المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - مجموعة الرسائل والمسائل النجدية - ط المنار - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌القسم الأول‌‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهابوأبنائه رحمهم الله

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى لأبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌(2)(رسالة عامة في الزجر عن الغلول ووجوب التذكير والموعظة)

- ‌(3)(رسالة في نصاب الزكاة بالريالات)

- ‌(4)(رسالة في المعاملات الربوية وأحكام الطلاق والعدة)

- ‌(5)(رسالة في مواعظ عامة في مهمات الدين)

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌{مسائل في الصلاة وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في دفن الميت والصلاة عليه وصفتها}

- ‌مسائل في نصاب الزكاة وزكاة العروض

- ‌{مسائل في صدقة الفطر وما يتعلق بها}

- ‌{مسائل في الرهن وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في المساقاة والمزارعة وما في معناهما}

- ‌{مسائل في المعاملات وأنواعها}

- ‌{مسائل في الخيار وما في معناه}

- ‌{مسائل في السلم وما في معناه مما يتعلق به}

- ‌{مسائل في القرض وما في معناه وما يتعلق به}

- ‌{مسائل في الوقف}

- ‌{مسائل في النكاح وما يتعلق به مما في معناه}

- ‌{مسائل في العدد وما في معناها}

- ‌{مسائل في الإحداد وما يتعلق به}

- ‌من جواب) لعبد الله بن الشيخ رحمه الله:

- ‌(8){مسائل مختلفة أجاب عنها الشيخ عبد الله بن الشيخ

- ‌القسم الثانيرسائل وفتاوى أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الرحمن بن حسن

- ‌ 4 -(رسالة ضافية في الرّبا وحكم نقود الجدد الزّيوف فيه)

- ‌قال شيخنا ووالدنا الشّيخ عبد الرّحمن بن حسن في أثناء كلامٍ له*:

- ‌{فائدة}:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌[فوائد]

- ‌مسألة: إذا غارس رجل رجلًا في أرضٍ، على أن يغرس فيها قدرًا معلومًا من النّخل والنّخل من العامل وينفق عليه العامل حتّى يثمر، ثم يقتسمان النّخل والأرض، هل يصحّ ذلك؟ أم لا يصحّ إلّا على أنّ الأرض لربّها والنّخل بينهما؟ أو تصحّ في الصّورتين كما أفتى به أبو العبّاس

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ علي بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌فائدة:

- ‌فائدة أصوليّة نافعة:

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حسين بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌ جواب عبد الله بن الشّيخ إلى بعض الإخوان

- ‌من عليّ بن الشّيخ حسين إلى الأخ جمعان بن ناصر

- ‌فتويان من فتاوى الشيخ سليمان بن علي، جد شيخ الإسلام

- ‌فصل:

- ‌رسالة للشيخ عبد الوهاب بن الشيخ سليمان، والد شيخ الإسلام

- ‌القسم الثالثرسائل وفتاوى لغير سلالة الشيخ من علماء نجد

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ حمد بن ناصر بن معمر

- ‌[نقل من كتاب "حادي الأرواح" لابن القيم]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبا بطين

- ‌{فائدة لأبي بطين}:

- ‌{مسألة} ما حكم ما يغرس أو ينبت من النّخل ونحوه على ماء الشّريك في المشاع إذا أراد الشّركاء القسمة

- ‌ سُئِل الشّيخ عبد الله بن عبد الرّحمن أبو بطين رحمه الله، وعفا عنه عن الذي يروى: "مَن كفّر مسلمًا فقد كفر

- ‌ اعلم أنّ ضدّ التّوحيد الشّرك، وهو ثلاثة أنواع:

- ‌(مسألة): ومن أعطى أرضه لرجل يغرسها بجزء معلوم وشرط عليه عمارتها فغرس بعض الأرض وتعطل باقي الأرض من الغراس

- ‌ حكم ما إذا وجد البدوي ماله عند حضري ونحوه ولم يعلم أنّه غصب، هل يفرق بين كون البدوي حربًا للآخر وقد أخذ ماله أم لا؟وكذا إذا عرف الحضري ماله عند حضري أو بدوي وادعى أنّه قد اشتراه من حربي للمدّعي وربّما أنّه قد أخذ مالًا للبائع، فما الحكم في ذلك

- ‌[فوائد]

- ‌رسائل وفتاوى للشيخ سعيد بن حجي

- ‌رسالة للإمام عبد العزيز آل سعود

- ‌رسالة للشيخ أحمد بن محمد بن حسن القصير الأشيقري

- ‌رسالة للشيخ محمد بن عبد الله بن إسماعيل

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل

- ‌{رسالة للشّيخ عبد العزيز بن عبد الجبّار}

- ‌رسالة للشيخ حمد بن عتيق

- ‌رسالة لبعض علماء الرياض

- ‌رسالة لبعض علماء نجد

- ‌رسالة للشيخ محمد بن أحمد بن محمد القصير

- ‌{رسالة لبعض علماء الدّرعية}

- ‌{رسالة للشّيخ محمّد بن عمر بن سليم}

الفصل: ‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

‌رسائل وفتاوى للشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب

فصل

في رسائل العلامة الشيخ عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، رحمهما الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ عبد الله بن الشيخ الإمام شيخ الإسلام الداعي إلى دين سيد الأنام محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ سليمان مفتي الديار النجدية في زمنه ابن علي بن مشرف، رحمهم الله تعالى، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين أفضل الجزاء، آمين.

-1 -

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.

[آيات الصفات وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام]

الجواب -وبالله التوفيق- عن المبحث الأول عن آيات الصفات، وأحاديثها التي اختلف فيها علماء الإسلام.

[مذهب السلف في إثبات صفات الله تعالى]

فنقول: الذي نعتقد، وندين الله به هو مذهب سلف الأمة، وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من الأئمة الأربعة، وأصحابهم رضي الله عنهم أجمعين- وهو: الإيمان بذلك، والإقرار به، وإمراره كما جاء من غير تشبيه، ولا تمثيل، ولا تعطيل، قال الله -تعالى -:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النّساء: 115]. وقد شهد الله -تعالى- لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم

ص: 48

بإحسان- بالإيمان فعلم قطعا أنهم المراد بالآية الكريمة؛ فقال-تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ} الآية [التّوبة من الآية: 100].

وقال -تعالى-: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية [الفتح من الآية: 18].

فثبت بالكتاب الكريم أن من اتبع سبيلهم فهو على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل.

فَمِن سبيلهم في الاعتقاد الإيمان بصفات الله -تعالى - وأسمائه التي وصف بها نفسه، وسمى بها نفسه في كتابه وتنْزيله، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة عليها، ولا نقصان منها، ولا تجاوز لها، ولا تفسير لها، ولا تأويل لها بما يخالف ظاهرها، ولا تشبيه بصفات المخلوقين، ولا سمات المحدثين؛ بل أقروها كما جاءت، وردوا علمها إلى قائلها، ومعناها إلى المتكلم بها، صادق لا شك في صدقه فصدقوه، ولم يعلموا حقيقة معناها فسكتوا عما لم يعلموه.

وأخذ ذلك الآخر عن الأول، ووصى بعضهم بعضا بحسن الاتباع، والوقوف حيث وقف أولهم، وحذروا من التجاوز لها، والعدول عن طريقهم، وبينوا لنا سبيلهم، ومذاهبهم وحذرونا من اتباع طريق أهل البدع والاختلاف والمُحْدَثَات الذين قال الله فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام من الآية: 159].

