الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليمين على المدّعي؟
الجواب: ففيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لا تردّ بل إذا نكل مَن توتجّهت عليه اليمين قضي عليه بالنّكول، وهو قول أبي حنيفة. والرّواية الأخرى: أنّ اليمين تردّ على المدّعي، فيقال له: ردّ اليمين على المدّعى، فإن ردّها حلف. انتهى.
[نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم]
1 وقال في (الباب السّبعون) من الكتاب المذكور، وقد ذكرنا في أوّل الكتاب جملة مقالة أهل السّنة والحديث التي اجتمعوا عليها كما حكاه الأشعري عنهم، ونحو نحكي إجماعهم كما حكاه حرب صاحب الإمام أحمد عنهم بلفظه. قال في مسائله المشهورة: هذا مذهب أهل العلم وأصحاب الأثر وأهل السّنة المتمسكين بها المقتدى بهم فيها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من علماء الحجاز والشّام وغيرهم عليها، فمَن خالف شيئًا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالف مبتدع خارج عن الجماعة زائغ عن منهج أهل السّنة وسبيل الحقّ. قال: وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزّبير الحميدي وسعيد بن المسيّب وغيرهم مِمَّن جالسنا وأخذنا عنهم، فكان من قولهم: أنّ الإيمان قول وعمل ونيّة وتمسّك بالسّنة، والإيمان يزيد وينقص، ويستثنى في الإيمان غير أن لا يكون الاستثناء شكًّا، إنّما هي سنة ماضية عند العلماء.
1 وجدنا في الأصل المخطوط هذا الكلام بعد المسائل المتّقدمة وفي آخره أنّه منقول من كتاب "حادي الأرواح" فأثبتناه هنا تبعًا للأصل.
وإذا سُئِلَ الرّجل أَمُؤْمِنٌ أنت؟ فإنّه يقول: أنا مومن إن شاء الله، أو مؤمن أرجو، أو يقول: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسوله. ومَن زعم أنّ الإيمان قول بلا عملٍ فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ الإيمان هو القول والأعمال شرائع فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ الإيمان يزيد ولا ينقص فقد قال بقول المرجئة. ومَن لم يرَ الاستثناء في الإيمان فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ إيمانه كإيمان جبرائيل والملائكة فهو مرجئ. ومَن زعم أنّ المعرفة تقع في القل وإن لم يتكلّم بها فهو مرجئ.
والقدر خيره وشرّه قليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومرّه، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيّئه، وأوّله وآخره من الله عز وجل قضاء قضاه على عباده وقدره عليهم لا يعدو واحد منهم مشيئة الله ولا يجاوزه قضاء، بل هم كلّهم صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه جلّ ثناؤه وعزّ شأنه، والزّنا والسّرقة وشرب الخمر وقتل النّفس وأكل المال المحرّم والشّرك والمعاصي كلّها بقضاء الله وقدر من الله من غير أن يكون لأحدٍ من الخلق على الله حجّة بل لله الحجّة البالغة على خلقه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} ، [الأنبياء: 23].
وعلم الله عز وجل ماضٍ في خلقه بمشيئةٍ منه قد علم من إبليس ومن غيره من لدن عصى الله تبارك وتعالى إلى أن تقوم السّاعة المعصية، وخلقهم فكلّ يعمل لما خلق له، وصائر إلى ما قضي عليه، لا يعدو واحد منهم قدر الله ومشيئته. والله الفعال لما يريد.
ومَن زعم أنّ الله سبحانه شاء لعباده الذين عصوه الخير والطّاعة، وأنّ العباد شاؤوا لأنفسهم الشّرّ والمعصية فعلوا على مشيئتهم فقد زعم أنّ
مشيئة العباد أغلب من مشيئة الله تعالى وأي افتراء على الله أكبر من هذا.
ومَن زعم أنّ الزّنا ليس بقدره قيل له أرأيت هذه المرأة حملت من الزّنا وجاءت بولد هل شاء الله أن يخلق هذا الولد، وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا. فقد زعم أنّ مع الله خالقًا. وهذا الشّرك صراحًا.
ومَن زعم أنّ السّرقة وشرب الخمر وأكل المال الحرام ليس بقضاء الله ولا قدره فقد زعم أنّ الإنسان قادر على أن يأكل رزق غيره، وهذا صريح قول المحبوسية، بل أكل زرقه الذي قضى الله أن يأكله من الوجه الذي أكله.
ومَن زعم أن قتل النّفس ليس بقدر الله عز وجل فقد زعم أنّ المقتول مات بغير أجله وأيّ كفرٍ أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله عز وجل، وذلك عدل منه في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهذا عدل الحقّ الذي يفعل ما يريد.
ولا نشهد على أحد من أهل القبلة أنّه في النّار لذنب عمله ولا لكبيرة أناها إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء عل ما روي ولا بنصّ الشّهادة، ولا نشهد أنّه في الجنّة بصاحل عمله ولا بخيرٍ أتاه إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي ولا بنصّ الشّهادة. والخلافة في قريش ما بقي من النّاس اثنان ليس لأحدٍ من النّاس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ولا نقرّ لغيرهم بها إلى قيام السّاعة.
والجهاد ماضٍ قائم مع الأئمة بروا أو فجروا ولا يبطله جور جائرٍ ولا عدل عادلٍ.
والجمعة والعيدان والحجّ مع السّلطان وإن لم يكونوا بررة عدولًا أتقياء، ودفع الصّدقات والخراج والأعشار والفيء والغنائم إليهم عدلوا فيها
أو جاروا، والانقياد لِمَن ولّاده الله عز وجل أمركم، لا ننْزع يدًا من طاعة ولا نخرج عليه بسيفٍ حتّى يجعل الله لنا فرجًا ومخرجًا، ولا نخرج على السّلطان ونسمع ونطيع، ولا ننكث بيعة فمَن فعل ذلك فهو مبتدع مخالف مفارق للجماعة، وإن أمرك السّلطان بأمرٍ هو لله معصية فليس لك أن تطيعه البتّة وليس ذلك أن تخرج عليه ولا تمنعه حقّه.
والإمساك في الفتنة سنة ماضية واجب لزومها، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دِينك ولا تعن على الفتنة بيد ولا لسانٍ، ولكن اكفف يدك ولسانك وهواك والله المعين، والكفّ عن أهل القبلة ولا نكفّر أحدًا منهم ولا نخرجه من الإسلام بعمل إلّا أن يكون في ذلك حديث كما جاء وكما روي فنصدّقه ونقبله ونعلم أنّه كما روي نحو ترك الصّلاة وشرب الخمر وما أشبه ذلك، أو يبتدع بدعة ينسب صاحبها إلى الكفر والخروج عن الإسلام فاتبع ذلك ولا تجاوزه.
(والأعور الدّخال) خارج لا شكّ في ذلك ولا ارتياب وهو أكذب الكابذين.
وعذاب القبر حتّى يسأل العبد عن دِينه، وعن ربّه، وعن الجنّة وعن النّار، ومنكرونكير حقّ وهما فتانا القبر نسأل الله الثّبات.
وحوض محمّد صلى الله عليه وسلم حقّ تردّه أمته وآنيته عدد نجوم السّماء يشربون بها منه.
والصّراط حقّ يوضع على سواء جهنم ويمرّ النّاس عليه والجنة من وراء ذلك.
(والميزان) حقّ توزن به الحسنات والسّيّئات كما شاء الله أن يوزن.
(والصّور) حقّ ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق ثم ينفخ فيه أخرى، فيقومون لربّ العالمين للحساب، وفصل القضاء والثّواب والعقاب والجنّة
والنّار.
(واللّوح المحفوظ) يستنسخ منه أعمال العباد كما سبق فيه من المقادير.
(والقضاء والقلم) حقّ كتب الله به مقادير كلّ شيء وأحصاه في الذّكر.
والشّفاعة يوم القيامة حقّ يشفع قوم في قومٍ فلا يصيرون إلى النّار ويخرج قوم من النّار بعد ما دخلوا ولبثوا فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النّار، وقوم يخلدون فيها أبدّا، وهم أهل الشّرك والتّكذيب والحجود والكفر بالله عز وجل.
ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنّة والنّار. وقد خلقت الجنّة وما فيها وخلقت النّار وما فيها خلقهما الله عز وجل وخلق الخلق لهما لا تفنيان ولا يفني ما فيهما أبدًا. فإن احتجّ مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، [القصص، من الآية: 88]. وبنحو هذا من متشابه القرآن؟
قل له: كلّ شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك، والجنة والنّار خلقهما الله للبقاء لا للفناء، ولا للهلاك وهما من الآخرة لا من الدّنيا.
(والحور العين) لا يمتن عند قيام السّاعة ولا عند النّفخة ولا أبدًا؛ لأنّ الله خلقهن للبقاء لا للفناء ولا يكتب عليهن الموت، فمَن قال خلاف ذلك فهو مبتدع ضالّ عن سواء السّبيل، وخلق سبع سموات بعضها فوق بعضٍ، وسبع أرضين بعضها أسفل بعضٍ، وبين الأرض العليا وسماء الدّنيا مسيرة خمسمائة عام والماء فوق السّماء السّابعة العليا.
