الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وألحم بحرير وغيره، وظاهر كلامهم تناوله لغير تلك الصّورة. والله أعلم.
وأمّا قول الإنسان لمن شرب هنيئا وأنّ بعض النّاس يستدلّ بقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [الحاقة، من الآية:24]، فلو كان في الآية دليل لذلك لفعله السّلف الصّالح.
وأمّا ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: "لا عهد لظالم عليك، وإن عاهدته فانقضه؛ فيحتمل أنّ مراده نحو ما إذا طلب ظالم قادر مالًا من إنسان ظلمًا وعاهده أنّه يأتيه به أو عاهد لصًا أنّه لا يخبر به ونحو ذلك والله أعلم. انتهى كلام شيخنا عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين -أيّده الله تعالى-.
(مسألة): ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس
، فإذا لم يقم بما شرط عليه كان لربّ الأرض الفسخ، وإذا فسخ العامل أو كانت فاسدة فلربّ الأرض أن يتملك نصيب الغارس بقيمته إذا لم يتّفقا على القلع.
أفتنا -عفى الله عنك- عن
حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب، هل يفرق بين كون البدوي حربًا للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟
وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالًا للبائع، فما الحكم في ذلك
؟ وابسطوا الجواب -أثابكم الله تعالى-.
الّذي نرى أنّه في مثل هذه الأزمان الّتي ينهب البدو بعضهم مال بعض أنّ من عرف منهم ماله عند حضري مشتريه من بدوي أنّه ليس
له أخذ منه بل يعطيه الثّمن الّذي اشتراه به، وكذا نرى إذا لم يكن إمام في مثل نجد فصار الحضري ينهب البدوي والبدوي ينهب الحضري فالحكم عندي كذلك.
وأمّا إذا صار في نجد مثلًا إمام كان البدو والحضر بعضهم عن بعض كفا مستقرًا فلا فرق بين الحضري والبدوي وأنّ من وجد سرقته عند إنسان أخذها ويرجع المأخوذ منه على بائعه. والله أعلم.
- 23 -
بسم الله الرحمن الرحيم
سئل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين -رحمه الله تعالى- عن نهب البدو بعضهم بعضًا وهل يجوز الشّراء منهم؟
فأجاب رحمه الله أمّا المسألة الأولى وهي نهب البدو بعضهم بعضا فالّذي أرى عدم الشّراء منهم مطلقًا إذا تحقق أنّه بعينه نهبًا لاشتباه أمرهم، وأمّا إذا عرف أحدهم ماله عند حضري وثبت أنّه منهوب منه بالبيّنة فالّذي نفتي به في أزمنة هذا الاختلاف أن يعطى المشتري ثمنه الّذي دفعه ويأخذ ماله إن لم يكونوا حربًا للحضري وقد أفتى بذلك غير واحد من متأخري الأصحاب. انتهى جوابه رحمه الله.
- 24 -
بسم الله الرحمن الرحيم
قال شيخنا الشّيخ عبد الله أبو بطين عفى الله عنه.
وأمّا مسألة الجزار إذا ذبح ناقة وصارت أنقص ممّا ظنّ فيها فمثبت الخيار له غالط والفقهاء ذكروا خيار الغبن في ثلاث صور وهذا يثبت
صورة رابعة وهي ما إذا اشترى جزافًا فبان دون ما ظنه كمشتري الصبرة جزافًا فهل قال أحمد بثبوت الخيار في ذلك لمشتري الجزور ظانا أنّه يحصل منه مثلًا ثلاثون رطلًا من شحم فبان أقلّ من ذلك.
وقد تنازع فقهاء نجد وغيرهم في الهزال هل هو عيب؟ فقال سليمان بن عليّ وابن ذهلان أنّه عيب، وقال عبد الهادي وابن عطوه ليس بعيب، لكن قال الأوّلون إذا كان قيمتها بعد الذّبح تقارب ثمنها الّذي اشتريت به فلا فسخ ولا ردّ، وبكلّ حال فهذا القول غلط. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى ملخّصا.
- 25 -
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم -أدام الله النفع بعلومكم- في دين السّلم الثّابت في الذمّة هل يصحّ الشّراء به من صاحبه الّذي هو في ذمّته عرض من أرض أو نخل أو غير ذلك؟
أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين: لا يجوز عند أكثر العلماء أن يأخذ عرضًا عن دين السلم ممّن هو في ذمّته، واحتجّوا بحديث:"من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره". وعن أحمد رواية أخرى أنّه يجوز أن يأخذ عرضًا بدون حقّه اختاره الشّيخ تقي الدّين؛ لقول ابن عبّاس: إذا أسلفت في شيء فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلّا فخذ عرضًا أنقص منه ولا تربح مرّتين، وعند مالك يجوز أن يأخذ غير الطّعام يتعجله ولا يتأجله، فبان ذلك أنّ الجمهور على المنع مطلقًا واختيار الشّيخ الّذي هو رواية عن أحمد ما ذكرته، وعليه عمل أهل هذه البلدان فيما مضى. والله أعلم.
- 26 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الأخ عثمان بن عيسى زاده الله فهمًا وعلمًا ووهب لنا وله حكمًا.
سلام عليك ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخط إبلاغك جزيل السّلام والسّؤال عن حالك أحسن الله لنا ولك والحال في الدّنيا والآخرة، والخط الشّريف وصل، وبه الأنس والسّرور حصل حيث أفاد صحّة حالكم، وإن سألت عن المحب فبخير ونعم من المولى متوافرة نسأل الله أن يوزعنا شكرها ومن حال المسألتين المسؤول عنهما.