{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

ونرجو أن يجعلنا الله -تعالى- مِمّنْ يقتدي بهم في بيان ما بينوه، وسلوك الطريق الذي سلكوه؛ والدليل على أن مذهبهم ما ذكرنا أنهم نقلوا إلينا القرآن العظيم، وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل مصدق لها، مؤمن بها، قابل لها، غير مرتاب فيها، ولا شاكٍ في صدق

ص: 49

قائلها، ولم يفسروا ما يتعلق بالصفات منها، ولا تأوّلُوه، ولا شبهوه بصفات المخلوقين؛ إذ لو فعلوا شيئا من ذلك لَنُقِلَ عنهم، بل بلغ من مبالغتهم في السكوت عن هذا أنهم كانوا إذا رأوا مَنْ يسأل عن المتشابه بالغوا في كفه وتأديبه، تارة بالقول العنيف، وتارة بالضرب، وتارة بالإعراض الدّالّ على شدة الكراهة لمسألته.

ولمّا سُئِل مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- عن الاستواء كيف هو فقيل له: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى فأطرق مالك -رحمه الله تعالى- وعلاه الرحضاء، يعني: العرق، وانتظر القوم ما يجيء منه، فرفع رأسه إليه فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأحسبك رجل سوء. وأمر به فأُخْرِج.

ومَنْ أوَّلَ الاستواء بالاستيلاء، فقد أجاب بغير ما أجاب به مالك، وسلك غير سبيله، وهذا الجواب من مالك -رحمه الله تعالى- في الاستواء شافٍ كافٍ في جميع الصفات مثل: النُزول، والمجيء واليد، والوجه، وغيرها.

فيُقال في مثل النُزول: النُزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وهكذا يقال في سائر الصفات، إذ هي بمثابة الاستواء الوارد به الكتاب والسنة، وثبت عن الربيع بن سليمان قال: سألت الشافعي عن صفات الله -تعالى- فقال: حرام على العقول أن تمثل الله تعالى، وعلى الأوهام أن تحده، وعلى الظنون أن تقطع، وعلى النفوس أن تنكر، وعلى الضمائر أن تعمق، وعلى الخواطر أن تحيط، وعلى العقول أن تعقل، إلا ما وصف به نفسه، أو على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام. وثبت عن إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني أنه قال: إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم

ص: 50

تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنْزيله، وشهد له رسوله صلى الله عليه وسلم على ما وردت به الأخبار الصحاح، ونقله العدول الثقات، ولا يعتقدون به تشبيها بصفات خلقه، ولا يكيفونها تكييف المشبهة، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزلة والجهمية.

وقد أعاذ الله أهل السنة من التحريف والتكييف، ومَنَّ عليهم بالتفهيم والتعريف، حتى سلكوا سبيل التوحيد والتنْزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه، واكتفوا بنفي النقائص بقوله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11].

وبقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4].

وثبت عن الحميدي شيخ البخاري، وغيره من أئمة الحديث أنه قال: أصول السنة فذكر أشياء وقال: وما نطق به القرآن والحديث مثل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة من الآية: 64]، ومثل:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزّمر من الآية: 67]، وما أشبه هذا من القرآن والحديث، لا نرده ولا نفسره، ونقف على ما وقف عليه القرآن والسنة ونقول:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]؛ ومن زعم غير هذا فهو جهمي.

فمذهب السلف -رحمة الله عليهم- إثبات الصفات، وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه، فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية ولا تشبيه 1، وعلى هذا مضى السلف كلهم. ولو ذهبنا نذكر ما اطلعنا عليه من كلام السلف في ذلك لطال الكلام جدا.

فمن كان قصده الحق وإظهار الصواب اكتفى بما قدمناه، ومن كان قصده الجدال والقيل والقال لم يزده التطويل إلا الخروج عن سواء السبيل والله الموفق.

1 أي فكذلك الصفات إثباتها إثبات وجود لا كيفية ولا تشبيه.

ص: 51

[استحالة خلو النصوص وآثار السلف مما يجب في الصفات]

وقد بعث الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج: {النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم من الآية: 1]، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه، وسراجا منيرا؛ وأمره أن يقول:{هذه سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف من الآية: 108].

ومن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله، وإلى سبيله بإذن ربه على بصيرة، وقد أخبر الله تعالى بأنه قد أكمل له ولأمته دينهم، وأتم عليهم نعمته، محال -مع هذا وغيره- أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله، والعلم به متلبسا مشتبها، ولم يميز ما يجب لله من الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وما يجوز عليه، وما يمتنع عليه؛ فإن معرفة هذا أصل الدين، وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس، وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادا وقولا؟

ومن المحال -أيضا- أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال:"تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"1.

وقال فيما صح عنه أيضا: "ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلم لهم"2، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

"قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم

1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/ 126).

2 مسلم: الإمارة (1844)، والنسائي: البيعة (4191)، وابن ماجه: الفتن (3956) ، وأحمد (2/ 191).

ص: 52

مقاما، فذكر فيه بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه"1 رواه البخاري.

محال مع هذا أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم وقلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب؛ بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية؛ فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة أن يظن أنه قد وقع من الرسول صلى الله عليه وسلم إخلال بهذا ثم إذا كان قد وقع ذلك منه، فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه، أو ناقصين عنه.

[تفنيد من قال: مذهب الخلف أولى]

ثم من المحال أن تكون القرون الفاضلة: القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم، كانوا غير عالمين، وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين، لأن ضد ذلك إما لعدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق؛ وكلاهما ممتنع.

(أما الأول): فلأن من في قلبه أدنى حياة في طلب العلم، أو همة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه معرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه، وليست النفوس الزكية إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الباب؛ وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو أقوى المقتضيات أن يتخلف عن مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم.

هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضا عن الله، وأعظمهم إكبابا على الدنيا، والغفلة عن ذكر الله؛ فكيف يقع في أولئك الفضلاء والسادة النجباء

1 البخاري: بدء الخلق (3192).

ص: 53

وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق وقائليه، فهذا لا يعتقده مسلم عرف حال القوم؛ ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السابقين كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة الخلف أعلم وأحكم، وطريقة السلف أسلم. فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنْزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 7]،

وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات؛ فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.

وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها أهل الجهل والضلال من الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، ومن سلك سبيلهم من الضالين؛ فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف-، وبين صرف اللفظ إلى معنى بنوع تكلف؛ وصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع. فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وبراهين قاطعات وهي شبهات

ص: 54

وضلالات متناقضات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه؛ فلما انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنْزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم، ولم يتفطنوا لدقيق العلم الإلهي، وأن الخلفاء الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله. وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في نهاية الجهالة، بل في غاية الضلالة.

كيف يكون هؤلاء المتأخرين؟ -لا سيما- والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله تعالى حجابهم، وأخبر الواقف على نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول:

لعمري قد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به، أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم حيث يقول:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلا، ولا تروي غليلا؛ ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: اقرأ في الإثبات: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر من الآية: 10]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واقرأ في النفي:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشّورى من الآية: 11]،

ص: 55

{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه من الآية: 110]. قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته، فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي. ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكا عند الموت أرباب الكلام.

[النصوص وإجماع السلف على علو الله تعالى على خلقه]

ومن تأمل ما ذكرنا، علم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريق السابقين والتابعين لهم بإحسان، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وشهادة الأمة على ذلك. وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم عامة كلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله تعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء، وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء. وقد فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته. ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين، أو ألوفا.

