ذكروه أنّ الحاكم إذا علم أنّ المعدل لا خبرة له لم يقبل شهادته بالتّعديل كما فعل عمر رضي الله عنه، ويحتمل أنّهم أرادوا لا يجوز للمعدل الشّهادة بالعدالة إلّا أن تكون له خبرة باطنة، فأمّا الحاكم إذا شهد عنده العدل بالتّعديل فله أن يقبل الشّهادة من غير كشف، وإن استكشف الحال كما فعل عمر فحسن. انتهى.

قال الزّركشي: لا يقبل التّعديل إلّا مِمَّن له خبرة باطنة ومعرفة بالتّعديل والجرح غير متّهمٍ بعصبيةٍ ولا غيرها. قال: ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنّه أتى بشاهدين، فقال: لست أعرفكما ولا يضرّكما إن لم أعرفكما جيئا بِمَن يعرفكما، فأتيا برجلٍ فقال له عمر: أتعرفهما؟ قال: نعم. فقال عمر: صَحِبْتَهما في السّفر الذي يبين فيه جواهر النّاس؟ قال: لا.

ص: 627

قال: عَامَلتَهما في الدّنانير والدّراهم التي تقطع فيها الرّحم؟ قال: لا. قال: كُنْتَ جارًا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لسْتَ تعرفهما. جيئانِي بِمَن يعرفكما.

وأمّا اعتبار الصّفات المكذورة في كتب الفقهاء في الشّاهد فلا يمكن اعبتارها في هذه الأزمنة إذ لو اعتبرت لم يمكن الحكم بين النّاس. قال أبو العبّاس رحمه الله العدل في كلّ زمانٍ ومكانٍ وطائفة بحسبها فيكون الشّهيد في كلّ قومٍ مَن كان ذا عدل فيهم، وإن كان لو كان في غيرهم لكان عدلًا على وجهٍ آخر. وبهذا يمكن الحكم بين النّاس، وإلّا فلو اعتبر في كلّ طائفةٍ ألا يشهد عليهم إلّا مَن يكون قائمًا بأداء الواجبات وترك المحرمات كما كان الصّحابة لتعطلت الشّهادات كلّها أو غالبها.

وقال أبو العبّاس في موضعٍ آخر: إذا فسر الفاسق في الشّهادة بالفاجر أو بالمتّهم فينبغي أن يفرّق بين حال الضّرورة وعدمها، كما قلنا في الكافر. وقال في موضعٍ آخر: ويتوجّه أن تقبل شهادة المعروفين وإن لم يكونوا ملتزمين للحدود عند الضّرورة مثل: الجيش وحوادث البدو، وأهل القرية الذين لا يوجد فيهم عدل، وله أحوال منها شهادة أهل الذّمة في الوصيّة في السّفر إذا لم يوجد غيرهم، وشهادة بعضهم على بعضٍ في قول، وشهادة النّساء فيما لا يطّلع عليه الرّجال. انتهى. ويشهد لكلام الشّيخ رحمه الله ما ذكروه في القاضي إذا تعذرت عدالته.

وقد قال الشّيخ رحمه الله: الولاية لها ركنان: القوّة والأمانة. فالقوّة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم، والأمانة ترجع إلى خشية الله. قال: وهذه الشّروط تعتبر حسب الإمكان ويجب تولية الأمثل فالأمثل.

ص: 628

وقال: على هذا يدلّ كلام أحمد وغيره فيولى لعدم أنفع الفاسقين وأقلّهما شرًّا، وأعدل المقلّدين وأعرفهما بالتّقليد، قال في الفروع: وهو كما قال. وقال في الإقناع وشرحه بعد أن أورد كلام الشّيخ هذا: وهو كما قال. وإلّا لتعطلّت الأحكام واختل النّظام.