وعرش الرّحمن فوق الماء والله عز وجل على العرش والكرسي موضع قدميه، وهو يعلم ما في السّموات والأرض وما بينهما وما تحت الثّرى وما في قعر البحر ومنبت كلّ شعرة وشجرة وكلّ زرعٍ وكلّ نباتٍ ومسقط كلّ ورقةٍ، وعدد كلّ كلمةٍ، وعدد الرّمل والحصا، والتّراب ومثاقيل الجبال،
وأعمال العباد وآثارهم، وكلامهم وأنفاسهم، ويعلم كلّ شيء ولا يخفى عليه شيء من ذلك، وهو على العرش فوق السّماء السّابعة، ودونه حجب من نار وحجب من نور وظلمة وما هو أعلم به.
فإن احتج مبتدع مخالف بقول الله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، [قّ، من الآية: 16].
وبقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} الآية، [المجادلة، من الآية: 7]. ونحو هذا من متشابه القرآن، فقل: إنّما يعنِي بذلك العلم؛ لأنّ الله عز وجل على العرش فوق السّماء السّابعة العليا يعلم ذلك كلّه، وهو بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عز وجل عرش وللعرش حملة يحملونه، والله عز وجل على عرشه، وليس له حدّ، والله عز وجل سميعٌ لا يشكّ، بصيرٌ لا يرتاب، عليمٌ لا يجهل، جوادٌ لا يبخل، حليمٌ لا يعجل، حفيظٌ لا ينسى ولا يسهو، قريبٌ لا يغفل، يتكلّم وينظر ويبسط ويضحك ويفرح ويحبّ ويكره ويبغض ويرضى ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع وينْزل كلّ ليلةٍ إلى سماء الدّنيا كيف شاء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، [الشّورى، من الآية: 11].
وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرّحمن يقلّبها كيف شاء ويوعيها ما أراد، وخلق آدم بيده على صورته، والسّموات والأرض يوم القيامة في كفّه، ويضع قدمه في النّار فتَنْزوي، ويخرج قومًا من النّار بيده، وينظر إلى وجهه أهل الجنّة يرونه فيكرمهم ويتجلّى لهم، وتعرض عليه العباد يوم القيامة ويتولّى حسابهم بنفسه ولا يلي ذلك غيره عز وجل.
والقرآن كلام الله تكلّم به ليس بمخلوقٍ، فمَن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو جهمي كافر، ومَن زعم أنّ القرآن كلام الله، ووقف فلم يقل: ليس بمخلوق
فهو أخبث من القول الأوّل، ومَن زعم أنّ ألفاظنا وتلاوتنا مخلوقة والقرآن كلام الله فهو جهمي.
وكلّم الله موسى تكليّمًا منه إليه وناوله التّوراة من يده إلى يده، ولم يزل الله عز وجل متكلِّمًا، والرّؤيا من الله وهي حقّ، إذا رأى صاحبها في منامه ما ليس أضغاثًا فقصّها على عالم وصدق ولم يحرف فيها تأوّلها العالم على أصل تأويلها الصّحيح وتأويلها حينئذٍ حقّ، وكانت الرّؤيا من الأنبياء وحيًا، فأيّ جاهل أجهل مِمَّن يطعن في الرّؤيا ويزعم أنّها ليست بشيء؟! وبلغنِي أنّ مَن قال هذا القول لا يرى الاغتسال من الاحتلام.
وقد روي عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إنّ رؤيا المؤمن كلام يكلّم به الرّبّ عبده"، وقال:"إنّ الرّؤيا من الله". وذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّهم والكفّ عن مساويهم التي شجرت بينهم، فَمَن سبّ أصحاب النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أو واحدًا منهم أو تنقّصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم أو عاب أحدًا منهم فهو مبتدع رافضي خبيث لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا، بل حبّهم سنة والدّعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة.
وأفضل الأمّة بعد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، وبعد عمر عثمان وعلي، ووقف قوم على عثمان، وهم خلفاء راشدون مهديّون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هؤلاء الأربعة لا يجوز لأحدٍ أن يذكر شيئًا من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيبٍ ولا نقصٍ فمَن فعل ذلك فقد وجب على السّلطان تأديبه، وليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن لم يتب أعاد عليه العقوبة ويدخله الحبس حتّى يتوب ويرجع.
ويعرف للعرب حقّها وسابقتها وفضلها ويحبّهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"حبّ العرب من الإيمان وبغضهم نفاقٍ". ولا يقول بقول الشّعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبّون العرب ولا يقرّون لهم بفضلٍ، فإنّ قولهم بدعة، ومَن حرم المكاسب والتّجارات وطلب المال من وجهه، فقد جهل وأخطأ، بل المكاسب من وجهها حلال قد أحلّها الله عز وجل، ورسوله، فالرّجل ينبغي له أن يسعى على نفسه وعياله من فضل ربّه، فإن ترك ذلك على أن لا يرى ذلك الكسب حلالًا فقد خالف الكتاب والسّنة.
(والدِّين) إنّما هو كتاب الله عز وجل وآثار وسنن وروايات صحاح من الثّقات والأخبار الصّحيحة القويّة المعروفة ويصدق بعضها بعضًا حتّى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين -، والتّابعين وتابعي التّابعين، ومَن بعدهم من الأئمة المعروفين المقتدى بهم المتمسّكين بالسّنة المتعلّقين بالآثار لا يعرفون ببدعة، ولا يطعنون بكذب، ولا يرمون بخلاف، إلى أن قال: فهذه الأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السّنة والجماعة والأثر وأصحاب الرّوايات وحملة العلم الذين أدركناهم وأخذنا عنهم الحديث، وتعلّمنا منهم السّنن، وكانوا أئمة معروفين ثقات أهل صدقٍ وأمانةٍ يقتدى بهم ويؤخذ عنهم، ولم يكونوا أصحاب بدعٍ ولا خلافٍ ولا تخليطٍ. وهذا قول أئمتهم وعلمائهم الذين كانوا قبلهم فتمسّكوا بذلك وتعلّموه وعلّموه.
(قلت): حرب هذا، وهو صاحب الإمام أحمد وإسحاق، وله عنهما مسائل جليلة، وأخذ عن سعيد بن منصور وعبد الله بن الزّبير الحميدي، وهذه الطّبقة، وقد حكى هذه المذاهب عنهم واتّفاقهم عليها.
ومَن تأمّل النّقول عن هؤلاء وأضعاف أضعافهم والحديث وجده مطابقًا لما نقله حرب، ولو تتبّعناه لكان بقدر هذا الكتاب مرارًا.
وقد جمعنا منه في مسألة علوّ الرّب تعالى على خلقه واستوائه على عرشه وحدها سفرًا متوسّطًا، فهذا مذهب المستحقّين لهذه البشرى قولًا وعملًا واعتقادًا. وبالله التّوفيق. انتهى كلامه من كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. رحمه الله ورضي الله عنه.
- 6 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
الخط وصل، وصلك الله إلى رضوانه، وهذا جواب المسائل واصلك إن شاء الله:
الأولى: فيمَن طلّق زوجته في مرض موته وأبانها.
فالذي عليه العمل أنّها ترثه ما دامت في العدّة في قول جمهور العلماء. وكذا ترثه بعد العدّة ما لم تتزوّج كما ذهب إليه مالك والإمام أحمد، بل مذهب مالك أنّها ترثه ولو تزوّجت والرّاجح الأوّل.
المسألة الثّانية: قولهم في المطلقة هل عليها أطول الأجلين من ثلاث حيض أو أربعة أشهر وعشر.
فصورة المسألة على ما صورت في السّؤال وأمّا الخلاف فالمشهور عن أحمد المعمول به عند أصحابه أنّ المطلقة البائن في مرض الموت تعتدّ أطول الأجلين من عدة الوفاء أو ثلاثة قروء، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وقال الشّافعي: تبنِي على عدّة الطّلاق.
المسألة الثّالثة: المشهور جواز إجارة العين المستأجرة، قال في المغنِي: يجوز للمستأجر أن يؤجّر العين المستأجرة إذا قبضها. نصّ عيله أحمد، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والنّخعي والشّعبي
والثّوري والشّافعي وأصحاب الرّأي. وأمّا إجارتها قبل قبضها فلا يجوز من غير المؤجّر في أحد الوجهين، وهو قول أبي حنيفة والمشهور من قولي الشّافعي، ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الأجرة وزيادة نصّ عيله أحمد، وهو مذهب الشّافعي وابن المنذر.
المسألة الرّابعة: وهي مسألة الْحِرز، فالْحِرْز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، ويختلف باختلاف الأموال، فحِرز الغنم الحظيرة، وحِرْزها في المرعى بالرّاعي ونظره إليها إذا كان يراها في الغالب وما نام عنه منها فقد خرج عن الْحرز، والضّابط ما ذكرناه وهو أنّ الْحِرز ما جرت العادة بحفظ المال فيه، والأموال تختلف، وتفصيل المسألة مذكور في باب القطع في السّرقة فراجعه.
المسألة الخامسة: وهي السّرقة من الثّمر قبل إيوائه الْحِرز، فهذا لا قطع فيه، ولو كان عليه حائط أو حافظ إذا كان في رؤوس النّخل. لحديث رافع بن خديج:"لا قطع في ثمرٍ ولا كثر"، وكذلك الماشية تسرق من المرعى إذا لم تكن محرزة لا قطع فيها، وتضمن بمثل قيمتها، والثّمر يضمن بمثلي قيمته، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه، وروى الأثرم أنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة رجلٍ من مزينة مثلي قيمتها. وهذا مذهب أحمد. وأمّا الجمهور، فقالوا: لا يجب عليه إلّا غرامة مثله. قال ابن عبد البرّ: لا أعلم أحدًا قال بوجوب غرامة مثليه. وحجّة أهل القول الأوّل حديث عمرو بن شعيب. قال أحمد: لا أعلم شيئًا يدفعه. وأمّا المختلس والمنتهب والخائن وغيرهم فلا يغرم إلّا مثله من غير زيادة على المثل أو القيمة؛ لأنّ الأصل وجوب غرامة المثل بمثليه، والمتقوّم بقيمته
خولف في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل.