ثم ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من سلف الأمة، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا؛ ولم يقل أحد منهم أن الله ليس في السماء، ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا متصل ولا

ص: 56

منفصل، ولا أنه لا تجوز إليه الإشارة الحسية؛ بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقول:"ألا هل بلغت فيقولون نعم فيرفع أصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد "غير مرة. فإن كان الحق فيما يقوله هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين. فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على الأمة، أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق؟ ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به، ولا يدلون عليه حتى يجيء أنباط الفرس، وفروخ الفلاسفة، فيبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف وفاضل اعتقادها، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفتها على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بمقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا، أو ظاهرا؟ يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة: هذه الأحاديث والآيات لا تعتقدوا ما دلت عليه! لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم؛ فإنه الحق وما خالفه فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه وانفوه؟ ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون في أمته من الاختلاف، ثم قال:"إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله"1. وروي أنه قال في صفة الفرقة الناجية هو "من كان على

1 الترمذي: المناقب (3788) ، وأحمد (3/ 14 ،3/ 26 ،3/ 59).

ص: 57

مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" 1. فهلا قال: من تمسك بالقرآن، أو بدلالة القرآن، أو بمفهوم القرآن، أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة.

ثم إن أصل مقالة التعطيل للصفات إنما أخذت عن تلامذة اليهود، والمشركين، وضلال الصابئين؛ فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام: الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه.

وقيل: إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان أصل هذه المقالة مقالة التعطيل والتأويل مأخوذة من تلامذة المشركين والصابئين واليهود، فكيف تطيب نفس مؤمن، بل نفس عاقل، أن يسلك سبيل هؤلاء المغضوب عليهم والضالين، ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؟

[الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها]

وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة، قسمان يقولان: تجري على ظاهرها، وقسمان يقولان: هي على خلاف ظواهرها، وقسمان يسكتان.

أما الأولون فقسمان:

(أحدهما): من يجريها على ظاهرها من جنس صفات المخلوقين، فهؤلاء المشبهة، وإليهم توجه الرد بالحق.

(والثاني): من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، كما يجري اسم الله العليم، والقدير، والرب، والموجود، والذات على ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى، فإن

1 الترمذي: الإيمان (2641).

ص: 58

ظواهر هذه الصفات في حق المخلوقين إما جوهر محدث، وإما عرض قائم كالعلم، والقدرة، والكلام، والمشيئة، والرحمة، والرضى، والغضب، ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام.

فإذا كان الله موصوفا عند عامة أهل الإثبات بأن له علما، وقدرة وكلاما، ومشيئة، وإن لم تكن أعراضا يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه ليست أجساما يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين؛ وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم، وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح لمن هداه الله؛ فإن الصفات كالذات.

فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين. فمن قال: لا أعقل علما ويدا إلا من جنس العلم واليد المعهودة، قيل له: فكيف تعقل ذاتا من غير جنس ذوات المخلوقين ومن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته، وتلائم حقيقته. فمن لم يفهم من صفات الرب الذي ليس كمثله شيء إلا ما يناسب المخلوقين فقد ضل في عقله ودينه، وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينْزل إلى سماء الدنيا أو كيف يداه أو نحو ذلك، فقل له: كيف هو في نفسه فإذا قال: لا يعلم هو إلا هو، وكنه الباري غير معقول للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف؛ فكيف يمكن أن يعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي 1. بل هذه المخلوقات في

1 قوله على الوجه الذي ينبغي إلخ – كذا في الأصل وهو غير ظاهر.

ص: 59

الجنة فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وقد أخبر الله -سبحانه- أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"1 فإذا كان نعيم الجنة وهو خلق من خلق الله تعالى كذلك، فما الظن بالخالق سبحانه وتعالى وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفيته تعالى مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه، وتعرج إلى السماء، وأنها تسلُّ منه وقت النَزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة.

وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها: أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول هو صفة الله -تعالى-، وأن الله -تعالى- لا صفة له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية، وإما إضافية، وإما مركبة منهما؛ ويثبتون بعض الصفات، وهي السبع والثمان، والخمس عشرة على ما قد عرف من مذاهب المتكلمين من الأشعرية وغيرهم، فهؤلاء قسمان:

(قسم) يتأولونها ويعينون المراد مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى علو المكان والقدر، أو بمعنى ظهور نوره للعرش، أو بمعنى انتهاء الخلق إليه، إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.

(وقسم) يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه.

وأما القسمان الواقفان:

(فقسم) يقولون يجوز أن يكون المراد بظاهرها اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله، ونحو ذلك؛ وهذه طريقة

1 البخاري: بدء الخلق (3244)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2824)، والترمذي: تفسير القرآن (3197)، وابن ماجه: الزهد (4328) ، وأحمد (2/ 313 ،2/ 438 ،2/ 466 ،2/ 495)، والدارمي: الرقاق (2828).

ص: 60

كثير من الفقهاء وغيرهم.

(وقسم) يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن، وتلاوة الحديث، معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات كلها. فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها.

والصواب في ذلك: القطع بالطريقة السلفية، وهي اعتقاد الشافعي ومالك والثوري والأوزاعي، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهي اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفضيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد الله التستري وغيرهم؛ فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة نزاع في أصول الدين، وكذلك أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-.

واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة في التوحيد والقدر وغير ذلك.

[أقوال علماء السلف وأئمة الفقه في الصفات]

قال الشافعي -رحمه الله تعالى- في أول خطبة الرسالة: الحمد لله الذي هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه. فبين -رحمه الله تعالى- أن الله تعالى يوصف بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى-: لا يوصف الله تعالى إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم: لا يتجاوز القرآن والحديث.

وقد ثبت في الصحيح أنه قال للجارية: "أين الله؟ قالت في السماء. قال: من أنا؟ قالت: رسول الله قال: اعتقها فإنها مؤمنة"1، وهذا الحديث رواه الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، ومسلم في صحيحه، وغيره. وأهل السنة يعلمون أنه ليس معنى ذلك أن الله تعالى في جوف السماء، وأن السماوات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن الله فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك

1 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (537)، والنسائي: السهو (1218)، وأبو داود: الصلاة (930) والأيمان والنذور (3282).

ص: 61

بن أنس -رحمه الله تعالى-: إن الله تعالى في السماء، وعلمه في كل مكان. وقالوا لعبد الله بن المبارك بماذا نعرف ربنا قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه. وقال أحمد بن حنبل كما قال هذا وهذا. وقال الأوزاعي: كنا، والتابعون متوافرون، نقر بأن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. فمن اعتقد أن الله تعالى في جوف السماء محصور محاط به، أو أنه مفتقر إلى العرش، أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على سريره، فهو ضال، مبتدع، جاهل.

ومن اعتقد أنه ليس فوق السماوات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، فهو معطل، فرعوني، ضال، مبتدع؛ فإن فرعون كذب موسى في أن ربه فوق السموات وقال:{يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر من الآيتين: 36 - 37].

ومحمد صلى الله عليه وسلم صدق موسى في أن ربه فوق السموات فإنه لما كان ليلة المعراج، وعرج به إلى السماء، وفرض عليه ربه خمسين صلاة، ذكر أنه رجع إلى موسى وقال له: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك. فرجع إلى ربه فخفف عنه عشرا، ثم رجع إلى موسى فأخبره بذلك، فقال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك. وهذا الحديث في الصحاح.

فمن وافق فرعون، وخالف موسى ومحمدا -صلى الله عليهما وسلم-، فهو ضال؛ ومن مثل الله بخلقه فهو ضال مشبه؛ قال نعيم بن حماد -رحمه الله تعالى-: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. انتهى. ومن تكلم في الله وأسمائه وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهو من الخائضين في آيات الله تعالى بالباطل؛ وقد قال

ص: 62

تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام من الآية: 68]. واعلم أن كثيرا من المصنفين ينسبون إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه، فينسبون إلى الشافعي، ومالك، وأحمد، وأبي حنيفة من الاعتقادات الباطلة ما لم يقولوه؛ ويقولون لمن تبعهم: هذا الذي نقوله اعتقاد الإمام الفلاني، فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم في ذلك، كما يتبين كذب كثير من الناس فيما ينقلونه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويضيفونه إلى سنته من البدع والأقوال الباطلة.