(فالأولى): إذا نذر إنسان شيئًا معيّنًا لشخص معيّن نذر تبرر فردّه أو مات قبل قبوله أو قبله وقبضه ثمّ ردّه، فأمّا إذا ردّه أو مات قبل القبول والرّد فالّذي يظهر بطلان هذا النّذر كما تبطل الصّدقة بذلك لأنّ الصّدقة نوع من الهبّة صرح به الأصحاب كما في المغني وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد لقوله في رواية حنبل؛ إذا تصدّق على رجل بصدقة دار وما أشبه ذلك فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه انتهى.
وقد صرحوا باعتبار القبول للهبّة وأنّها تبطل بالرّد وبموت الموهوب له قبل القبول، فإذا كان هذا حكم الهبّة فالصّدقة نوع من الهبّة، وقد جعل الأصحاب حكم الصّدقة المعيّنة حكم النّذر كما نقله في القواعد عنهم ولفظه بعد كلام سبق، فإذا قال هذه صدقة تعينت وصارت في حكم المنذورة صرح به الأصحاب، لكن هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به فيه خلاف بين الأصحاب انتهى.
فقوله: هل ذلك إنشاء للنّذر أو إقرار به؟ صريح في أنّه إذا تصدق بشيء معيّن؟ فقال هذا صدقة أنّه نذر حقيقة.
فإذا علمت ما ذكره علماؤنا -رحمهم الله تعالى- من أحكام الهبّة وقد صرحوا بأنّ الصّدقة نوع من الهبّة لها حكم الهبّة، بل صرحوا باعتبار القبول للصّدقة ولم يخصوا بذلك نوعًا منها، وجعلوا حكم الصّدقة المعيّنة حكم المنذورة ظهر لك حكم مسألة السّؤال -إن شاء الله تعالى-.
وقال الزّركشي بعد حكايته الوجهين: قال ابن حمدان وابن المنجا أنّهما مبيّنان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه إن قلنا ينتقل اشترط وإلّا فلا، قال: والظّاهر أنّهما على القول بالانتقال انتهى فظهر بما ذكروه من التّعليل اعتبار القبول في مسألتنا؛ لأنّ المنذور له يملك النّذر ويتصرّف فيه بالبيع وغيره ولا يتعلّق به حق لغيره، فإذا لم يقبله المنذور له جاز للنّاذر التّصرّف فيه، يقوي ذلك أيضًا ما ذكره جماعة من الأصحاب وصرح به في الإقناع والمنتهى أنّ الوقف يرجع إلى الواقف إذا انقطعت الجهّة الموقوف عليها والواقف حيّ فمسألتنا أولى.
وأمّا إذا قبضه المنذور له ثمّ ردّه فعلى ما قررناه حكمه حكم الصّدقة المردودة بعد القبض، قال في الفروع ومن سأل فأعطي فقبضه فسخطه لم يعط لغيره في ظاهر كلام العلماء انتهى، وذكر في الاختيارات ما معناه أنّهما إن تفاسخا عقد الهبّة صحّ والله سبحانه وتعالى أعلم.
(المسألة الثّانية): وهي ما إذا أوصى إنسان بشيء من ماله يحج به لبعض ورثته أو يضحي به عنه، فالّذي يظهر صحة هذه الوصيّة ولزومها في الثّلث بدون إجازة لأنّ الموصى له لا يملكها ولا ينتفع بها، وإنّما يرجو
ثوابها في الآخرة فهي كصدقته في مرضه وجعل ثوابها للوارث.
وقد قال الأصحاب في تعليل صحّة وقف المريض ثلثه أو وصيته بوقفه على بعض الورثة بأنّهم لا يبيعون ذلك ولا يهبونه وإنّما ينتفعون به ومسألة السّؤال أولى بالجواز لأنّ الموصى له بأن يحج عنه ونحوه لا يملك الموصى به ولا ينتفع به في الدّنيا، والموقوف عليه ينتفع بالوقف ويملكه على المشهور. ولمّا ذكر الزّركشي تعليل الأصحاب لمسألة الوقف المذكورة قال قلت فكأنّه عتق الوارث. انتهى.
يشير والله أعلم إلى ما ذكروه في تصرّف المريض إذا ملك وارثه بشراء ونحوه، وقياس مسألتنا على مسألة العتق أولى والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 27 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ عثمان بن عيسى -سلّمه الله وعافاه-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وموجب الخطّ إبلاغك السّلام وغير ذلك عثرت على فتيا منسوبة لأبي المواهب الحنبلي مضمونها أنّه سئل عمن أوصى بأن يحجّ عن أمّه من ماله وأمّه حيّة فأفتى بأنّ ذلك يتوقّف على إجازة الورثة والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 28 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم عليّ بن فراج -سلّمه الله تعالى-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط وصل وما ذكرت من المسائل الثّلاث.
(المسألة الأولى): إذا اشترى إنسان من آخر طعامًا يجري فيه الرّبا بنسيئة ثمّ اشترى منه بذلك الثّمن مالا يجوز بيعه به نسيئة ففي المسألة خلاف مشهور؛ فمذهب أحمد وطائفة تحريم ذلك، ومذهب الشّافعي جوازه، واختار الشّيخ تقيّ الدّين جواز ذلك للحاجة، وكثير من أهل هذا الزّمان لو لم يأخذ منه غريمه طعامًا ما أوفاه، فلو امتنع من أخذ الطّعام ذهب حقّه فالظّاهر أنّ الشّيخ يجير، ذلك؛ لأنّ هذا حاجة أبلغ من احتياجه إلى الطّعام.