المسألة السّادسة: إذا جامع جاهلًا أو ناسيًا في نهار رمضان هل حكم الجاهل حكم النّاسي أم بينهما فرق؟
فالمشهور أنّ حكمهما واحد عند مَن يوجب الكفّارة، وبعض الفقهاء فرّق بين أن يكون جاهلًا بالحكم أو جاهلًا بالوقت، فأسقط الكفّارة عن الجاهل بالوقت، كما لو جامع أوّل يومٍ من رمضان يظنّ أنّه من شعبان، أو جامع يعتقد أنّ الفجر لم يطلع فبان أنّه قد طلع، ومَن أسقطها عن الجاهل بالوقت فالنّاسي مثله وأولى. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: لا قضاء على مَن جامع جاهلًا بالوقت أو ناسيًا ولا كفّارة أيضًا.
المسألة السّابعة: وهي مسألة القذف.
فالقذف ينقسم إلى صريحٍ وكنايةٍ، كالطّلاق، فالصّريح ما لا يحتمل غيره نحو: يا زانِي، يا عاهر، يا منيوك ونحو ذلك. والكناية التّعريض بالألفاظ المجملة المحتملة للقذف وغيره، فإن فسّر الكناية بالزّنا فهو قذف؛ لأنّه أقرّ على نفسه، وإن فسّره بما يحتمله غير القذف قبل مع يمينه ويعزّر تعزيرًا يردعه وأمثاله عن ذلك. فمتى وجد منه اللّفظ المحتمل للقذف وغيره ولم يفسّره بما يوجب القذف فإنّه يعزّر ولا حدّ عليه.
المسألة الثّامنة: هل للأب أن يأخذ من صداق ابنته أم لا؟
فالمشهور عن أحمد جواز ذلك. وهو قول إسحاق. وقد روي عن مسروق أنّه زوّج ابنته واشترط لنفسه عشرة آلاف فجعلها في الحجّ والمساكين، ثم قال للزّوج: جهّز امرأتك. وروي ذلك عن عليّ بن الحسين أيضًا. واستدلّوا لذلك بما حكى الله عن شعيب: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، [القصص، من الآية: 27].
وبقوله صلى الله عليه وسلم: "أنتَ ومالُكَ لأبيك". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أولادكم من كسبكم، فكلوا من أموالكم". فإذا اشترط لنفسه شيئًا من الصّداق كان قد أخذ من مال ابنته وله ذلك.
المسألة التّاسعة: إذا كان لإنسانٍ طعام في ذمّة رجلٍ وليس هو سلمًا، وذلك بأن يكون قرضًا أو أجرة أرضٍ أو عمارة نخلٍ وأراد صاحبه أن يأخذ عنه جنسًا آخر من الطّعام، فهذا لا بأس به إذا لم يتفرّقا وبينهما شيئ، فإن اتّفاقا على المعاوضة وتفرقا قبل التّقابض لم يثبت إلّا للأوّل، ومتى تقابضا جازت المعاوضة ويجوز ذلك في بيع الأعيان، لقول صلى الله عليه وسلم:"فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم يدًا بيدٍ". وكما ورد في السّنة بمثل ذلك في قبض الدّارهم عن الدّنانير والدّنانير عن الدّراهم في حديث ابن عمر.
العاشرة: العاصب للميّت مَن كان أقرب من غيره بعد العاصب أو قرب، فمتى ثبتت النّسبة بأنّ هذا ابن عمّ الميّت ولا يعرف أحد أقرب منه فهو العاصب وإن بَعُدَ عن الميّت، فإن عرف أنّ هذا الميّت من هذه القبيلة ولم يعرف له عاصب معيّن وأشكل الأمر دفع إلى أكبَرهم سنًا، فإن كان للميّت وارث ذو فرضٍ أخذ فرضه، وإن لم يوجد عاصب فالرّدّ إلى ذوي الفرض أولى من دفعه إلى بيت المال، ويردّ على ذوي الفرض على حسب ميراثهم إلّا الزّوج والزّوجة فلا يردّ عليهما.
الحادية عشرة: إذا زنت المرأة البكر وجلدت فهل تغرّب أم لا؟
فالمسألة فيها خلاف بين العلماء، والمشهور أنّها تغرّب كما هو ظاهر الحديث، أعنِي قوله صلى الله عليه وسلم:"البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام".
- 7 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه وسرّ الخاطر، وإن سألت عن حال أخيك فالحمد لله الذي بنعمته تَتِمُّ الصّالحات، نسأل الله أن يُتِمَّ علينا وعليك نعمته في الدّنيا والآخرة. وكلّ مَن تسأل عنه طيّب، وسعود وآل الشّيخ وعيالهم وعيالنا الجميع في عافيةٍ ونعمةٍ. وما ذكرت من التّحوّل إلى رنيه فأرجو أن يكون سفرًا مباركًا، نسأل الله أن ينْزلنا وإيّاكم منْزلًا مباركًا، وهو خير الْمُنْزلين. ولا تنس الدّعاء بما أوصى الله به نبيّه صلى الله عليه وسلم:{رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} ، [الإسراء، من الآية: 80].
وأمّا المسائل التي سألت عنها:
الأولى: إذا استأجر إنسان من آخر ناضحًا يسقي عليه شجره أو زرعه، وشرط عليه إن مات النّاضح أو عجف فالأجرة تامّة، وإن لم يسق عليه إلّا يومًا واحدًا ورضي كلّ منهما بذلك هل يحكم بفسادها أم لا؟
فالذي يظهر لي صحّة ذلك العقد إذا كانت الأجرة معلومة والمدّة معلومة. وأمّا الشّرط فهو فاسد، فإن مات النّاضح أو عجف لزم المستأجر قسط ما مضى من المدّة وانفسخ فيما بقي إن لم يتراضيا على إتمام العمل على ناضحٍ آخر.
وأمّا قولك: هل إجارة إنسان نفسه أو دابّته بجزءٍ مشاعٍ من الثّمرة قبل ظهورها أو قبل بدو صلاحها صحيح أم لا؟
فاعلم أنّ الثّمرة لا يصحّ بيعها قبل بدوّ صلاحها ولا تُجْعَل أجرة للعمل؛ لأنّ جعلها أجرة
بيع لها، وأمّا إن ساقاه على الثّمرة بجزء منها فذلك صحيح قبل ظهورها وبعده.
وأمّا قولك: إذا فرّق نائب الإمام جماعته النّائبة وكان بعضهم غائبًا وأخذ الأمير من رجلٍ دراهم وجعلها سلمًا في ثمر ذمّة الغائب، ما الحكم إذا ترافعا؟
فالذي يظهر لي أنّ هذا السّلم لا يلزم الغائب؛ لأنّ الغائب معذور وطريق الحيلة أن يقترض عليه أو يقرضه الأمير بنفسه، فإذا قدم طالبه بما لزمه من النّائبة.
وأمّا قياسكم على صاحب الدَّين إذا امتنع من وفاء دَينه وباع الحاكم لوفاء دينه فقياس غير صحيحٍ، وذلك أنّ الحاكم له تسلّط على بيع مال الممتنع من وفاء دَينه إذ لا طريق للوفاء إلّا بذلك، وأمّا هذا الغائب فلم يمتنع، بل لو كان الذي عليه الدَّين غائبًا لم يكن للحاكم بيع ماله.
وأمّا قولك: مَن ينظر في جراح النّساء فالذي ينظر في جراح النّساء من يوثق به من أهل الخبرة والمعرفة.
وأمّا قولك: هل شهادة النّساء في استهلال الجنين من جهة الإرث إذا كن اثنتين فأكثر مقبولة أم لا؟
فالمشهور أنّه يقبل في ذلك قول امرأةٍ واحدةٍ إذا كانت عدلة مرضية؛ لأنّ ما لا يطلع عليه يقبل قولهن فيه، وقد نصّ الفقهاء على قبول قول المرأة وحدها في ذلك وفي المسألة خلاف.
وأمّا قولك: هل الغرة في الجنين واجبة على كلّ حال خلق أم لا؟
فالمشهور أنّ الغرّة تجب إذا وضعت المرأة ما تنقضي بها عدّتها وتصير به الأمة أم ولدٍ، وذلك إذا تبيّن فيه خلق الآدمي.
وأمّا قولك: إذا عاب من الإنسان يده أو رجله بجناية الغير وبقي العضو مع عيبه هل الدّية تامّة؟
فهذا فيه تفصيل، وذلك أنّه ينظر إلى العضو،
فإن ذهب نفعه بالكلّيّة بحيث تعطّل نفعه فديته تامّة، وأمّا إذا كان في العضو نفع فليس فيه من الدّية إلّا بقدر الذّاهب من النّفع.