قال القرافي: ونصّ ابن أبي زيد على أنّا إذا لم نجد في جهة العدول أقمنا أمثلهم وأقلّهم فجورًا للشّهادة عليهم، ويلزم مثل ذلك في القضاء وغيره لئلا تضيع المصالح. قال القراقي: وما أظنّ أحدًا يخالفه في هذا. فإنّ التّكليف مشروط بالإمكان.

المسألة الخامسة: إذا تعذّر حصول الأرش الواجب على العاقلة لعدمهم أو فقرهم وتعذر الأخذ من بيت المال، فهل يلزم به الجاني أم لا؟

الصّحيح من المذهب السّقوط والحالة هذه. ولا يطالب الجاني بذلك. قال في الإنصاف: هو المذهب. وعليه أكثر الأصحاب بناء على أنّ الدّية وجبت على العاقلة ابتداء، وجزم به الخرقي وصاحب الوجيز والمنور ومنتخب الآمدي وغيرها. قال ابن منجا في شرحه: هذا المذهب. وقدّمه في المحرّر والنّظم والرّعايتين والحاوي الصّغير والفروع وغيرها. وهو من مفردات المذهب. ويحمل أن تجب في مال القاتل.

قال المصنّف رحمه الله هنا: وهو أولى فاختاره يعنِي: اختاره المصنّف، وهو الشّيخ موفّق الدِّين ابن قدامة. هذا القول الثّاني. قال في الشّرح: فإن لم يمكن الأخذ من بيت المال فليس على العاقلة شيء، وهذا أحد قولي الشّافعي، ولأنّ الدّية لزمت العاقلة ابداء بدليلٍ أنّها لا يطالب بها غيرهم إلى أن قال: فعلى هذا إن وجد بعض العاقلة حملوا بقسطهم وسقط الباقي فلا يجب على أحدٍ.

ص: 629

قال شيخنا: ويحتمل أن تجب في مال القاتل إذا تعذر حملها عنه. وهذا القول للشّافعي لعموم قوله تعالى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ، [النّساء، من الآية: 92]. ولأنّ قضية الدّليل وجوبها على الجاني جبرًا للمحلّ الذي فوته، وإنّما سقط عن القاتل لقيام العاقلة مقامه في جبر المحلّ، فإذا لم يوجد ذلك بقي واجبًا عليه بمقتضى الدّليل، ولأنّ الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول وبين إيجاب ديته على المتلف لا يجوز الأوّل؛ لأنّ فيه مخالفة للكتاب والسّنة وقياس أصول الشّريعة فتعيّن الثّاني. ولأنّ إهدار الدّم المضمون لا نظير له وإيجاب الدّية على قاتل الخطأ له نظائر. وأطال الكلام في تقوية هذا القول. واختار هذا القول الثّاني أيضًا الشّيخ تقيّ الدِّين.

قال في الاختيارات: وتؤخذ الدّية من الجاني خطأ عند تعذّر العاقلة في أصحّ قولي العلماء. قال في شرح الإقناع: وعنه تجب في مال القاتل. قال في المقنع: وهو أولى، أي: من إهدار دم الأحرار في غالب الأحوال؛ فإنّه لا يكاد توجد عاقلة تحمل الدّية كلّها ولا سبيل إلى الأخذ من بيت المال فتضيع الدّماء.

المسألة السّادسة: إذا لم تنقص الجناية المجني عليه بعد البرء ولا حال جريان الدّم.

فالمشهور في المذهب أنّه لا شيء فيها، سوى التّعزير. فقد صرّحوا بوجوب التّعزير في ذلك. قال في الإنصاف في هذه المسألة: فإن لم تنقصه شيئًا بحال أو زادته حسنًا كإزالة ليحة امرأة أو إصبع زائدة ونحوه فلا شيء فيها. هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب.

قال في المحرّر: فلا شيء فيها على الأصحّ. قال في الفروع: فلا شيء فيها في الأصحّ. وكذا قال النّاظم وصحّحه في المغنِي والشّرح وغيرهما.