والحنابلة يتوصّلون إلى إجازة ذلك بأن يشتري الّذي له الدّين من غريمه الطّعام بثمن في الذّمة، فإذا ثبت الثّمن في ذمّة المشتري الثّاني قال لغريمه: في ذمّتك لي مثلًا ريال وفي ذمّتي لك ريال؛ فهذا بهذا ولا ينقد شيئًا ويسمّون هذا مقاصة وهو جائز عندهم والله أعلم.
(المسألة الثّانية): وهي ما إذا صلّى إنسان في ثوبٍ نجس لكونه لا يجد غيره أو على بدنه نجاسة لا يمكنه إزالتها، فهذا يصلّي على حسب حاله، وهل يجب عليه إعادة أم لا؟
فقد حكوا فيمَن لم يجد إلّا ثوبًا نجسًا وصلّى فيه هل عليه إعادة أم لا؟ حكوا في المسألة قولين للعلماء هما: روايتان عن أحمد، والمشهور عن أحمد أنّه يعيد. والله أعلم.
(المسألة الثّالثة): وهي ما إذا رمى إنسان بعيرًا ولم يمكنه تذكيته، فهذا إذا سقط البعير أو سقط في بئر ولم يمكن نحره فهذا حكمه حكم الصّيد إذا رماه إنسان فإن أدركه حيًّا حياة مستقرّة فلا بدّ من ذبحه، فإن لم يكن فيه حياة إلّا مثل حياة المذبوح فلا يحتاج إلى تذكيته، وإن أصابه وغاب
عنه ثم وجده ميّتًا ولا أثر به غير رميته فإنّه يباح ويشترط التّسمية عند رميه قاصدًا قتل المرمي، وهكذا حكم البعير الشّارد أو المتردّي في بئرٍ ونحوها. انتهى.
- 29 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ المكرّم سلمان بن عبد المحسن سلّمه الله تعالى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من التّشريك في سبع البدنة أو البقرة فلم أر ما يدلّ على الجواز ولا عدمه، وإن كان بعض الذين أدركنا يفعلون ذلك لكن ما رأيت ما يدلّ عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأمّا الذين يتصدّق عليه بجلد الأضحية أو لحمها أو يهدى إليه ذلك فإنّه يتصرّف فيه بما شاء من بيعٍ وغيره.
وأمّا ما ذكرت من تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده؛ لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلّد، بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّنّ، وأمّا في الصّحو فيجوز الاعتماد على أذان المؤذّن إذا كان ثقة.
وأمّا أخذ الرّهن والضّمين بدين السّلم ففيه عن أحمد روايتان.
(إحداهما): لا يجوز أخذ الرّهن ولا أخذ الكفيل بذلك وهذا هو المشهور في المذهب.
(والرّواية الأخرى): يجوز واختاره الموفّق وغيره وهو قول أكثر العلماء وهو الصّحيح إن شاء الله تعالى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
- 30 -
بسم الله الرحمن الرحيم
وله أيضًا -رحمه الله تعالى- إجابة عن هذه المسائل*:
ما قولكم فيما إذا كان لإنسان على آخر دين وقال دينك قادم في هذا الزّرع أو هذه الثّمرة هل يكون هذا رهن أم لا؟ وفي رجل عليه دين ولا يفي دينه بما عليه وعند إنسان له رهن هل صاحب الرّهن مقدّم على من سواه، وفيما إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين وأبى أن يأذن في بيع الرّهن وتعذر إجباره وتعذر الحاكم، فهل إذا قام عدل وباع الرّهن وقضى الدّين هل ينفذ تصرّفه أم لا؟
وهل إذا أعطت الأمّ ابنتها الصّغيرة حليا تلبسه ولم يقبضه وليها لها وليست ذات زوج فهل تملكه أم لا؟ وهل إذا شرط البائع للثّمرة بعد بدو صلاحها القطع على المشتري فتلقت بجائحة أو تعيبت بها فهل يكون ضمانها على المشتري أم لا؟
وهل إذا باع الرّاهن الرّهن بغير إذن المرتهن فهل يكون بدله الّذي أبدله به رهن والحالة هذه. وإذا ادعى إنسان على آخر عقارًا فقال المدّعي عليه ورثته من أبي ولم أعلم أنّ لك فيه حقًا هل تقبل يمينه هذه على صفة جوابه؟
وإذا ادّعى إنسان شيئًا وأنّه يملكه الآن وشهدت البيّنة أنّه كان له أمس أو لأبيه قبل موته إلى أن مات هل تسمع أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب -وبالله التّوفيق- أمّا المسألة الأولى فيما إذا قال حقك أو دينك قادم في هذا الزّرع الخ فهذا ليس برهن وإنّما هو وعد فيصير المقول
* تكررت هذه المسائل بعد ذلك في 2/ 3/ 148. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
له ذلك أسوة الغرماء، وإن لم يكن غريم غيره فيستحبّ للقائل الوفاء بوعده ولا يجب عند أكثر العلماء.
وأمّا إذا ضاق مال الإنسان عن دينه وكان له عين مرهونة عند بعض الغرماء فإنّ المرتهن أحقّ بثمن الرّهن من سائر الغرماء إذا كان رهنا لازما بلا نزاع.