وأمّا قولك: هل المعتبر فيما تحمله العاقلة؛ لأنّها لا تحمل ما دون الثّلث فما فوقه بالجاني أو المجني عليه؟
فاعلم أنّ المشهور أنّ العاقلة لا تحمل ما دون الثّلث، ولا تحمل ما فوق الثّلث إلّا في الخطأ خاصّة. وأمّا في العمد فتلزم الجاني في ماله حالة. وإذا حملت العاقلة ردًّا لم تحمل، فالاعتبار في ذلك بحال المجني عليه إذا كان حرًّا مسلمًا ولم يكن جنينًا، وأمّا دية الجنين فلا تحمله العاقلة لنقصه عن الثّلث إلّا إذا كان تبعًا لأمّه. وأنت سالم. والسّلام.
- 8 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان حفظه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
الخط وصل أوصك الله إلى رضوانه، وكذلك السّؤال وصورته.
ما قول العلماء فيمَن دفع دابّة إلى آخر يسقي زرعًا بجزء من الثّمرة سواء كان الدّفع قبل وجود الزّرع أو بعد ما اخضرّ الزّرع، وسواء كانت مدّة السّقي معلومة أو مجهولة، مثل أن تهزل أو تعجف هل هذا جائز يشبه دفع الدّابّة إلى مَن يعمل عليها مغلها أم هذا ليس بصحيحٍ لعدم معرفة الأجرة والجهل بالمدّة إذا لم توقت؟
فنقول: هذه المسألة لم أقف عليها منصوصة في كلام العلماء ولكنّهم نصّوا على ما يؤخذ منه حكم هذه المسألة.
فمِن ذلك أنّهم ذكروا أنّ من شرط صحّة الإجارة معرفة قدر
الأجرة ومعرفة قدر المدّة. قال في المغنِي: يشترط في عوض الإجارة كونه معلومًا، لا نعلم في ذلك خلافًا. انتهى.
ولكن هذه المسألة هل تلحق بمسائل الإجارة وتعطى أحكامها أم تلحق بمسائل الشّركة وتعطى أحكامها مثل المساقاة والمزارعة والمضاربة وغير ذلك من مسائل المشاركات، فإن قلنا إنّها بمسائل الإجارة أشبه، فالإجارة لا تصحّ إلّا بأجرة معلومة على مدّة معلومة.
ولهذا اختلف العلماء في جواز إجارة الأرض ببعض ما يخرج منها كثلث أو ربع فمنعه أبو حنيفة والشّافعي وغيرهما وعلّلوه بأنّ العوض مجهول، فلا تصحّ الإجارة بعوضٍ مجهولٍ وأجازه الإمام أحمد فمن أصحابه مَن قال هو إجارة، ومنهم من قال بل هو مزارعة بلفظ الإجارة.
قال في الإنصاف: والصّحيح من المذهب أنّ هذه إجارة، وأنّ الإجارة تصحّ بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ مما يخرج من الأرض المؤجّرة وهو من مفردات المذهب. انتهى.
وقال في المغنِي: إجارة الأرض بجزءٍ مشاعٍ مما يخرج كنصف أو ثلث أو ربع المنصوص عن أحمد جوازه، وهو قول أكثر الأصحاب، واختار أبو الخطاب أنّها لا تصحّ. وهو قول أبي حنيفة والشّافعي، وهو الصّحيح إن شاء الله لما تقدّم من الأحاديث في النّهي من غير معارض لها، ولأنّها إجارة بعوضٍ مجهولًا فلم تصحّ كإجارة بثلث ما يخرج من أرض أخرى، ولأنّه لا نصّ في جوازها ولا يمكن قياسها على المنصوص، فإنّ النّصوص إنّما وردت بالنّهي عن إجارتها بذلك ولا نعلم في تجويزها نصًّا، والمنصوص جواز إرجارتها بذهب أو فضّة أو شيء معلوم. فأمّا نصّ أحمد فيتعيّن حمله
على المزارعة بلفظ الإجارة. انتهى.
وقال في المغنِي أيضًا: قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرّجل يدفع البقرة إلى الرّجل على أن يعلفها ويحفظها وما ولدت من ولد بينهما؟
قال: أكره ذلك، وبه قال أيوب وأبو خيثمة، ولا أعلم فيه مخالفًا، وذلك لأنّ العوض معدوم مجهول ولا يدرى أيوجد أم لا والأصل عدمه. انتهى.
وأمّا إن ألحقنا هذه المسألة المسؤول عنها بمسائل الشّركة وقلنا هي بمسائل الشّركة أشبه جرى فيها من اختلاف العلماء ما جرى في نظائرها، وأنا أذكر بعض ما ذكره العلماء في هذا الباب.
قال في المغنِي: وإن دفع دابّته إلى آخر ليعمل عليها وما رزق الله بينهما نصفين أو أثلاثًا وكيفما شرطا صحّ. نصّ عليه في رواية الأثرم ومحمّد بن سعيد، ونقل عن الأوزاعي ما يدلّ على هذا. وكره ذلك الحسن والنّخعي. وقال الشّافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرّأي: لا يصحّ، والرّبح كلّه لربّ المال وللعامل أجرة مثله.
ولنا أنّها عين تنمي بالعمل عليها فصحّ العقد عليها ببعض نمائها كالدّراهم والدّنانير وكالشّجر في المساقاة والأرض في المزارعة.
وقد أشار أحمد رحمه الله إلى ما يدلّ على تشبيهه لمثل هذا بالمزارعة، فقال: لا بأس بالثّوب يدفع بالثّلث والرّبع لحديث جابر أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشّطر، وهذا يدلّ على أنّه صار في مثل هذا إلى الجواز لشبهه بالمساقاة والمزارعة لا إلى المضاربة ولا إلى الإجارة.
ونقل أبو داود عن أحمد فيمَن يعطي فرسه على النّصف من الغنيمة أرجو أن لا يكون به بأس، ونقل أحمد بن سعيد فيمَن دفع عبده لرجلٍ
ليكتسب عليه ويكون له ثلث ذلك أو ربعه فجائز. والوجه فيه ما ذكرناه في مسألة الدّابّة. وإن دفع ثوبه إلى خياط ليفصله قميصًا وله نصف ربحه بعمله جاز. نصّ عليه في رواية حرب. وإن دفع غزلًا إلى رجلٍ ينسجه ثوباًُ بثلث ثمنه أو ربعه جاز نصّ عليه، ولم يجز مالك وأبو حنيفة والشّافعي شيئًا من ذلك.
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: لا بأس بالثّوب يدفع بالثّلث والرّبع، وسُئِل عن الرّجل يعطي الثّوب بالثّلث ودرهم أو درهمين، قال: أكرهه؛ لأنّ هذا شيء لا يعرف. الثّلث إذا لم يكن معه شيء نراه جائزًا؛ لحديث جابر أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشّطر، قيل لأبي عبد الله: فإن كان النّساج لا يرضى حتّى يزاد على الثّلث درهمًا؟ قال: فليجعل له ثلثًا وعشرًا ثلثًا ونصر عشر وما أشبهه. انتهى ملخّصًا.
وقد نصّ أحمد أيضًا على جواز دفع الثّوب لِمَن يبيعه بثمنٍ يقدره له، ويقول ما زاد فهو لك، ولو دفع عبده أو دابّته إلى مَن يعمل بهما بجزء من الأجرة أو ثوبًا يخيطه أو غزلًا ينسجه بجزءٍ من ربحه أو بجزء منه جاز. نصّ عليه. وهو المذهب جزم به ناظم المفردات وهو منها.
وقال في الحاوي الصّغير: ومَن استأجر مَن يجذّ نخله أو يحصد زرعه بجزءٍ مشاعٍ منه جاز. نصّ عليه في رواية مهنا. وعنه: لا يجوز وللعامل أجرة مثله.
ونقل مهنا في الحصاد هو أحبّ من المقاطعة، وعنه له دفع دابّته أو نخله لِمَن يقوم به بجزءٍ من نمائه. اختاره الشّيخ تقي الدّين، والمذهب لا. لحصول نمائه بغير عمله. انتهى ملخّصًا.
وقال في المغنِي: وإن اشترك ثلاثة من أحدهم الأرض، ومن الآخر البذر، ومن الآخر البقر والعمل على أنّ ما زرق الله بينهم فعملوا، فهذا عقد
فاسد نصّ عليه أحمد في رواية أبي داود. ومهنا وأحمد بن القاسم، وبهذا قال مالك والشّافعي وأصحاب الرّأي، فعلى هذا يكون الزّرع لصاحب البذر؛ لأنّه نماء ماله ولصاحبيه عليه أجرة مثلهما. انتهى.
وقال في موضع آخر: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم دّابة ومن الآخر راوية، ومن الآخر العمل على أنّ ما رزق الله تعالى بينهم صحّ في قياس قول أحمد؛ فإنّه قد نصّ في الدّابة يدفعها إلى آخر يعمل عليها على أنّ لهما الأجرة على الصّحّة وهذا مثله. وهكذا لو اشترك أربعة من أحدهم دكان ومن الآخر رحى، ومن آخر بغل ومن آخر العمل على أن يطحنوا وما رزو الله تعالى فهو بينهم صحّ، وكان بينهم على ما شرطوه. وقال القاضي: العقد فاسد في المسألتين جميعًا، وهو ظاهر قول الشّافعي. انتهى.