ص: 630

وقيل: بلى. قال القاضي: نصّ أحمد على هذا. قال المصنّف: فعلى هذا يقوم في أقرب الأحوال إلى البرء، فإن لم ينقص في ذلك الحال قوّم حال جريان الدّم؛ لأنّه لا بدّ من نقص للخوف عليه. ذكره القاضي. وجزم بهذا القول في الهداية والمذهب والخلاصة. انتهى.

وعلى القول الأوّل: يعزّر الجاني؛ لأنّهم صرّحوا بوجوب التّعزير في جناية لا قصاص فيها؛ كالصّفع والوكز ونحو ذلك، مع أنّ في اللّطمة ونحوها رواية بثبوت القصاص في ذلك. قال في الإنصاف: لما ذكر عدم وجوب القصاص في ذلك، وقال: إنّه المذهب وعليه الأصحاب. قال: ونقل حنبل والشّالنجي القود في اللّطمة ونحوها.

ونقل حنبل عن الإمام أحمد والشّعبي والحكم وحماد قالوا: ما أصاب بسوطٍ أو عصا وكان دون النّفس ففيه القصاص. قال أحمد: وكذلك أرى. ونقل أبو طالب لا قصاص بين المرأة وزوجها في أدب يؤدّبها به، فإن اعتدى أو جرح أو كسر يقتص لها منه. ونقل ابن منصور إذا قتله بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجرٍ يقتل بمثل الذي قتل به؛ لأنّ الجروح قصاص، ونقل أيضًا كلّ شيءٍ من الجراح والكسر يقدّر على القصاص يقتصّ منه للأخبار. واختار ذلك الشّيخ تقيّ الدِّين وقال: ثبت عن الخلفاء الرّاشدين. انتهى. والله أعلم.

- 5 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين إلى الأخ حسين بن عليّ.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

موجب الخط إبلاغك

ص: 631

السلام. والخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه. وما ذكرت من المسائل فللفقهاء كلام في جميعها، وفي بعضها اختلاف، ولكن المفتي والقاضي إذا ابتلي بشيء من المسائل التي يقع فيها الخلاف بين العلماء وليس مع أحد القولين حديث صحيح صريح، بل القول فيها بالاجتهاد والقياس ونحو ذلك، فالذي ينبغي للإنسان فيها التوقف، إلا القاضي الذي لا بد له من القول فيجتهد في تحري الصواب، وإلا فلا ينبغي لأحد أن يحرم على الناس شيئًا إلا بدليل. بل ينبغي للمفتي في مثل هذه المسائل أن يقول للسائل: ما أحب لك هذا، أو أكره لك هذا، أو يقول: العلماء يمنعون من هذا، أو يحرمونه إن كان أحد قائل بتحريمه.

هذا الذي ينبغي للإنسان أن يستعمله في المسائل التي فيها الخلاف. وإن كان أحد فعل فعلًا قال جمهور العلماء بالمنع منه، فينهى الفاعل عنه ويمنع منه من غير أن يقال بتحريمه.

والمسألة التي تذكر من استئجار الرجل على تأبير نخله كل نخلة بعذق، فهذا لا يصح لأن فيه ضررًا، وإن كان الرجل قد أبر النخل فأرى فيه أجرة المثل.

وأما المرأة التي لم تحض، فإن عرفت السبب الرافع للحيض من رضاع أو مرض أو غير ذلك انتظرت زوال السبب المانع والحيض بعده، فإن كانت ما تعلم السبب الرافع للحيض فعدتها سنة بعد وقوف الحيض عنها، ثم تتزوج.

وأما بيع اللبن في الشاة على هذه الصورة، فكثير من العلماء يمنعه، وأباحه بعضهم، وبيع الشاة بالشاة لا بأس به. وأخذ صاعي الشعير عن صاع البر في دين السلم لا يجوز.