قال في الشّرح: لا نعلم فيه خلافًا؛ فإن كان الرّاهن حين الرّهن قد ضاق ماله عن دينه أنبني صحّة رهنه على جواز تصرّفه وعدمه وهو أنّه هل يكون محجورًا عليه إذا ضاق ماله عن ديونه بغير حكم حاكم كما هو قول مالك، ويحكى رواية عن أحمد اختاره الشّيخ تقيّ الدّين، أو لا يكون محجورًا عليه إلا بحكم حاكم كما هو قول أبي حنيفة والشّافعي وأحمد في المشهور عنه.
وأمّا إذا امتنع الرّاهن من قضاء الدّين فقال الشّيخ تقيّ الدّين*: "جوز بعض العلماء للمرتهن دفع الرّهن إلى ثقة يبيعه ويحتاط بالإشهاد على ذلك ويستوفي في حقه إذا تعذر الحاكم ولم يكن الرّاهن قد أذن للمرتهن في بيع الرّهن بعد حلول الأجل"، وهذا قول حسن إن شاء الله تدعو الحاجة إليه في كثير من البلدان والأزمان والله أعلم.
وأمّا إذا ألبست الأمّ ابنتها حليًا الخ فقد رأيت في ذلك جوابًا لأحمد بن يحي بن عطوة فإنّه سئل عمّا إذا وجد على البنت الصّغيرة حلي وثياب فاخرة فما حكم ذلك وهل تسمع دعوى الأمّ أنّ ذلك لها، وإنّما ألبستها إيّاه تجميلًا أو دعوى الورثة أنّه لموروثهم وإنّما جملها به، وهل بين الصّغير والكبير فرق أم لا؟ وهل ذلك عام في الأبّ والأمّ أفتونا مأجورين.
* هذه المسألة ضمن "مجموع الفتاوى" 29/ 538. [معد الكتاب للمكتبة الشاملة]
أجاب رحمه الله الظّاهر من شواهد الأحوال والعرف والعادة المستمرّة أنّ تجميل الأبوين بنتهما بكلّ ما يعد تجميلًا أنّه تخصيص لها بذلك دون سائر من يرثهما إذا لم تجر عادتهما بأنّه عارية تجري عليها أحكامها.
إذا علم ذلك فلا كلام لسائر الورثة في ذلك بعد موت المخصص المعطي للزوم ذلك بموته كما صرح به الأصحاب، والتّخصيص سائغ أيضا في مسائل كفقر وعلم ونحوهما في رواية.
وأمّا الأمّ فإن أقامت بيّنة شرعيّة أنّ ذلك لها وإنّه عارية ساغت دعواها بذلك، وإلّا فلا فرق بين الصّغيرة والمميّزة الكبيرة في ذلك.
وأمّا غير المميّزة فمحل نظر وتأمل، والّذي يظهر لي أنّ ذلك عام في الأبّ والأمّ وإنّما يعد الأبّ لأنّه الغالب والشّيء إذا خرج مخرج الغالب لا مفهوم له. إلى أن قال:
فحيث ثبت إمكان ملك البنت في المسألة المذكورة بما ذكر فلا يجوز انتزاع ما صار إليها إلّا بدليل راجح يسوغ المصير إليه شرعا اهـ.
ومن جواب للشّيخ سليمان بن عليّ وقد سئل عن هذه المسألة: إذا كان الحلي على البنت ولو لم تذهب به إلى بيت زوج وادعته الأمّ لم تقبل إلّا ببيّنة أنّه للأمّ وأنّه على البنت عارية، ولو أقامت الأمّ بيّنة أنّها هي الّتي اشترته لم تقبل حتّى تقول وهو عارية على البنت اهـ.
وأمّا إذا باع الثّمرة بعد بدو صلاحها بشرط القطع فقدم في الشّرح وغيره يجوز هذا الشّرط وهو ظاهر، وإذا تلفت والحالة هذه فإن كان تلفها قبل تمكن المشتري من أخذها فهي من ضمان بائع، وإن كان تلفها بعد التّمكن من أخذها فهي من ضمان مشتر لتفريطه، وقد صرح
وقد صرح الأصحاب فيما إذا اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها بشرط القطع، فتلفت بجائحة سماوية بعد تمكنه من قطعها، فهي من ضمانه، وإن تلفت قبل تمكنه من قطعها، فهي من ضمان بائع؛ لعموم الحديث. وصرحوا أيضا فيما إذا اشتراها بعد بدو الصلاح ولم يشترط القطع في الحال، بأنها من ضمان بائع، ما لم يؤخرها المشتري عن وقت أخذها المعتاد، فإن أخر أخذها عن الوقت المعتاد فالثمرة التالفة من ضمان مشتر لتفريطه، والله أعلم.
وأما إذا باع الراهن العين المرهونة بغير إذن المرتهن فالبيع فاسد بلا خلاف بين العلماء، فإن أمكن المرتهن استرجاع الرهن، استرجعه وهو رهن بحاله، وإن لم يتمكن من استرجاعه لزم الراهن دفع قيمته للمرتهن، فتكون رهنا، سواء كانت القيمة مثل الثمن الذي بيع به، أو أقل أو أكثر. والله علم.
وأما إذا ادعى إنسان عقارًا في يد غيره، فلا يخلو إما أن يدعي على من هو بيده أنه غصبه إياه ونحو ذلك، فإذا لم يكن للمدعي بينة فعلى المدعى عليه اليمين على حسب جوابه؛ فإن قال المدعي: غصبتني، حلف أني ما غصبتك هذا. وإن قال المدعي: أودعتك هذا، حلف أنك ما أودعتني إياه، ونحو ذلك. فإذا حلف بأنك ما تستحق علي شيئا، أو أنك لا تستحق شيئا فيما ادعيته كان جوابا صحيحا، ولا يكلف سواه.