ومَن تأمّل ما نقلناه تبيّن له حكم مسألة السّؤال. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 9 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر حفظه الله تعالى آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط وصلك الله إلى رضوانه، وكلّ مَن تسأل عنه طيّبون، آل الشّيخ وسعود وإخوانه وأولاده، الجميع فيما تحبّ ولله الحمد. وإنّ سألت عن حالي فالحمد لله الي بنعمته تَتِمُّ الصّالحات. وما ذكرت من جهة العذر عن الزّيارة فعذرك واضح ولا عليك شرهة في الزّيارة والحالة هذه، وما ذكرت من جهة المشاورة في التّحوّل بأهلك جهة رنية فالذي أرى لك استخارة الله سبحانه. فإن وجدت نفسك مهتوية
فتوكّل على الله والوادي فيه ما يكفيك. وهذا رجب تبغي تصدر قالته إن شاء الله، ولا أكره لك نفع النّاس وبثّ العلم الذي تفهم لا كان في أصل الدِّين ولا في فروعه، واحرص على تعليم النّاس ما أوجب الله عليهم وكثرة القراءة في نسخ الأصول خصوصًا مختصرات الشّيخ رحمه الله، وكذلك السّير وحط البال على تعليم العامّة أصل دين الإسلام ومعرفة أدلّته ولا تكتف بالتعليم أنشدهم واجعل لهم وقتًا تسألهم فيه عن أصل دِينهم، ولا تغفل عن استحضار النّيّة فإن الأعمال بالنّيّات، وإنّكما لكلّ امرئ ما نوى، والله تعالى لا يقبل من العمل إلّا ما كان خالصًا صوابًا، فالصّواب ما وافق شرع الرّسول صلى الله عليه وسلم، والخالص ما أريد به وجه الله تعالى.
قال تعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} ، [الزّمر، من الآيتين: 2 - 3]. واحذر القول على الله بلا علمٍ، فإنّ الله تعالى لما ذكر المحرّمات العظام ختمها بقوله تعالى:{وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ، [الأعراف، من الآية: 33]. فجعل القول منه فلا علمٍ قرينًا للشّرك في الآية الكريمة، والله تعالى لا يكلّف نفسًا إلّا وسعها، ولكن العبد هو الذي يكلّف نفسه ويحملها ما لا تطيق ويعرضها لسخط الله ومقته.
ومن أعظم التّكلّف أن يتلكّم الإنسان بما لا يعلم، والواجب على الإنسان أن يتلكّم في دِين الله بما يعلم فإن لم يكن عنده علم فليقل: الله ورسوله أعلم، ولا تستح من قول: لا أدري، فقد قيل: إذا ترك العالم قول: لا أدري أصيبت مقاتله.
فإذا وقع عليك قضية من القضايا فإن كان عندك علم فتكلّم به وإلّا فإن أمكن فيها الإصلاحح فأصلح فيها فإنّ الصّلح جائز بين المسلمين إلّا
صلحًا أحل حرامًا أو حرّم حلالًا، فإن لم يمكن الصّلح أو لم يرض به الخصمان فاصرفهما عنك ولا تعاظم ذلك ولا تستح منه، فإنّ الأمر عظيم ولا بدّ من يوم تعاد فيه الخصومات بين يدي ربّ العالمين. قال الله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} ، [الزّمر: 30 - 31].
وأمّا المسائل التي سألت عنها:
فالأولى: شهادة المرأة الواحدة في الرّضاع عند مَن يقول به هل تصدق، ولو ادّعت أمّ الطفل كذبها؟ فالأمر كذلك تصدق والقول قولها.
وأمّا قولك: وهل تعتبر العدالة في المرضعة إذا ادّعت الرّضاع؟
فالأمر كذلك بل لا بدّ من العدالة في الشّهادة في الرّضاع وغيره، والمراد العدالة ظاهرًا، وأمّا الرّضاع فنصّوا على العدالة في المرأة إذا ادّعت ذلك. قال ابن عبّاس: يقبل قولها إذا كانت مرضية وتستحلف فإذا حلفت فارق الزّوج المرأة. وقال الشّيخ تقيّ الدّين: يقبل قول المرأة في الرّضاع إذا كان معروفة بالصّدق، لحديث عقبة المخرج في الصّحيحين.
وأمّا قولك: إذا ماتت المرأة وشهدت على إقرارها بالرّضاع امرأة أو امرأتان فالظّاهر أنّ ذلك لا يعمل به؛ لأنّ الشّهادة على الشّهادة لها تسعة شروط: أحدها: أن تكون في غير حقّ الله. ومنها: أن يستدعي شاهد الأصل شاهد الفرع فيقول: أشهد على شهادتي. وأيضًا فإنّ الشّهادة على الرّضاع لا تقبل إلّا مفسّرة لاحتمال أن يكون الشّاهد يرى في الرّضاع خلاف الصّواب، فلا بدّ من تفسير الرّضاع بخمس رضعات في الحولين.
المسألة الثّانية: إذا كان بين شريكين نخل أو زرع وأراد أحدهما تركه للآخر وعوضه كيلًا معلومًا أو جزءًا مشاعًا من الثّمر، فهذا مساقاة
لا مشاركة، ولا بأس بها. فإن كان بجزءٍ مشاعٍ فهو مساقاة، وإن كان بكيلٍ معلومٍ فهو إجارة وفيها خلاف والمفتى به عندنا جوازها.
المسألة الثّالثة: إذا كان شريكان في نخلٍ أو زرعٍ وبدا صلاح الثّمرة واشترى أحدهما نصيب الآخر بكيلٍ يشترطه من الثّمر بعينها والبائع عليه مؤونة الكد حتّى يتم العمل، فهذه مسألة مشكلة من حيث إنّ كلام الفقهاء فيها يخالف ظاهر السّنة. قال ابن عبد البرّ: الخرص في المساقاة لا يجوز عند جميع العلماء، وعلّله وجعل أخذ الثّمرة بكيلٍ معلومٍ من المزابنة المنهي عنها، ولكن ظاهر السّنة جواز هذا، فإنّه قد ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر، فإذا خرصها خيّرهم. وقال:"إن شئتم فخذوها بخرصها، وإن شئتم فهي لنا". وقد روي أنّه خرص عليهم أربعين ألف وسق فأخذوا الثّمن وضمنوا للمسلمين عشرين. قال ابن القيم على فوائد قصة خيبر، وفيها: جواز قسمة الثّمار خرصًا، وأنّ القسمة ليست بيعًا. انتهى بمعناه.
وأمّا الأمر الذي لا يجوز وهو واقع كثيرًا وينبغي التّفطّن له والتّنبيه عليه إذا كان لرجلٍ طعام في ذمّة صاحب النّخل قد أسلمه في ذمّته وحضرت الثّمرة وأخذ المسلم من المسلم إليه نخلًا بخرصه، فهذا لا يجوز ولا يحلّ لِمَن أخذه أن يبيعه حتّى يكتاله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَن ابتاع طعامًا فلا يبعه حتّى يكتاله". حديث صحيح. ونصّ الفقهاء على أنّه لا يجوز لِمَن قبض الطّعام جزافًا أن يبيعه حتّى يكيله.
- 10 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان بن ناصر)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه وتسأل فيه عن مسائل*:
الأولى: المطلقة البائن إذا مات زوجها الذي أبانها وهي في العدّة.
فهذه إن كان زوجها أبانها في الصّحّة؛ فإنّها تبنِي على عدّة الطّلاق ولا تعتدّ للوفاة كما لو أبانها في المرض.
الثّانية: المتوفى عنها وهي حامل، هل هي في إحداد ولو تعدّت أربعة أشهر وعشرًا؟
فالأمر بذلك هي في إحداد حتّى تضع حملها.
الثّالثة: العبد المملوك إذا سرق من حرز من غير مال سيّده هل يجب عليه القطع؟
فالأمر كذلك. وأمّا سيّده فلا يقطع بسرقة ماله.
الرّابعة: فيمَن طلّق امرأته قبل أن يدخل بها ثلاث تطليقات، هل إذا بانت بالأولى هل تحلّ له بملاك** جديد أم تحرم عليه؟
فلا تحلّ له إلّا بعد الزّوج الثّاني بعد أن يجامعها، ولا تحلّ للأوّل قبل جماع الزّوج الثّاني، وأمّا إن كان طلّقها ثلاثًا واحدة بعد واحدةٍ فإنّها تبين بالأولى ولا يلحقها بقية الطّلاق؛ لأنّ غير المدخول بها لا عدّة عليها ولا يحلقها الطّلاق، فإذا بانت بالأولى حلّت لزوجها بعقدٍ ثانٍ، وإن لم تتزوّج غيره وتبقى معه على طلقتين.
الخامسة: فيمَن طلّق زوجته تطليقتين بعد المسيس ثم تزوّجت لها زوجًا ثانيًا وطلّقها قبل أن يمسّها هل ترجع إلى الأوّل؟
فالأمر كذلك، ولا تأثير لهذا الزّوج في حلّ العقد؛ لأنّها حلال لزوجها قبله، فإذا
* هذه المسائل تكررت بعد ذلك في 4/ 49. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
** هذه الكلمة مطموسة في الأصل، والتصويب من الرسالة المكررة. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
اعتدت حلّت لزوجها الأوّل بعقدٍ جديدٍ، فإن لم يكن خلا بها فلا عدة عليها ويعقد عليها الثّاني في الحال.
السّادسة: إذا وطئ الصّبي الصّبية هل يلزمهما غير التّعزير؟
فلا يلزمهما حدّ بل يعزران تعزيرًا بليغًا. قال الشّيخ تقيّ الدِّين: لا خلاف بين العلماء أنّ غير المكلّف يعزّر على الفاحشة تعزيرًا بليغًا.
السّابعة: فيمَن رمى صبية بالزّنا أو صبيًا.