(ومنهم): من إذا طولب بتحقيق نقله يقول: هذا القول قاله العقلاء، والإمام الفلاني لا يخالف العقلاء؛ ويكون أولئك العقلاء طائفة من أهل الكلام الذين ذمهم الأئمة. فقد قال الشافعي رضي الله عنه: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، والنعال، ويطاف بهم في القبائل، والعشائر، ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام.

فإذا كان هذا حكمه فيمن أعرض عنهما، فكيف حكمه فيمن عارضهما بغيرهما؟ وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: من طلب الدين بالكلام تزندق. وقال أحمد بن حنبل: ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، وقال: علماء الكلام زنادقة، وكثير من هؤلاء قرؤوا كتبا من كتب الكلام فيها شبهات أضلتهم، ولم يهتدوا لجوابها؛ فإنهم يجدون في تلك الكتب أن الله تعالى لو كان فوق الخلق لزم التجسيم والتحيز والجهة، وهم لا يعلمون حقائق هذه الألفاظ، وما أراد بها أصحابها؛ ومن اشتبه عليه ذلك، أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يصلي يقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا

ص: 63

فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"1.

فإذا افتقر العبد إلى الله تعالى ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وأئمة المسلمين، انفتح له الباب وتبين له الصواب بمشيئة الملك الوهاب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[التوسل والاستغاثة بالأنبياء والصالحين]

(فصل) وأما المبحث الثاني عمن كان يستغيث بالمخلوق عند الشدائد بالنداء والدعاء، ويستغيث، ويتوسل، ويتوجه بنبيه أو بالصالحين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أدعية الصباح:"أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وبكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك أن تقبلني في هذه الغداة"، مع الحديث الآخر:"أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ادع الله أن يعافيني. قال: إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك قال: ادعه. قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي؛ اللهم فشفعه في"2.

فهذان الحديثان مصرحان بالتوسل والتوجه والدعاء والتشفع والنداء؛ وما حكم من فعل ذلك وهو غير قاصد للشرك ولا معاند للإسلام؟ فالفرق ظاهر بينه وبين من قصد الشرك والعناد بعد معرفة التوحيد فنقول:

[الاستغاثة بالمخلوق عند الشدائد]

(الجواب) وبالله التوفيق: أما سؤال الميت والغائب، نبيا كان أو غيره، تفريج الكربات وإغاثة اللهفات، والاستغاثة به في الأمور المهمات، فهو من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين؛ لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين.

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/ 156).

2 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

ص: 64

وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزلت به ترة، أو عرضت له حاجة، أو نزلت به كربة وشدة، يقول لميت: يا سيدي فلان حسبك، أو اقض حاجتي، أو أنا مستشفع بك إلى ربي، كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين.

ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء، لا عند قبورهم، ولا إذا بعدوا عنها، ولا كانوا يقصدون قبورهم للدعاء والصلاة عندها.

ولهذا ثبت في الصحيح أن الناس لما قحطوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس، وتوسل بدعائه، وقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك إذا أجدبنا بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا! فيسقون، وكذلك معاوية رضي الله عنه لما استسقى بأهل الشام توسل بيزيد بن الأسود الجرشي.

فهذا الذي ذكره عمر رضي الله عنه توسل منهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته؛ ولهذا توسل بعده بدعاء العباس، وتوسل معاوية بدعاء يزيد بن الأسود؛ وهذا الذي ذكره الفقهاء في كتاب الاستسقاء، وقالوا يستحب أن يستسقى بالصالحين، وإذا كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل.

[سؤال الميت قضاء حاجته]

وهذه الأمور المبتدعة عند القبور أنواع: أبعدها عن الشرع: من يسأل الميت حاجته كما يفعله كثير من الناس، وهؤلاء من جنس عباد الأصنام؛ وقد قال الله تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء من الآيتين: 56 - 57]. قالت طائفة من السلف: كان أقوام يدعون الملائكة، والمسيح، وعزيرا، فقال الله لهم: هؤلاء

ص: 65

عبيدي كما أنتم عبيدي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي؛ فكل من دعا نبيا، أو وليا، أو صالحا، وجعل فيه نوعا من الإلهية، فقد تناولته هذه الآية؛ فإنها عامة في كل من دعا من دون الله مدعوًّا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته، ويخاف عذابه. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء، أو الصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد فعل الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.

ومعلوم أن هؤلاء كلهم يجعلونهم وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهى عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين، ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته، أو قدره؛ ولهذا قال:{وَلا تَحْوِيلًا} [الإسراء من الآية: 56]، فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا، أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة، أو الجن، فقد دعا من لا يغيث ولا يملك كشف ضره ولا تحويله.

وقد قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]، وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أن لا يجوز الاستغاثة بمخلوق؛ وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استغاث بكلمات الله، وأمر بذلك، فدل على أن كلمات الله غير مخلوقة، وأنها صفة من صفاته لأن الاستغاثة بالمخلوق لا تجوز.

[الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله]

والمقصود أن يعلم السائل -وفقه الله تعالى- أن الاستغاثة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله من كشف الكربات، وإغاثة اللهفات، وإجابة الدعوات، من الشرك الذي لا يغفره الله؛ وهو من الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} الآية [النّساء من الآية: 171]،

ص: 66

وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]1.

والغلو في الصالحين هو من فعل المشركين كما حكاه سبحانه وتعالى عن قوم نوح في قوله: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} الآية [نوح: 23]، قال ابن عباس رضي الله عنه هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد. حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت. فكل من غلا في نبي، أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من العبادة مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو اجبرني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال، فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل.

فإن الله تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده، ولا يجعل معه إله آخر؛ والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح، والملائكة، والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنْزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو صورهم يقولون:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزّمر من الآية: 3]، ويقولون:{هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس من الآية: 18].

كما أخبر الله -تعالى- عنهم بذلك في كتابه في غير ما آية؛ فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة. وعبادة الله تعالى وحده هي أصل الدين، وهي التوحيد الذي أمر الله تعالى به بالرسل، وأنزل به الكتب قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النّحل من الآية: 36]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحقق التوحيد، ويعلمه أمته، حتى قال له رجل: ما شاء الله

1 سورة المائدة آية: 77.

ص: 67

وشئت قال: "أجعلتني لله ندا قل: ما شاء الله وحده"1، وقال فيما ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "2، ونهى عن الحلف بغير الله وقال:"من حلف بغير الله فقد أشرك"3، وقال في مرض موته:"لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا"4، وقال:"اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"5 رواه مالك في الموطأ.

وروى الطبراني عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله"؛ ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه. فأعظم آية في القرآن آية الكرسي: {الله لَا إِلَهَ إِِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة، من الآية: 255]، وقال صلى الله عليه وسلم:"من كان آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة"6، والإله الذي يأله القلب خشية له وإجلالا وإكراما.

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور، ولا الصلاة عندها؛ وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور؛ ولهذا اتفق العلماء على أن من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره لا يتمسح بحجرته، ولا يقبلها، لأن ذلك إنما يكون لأركان بيت الله، فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق.

كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين، ورأسه الذي لا يقبل الله عملا إلا به، ويغفر لصاحبه، ولا يغفر لمن تركه، قال الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النّساء من الآية: 48، و 116].

وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النّساء من الآية: 48]. ولما كان للمشركين سدرة يعكفون عندها، ويسمونها ذات أنواط، فقال بعض الصحابة: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم:"الله أكبر إنها السنن. لتركبن سنن من كان قبلكم"7 فأنكر صلى الله عليه وسلم مجرد مشابهتهم.

فإذا كان اتخاذ الشجرة لتعليق الأسلحة والعكوف حولها اتخاذ إله مع الله، وهم لا يعبدونها ولا يسألونها،

1 أحمد (1/ 214).

2 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) ، وأحمد (1/ 23 ،1/ 24 ،1/ 47).

3 الترمذي: النذور والأيمان (1535)، وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) ، وأحمد (2/ 34 ،2/ 69 ،2/ 86 ،2/ 125).

4 البخاري: الصلاة (436)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (529)، والنسائي: المساجد (703) والجنائز (2046) ، وأحمد (1/ 218 ،6/ 34 ،6/ 80 ،6/ 121 ،6/ 146 ،6/ 228 ،6/ 252 ،6/ 255 ،6/ 274 ،6/ 275)، والدارمي: الصلاة (1403).

5 أحمد (2/ 246).

6 أبو داود: الجنائز (3116) ، وأحمد (5/ 233 ،5/ 247).

7 مسند أحمد (5/ 218 ،5/ 340).

ص: 68

فما الظن بالعكوف حول القبر ودعائه والدعاء عنده، أو الدعاء به وأي شبه للفتنة بالشجرة إلى الفتنة بالقبر لو كان أهل الشرك والبدع يعلمون، ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما عليه أهل الشرك والبدع اليوم في هذا الباب وغيره علم أن بين السلف وبينهم أبعد مما بين المشرق والمغرب والأمر والله أعظم مما ذكرنا وبالله التوفيق.

[التوسل وسؤال الله بالمخلوق دون سؤال المخلوق]

(النوع الثاني): من الأمور المبتدعة عند القبور أن يسأل الله تعالى به؛ وهذا يفعله كثير من المتأخرين، وهو من البدع المحدثة في الإسلام، ولكن بعض العلماء يرخص فيه وبعضهم ينهى عنه ويكرهه. وليس هذا مثل النوع الذي قبله، فإنه لا يصل إلى الشرك الأكبر عند من كرهه ولا يسمى هذا استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو سؤال به.

والفرق بينه وبين الذي قبله فرق عظيم، أبعد مما بين المشرق والمغرب؛ والسائل -سامحه الله تعالى- لم يفرق بين هذا وهذا، وجعل هذين النوعين نوعا واحدا. وهذا جهل عظيم بدين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما درج عليه السلف الصالح من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان، ومن سلك سبيلهم. والعامة الذين يتوسلون في أدعيتهم بالأنبياء والصالحين، كقول أحدهم: أتوسل إليك بنبيك، أو بأنبيائك، أو بملائكتك، أو بالصالحين من عبادك، أو بحق الشيخ فلان، أو بحرمته، أو أتوسل إليك باللوح والقلم، أو بالكعبة، وغير ذلك مما يقولونه في أدعيتهم، يعلمون أنهم لا يستغيثون بهذه الأمور، ولا يسألونها، وينادونها؛ فإن المستغيث بالشيء طالب منه، سائل له، والمتوسل به لا يدعو ولا يطلب منه ولا يسأل، وإنما يطلب به. وكل أحد يفرق بين المدعو به وبين المدعو والمستغاث، والاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر.

ص: 69

والاستعانة طلب العون؛ والمخلوق إنما يطلب منه من هذه الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى:{وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال من الآية:]، وكما قال تعالى:{فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص من الآية: 5] وأما ما لا يقدر عليه إلا الله فلا يطلب إلا من الله، كما قال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النّمل من الآية: 62].

حتى إن المشركين عبدة الأوثان يخلصون الدعاء لله، والاستغاثة في الشدة، وينسون ما يشركون، لعلمهم أنه لا يقدر على تفريج الكربات، وقضاء الحاجات، وإغاثة اللهفات إلا رب الأرض والسموات، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء من الآية: 67].

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].

وقال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية [لقمان من الآية: 32].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزّمر: 8]. ولا يعرف في لغة أحد من بني آدم أن من قال: أتوسل إليك برسولك، أو أتوجه إليك برسولك، فقد استغاث به حقيقة؛ فإنهم يعلمون أن المستغاث به مسؤول مدعو، فيفرقون بين المسؤول، وبين المسؤول به، سواء استغاث بالخالق أو بالمخلوق؛ فإنه يجوز أن يستغاث بالمخلوق فيما يقدر عليه والنبي صلى الله عليه وسلم أفضل مخلوق يستغاث به في مثل ذلك.

فلو قال قائل فيمن يستغيث به: أسألك بفلان، أو بحق فلان، لم يقل أحد إنه استغاث بمن توسل به، بل إنما استغاث بمن دعاه وسأله؛ ولهذا قال المصنفون في شرح أسماء الله الحسنى أن المغيث بمعنى المجيب، لكن

ص: 70

الإغاثة أخص بالأفعال، والإجابة أخص بالأقوال.

[التوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم]

والتوسل إلى الله في الدعاء بغير نبينا صلى الله عليه وسلم لا نعلم أحدا من السلف فعله، ولا روي فيه أثر؛ وقد قال أبو الحسين القدوري الحنفي في شرح الكرخي: قال بشر بن الوليد: سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك؛ وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك هو الله، فلا أكره هذا؛ وأكره بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام، بهذا الحق يكره، قالوا جميعا. انتهى.

وكذلك قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام الفقيه الشافعي في فتاويه المشهورة عنه: أنه لا يجوز التوسل إلى الله تعالى بخلقه، إلا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن صح الحديث فيه، يعني حديث الأعمى الذي رواه الترمذي وغيره.

والمسألة بخلقه لا تجوز، لأنه لا حق للخلق على الخالق؛ فلا يجوز أن يسأل ما ليس بمستحق، ولكن معقد العز من عرشك هل هو سؤال بمخلوق، أو بالخالق فيه نزاع بينهم؛ فلذلك تنازعوا فيه. وأبو يوسف بلغه الأثر فيه: أسألك بمعقد العز من عرشك، ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى وكلماتك التامة؛ فجوزه لذلك، والله أعلم.

(وأما الجواب) عن الحديثين المذكورين، فمن وجوه:

(أحدها): أن يقال: قد أجاب عنهما غير واحد من العلماء، على تقدير صحتهما، بأن المعنى بحق السائلين عليك أي: الحق الذي أوجبه الله تعالى على نفسه للسائلين وهو الإجابة؛ ولا ريب أن الله تعالى جعل على نفسه حقا لعباده المؤمنين كما قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الرّوم من الآية: 47]، وكما قال تعالى: {كَتَبَ

ص: 71

رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وفي حديث معاذ في الصحيحين:"أتدري ما حق العباد على الله قلت: الله ورسوله أعلم"1 الحديث: فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق؛ وقد اتفق العلماء على وجوب ما يجب بوعده الصادق، وتنازعوا هل يوجب بنفسه على نفسه ومن جوز ذلك احتج بقوله:{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وبقوله في الحديث "إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما "2.

وأما الإيجاب عليه والتحريم بالقياس على خلقه، فهو قول القدرية والمعتزلة؛ وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول؛ ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام من الآية: 54]، وحرم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئا كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم وهو المرسل، إليهم الرسل وهو الميسر لهم الإيمان والعمل. وإذا كان كذلك فالحق الذي لعباده هو من فضله وامتنانه، وإذا سئل بما جعله هو سببا للمطلوب من الأعمال الصالحة التي وعد أصحابها كرامته وإجابته لدعائهم، فهو سؤال وتسبب بما جعله الله سببا.