(والحال الثاني): أن يدعي على من هو في يده بأن أباك غصبني هذا، أو أنه وديعة عنده، ونحو ذلك، فيمين المدعى عليه على نفي العلم، فيحلف في دعوى الغصب بأني ما علمت أن أبي غصب هذا منك، وفي دعوى الوديعة ما علمت أنك أودعته إياه ونحو ذلك.
وفي سنن أبي داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: ألك بينة؟
قال: لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنّها أرضي اغتصبها أبوه. فتهيّأ الكندي لليمين ولم ينكر ذلك النّبيّ صلى الله عليه وسلم" ولأنّه لا تمكّنه الإحاطة بفعل غيره بخلاف فعل نفسه فوجب أن لا يكلّف اليمين على البت.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين له الآن وشهدت البيّنة بأنّها كانت له أمس أو أنّها كانت في يده أمس لم تسمع بيّنته لعدم تطابق البيّنة والدّعوى.
قال في الإنصاف في أصحّ الوجهين حتّى يتبيّن سبب يد الثّاني نحو غاصبه بخلاف ما لو شهدت أنّه كان ملكه اشتراه من ربّ اليد فإنّها تقبل اهـ.
وأمّا إذا شهدت البيّنة بأنّ هذه العين لهذا المدّعي بهذه الصّيغة كفى ذلك وسلمت إلى المدّعي ولو لم تقل وهي في ملكه الآن.
وأمّا إذا ادّعى أنّ هذه العين كانت لأبيه أو أمّه أو أخيه ومات وهي في ملكه سمعت البيّنة بذلك، وإن قالت البيّنة كانت ملكا لأبيه ونحوه ولم تشهد بأنّه خلفها تركة لم تسمع هذه البيّنة.
وفي الفروع والإنصاف عن الشّيخ تقيّ الدّين رحمه الله أنّه قال فيمن بيده عقار فادعى آخر بثبوت عند حاكم أنّه كان لجدّه إلى موته ثمّ لورثته ولم يثبت أنّه مخلف عن موروثه لا ينتزع منه بذلك لأن أصلين تعارضا، وأسباب انتقاله أكثر من الإرث ولم تجر العادة بسكوتهم المدّة الطّويلة، ولو فتح هذا الباب لاتنْزع كثير من عقار النّاس بهذه الطّريق والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلّى الله على محمّد وآله وصحبه وسلّم.
وأمّا تقليد المؤذّن إذا كان في السّماء غيم ونحوه فلا ينبغي تقليده، لأنّه يؤذّن عن اجتهاد فلا يقلد بل يجتهد الإنسان لنفسه فلا يفطر حتّى يتيقن أو يغلب على ظنّه الغروب فيجوز له الفطر مع غلبة الظّن.
وأما في الصحو، فيجوز الاعتماد على أذان المؤذن إذا كان ثقة. والله أعلم.
- 31 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الأخ أحمد بن دعيج -سلّمه الله-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وما ذكرت من أمر روائح الأشياء إذا شمّها الصّائم فلا بأس بذلك إلّا الدّخان إذا شمّه الصّائم متعمّدًا لشمّه فإنّه يفطر بقصد شمّ الدّخان أي دخان كان، وإن دخل في أنفه من غير قصد لشمّه لم يفطر لمشقّة التّحرز منه والسّلام.
- 32 -
بسم الله الرحمن الرحيم
ما قولكم -أدام الله النّفع بعلومكم- فيمن لا يعرف الإيمان بالله ولا معنى الكفر بالطّاغوت، وهذه حال الأكثر ممّا لدينا، يدعي الإسلام ويلتزم شرائعه الظّاهرة ويزعم حبّ أهل الحقّ وينتسب إليهم على الإجمال، وأمّا على التّفصيل فيبغض أهل التّوحيد ويمقتهم ويرى منهم الخطأ في الأمور الّتي تخالف عادته وما يعرف فيعتقد خلاف ما عرف خطأ، لأنّ الّذي في ذهنه أنّ ما عرف النّاس عليه هو الدّين، ولا يعرف دليلا يرد به عليه، ولا يرعوي ولا يلتفت إليه، لأنّه يرى الدّين ما تظاهر به المنتسبون، فما حال من هذا وصفه؟ ومنهم كثيرون يصرحون بالبغض والعداوة لأهل الحقّ ويحرصون على اتّباع عوراتهم والوقوع في عثراتهم، ونرى مثل هؤلاء الّذين منهم هذا المذكور مع عدم معرفة أصل الإسلام وضدّه كفارا لأنّهم لم يعرفوا
الإسلام أوّلًا، وثانيا عادوا أهله وأبغضوهم، ورأوا الدّين ما عليه أكثر المنتسبين، فهل رأينا فيهم صواب أم لا؟ وبيّنوا حال الصّنف الأوّل لنا أيضا هل يطلق عليهم الكفر أم لا؟ وفيمن يزعم أنّ النّفاق لا يوجد في هذه الأمة بعد زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أو قريبا منه، ثمّ بعد ذلك لا يوجد إلّا الإسلام المحض أو الكفر المحض.