فإن كان يمكن الوطء من مثله كبنت تسع وابن عشر فهذا يقام الحدّ على قاذفهما، وإن لم يبلغا بخلاف الصّغيرة الذي لا يجامع مثله والصّغيرة التي لا يجامع مثلها، فليس على قاذفهما إلّا التّعزير.
وأمّا الصّغير إذا قذف الكبير فليس عليه إلّا التّعزير.
الثّامنة: عبارة الشّرح في تفسير الشّرطين، وكذلك عبارة الإنصاف التي نقلت، فالذي عليه الفتوى أنّ الشّرطين الصّحيحين لا يؤثّران في العقد كما هو اختيار الشّيخ تقيّ الدِّين.
التّاسعة: الجراح المقدّرات مثل: الموضحة والمأمومة والجائفة إذا كانت في العبد فديتها في العبد نسبتها من ثمنه، فالموضحة من الحرّ ديتها نصف عشر الدّية، ومن العبد نصف عشر قيمته، والجائفة في الحرّ فيها ثلث الدّية، ومن العبد ثلث قيمته.
وأمّا الجراحات التي لا مقدّر فيها من الحرّ فديتها من العبد ما نقص قيمته بعد البرء.
العاشرة: دية المملوك هل هي على النّصف من الحر؟
فليس الأمر كذلك، بل دية المملوك قيمته سواء كثرت أو قلّت، وإذا قتل الحرّ العبد لم يقد به لقوله تعالى:{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} ، [البقرة، من الآية: 178].
الحادية عشرة: الإقرار بالزّنا هل يكفي فيه مرّة أو أربع؟
فالمسألة
خلافية بين أهل العلم، والأحوط أنّه لا بدّ من الإقرار أربع مرات كما هو مذهب الإمام أحمد، ولا بدّ أن يقيم على إقراره حتّى يتّم الحدّ. فإن رجع عن إقراره لم يقم عليه الحدّ. وكذا لو شرعوا في إقامة الحدّ عليه فرجع لحديث ماعز. والله أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم
- 11 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان سلّمه الله تعالى)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
وصل الخط أوصلك الله إلى رضوانه. تسأل عمَّن اعتقل لسانه عن بعض الكلام دون بعض وهو مريض، وقيل له: أوص لأخيك فلان بالنّفقة وكررت عليه مرارًا وسكت سكتة، ثم قال: فلان يسمّيه باسمه ويشير برأسه إشارة ولم يتكلّم بالنّفقة ما حكم هذه الوصية؟
فالجواب: أنّ العلماء اختلفوا في وصية مَن اعتقل لسانه في الشّرح لما ذكر صحّة وصية الأخرس: فأمّا النّاطق إذا اعتقل لسانه فعرضت عليه وصيته فأشار بها وفهمت إشارته فلا تصحّ وصيته إذا لم يكن مأيوسًا من نطقه. ذكره القاضي وابن عقيل. وبه قال الثّوري والأوزاعي وأبو حنيفة. ويحتمل أن تصحّ، وهو قول الشّافعي وابن المنذر. وقال في الإنصاف: لا تصح وصية مَن اعتقل لسانه. وهو المذهب، وعنه التّوقف. ويحتمل أن تصحّ إذا اتّصل بالموت، وفهمت إشارته. اختاره في الفائق.
قلت: وهو الصّواب. قال الحارثي: وهو الأولى. واستدلّ له بحديث رضّ اليهودي رأس الجارية وإيمائها. انتهى. وهذا الاختلاف فيما إاذ اعتقل لسانه واتّصل به الموت. وهذا المسؤول عنه قد تكلّم باسم الرّجل فالظّاهر
من حاله أنّه يقدر على التّلفّظ بالوصيّة ولم يلفظ بها فلا يدخل تحت الصّورة المختلف فيها. والأقرب عندي عدم الصّحّة. والله أعلم.
المسألة الثّانية: إذا احتاج العامل إلى جعل حظيرة على زرعه تمنع الرّياح عن مضرّة الزّرع ومنعه المالك بأنّ الحظيرة تجمع التّراب.
فالأقرب في مثل هذا أنّ العامل لا يمنع عن فعل ذلك؛ لأنّ فيه منفعة مقصودة، ولكن يلزمه إزالة الحظيرة وقلع ما جتمع فيها من التّراب الذي ألقته الرّيح. فتحصل المصلحة للعامل من غير ضرر على المالك.
وأمّا مسألة الميراث فقد علمت الذي عليه العمل في أصل المسألة.
وأمّا هذه الصّورة بعينها فلا أعلم الحكم فيها.
- 12 -
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن جواب مسائل سُئِلَ عنها حمد بن ناصر بن معمر رحمه الله:
قال بعد كلامٍ سبق:
المسألة السّابعة: وهي قولك: أنّا نقول: إنّ الإنسان إذا لم يحصل له الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أنّه يهاجر.
فنقول في هذه المسألة كما قال العلماء -رحمهم الله تعالى-: تجب الهجرة على مَن عجز عن إظهار دِينه بدار الحرب، فإن قدر على إظهار دِينه فهجرته مستحبّة لا واجبة. وقال بعضهم: بوجوبها؛ لما في الحديث عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "أنا برئ من مسلمٍ بين ظهراني المشركين". فإن لم تكن البلد بلد حرب ولم يظهر الكفر فيها لم نوجب الهجرة إذا لم يكن فيها إلّا المعاصي. وعلى هذا يحمل الحديث الوارد عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده" الحديث. انتهى جواب الشّيخ رحمه الله تعالى.
- 13 -
بسم الله الرحمن الرحيم
(من حمد بن ناصر إلى الأخ جمعان جعله الله من أهل العلم والإيمان)
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
الخط وصلك أوصلك الله إلى رضوانه، وكذلك المسائل التي تسأل عنها:
الأولى: إذا سرقت الدّابّة ونحرت إلى آخر المسألة.
فالجواب: أنّ الدّابة إن سرقت من حرز مثلها كالبعير المعقول الذي عنده حافظ أو لم يكن معقولًا، وكان الحافظ ناظرًا إليه أو مستيقظًا بحيث يراه ونحو ذلك مما ذكره الفقهاء في معرفة حرز المواشي، فهذه إذا سرقت من الْحِرز فعلى السّارق القطع بشروطه، فإن لم تكن في حرز فلا قطع على السّارق، وعليه مثلًا قيمة مثلها. وهو مذهب الإمام أحمد. واحتجّ بأنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين انحر غلمانه ناقة رجلٍ من مزينة مثلي قيمتها.
وأمّا مَن سرق من الثّمرة، فإن ان بعد ما أواها الجرين فعليه القطع، فإن كان قبل ذلك بأن سرق من الثّمر المعلّق فلا قطع، وعليه غرامة مثليه في مذهب الإمام أحمد. وقال أكثر الفقهاء: لا يجب فيه أكثر من مثله. وبالغ أبو عمر بن عبد البرّ فقال: لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه. والصّحيح ما ذهب إليه الإمام أحمد لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الثّمر المعلّق فقال: "مَن أصاب منه من ذي حاجة غير متّخذٍ خبنة فلا شيء عليه، ومَن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومَن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". حديث حسن. قال الإمام أحمد: لا أعلم
شيئًا يدفعه.
وأمّا ما عدا هذه أعنِي: الثّمرة والماشية فالمشهور من مذهب الإمام أحمد لا يغرم أكثر من القيمة إن كان متقوّمًا أو مثله إن كان مثليًا؛ لأنّ الأصل وجوب غرامة المثل فقط بدليل المتلف والمغصوب والنّهب والاختلاس وسائر ما تجب غرامته، فخولف الأصل في هذين الموضعين للأثر، ويبقى ما عداهما على الأصل. واختار الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله وجوب غرامة المثلين في كلّ سرقةٍ لا قطع فيها.
وأمّا قول السّائل -وفّقه الله-: وإذا اختلفا في القيمة ولا بيّنة لهما مَنِ القول قوله؟
فالظّاهر من كلامهم أنّ القول قول الغارم.
وأمّا قوله: وإذا سرقها ثم باعها على مَن لا يعرف فما الحكم؟
فنقول: فيها كما تقدم، وهو غرامة المثلين على ما ذكرنا من تغريم عمر حاطبًا، وعلى ما دلّ عليه حديث عمرو بن شعيب، فإنّ فيه أنّ السّائل قال: الشّاة الحريسة يا نَبِيّ الله؟ قال: "ثمنها ومثله معه". ولا فرق بين بيع الشّاة وبين ذبحها ونحر النّاقة وبيعها.
المسألة الثّانية: إذا دبر الرّجل جاريته كقوله: أنت عتيق بعد موتي، أو إذا مت فأنت حرّة، هل بين هذه الألفاظ فرق؟
فالجواب: أنّه لا فرق بين هذه الألفاظ، بل متى علّق صريح العتق بالموت فقال: أنت حرّة، أو محرّرة، أو عتيق بعد موتي صارت مدبرة بغير خلاف علمته.
وأمّا قوله: وإذا دبرها وهي حامل أو حملت بعد التّدبير فما الحكم في ولدها؟
فنقول: أمّا إذا دبّرها وهي حامل فإنّ ولدها يدخل معها في التّدبير بغير خلاف علمناه؛ لأنّه بمنْزلة عضو من أعضائها.