(الوجه الثاني): أن يقال: أن الله إذا سئل بشيء ليس سببا للمطلوب، فإما أن يكون إقساما عليه به فلا يقسم على الله بمخلوق، وإما أن يكون سؤالا بما لا يقتضي المطلوب فيكون عديم الفائدة.

فالأنبياء والمؤمنون لهم حق على الله بوعده الصادق لهم وكلماته التامة هذا حق وليس فيه محذور، وأما إذا سئل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين لم يكن في ذلك سبب يقتضي المطلوب.

1 البخاري: الجهاد والسير (2856)، ومسلم: الإيمان (30)، والترمذي: الإيمان (2643)، وابن ماجه: الزهد (4296) ، وأحمد (3/ 260 ،5/ 228 ،5/ 229 ،5/ 230 ،5/ 234 ،5/ 236 ،5/ 238 ،5/ 242).

2 مسلم: البر والصلة والآداب (2577) ، وأحمد (5/ 160).

ص: 72

(الوجه الثالث): أن يقال: الذي جاءت به السنة وتواتر في الأحاديث هو التوسل والتوجه إلى الله والإقسام عليه بأسمائه وصفاته، وبالأعمال الصالحة كالأدعية المعروفة في السنن:"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام"1 الحديث. وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد"2.

وفي الحديث الآخر: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3 الحديث. وقد أخبر الله تعالى عن عباده الصالحين أنهم توسلوا إليه بالأعمال الصالحة فقال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا} الآيات [آل عمران من الآية: 193].

وكما ثبت في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آووا إلى الغار، فدعوا الله وتوسلوا إليه بالأعمال الصالحة، وكالتوسل بدعاء الأنبياء والصالحين وشفاعتهم في حياتهم؛ فهذا مما لا نزاع فيه،، بل هو من الوسيلة التي أمر الله بها في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (المائدة: من الآية 35].

وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء من الآية: 57].

فإن ابتغاء الوسيلة إليه هو طلب ما يتوسل به أي يتوصل ويتقرب به إليه سبحانه، سواء كان على وجه العبادة والطاعة وامتثال الأمر، أو كان على وجه السؤال له والاستعانة به رغبة إليه في طلب المنافع ودفع المضار؛ ولفظ الدعاء في القرآن يتناول هذا وهذا بمعنى العبادة والدعاء بمعنى المسألة؛ وإن كان

1 الترمذي: الدعوات (3544)، والنسائي: السهو (1300)، وأبو داود: الصلاة (1495)، وابن ماجه: الدعاء (3858) ، وأحمد (3/ 120 ،3/ 158 ،3/ 245 ،3/ 265).

2 الترمذي: الدعوات (3475)، وابن ماجه: الدعاء (3857).

3 أحمد (1/ 452).

ص: 73

كل منهما مستلزما للآخر لكن العبد قد تنْزل به النازلة فيكون مقصوده طلب حاجاته وتفريج كرباته، فيسعى في ذلك بالسؤال والتضرع، وإن كان ذلك من العبادة والطاعة.

(الوجه الرابع): أن يقال: قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحدا من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين، ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها.

كما أنه لم يشرع لأمته السجود لميت ولا إلى ميت؛ بل نعلم أنه نهى عن كل هذه الأمور وأنه من الشرك الذي حرم الله قال الله تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} [الشّعراء: 213].

وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف الآيتان: 5 - 6] وقال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]. ومن تأمل أدلة الكتاب والسنة علم علما ضروريا أن الميت لا يطلب منه شيء، لا دعاء ولا غيره.

وأما حديث الأعمى فليس فيه -بحمد الله- إشكال؛ فإنه إنما توجه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وشفاعته في حياته، فإن في الحديث أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له "فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يعافيني. فقال: إن شئت صبرت فهو خير لك، وإن شئت دعوت. فقال: فادعه. وقال في آخره: اللهم فشفعه في"1 فعلم أنه شفع له فتوسل بشفاعته لا بذاته، كما كان الصحابة يتوسلون

1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

ص: 74

بدعائه وشفاعته في الاستسقاء، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، معناه: نتوسل بدعائه وشفاعته، ونحن نتوسل إليك بدعاء عمه وشفاعته، ليس المراد أنا نقسم عليك به وما يجري هذا المجرى مما يفعل بعد موته وفي مغيبه، كما يقوله بعض الناس: أسألك بجاه فلان عبدك، ويقولون إنا نتوسل إلى الله بأنبيائه. ولو كان هذا هو التوسل الذي يفعله الصحابة، لفعلوا ذلك بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعدلوا عنه إلى العباس مع علمهم أن السؤال به والإقسام به أعظم من العباس؛ فعلم أن ذلك التوسل الذي في حديث عمر والذي في حديث الأعمى هو مما يفعل بالأحياء دون الأموات، وهو التوسل بدعائهم وشفاعتهم. فالأعمى طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له أن يرد الله عليه بصره، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء وأمره أن يسأل الله قبول شفاعة نبيه فيه.

فقوله في الحديث: "أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"1 أي بدعائه وشفاعته، فلفظ التوجه والتوسل في الحديثين بمعنى واحد. وقوله: يا محمد يا رسول الله، إني أتوجه بك إلى ربي، أجاب عنه العلماء بأن هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب، فيخاطب المشهود بالقلب كما نقول في صلاتنا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ليس سؤاله والاستغاثة به.

(الوجه الخامس): أن يقال: هذا الحديث رواه النسائي في اليوم والليلة، والإمامان البيهقي وابن شاهين في دلائلهما، كلهم من حديث عثمان بن حنيف، ولم يذكروا فيه هذه الكلمة أعني قوله: يا محمد يا نبي الله، ولفظ الحديث عندهم عن عثمان بن حنيف أن رجلا أعمى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله

1 الترمذي: الدعوات (3578)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1385).

ص: 75

قد أصبت في بصري فادع الله لي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ وصل ركعتين، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيي محمد نبي الرحمة. أني أتشفع به إليك في رد بصري. اللهم شفع نبيي في. ففعل ذلك فرد الله عليه بصره، وقال له: إذا كانت لك حاجة فمثل ذلك فافعل". انتهى. ولفظ التوسل بالشخص والتوجه به والسؤال به فيه إجمال واشتراط، غلط بسببه من لم يفهم مقصود الصحابة، فيراد به التسبب به لكونه داعيا وشائعا مثلا، أو لكون الداعي مجيبا له مطيعا لأمره مقتديا به، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته؛ فهذا الثاني هو الذي كرهه العلماء ونهوا عنه.

[المستحب والممنوع عند قبره صلى الله عليه وسلم]

(النوع الثالث) من الأنواع المبتدعة عند القبور: أن يظن أن الدعاء عندها مستجاب، أو أنه أفضل من الدعاء في المسجد؛ فيقصد القبر لذلك، فإن هذا من المنكرات إجماعا، ولم نعلم في ذلك نزاعا بين أئمة الدين. وإن كان كثير من المتأخرين يفعله، فإن هذا أمر لم يشرعه الله ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا أئمة المسلمين، ولا ذكره أحد من العلماء ولا الصالحين المتقدمين؛ بل أكثر ما ينقل ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية. وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ودهمتهم نوائب، ولم يجيئوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا استغاثوا به؛ بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير، وعندهم التابعون، ومن بعدهم من الأئمة، فما استغاثوا عند قبر صاحب قط، ولا توسلوا به، ولا استسقوا عنده واستنصروا عنده ولا به.

ومعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله لو وقع، بل على ما هو دونه، ومن تأمل كتب الآثار، وعرف حال السلف، علم قطعا أن القوم ما كانوا

ص: 76

يستغيثون عند القبور، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا؛ بل كانوا ينهون عن ذلك من يفعله من جهالهم. فمن ذلك ما رواه، أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا أبو بكر، ثنا يزيد بن الحباب، أنبأنا جعفر بن إبراهيم، حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسين، أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيدعو فيها، فقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنت"1 رواه أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد على الصحيحين، وشرطه فيه أحسن من شرط الحاكم في صحيحه.

وروى سعيد في سننه عن سهيل بن أبي سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم مقابر؛ وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم. لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

وروى سعيد أيضا عن أبي سعيد مولى المهدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني"3، فهذان المرسلان من وجهين مختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج من أرسله به؛ وذلك يقتضي ثبوته عنده لو لم يكن روي من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد روي مسندا؟ ووجه الدلالة أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن

1 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/ 367).

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/ 367).

3 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/ 367).

ص: 77

اتخاذه عيدا، فغيره أولى بالنهي كائنا من كان. ثم إنه قرن ذلك بقوله:"ولا تتخذوا بيوتكم قبورا"1 أي: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء فتكون بمنْزلة القبور؛ فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم. وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: إذا سلم الرجل على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم أراد الدعاء، فليستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره.

وكذلك ذكر أصحاب مالك قالوا: يدنو من القبر فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو مستقبل القبلة، وقال مالك في المبسوط: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، ولكن يسلم ويصلي. فقصد الدعاء عند القبر كرهه السلف متأولين في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيدا"2 كما ذكرنا ذلك عن علي بن الحسين، والحسن بن الحسن ابن عمه، وهما أفضل أهل البيت من التابعين، وأعلم بهذا الشأن من غيرهما لمجاورتهما الحجرة النبوية نسبا ومكانا.

وقد ذكرنا عن أحمد وغيره أنهم أخبروا من سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يدعو أن ينصرف فيستقبل القبلة، وكذلك أنكر ذلك غير واحد من العلماء المتقدمين كما ذكرناه عن مالك وغيره، وكذلك غير واحد من المتأخرين مثل أبي الوفاء ابن عقيل، وأبي الفرج بن الجوزي. ولا يحفظ عن صاحب، ولا عن تابع، ولا عن إمام معروف أنه استحب قصد شيء من القبور للدعاء عندها، ولا روى أحد في ذلك شيئا لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة، ولا عن الأئمة المعروفين، والله أعلم.

[الجهل بالشرك مانع من التكفير حتى تقوم الحجة]

(فصل) المبحث الثالث فيمن مات على التوحيد، وإقامة قواعد الإسلام الخمس، وأصول الإيمان الستة، ولكنه كان يدعو وينادي ويتوسل في الدعاء

1 البخاري: الصلاة (432) والجمعة (1187)، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (777)، والترمذي: الصلاة (451)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1598)، وأبو داود: الصلاة (1448)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) ، وأحمد (2/ 6).

2 أبو داود: المناسك (2042) ، وأحمد (2/ 367).

ص: 78

إذا دعا ربه ويتوجه بنبيه في دعائه معتمدا على الحديثين اللذين ذكرناهما، أو جهلا منه وغباوة، كيف حكمهم؟

(فالجواب) أن يقال: قد قدمنا الكلام على سؤال الميت، والاستغاثة به، وبينا الفرق بينه، وبين التوسل به في الدعاء، وأن سؤال الميت، والاستغاثة به في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، من الشرك الأكبر الذي حرمه الله تعالى ورسوله، واتفقت الكتب الإلهية، والدعوات النبوية على تحريمه وتكفير فاعله والبراءة منه ومعاداته؛ ولكن في أزمنة الفترات، وغلبة الجهل لا يكفر الشخص المعين بذلك حتى تقوم عليه الحجة بالرسالة، ويبين له ويعرف أن هذا هو الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله. فإذا بلغته الحجة، وتليت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ثم أصر على شركه فهو كافر؛ بخلاف من فعل ذلك جهالة منه ولم ينبه على ذلك. فالجاهل فعله كفر، ولكن لا يحكم بكفره إلا بعد بلوغ الحجة إليه؛ فإذا قامت عليه الحجة ثم أصر على شركه فقد كفر، ولو كان يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويصلي، ويزكي، ويؤمن بالأصول الستة.

وهذا الدين الذي ندعو إليه قد ظهر أمره، وشاع، وذاع، وملأ الأسماع من مدة طويلة، وأكثر الناس بدّعونا وأخرجونا وعادونا عنده، وقاتلونا واستحلوا دمائنا وأموالنا؛ ولم يكن لنا ذنب سوى تجريد التوحيد، والنهي عن دعوة غير الله، والاستغاثة بغيره، وما أحدث من البدع والمنكرات حتى غُلبوا وقهروا فعند ذلك أذعنوا، وأقروا بعد الإنكار. وأما من مات وهو يفعل الشرك جهلا لا عنادا، فهذا نكل أمره إلى الله تعالى، ولا ينبغي الدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له؛ وذلك لأن كثيرا من العلماء يقولون: من بلغه القرآن

ص: 79

فقد قامت عليه الحجة كما قال تعالى: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام من الآية: 19]، فإذا بلغه القرآن، وأعرض عنه، ولم يبحث عن أوامره، ونواهيه فقد استوجب العقاب قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].

وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ} [طه من الآيات: 99 - 101].

[تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك والجهل]

(فصل) وأما المبحث الرابع في تقسيم مواريث من مات على ذلك، وما حصل منهم من الإتلافات، وما وقع بينهم من القتل وغيره، ما حكمه.

(فالجواب): تقسيم المواريث التي قسمت في حال الشرك الجهل تقر على ما هو عليه، ولا ترد القسمة في الإسلام؛ ومن أسلم على شيء في يده قد ملكه في الجاهلية لم ينْزع من يده في الإسلام؛ لأن الإسلام يجب ما قبله.

وكذلك ما حصل بينهم من القتل والإتلافات، فالذي نفتي به أنه لا يطالب بشيء من ذلك؛ وذلك لأن حال الناس قبل هذا الدين أكثرهم حاله كحال أهل الجاهلية الأولى. وكل قوم لهم عادة وطريقة استمروا عليها تخالف أحكام الشرع في المواريث، والدماء، والديات، وغير ذلك، ويفعلون ذلك مستحلين له، فإذا أسلموا لم يطالبوا بشيء مما فعلوه في جاهليتهم وتملكوه من المظالم ونحوها؛ وأما الديون والأمانات فالإسلام لا يسقطها، بل يجب أداؤها إلى أربابها، والله أعلم.

[قسمة المواريث والصدقات المفروضة]

(فصل) وأما المبحث الخامس فيما انفرد الله سبحانه وتعالى بتقسيمه في كتابه العزيز من المواريث والصدقات المفروضة إلخ.

(فالجواب) أن يقال: إن المواريث التي قسمت في الشرك، وتملكها أهلها ثم أسلموا، لا ترد قسمتها؛ ومن أسلم على شيء أقر في يده إذا كان قد

ص: 80

تملكه في جاهليته. وأما إذا لم تقسم التركة، وأسلم أهلها وهي موقوفة، فإنها لا تقسم إلاعلى قسمة الله تعالى في كتابه العزيز التي يعرفها أهل العلم.