ويحتج بما رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة بن مسعود قال: سمعت عمر بن الخطّاب رضي الله عنه يقول: إنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي وإنّ الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقرّبناه وليس لنا من سريرته من شيء الله يحاسبه في سريرته ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن قال إنّ سريرته حسنة.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إنّما النّفاق كان على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأمّا اليوم إنّما هو الكفر والإيمان. رواه البخاري.
ما الجواب عن قول حذيفة وعن قول عمر وما علامات النّفاق الّذي يصير به الرّجل في الدّرك السفل من النّار، وما معنى قول الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله في كتاب التّوحيد رد المسألة المشكلة إلى المسألة الواضحة ليزول الإشكال في (باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره)، وقوله في (باب الدّعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) في كلامه على حديث معاذ الرّابعة عشرة: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم أشكل علينا استخراج هذه المسألة من الحديث، وعن قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في آخر حديث رواه مسلم "ومن مات وليس في عنقه بيعة فإنّه يموت ميتة الجاهليّة" أفتونا مأجورين.
أجاب الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين -رحمه الله تعالى-:
الحمد لله، (الجواب) عن حكم الصنفين المسئول عنهما الموصوفة حالهما يرجع إلى شيء واحد وهو إن كان الرّجل يقرّ بأنّ هذه الأمور الشّركية الّتي تفعل عند القبور وغيرها من دعاء الأموات والغائبين وسؤالهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات والتّقرب إليهم بالنّذور والذّبائح إنّ هذا شرك وضلال، ومن أنكره هو المحق ومن زينه ودعا إليه فهو شرّ من الفاعل فهذا يحكم بإسلامه؛ لأنّ هذا معنى الكفر بالطّاغوت والكفر بما يعبد من دون الله، فإذا اعترف بأنّ هذه الأمور وغيرها من أنواع العبادة محض حق الله لا يصلح لغيره لا لملك مقرب، ولا نبيّ مرسل فضلًا عن غيرهما.
فهذا حقيقة الإيمان بالله والكفر بما يعبد من دون الله. قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" وفرض على كلّ أحد معرفة التّوحيد وأركان الإسلام بالدّليل ولا يجوز التّقليد في ذلك، لكن العامي الّذي لا يعرف الأدلّة إذا كان يعتقد وحدانيّة الرّب سبحانه ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم ويؤمن بالبعث بعد الموت وبالجنّة والنّار.
وإنّ هذه الأمور الشّركيّة الّتي تفعل عند هذه المشاهد باطل وضلال فإذا كان يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شكّ فيه فهو مسلم وإن لم يترجم بالدّليل؛ لأنّ عامة المسلمين ولو لقنوا الدّليل فإنّهم لا يفهمون المعنى غالبًا.
ذكر النّووي في شرح مسلم في الكلام على حديث ضمام بن ثعلبة قال: قال أبو عمرو بن الصّلاح فيه دلالة لما ذهب إليه أئمّة العلماء من
أنّ العوام المقلّدين مؤمنون وإنه يكتفى منهم بمجرّد اعتقاد الحق جزمًا من غير شكّ وتزلزل خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك لأنّه صلى الله عليه وسلم قرّر ضمامًا على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ومجرد إخباره إيّاه بذلك ولم ينكر عليه ذلك ولا قال يجب عليك النّظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلّة القطعيّة اهـ.
وأمّا من قال: إنّ هذه الأمور الّتي تفعل عند هذه المشاهد من دعا غير الله والنّذر والذّبح لهم إنّ هذا ليس بحرام، فإطلاق الكفر على هذا النّوع لا بأس به بل هذا كفر بلا شكّ، وأمّا من يوافق في الظّاهر على أنّ هذه الأمور شرك ويبطن خلاف ذلك فهو منافق نفاقًا أكبر، فإن كان يظهر منه بغض من قام بهذه الدّعوة الإسلاميّة عامة فهذا دليل نفاقه.
قال بعض العلماء في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الأنصار "لا يحبّهم إلّا مؤمن ولا يبغضهم إلّا منافق" قال فمن أبغض من قام لنصرة دين الله وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم استحق هذا الوصف وهو النّفاق، وأمّا من يبغض بعضًا دون بعض فقد يكون ذلك لسبب غير الدّين.
وأمّا من صرح بالسب فقد قال شيخ الإسلام تقيّ الدّين رحمه الله فيمن يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اختلف العلماء في حكمهم على قولين: قيل بكفرهم، وقيل بفسقهم، توقف أحمد في كفره وقتله، وقال يعاقب ويجلّد ويحبس حتّى يموت أو يرجع عن ذلك. قال وهذا هو المشهور من مذهب مالك اهـ.
فإذا كان هذا كلامهم في الّذي يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الّذين أثنى الله عليهم ورضي عنهم فغيرهم دونهم ولم يقل أحد من العلماء بكفر
من سبّ غيرهم ولا قتله، ولهذا قال الأصحاب: من سبّ إمامًا عدلًا، أو عدلًا غيره عزر.
وأمّا قول من قال: إنّ النّفاق لا يوجد إلّا في أفضل القرون فهذا جاهل بحقيقة النّفاق ضال أو معاند فاجر بل كافر إذا قال: إنّه لا يوجد بعد ذلك إلا الإسلام المحض، وصاحب هذا القول مكذب لله ولرسوله ولجميع علماء المسلمين، ومثل هذا يرد عليه بكلام العلماء الّذي لا يمكنه ردّه.