وأمّا إذا حملت به بعد التّدبير ففيه خلاف بين العلماء. فذهب الجمهور إلى أنّه يتبع أمّه في التّدبير ويكون حكمه حكمها في العتق بموت سيّدها. وهو مروي عن ابن مسعود
وابن عمر، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم ومجاهد والشّعبي والنّخعي وعمر بن عبد العزيز والزهّري ومالك والثّوري وأصحاب الرّأي.
وذكر القاضي أنّ حنبلًا نقل عن أحمد أنّ ولد المدبرة عبد إذا لم يشترط المولي. قال: فظاهره أنّه لا يتبعها ولا يعتق بموت سيّدها. وهذا قول جابر بن زيد. وهو اختيار المزنِي من أصحاب الشّافعي. قال جابر بن زيد: إنّما هو بمنْزلة الحائط تصدّقت به إذا مت، فإنّ ثمرته لك ما عشت وللشّافعي قولان كالمذهبين.
المسالة الثّالثة: إذا تصرّف الفضولي وأنكر صاحب المال فلم يجز التّصرّف فما الحكم في نماء المبيع؟
فنقول: اختلف الفقهاء في تصرّف الفضولي إذا أجازه المالك، هل هو صحيح أم لا؟ والخلاف مشهور.
وأمّا إذا لم يجز المالك فلم ينعقد بيع أصلًا ولا تدخل هذه المسألة في الخلاف بل الملك باقٍ على ملك صاحبه، ولا ينتقل بصرّف الفضولي ونماؤه لمالكه.
وأمّا قوله: وإذا قال الفضولي للمشتري: أنا ضامن ما الحكم في الغرامة؟ هل يلزمه غرامة النّماء؟
فنقول: إن كان المشتري جاهلًا أنّ هذا مال الغير أو كان عالمًا لكن جهل الحكم وغرّه الفضولي فما لزم المشتري من الغرامة من هذا النّماء الذي تلف تحت المعهود يكون على الضّامن الغارّ.
المسألة الرّابعة: وهي قوله: على القول بإثبات الشّفعة بالشّركة في البئر والطّريق، هل إذا باع إنسان عقاره وقد وقعت الحدود إلّا أنّ الشّركة باقية في البئر والطّريق ومسيل الماء هل يأخذ الشّفيع المبيع كلّه لأجل الشّركة في هذه الأمور أم لا شفعة له في البئر والطّريق ومسيل الماء؟
فنقول: على القول بإثبات الشّفعة بالشّركة في البئر والطّريق يأخذ الشّفيع المبيع كلّه بالشّركة في البئر والطّريق ولا يختصّ ذلك بالبئر نفسها ولا بالطّريق وحده، وقد نصّ على ذلك أحمد في رواية أبي طالب، فإنّه سأله عن الشّفعة لِمَن هي؟ فقال: للجار إذا كان الطّريق واحدًا، فإذا صرفت الطّرق وعرفت الحدود فلا شفعة، ويدلّ على ذلك ما رواه أهل السّنن الأربعة من حديث جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحقّ بشفعة جاره وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا".
وفي حديث جابر المتّفق عليه: "الشّفعة في كلّ ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرف الطّرق فلا شفعة". فمفهوم الحديث الأخير موافق لمنطوق الأوّل، بإثبات الشّفعة إذا لم تصرف الطّرق. والشّركة في البئر تقاس على الشّركة في الطّريق؛ لأنّ الشّفعة إنّما شرعت لإزالة الضّرر عن الشّريك ومع بقاء الشّركة في البئر والطّريق يبقى الضّرر بحاله. وهذا اختيار الشّيخ تقيّ الدِّين رحمه الله، وهو الذي عليه الفتوى.
وأمّا الشّفعة فيما لا ينقل وليس بعقارٍ كالشّجر إذا بيع مفردًا ونحو ذلك، فاختلف العلماء في ذلك، فالمشهور في المذهب أنّها لا تثبت فيه الشّفعة. وهو قول الشّافعي وأصحاب الرّأي. وعن أحمد رواية أخرى أنّ الشّفعة تثبت في البناء والغراس وإن بيع مفردًا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"الشّفعة فيما لم يقسم"، ولأنّ الشفعة تثبت لدفع الضّرر والضّرر فيما لا ينقسم أبلغ منه فيما ينقسم. وقد روى التّرمذي من حديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشّفيع شريك والشّفعة في كلّ شيءٍ". وقد روي مرسلًا. ورواه الطّحاوي من حديث جابر مرفوعًا
ولفظه: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشّفعة في كلّ شيء.
وأمّا مسألة الضّيافة على القول بوجوبها، فالضّيف على مَن نزل به، وأمّا الغائب ومَن لم ينْزل به الضّيف فلا يجب عليه معرفة المنْزول به إلّا أن يختار المعين.
وأمّا مسألة المريض الذي أبرأ غرماءه مما عليهم من الدَّين فلما برئ من المرض أراد الرّجوع فيما زاد على الثّلث.
فهذا لا رجوع فيه، بل يسقط الدَّين بمجرّد إسقاطه، وإنّما التّفصيل فيما إذا برأ من الدَّين ومات في ذلك المرض.
وأمّا الذي أبرأ غريمه على شرطٍ مجهولٍ بأن شرط عليه ذلولًا تمشي في الجهاد دائمًا، ومتى ماتت اشترى أخرى أو شرط عليه أضحية كلّ سنة على الدّوام.
فهذا لا يصحّ البراءة والحالة هذه لا تصحّ. والله أعلم.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
- 14 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من حمد بن ناصر إلى الأخ سعيد أسعده الله بطاعته وجعله من أهل ولايته.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد؛
الخط وصل وصلك الله إلى رضوانه، وسرّ الخاطر حيث أفاد العلم بطيبكم وصحّة حالمك، أحال الله عنّا وعنك جميع ما نكره.
وأمّا المسألة المسؤول عنها هل الدَّين يمنع الزّكاة في الأموال الباطنة أم لا؟
فالمسألة فيها ثلاث روايات عن أحمد ليس كما ذكر صاحب الشّرح؛
حيث ذكر أنّ الدَّين يمنع وجوب الزّكاة رواية واحدة. والرّوايات الثّلاث حكاها في الفروع والإنصاف:
الأولى: وهي المذهب الدَّين يمنع وجوب الزّكاة.
والثّانية: أنّه لا يمنع مطلقًا كما هو مذهب الشّافعي.
الثّالثة: الفرق بين الحال وغيره، فالحال يمنع وجوب الزّكاة بخلاف المؤجّل، واختار هذه الرّواية بعض الأصحاب، وهي ظاهر حديث عثمان؛ لأنّه قال: هذا شهر زكاتكم فمَن كان عليه دَين فليقضه ثم ليزك ما بقي، وهذه الرّواية هي التي عليها ظاهر الفتوى.
المسألة الثّانية: وهي أنّ النّاس قبل الإسلام منهم مَن لا يورث المرأة، ومنهم مَن يصالحها ويسلمون وبينهم عقار ونحوه، ومن الإرث شيء باعه الرّجال ولم يعطوا النّساء منه شيئًا قبل الإسلام الخ.
فالذي عليه الفتوى في هذه المسائل أعنِي: عقود الجاهلية من نكاحٍ وبياعاتٍ وعقود الرّبا والغصوب ومنع المواريث أهلها ونحو ذلك، أنّ مَن أسلم على شيءٍ من ذلك لم نتعرّض له فلا نتعرّض لكيفية عقد النّكاح هل وقع بشروطه كالولي والشّهود ونحو ذلك، وكذلك البيّاعات لا تنقض إذا أسلم المتعاقدان ولا ننظر كيف وقع العقد، وكذلك عقود الرّبا إذا أسلما ولم يتقابضا، بل أدركهما الإسلام قبل التّقابض فليس لصاحب الدَّين إلّا رأس ماله؛ لقوله تعالى:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ، [البقرة، من الآية: 279].
وأمّا المال المقبوض فلا يطالب به القابض إذا أسلم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} ، [البقرة، من الآية: 275].
وكذلك المواريث والغصوب، فإذا استولى الإنسان على حقّ غيره وتملكّه في جاهليته ومنع مالكه بحيث
أيس منه ثم أسلم وهو في يده لا ينازع فيه، فهذا لا نتعرّض له لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:"الإسلام يجب ما قبله". ولأنّ النّاس أسلموا في عهد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرّاشدين ولم يبلغنا أنّهم نظروا في أنكحة الجاهلية ولا في عقودهم ومعاملاتهم ولا في غصوبهم ومظالمهم التي تملكّوها في حال كفرهم.
قال ابن جريح: قلت لعطاء: أبلغك أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أقرّ الجاهلية على ما كانوا عليه؟ قال: لم يبلغنا إلّا ذلك، وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: مَن أسلم على شيء فهو عليه.
وقال الشّيخ تقيّ الدِّين*: ولو تزوّج المرتدّ كافرة مرتدّة كانت أو غيرها ثم أسلما فالذي ينبغي أن يقال هنا أنّ نقرّهم على مناكحهم كالحربي إذا نكح نكاحًا فاسدًا ثم أسلما فإنّ المعنى واحد، وهو جيد في القياس إذا قلنا إنّ المرتدّ لا يؤمر بقضاء ما تركه في الرّدّة من العبادات. فأمّا إذا قلنا: إنّه يؤمر بقضاء ما تركه من العبادات ويضمن ويعاقب على ما فعله ففيه نظر. ومما يدخل في هذا كلّ عقود المرتدّين إذا أسلموا قبل التّقابض أو بعده، وهذا باب واسع يدخل فيه جميع أحكام أهل الشّرك في النّكاح وتوابعه، والأموال وتوابعها، أو استولّوا على مال مسلمٍ أو تقاسموا ميراثًا ثم أسلموا بعد ذلك، والدّماء وتوابعها كذلك. انتهى كلام الشّيخ رحمه الله.