ص: 632

وأمّا القنوت إن كان إمامًا جهر به، وأمن المأمومون جهرًا.

وأمّا الأجرة على الأذان فقال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "اتّخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا".

وأمّا الأذان قبل الوقت فلا يجزئ بل يعاد في الوقت.

وأمّا بيع القهوة بطعام نسيئة فبعض أهل العلم يمع من هذا الجنس، وبعضهم يبيحه.

وأمّا أخذ الطّعام عن دراهم ثمن سمن فالخلاف في مثل هذه المسألة مشهور في زمن السّلف. هذا إذا كان الطّعام حاضرًا ليس مؤخّرًا وأرى في مثل هذه المسألة الغفلة عن الفاعل.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

- 6 -

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عليّ بن عثمان سلّمه الله

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛

نذكر لك من جهة الذي تذكر أنّه يأخذ عن الدّراهم ثمن الغنم زادًا، فهذا لا بأس به إن شاء الله. فإن كان الدّراهم ثمن لحمٍ فلا ينبغي أخذ الزّاد عنها خروجًا من الخلاف.

ومن جهة شهود الطّلاق هل يجوز نقل شهادتهم، فإذا جاز نقل الشّهادة فشهود الطّلاق وغيرهم سواء، ونذر الطّاعة يلزم الوفاء به ويجبر عليه الممتنع، والمرأة إذا كانت رشيدة يصحّ تصرّفها في مالها ولا يمنعها زوجها من التّصرّف في مالها.

وأمّا اشتراط الرّجل على زوج ابنته عند العقد، فهذا جائز بخلاف غير الأب.

وأمّا قضاء رمضان فلا يجب فيه التّتابع. والله أعلم.

وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.

ص: 633

- 7 -

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشّيخ أبو بطين: وهذه الصّور التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيع نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وثمن السّنور، وكسب الحجام، وبيع الخمر، وكلّ ما حرم أكله وبيع الميتة، وبيع الأصنام، وبيع الحرّ، وبيع عسب الفحل، وبيع فضل الماء، وبيع الكلأ، وبيع الحصاة، وبيع الغرر، وبيع حبل الحبلة، وبيع الملامسة، وبيع المنابذة والمزابنة، والمحاقلة والمخابرة والمعاوضة والثّنيا، وبيع الثّمر قبل الصّلاح، وبيع الطّعام قبل قبضه، والبيع على بيع أخيه، والنَّجش والتّصرية، وبيع حاضر لبادٍ، وتلقي الرّكبان، والغشّ والكذب، والاحتكار، وأكل الرّبا، وتوكيله، وبيع الذّهب بمثله متفاضلًا، وبيع الفضّة بمثلها متفاضلةً، والبرّ بالبرّ متفاضلًا، والذّهب بالذّهب نساء، والفضّة بالفضّة نساء، والتّمر بالتّمر نساء، والشّعير بالشّعير نساء، والبرّ بالبرّ نساء، والملح بالملح نساء، والذّهب بالفضّة نساء، والتّمر بالبر نساء، والتّمر بالشّعير نساء، والتّمر بالملح نساء، والبرّ بالشّعير نساء، والبر بالملح نساء، والشّعير بالملح نساء، واشتراط ما ليس في كتاب الله، وكلّ ما تقدّم في الصّحيحين أو أحدهما.

قوله: المزابنة: وهي أن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلًا بتمرٍ كيلًا، وإن كان كرمًا أن يبيعه بزبيب كيلًا، وإن كان زرعًا أن يبيعه بكيل طعامًا، نهى عن ذلك كلّه، ويورى المزابنة أن يباع ما في رؤوس النّخل بتمرٍ كيلًا مُسمَّى إن زاد فلي وإن نقص فعلي.

قوله: نهى عن المخابرة والمحاقلة، فالمحاقلة: أن يبيع الرّجل الزّرع

ص: 634