وقد أجمع علماء السّنّة والجماعة على كفر الاتّحاديّة الّذين يقولون الخالق هو المخلوق، وكذلك أجمعوا على تكفير الحلوليّة الّذين يقولون: إنّ الله بذاته في كلّ مكان، وهاتان الطّائفتان منتشرتان في أمصار المسلمين.
ولمّا ذكر صاحب الإقناع حكم هاتين الطّائفتين قال شارحه: وقد عمت البلوى بهذه الفرق فأفسدوا كثيرًا من عقائد أهل التّوحيد فأخبر الشّارح بكثرة هؤلاء المجمع على كفرهم، وذكر هاتين الطّائفتين، وكذا من قذف عائشة رضي الله عنها أو ادّعى أنّ جبريل غلط ونحو ذلك ممّا لا يقدر أحد على إنكاره.
وأمّا أمر الشّرك فالكلام معهم فيه يطول وكفر هذا فضيحة، قوله: إنّ النّفاق والكفر يوجد في أفضل القرون ويستحيل وجوده فيما بعده. وهذا في حقيقة أمره ينكر على الفقهاء وضعهم باب حكم المرتدّ إذا لم يكن إلا الإسلام المحض فيلزم تخطئتهم بأن نقول لا كفر ولا نفاق بعد القرن الأوّل الفاضل.
وأمّا احتجاج بعضهم بقول عمر رضي الله عنه أنّ النّاس كانوا يؤاخذون بالوحي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ فأيّ حجة له في هذا على نفي الكفر
والنّفاق عن الأمّة، وإنّما هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيمن أتى بشرائع الإسلام حيث قال:"وحسابهم على الله تعالى"، ومراد عمر رضي الله عنه أن من رأينا عمله حسنًا ولم ير منه ما يعاب أمناه وقرّبناه وحسابه في سريرته إلى الله، ومن رأينا ما يكرهه الله من المعاصي كشرب الخمر وشهادة الزّور والكذب والنّميمة والغيبة وغير ذلك من الذّنوب أو إخلال في فرض لم نأمنه ولم نقرّبه، وإن قال: إنّ سريرته حسنة.
وقوله: من أظهر لنا سوءًا، أي من أطلعنا منه على ذلك وعلمناه ليس مراده أنّه يظهر ذلك ويجاهر به وهكذا كما يقول العلماء في الشّاهد إذا علم منه ما يقدح في شهادته، ردّت شهادته، وإن كان لا يظهر إلّا الخير، وكذا إذا رأينا من ظاهره الخير لكن رأيناه يألف الفسقة أو أهل البدع والضّلال، قلنا هذه خصلة سوء يتّهم بها وإن قال سريرته حسنة.
نقل أبو داود عن الإمام أحمد رحمه الله في الرّجل يمشي مع المبتدع لا تكلّمه، ونقل غيره إذا سلم على المبتدع فهو يحبّه، وقال أحمد رحمه الله إنّما هجر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الثّلاثة لأنّه اتّهمهم بالنّفاق فكذا كلّ من خفنا عليه وهذا الّذي ينكر وجود النّفاق سببه عدم معرفة الإسلام وضدّه.
وحقيقة النّفاق إظهار الخير وإسرار ضدّه، فإذا كان إنسان عند أهل السّنة يظهر بطلان مذهب الاتّحاديّة والحلوليّة ونحوهم وهو يعتقد في الباطل صحّة بعض هذه المذاهب فهو منافق نفاقًا أكبر، وكذا إذا أظهر تضليل غلاة الرّافضة وهو في الباطن يرى رأيهم فهو منافق، وكذا من اعترف بصحّة هذا الأمر الّذي ندعو إليه وهو التّوحيد وإفراد الله بالعبادة يعترف به ظاهرًا ويبطن خلافه فهو منافق نفاقًا أكبر.
وأمّا قول حذيفة فهو كما روي عنه من وجه آخر أنّه قال المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفون نفاقهم وهم اليوم يظهرونه، فمراد حذيقة أنّهم في زمانه تبدو منهم أمارات ظاهرة بخلاف حالهم زمن النّبوّة، وقال: إن كان الرّجل ليتكلّم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقًا وإنّي لأسمعها من أحدكم في اليوم في المجلس عشر مرّات.
وسمع حذيفة رجلًا يقول: اللهمّ أهلك المنافقين فقال يا ابن أخي لو أهلك المنافقين لاستوحشتم في طرقاتكم من قلّة السّالكين، وهذا النّافي للنّفاق عن جميع الأمّة قائل بغير علم كاذب وما يدريه أنّه ليس في الأمّة حاضرها وباديها منافق؛ لأنّ من أظهر الإسلام وهو يشكّ في البعث بعد الموت أو في رسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فهو منافق نفاقًا أكبر.
وهل اطّلع هذا المتخرص على قلوب الأمّة شرقًا وغربًا وهل يأمن على نفسه من النّفاق بأن يزيغ الله قلبه إذا زاغ عن الحقّ {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف، من الآية:5]، وقد أثنى الله سبحانه على الرّاسخين في العلم بسؤالهم إيّاه أن لا يزيغ قلوبهم في قولهم {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران، الآية:8].