وقال رحمه الله في موضع آخر**: ولو تقاسموا ميراثًا جهالًا فهذا شبيه بقسم ميراث المفقود إذا ظهر حيا لا يضمنون ما أتلفوا؛ لأنّهم معذورون. وأمّا الباقي فيفرّق بين المسلم والكافر؛ فإنّ الكافر لا يردّ باقيًا ولا يضمن تالفًا. انتهى.
وأمّا قولك: وأيضًا ذكر الفقهاء أنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث فكفّار أهل زماننا هل هم مرتدّون أم حكمهم حكم عبدة الأوثان؛ لأنّهم
* انظر "الاختيارات الفقهية" للبعلي ص 539. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
** انظر "الاختيارات الفقهية" للبعلي ص 545. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
مشركون؟ فنقول: أمّا مَن دخل منهم في الإسلام ثم ارتد عنه فهؤلاء مرتدّون وأمرهم عندك واضح. وأمّا مَن لم يدخل في دِين الإسلام بل أدركته الدّعوة الإسلامية وهو على كفره كعبدة الأوثان اليوم، فهذا حكمه حكم الكافر الأصلي؛ لأنّا لا نقول إنّ الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول الذين نشأوا بين الكفّار وأدركوا آباءهم على الشّرك بالله هم كآبائهم كما دلّ عليه الحديث الصّحيح:"فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه". فإذا كان دِين آبائهم الشّرك بالله فنشأ هؤلاء عليه واستمرّوا عليه فلا نقول الأصل الإسلام والكفر طارئ، بل نقول: هم كالكفّار الأصليّين، ولا يلزم هنا على هذا تكفير مَن مات في الجاهلية قبل ظهور هذا الدِّين. فإنّا لا نكفِّر النّاس بالعموم كما أنّا لا نكفِّر اليوم بالعموم، بل نقول: مَن كان من أهل الجاهلية عاملًا بالإسلام تاركًا للشّرك فهو مسلم، وأمّا مَن كان يعبد الأوثان ومات على ذلك قبل ظهور هذا الدِّين فهو ظاهره الكفر، وإن كان يحتمل أنّه لم تقم عليه الحجّة الرّسالية لجهله وعدم مَن ينبّهه؛ لا أنّا نحكم على الظّاهر.
وأمّا الحكم على الباطن فذاك أمره إلى الله، والله تعالى لم يعذر أحدًا إلّا بعدم قيام الحجّة، كما قال تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} ، [الإسراء، من الآية: 15].
وأمّا مَن مات منهم مجهول الحال، فهذا لا نتعرّض له ولا نحكم بكفره ولا بإسلامه، وليس ذلك مما كلفنا به {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، [البقرة: 134]. فمَن كان منهم مسلمًا أدخله الله الجنّة، ومَن كان كافرًا أدخله الله النّار، ومَن كان لم تبلغه الدّعوة فأمره إلى الله، وقد علمت اختلاف العلماء في أهل الفترة، ومَن لم تبلغه الحجّة الرّسالية، وأيضًا فإنّه لا يمكن أن نحكم في كفار زماننا
بما حكم به الفقهاء في المرتدّين بأنّه لا يرث ولا يورث؛ لأنّ مَن قال بأنّه لا يرث ولا يورث يجعل ماله فيئًا لبيت مال المسلمين، وطرد هذا القول أن يقال: جميع أملاك الكفّار اليوم بيت مال؛ لأنّهم ورثوها عن أهاليهم وأهاليهم مرتدّون لا يورثون. وكذلك الورثة مرتدّون لا يرثون؛ لأنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث. وأمّا إذا حكمنا فيهم بحكم الكفّار الأصليّين لم يكن شيء من ذلك بل يتوارثون، فإذا أسلموا فمَن أسلم على شيء فهو له، ولا نتعرّض لما مضى منهم في جاهليتهم لا المواريث ولا غيرها.
وقد روى أبو داود عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قسم قُسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكلّ قسم أدركه الإسلام فهو على قسم الإسلام".
وروى سعيد في سننه من طريقين عن عروة وأبو مليكة عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أسلم على شيء فهو له". ونصّ أحمد على مثل ذلك كما تقدّم عنه في رواية مهنا.
واعلم بأنّ القول بأنّ المرتدّ لا يرث ولا يورث هو أحد الأقوال في المسألة، وهو مشهور في المذهب، وهو مذهب مالك والشّافعي.
والقول الثّاني: أنّه لورثته من المسلمين. وهو رواية عن أحمد، وهو مروي عن أبي بكر الصِّدِّيق وعليّ بن أبي طالب وابن مسعود، وهو قول جماعة من التّابعين، وهو قول الأوزاعي وأهل العراق.
والقول الثّالث: أنّ ماله لأهل دِينه الذي اختاره إن كان منهم مَن يرثه وإلّا فهو فيء. وهو رواية عن أحمد. وهو مذهب داود بن عليّ. والسّلام.
فائدة: قال في الإقناع وشرحه: وإذا ذبح السّارقُ المسلمُ أو الكتابيُ المسروقَ مسمّيًا حل لربّه ونحوه أكله ولم يكن ميتة كالمغصوب، ويقطع السّارق إن كان قيمة المذبوح نصابًا وإلّا فلا -إلى أن قال-:
ومَن سرق من ثمرٍ أو شجرٍ أو من جمار نخل وهو الكُثر -بضُمّ الكاف وفتح المثلثة- قبل إدخاله الحرز كأخذه من رؤوس النّخل وشجر من بستان لم يقطع، وإن كان عليه حائط وحافظ، ويضمن عوضه مرتّين لحديث رافع بن خديج أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"لا قطع في ثمرٍ ولا كثرٍ". رواه أحمد وأبو داود والتّرمذي. وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: سُئِلَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عن الثّمر المعلّق فقال: "مَن أصاب منه بغيته من ذي حاجة غير متّخذ خبنة فلا شيء عليه، ومَن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة".
ولأنّ الثّمار في العادة تسبق اليد إليها فجاز أن تغلظ قميتها على سارقها ردعًا له وزجرًا بخلاف غيره.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "غير متّخذ خبنة" بالخاء المعجمة ثم باء موحدّة ثم نون، أي: غير متّخذ في حجره، ومَن سرق منه أي: من الثّمر نصابًا بعد إيوائه الحرز كجرين ونحوه أو سرق نصابًا من ثمر من شجره في دار محرزة قطع لقوله عليه السلام في حديث عمرو بن شعيب السّابق: "ومَن سرق منه شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". رواه أحمد والنّسائي وأبو داود ولفظه له.
وكذلك الماشية تسرق من المرعى من غير أن تكون محرزة تضمن بمثلي قيمتها ولا قطع كثمر وكثر، واحتجّ أحمد بأنّ عمر غرّم حاطب بن أبي بلتعة حين نحر غلمانه ناقة من مزينة مثلي قيمتها. رواه الأثرم. وما عداها أي الثّمر والكثر والماشية يضمن بقيمته مرّة واحدة إن كان متقوّمًا، أو مثله إن كان مثليًّا، كان التّضعيف فيها على خلاف القياس للنّصّ فلا يتجاوزه محلّ النّصّ. وقال في كتاب الأطعمة: ومَن مرّ بثمرٍ على شجرٍ أو مرّ بثمرٍ ساقطٍ تحته لا حائط عليه أي: على الشّجر ولا ناظر ولو كان المارّ غير مسافرٍ ولا مضطر
فله أن يأكل منه ولو لغير حاجّةٍ إلى أكله، ولو أكله من غصونه من غير رميه ولا ضرر به ولا صعود شجره، لما روى أبو سعيد أنّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أتيت حائط بستان فناد: يا صاحب البستان، فإن أجابك وإلّا فكل من غير أن تفسد". رواه أحمد وابن ماجه ورجاله ثقات.
قال في المبدع: وروى سعيد بإسناده نحوه مرفوعًا، ومثله عن عبد الرّحمن بن سمرة وأبو برزة، وهو قول عمرو بن شعيب وابن عبّاس، وعلم منه أنّه لا يجوز رميه بشيء ولا صعود شجره؛ لأنّه يفسد، واستحبّ جماعة أن ينادي قبل الأكل ثلاثًا: يا صاحب البستان، فإن أجابه وإلّا أكل للخبر السابق.
وكذلك ينادي للماشية إذا أراد أن يشرب من لبنها ولبن ماشية إذا مرّ بها كالثّمر، لما روى الحسن عن سمرة مرفوعًا قال:"إذا أتى أحدكم على ماشيةٍ فإن كان صاحبها فيها فليستأذنه فإن لم يجد أحدًا فليحتلب وليشرب ولا يحمل". رواه التّرمذي وصحّحه. وحديث ابن عمر: "لا يحتلبن أحدكم مشايته إلّا بإذنه". متّفق عليه يحتمل حمله على ما إذا كان حائط أو حافظ جمعًا بين الخبرين. والأولى في الثّمار وغيرها كالزّرع ولبن الماشية لا يأكل منها إلّا بإذنٍ خروجًا من الخلاف. انتهى كلام الإقناع وشرحه.
وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.