وأما قسمة الصدقات المفروضة، فقد قسمها سبحانه وتعالى في ثمانية أصناف لا يجوز صرفها إلى غيرهم، وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء؛ لكن اختلفوا هل المراد أنها تقسم بين الأصناف الثمانية بالسوية كما يقسم الميراث بين أهله، وأنه لا بد من تعميم الأصناف الثمانية، أو المراد بذلك بيان المصرف، وأنها لا تصرف إلى غير هؤلاء، وأنه يجوز صرفها إلى بعض الأصناف دون بعض بحسب الحاجة والمصلحة؟ فذهب الشافعي إلى أنه يجب استيعاب الأصناف الثمانية، وذهب الجمهور إلى جواز عدم التعميم؛ واحتجوا بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وبقوله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة من الآية: 271]، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ:"تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم"1 فلم يذكر في الآية والخبر إلا صنفا واحدا.

وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بني زريق أن يدفعوا صدقتهم إلى سلمة بن صخر، وقال لقبيصة "أقم يا قبيصة حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها"2، لو وجب صرفها إلى جميع الأصناف لم يجز صرفها إلى واحد؛ ولهذا قال الجمهور: يجوز صرفها إلى واحد، وهو مروي عن عمر، وحذيفة، وابن عباس، وبه يقول سعيد بن جبير، والحسن، وعطاء، وإليه ذهب الثوري، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الإمام أحمد.

[استغلال المرتهن للرهن]

(وأما المبحث السادس) في الأمور التي تكون الأراضي مرهونة بها، ويستغلها المرتهن، أو يأخذ شطرًا من غلاتها والمرهون بها البيوت، والبنادق، والحلي

1 البخاري: الزكاة (1496)، ومسلم: الإيمان (19)، والترمذي: الزكاة (625)، والنسائي: الزكاة (2435)، وأبو داود: الزكاة (1584)، وابن ماجه: الزكاة (1783) ، وأحمد (1/ 233)، والدارمي: الزكاة (1614).

2 مسلم: الزكاة (1044)، وأبو داود: الزكاة (1640) ، وأحمد (5/ 60)، والدارمي: الزكاة (1678).

ص: 81

وينتفع بها المرتهن، وبطلانها معلوم، فلما أرادوا مخارجتهم شرعوا فيه شرائع من تلقاء أنفسهم، وجعلوا الدراهم مناجمة في ستة سنين، أو أكثر، أو يقطعون لصاحب الدراهم قطعة من الأرض المرهونة لا تساوي ثلث ولا ربع المال، وأجبروه على ذلك إلخ.

(فالجواب): أن المفتى به عندنا أن الرهن وثيقة في الدين، يباع عند حلول الدين إذا امتنع الراهن من الوفاء؛ فمتى امتنع الراهن من الوفاء، وطلب المرتهن بيع الرهن بيع، واستوفى من ثمنه، ولم يجز مطله، ولا إجباره على المناجمة، ومن أجبره على المناجمة فهو جاهل، ومن نسب ذلك إلينا فقد غلط، بل لا يجوز ذلك عندنا إلا برضى المرتهن.

[تقبيل أيدي العلماء والصالحين]

(وأما المبحث السابع) إذا قبل الرجل كف غيره، لا للتعبد، ولا لغناه، ولا لدنياه، ولا لشوكته، بل لنحو صلاحه، وعلمه، وزهده، وشرفه، وخصاله المحمودة.

(فالجواب) أنه لم يكن من عادة السلف تقبيل أيدي العلماء والصالحين، بل لم يكن من عادتهم تقبيل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أفضل الخلق -صلوات الله وسلامه عليه-.

فمن جعل ذلك عادة فقد خالف ما عليه السلف، وأما من فعل ذلك بعض الأحيان ولم يجعله عادة مستمرة فهذا لا بأس به، بل قد يستحب. وعلى هذا يحمل الحديث المذكور عن ابن عمر أنهم "لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة مؤتة قالوا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون أنا لكم فئة. قال: فقبلنا يديه ورجليه"1، وكذلك أبو عبيدة قبل يد عمر، وزيد بن ثابت قبل يد ابن عباس؛ وهذا إنما فعلوه لأمر يوجب ذلك بعض الأحيان، ولم يجعلوه عادة مستمرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

1 الترمذي: الجهاد (1716)، وأبو داود: الجهاد (2647).

ص: 82

(وأما المبحث الثامن) عن التنباك الذي اختلفت فيه آراء علماء الإسلام؛ فمنهم من أفتى بحله، ومنهم من أفتى بتحريمه بقيد وتعليق، ومنهم من أفتى بتحريمه مطلقًا. ولما بلغنا أنكم أفتيتم فيه بأنه من المسكرات اعتمدنا على قولكم، فعارض بعض الراحلين من عندكم فقالوا: من شربه بعد ما تاب منه فقد ارتد وحل دمه وماله.

(فالجواب): أن من نسب إلينا القول بهذا فقد كذب وافترى، بل من قال هذا القول استحق التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله؛ فإن هذا مخالف للكتاب، بل لو تاب منه ثم عاد إلى شربه لم يحكم بكفره وردته، ولو أصر على ذلك، إذا لم يستحله 1. والتكفير بالذنوب مذهب الخوارج الذين مرقوا من الإسلام واستحلوا دماء المسلمين بالذنوب والمعاصي.

[حلق شعر الرأس]

(وأما المبحث التاسع) عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدا.

(فالجواب): أن هذا كذب وافتراء علينا، ولا يفعل هذا من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فإن الكفر والردة لا تكون إلا بإنكار ما علم بالضرورة من دين الإسلام؛ وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون، فضلا عن

1 هذا القيد يذكره العلماء في المعاصي المجمع على تحريمها كالزنا والخمر، فمن استحلها كان كافرا لرده النصوص القطعية والإجماع، وأما ما اختلف العلماء في تحريمه لاختلاف اجتهادهم فلا يكفر مستحله قطعا، وما ذكر المصنف القيد هنا إلا بحسب العادة المتبعة في المحرمات الاجتماعية المعلومة من الدين بالضرورة كما سيأتي له في مسألة حلق الشعر الآتية.

ص: 83

أن يكون واجبا، فضلا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. والذي وردت السنة بالنهي عنه هو القزع، وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه؛ وهذا هو الذي نهينا عنه، ونؤدب فاعله، ولكن الجهال القادمون إليكم لا يميزون أنواع الكفر والردة، وكثير منهم غرضه نهب الأموال. ونحن لم نأمر أحدا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه، بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله تعالى، والتزام شرائع الإسلام، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان.

فإذا فعلوا خلاف ذلك، وبلغنا ذلك من فعلهم، لم نقرهم على ذلك؛ بل نبرأ إلى الله من فعلهم، ونؤدبهم على قدر جرائمهم بحول الله وقوته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[الحِلْف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع]

(وأما المبحث العاشر) في قوم اجتمعوا، وعقدوا بينهم العهود في المؤازرة والمناصرة، والمعاونة على الأضياف، والمدافعة؛ وأنهم يعقلون في الدماء عمدها وخطئها، فهل يجب الوفاء بها إذا كان في ذلك صلاح فإذا كان الحلف قد صدر منهم في الجاهلية، فهل يلزم لقوله صلى الله عليه وسلم: كل حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة وهل يجوز إحداثه في الإسلام إذا وجد فيه صلاح؟

(فالجواب): أن الحلف إذا وقع على خلاف أحكام الشرع لم يجز التزامه، ولا الوفاء به؛ فإن قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق؛ كما ثبت في الصحيحين في حديث بريدة رضي الله عنه:"ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"1.

وهذا الحلف المذكور على هذا الوجه يخالف حكم الله؛ فإن الحكم الشرعي أن دية العمد على القاتل خاصة، ودية الخطأ على العاقلة؛ وهذا أمر لا خلاف فيه بين العلماء فكيف يبطل هذا الحكم الشرعي بحلف

1 البخاري: البيوع (2168)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519).

ص: 84