ومن دعاء النّبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك" فقيل له أوتخاف علينا؟ قال: "نعم، ما من قلب إلّا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه" ومن دعائه صلى الله عليه وسلم عند الانتباه من النّوم: "ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني". قيل للإمام أحمد رحمه الله ما تقول فيمن لا يخاف النّفاق على نفسه؟ فقال ومن يأمن على نفسه النّفاق؟
وروي عن الحسن أنّه حلف ما مضى مؤمن قطّ ولا بقي إلّا وهو من النّفاق خائف، ولا مضى منافق قطّ ولا بقي إلّا وهو من النّفاق آمن وكلام السّلف في هذا كثير، ويكفي في بيان بطلان قول هذا إثباته الكفر والنّفاق في أفضل قرون الأمّة ونفي ذلك عن القرون الّتي وصفها صلى الله عليه وسلم بأنّها شرّ إلى يوم القيامة، ويفضح شبهة هذا وشبهة من قال إنّه يستحيل وجود الكفر في أرض العرب ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال "ليس من بلد إلّا سيطوله الدّجّال إلّا مكّة والمدينة، وما من نقب من أنقابها إلّا وعليه الملائكة صافين تحرسهما فينْزل السّبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله تعالى منها كلّ كافر ومنافق" فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ في المدينة إذ ذاك كفّارًا ومنافقين موجودين قبل خروج الدّجّال، فإذا كان هذا حال المدينة فغيرها أولى وأحرى. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة" فأرجو أنّه ما يجب على كلّ إنسان المبايعة وأنّه إذا دخل تحت الطاعة وانقاد ورأى أنّه لا يجوز الخروج على الإمام ولا معصيته في غير معصية الله أنّ ذلك كاف، وإنّما وصف صلى الله عليه وسلم ميتته بالميتة الجاهليّة؛ لأنّ أهل الجاهليّة كانوا يأنفون من الانقياد لواحد منهم ولا يرضون بالدّخول في طاعة واحد فشبه حال من لم يدخل في جماعة المسلمين بحال أهل الجاهليّة في هذا المعنى والله أعلم.
وقول الشّيخ ردّ المسألة المشكلة إلى آخره الظّاهر أنّه أراد أنّ الّذي سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حكم نذره أنّه أشكل هل يوفي به أم لا؟ فلّما أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك المعيّن خال ممّا ذكر زال الإشكال.
وأمّا قوله: كشف العالم الشّبهة عن المتعلّم فلا يتبيّن لي مراده إلّا إن كان يشير إلى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فصل له صفة ما يدعو إليه والله أعلم.
- 33 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن إلى الولد المحب عليّ بن عبد العزيز بن سليم -زاده الله علمًا ووهب لنا وله حكمًا-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخطّ إبلاغ السّلام والسّؤال عن الحال أصلح الله لنا ولكم الدّين والدّنيا والآخرة، والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من حكم صرف ما ذكرت بعضه ببعض كالرّيال بالجدد والإرباع والقاروني بشيء من ذلك، وهل ذلك من مسألة مد عجوة؟
فقال في الإقناع وشرحه: وإن باع دينارًا أو درهمًا مغشوشًا بمثله أي بدينار أو درهم مغشوش والغش فيهما أي المثمن والثّمن، أو غير معلوم المقدار لم يجز؛ لأنّ الجهل بالتّساوي كالعلم بالتّفاضل، وإن علم التّساوي في الذّهب الّذي في الدّينارين وعلم تساوي الغش الّذي فيهما جاز بيع أحدهما بالآخرة لتماثلهما في النّقود وهو الذّهب، ولتماثلهما في غيره أي الغش وليس من مسألة مد عجوة لكون الغش غير مقصود فكأنّه لا قيمة له كالملح في الخبز انتهى.
ونقل في الفروع عن الشّيخ جواز بيع فضّة لا يقصد غشّها بخالصة مثلّا بمثل، ورأيت أيضا في فتوى للشّيخ تقيّ الدّين بعد كلام سبق في مسألة مد عجوة، قال وكذا يجوز بيع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها
شعير يسير فإنّ ذلك يجوز عند الجمهور، وكذا إذا باع الدّراهم الّتي فيها غشّ بجنسها فإنّ الغشّ غير مقصود والمقصود بيع الفضّة وهما متماثلان.
وقال أيضا: إذا باع درهما خالصًا بمغشوش فإن كانت فضّة الدّراهم الخالص تزيد على فضّة المغشوش تزيد على فضّة المغشوش زيادة يسيرة بقدر النّحاس الّذي في الآخرة جاز ذلك في أحد قولي العلماء، فظهر من كلام الشّيخ عدم جواز صرف ما ذكرتم بعضها ببعض كالقاروني بالجدد أو الإرباع ونحو ذلك وهو صريح الإقناع وشرحه والله أعلم.
- 34 -
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن عبد الرّحمن أبي بطين إلى الولد عليّ بن عبد العزيز -وفقه الله لطاعته وأصلح له دنياه وآخرته-.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد،
موجب الخطّ إبلاغ السّلام والخطّ وصل أوصلك الله إلى ما تحب، وما سألت عنه من الجهر بالتّهليل بعد الصّبح والمغرب فما علمت ورود شيء يخصّه، وإنّما اختلف العلماء في الجهر بالذّكر المشروع في إدبار الصّلوات ولم يخصوا ذكرًا دون ذكر والله أعلم.
(وأمّا قولك) إذا ظهر من إنسان الكفر وقامت عليه الحجّة وامتنع إنسان من تكفيره فكأنك تشير إلى حال أهل هذه المشاهد الّتي يقع عندها الشّرك الأكبر.
ومن المعلوم أنّه لا يصحّ إسلام إنسان حتّى يكفر بالطّاغوت وهو كلّ ما عبد من دون الله {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ، [البقرة، من الآية:256]، وفي الحديث الصّحيح: "من قال لا إله إلّا الله وكفر بما