المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الأول: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي - التعيين في شرح الأربعين - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثَّاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس:

- ‌الحديث السادس:

- ‌الحديث السابع:

- ‌الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌الحديث العاشر:

- ‌الحديث الحادي عشر:

- ‌الحديث الثاني عشر:

- ‌الحديث الثالث عشر:

- ‌الحديث الرابع عشر:

- ‌الحديث الخامس عشر:

- ‌الحديث السادس عشر:

- ‌الحديث السابع عشر:

- ‌الحديث الثامن عشر:

- ‌الحديث التاسع عشر:

- ‌الحديث العشرون:

- ‌الحديث الحادي والعشرون:

- ‌الحديث الثاني والعشرون:

- ‌الحديث الثالث والعشرون:

- ‌الحديث الرابع والعشرون:

- ‌الحديث الخامس والعشرون:

- ‌الحديث السادس والعشرون:

- ‌الحديث السابع والعشرون:

- ‌الحديث الثامن والعشرون:

- ‌الحديث التاسع والعشرون:

- ‌الحديث الثلاثون:

- ‌الحديث الحادي والثلاثون:

- ‌الحديث الثاني والثلاثون:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون:

- ‌الحديث السادس والثلاثون:

- ‌الحديث السابع والثلاثون:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون:

- ‌الحديث التاسع والثلاثون:

- ‌الحديث الأربعون:

- ‌الحديث الحادي والأربعون:

- ‌الحديث الثاني والأربعون:

الفصل: ‌ ‌الحديث الأول: عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي

‌الحديث الأول:

عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه. رواه إمامًا المحدثين (1) أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردز به البُخاريّ، وأبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري في صحيحيهما اللذين هما أصَحُّ الكتب المصنفة.

أقول: الكلام على هذا الحديث في إسناده وألفاظه ومعانيه، أما إسناده ففي مواضع:

أحدها: أن جد البُخاريّ بردز به بباء موحدة مفتوحة ثم راء مهملة ساكنة ثم دال مهملة مكسورة ثم زاي معجمة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم هاء.

قلت: ذكر أبو الحسين ابن الفرَّاء (2) في الطبقات: أن البُخاريّ ذهبت عينه صبيًّا فرأى في منامه الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام فبرَّك (1) له عليها،

(أ) في م فتفل.

(1)

رواه البُخاريّ 1/ 3 ومسلم 3/ 1515.

(2)

هو القاضي أبو الحسين محمد بن القاضي الكبير أبي يعلى محمد بن الحسين الحنبلي صاحب طبقات الحنابلة ت 526 السير 19/ 601.

ص: 25

أو دعا له فعادت (1)، فأرى أن قراءة النَّاس البُخاريّ لتفريج الكرب مأخوذ من هذا لأن مصنفه فرجت كربته (2).

الموضع الثَّاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من سمي أمير المؤمنين من الخلفاء (3) لا مطلقًا، بل أول من سمي أمير المؤمنين من المسلمين عبد الله بن جحش حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سريَّة في أول مقدمه المدينة فقال له أصحابه: بما ندعوك؟ فقال: أنتم المؤمنون وأنا أميركم، قالوا: فأنت إذًا أمير المؤمنين (4). وفي سريتهم أنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (5)[سورة البقرة: 217 - 218] الآيتين.

الموضع الثالث: هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا عمر، ولا عن عمر إلَّا علقمة بن وقاص الليثي، ولا عن علقمة إلَّا محمد بن إبراهيم التَّيميُّ، ولا عن محمد إلَّا يَحْيَى بن سعيد الأنصاري، ثم اشتهر عن يَحْيَى حتَّى رواه

(1) طبقات الحنابلة 1/ 274.

(2)

ليست قراءة صحيح البُخاريّ وسرد أحاديثه في الشدائد والمحن سببا شرعه الله سبحانه وتعالى لدفعها، بل السبب الشرعي العمل بما فيه من السنة النبوية التي فيها أخذ بالأسباب لكل شيء حسبما يناسبه، ويقع هذا الإنحراف عن السبب الشرعي والعلاج الملائم حين يطرأ الخلل على عقيدة الأمة وسلوكها.

(3)

ينظر قصة تلقيبه بأمير المؤمنين في المعجم الكبير للطبراني 1/ 64، مستدرك الحاكم 3/ 81 - 82، وتاريخ الطبري 4/ 208، وطبقات ابن سعد 3/ 281، والأوائل للعسكري 1/ 226 - 227، ومجمع الزوائد 9/ 61.

(4)

ينظر طبقات ابن سعد 2/ 11.

(5)

ينظر جامع البيان لأبي جعفر الطبري 4/ 302 - 305.

ص: 26

أئمة الحديث السبعة البُخاريّ ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنَّسائيُّ وابن ماجه (1) وغيرهم من أصحاب المسانيد حتَّى صار شبيها بالمتواتر.

الموضع الرابع قوله: "إماما المحدثين" هو باعتبار ما كانا عليه من الورع والزهد والجد والاجتهاد في تخريج الصحيح والتصريح به في كتابيهما حتَّى ائتَمَّ بهما في التصحيح كل من بعدهما. وإنَّما قال الشَّافعي رضي الله عنه: لا أعلم كتابًا بعد كتاب الله عز وجل أصح من موطأ مالك رضي الله عنه قبل ظهور الصحيحين، فلما ظهرا كانا أحقَّ وأولى باسم الصحة. وفي أيّ الكتابين أصحُّ أقوال:

ثالثها: أنهما سواء، والمشارقة يرجحون البُخاريّ، وبعض المغاربة مسلمًا. ومما يدل على أن كتابيهما أصح كتب السنة أن المحدثين قسموا الحديث الصحيح إلى سبعة أقسام:

أحدها: ما اتفقا عليه، وثانيها: ما انفرد به البُخاريّ، وثالثها: ما انفرد به مسلم، ورابعها: ما خُرجَ على شرطهما، وخامسها: ما خُرجَ على شرط البُخاريّ، وسادسها: ما خُرجَ على شرط مسلم، وسابعها: ما حكم بصحته إمام معتبر ولا معارض له.

قلت: فلما قدَّموا الصحيحين ثم ما خُرجَ عليهما في أقسام الحديث الصحيح ومراتبه دلَّ على اتفاقهم على أنهما أصح الكتب المصنفة كما قال الشَّيخ.

(1) رواه البُخاريّ 1/ 3 ومسلم 3/ 1515 وأحمد 1/ 25 وأبو داود 2/ 651 والترمذي 4/ 179 والنَّسائيُّ 1/ 58 وابن ماجه 2/ 1413.

ص: 27

وأمَّا ألفاظه: فمنها الأعمال وهي حركات البدن، ويتجوَّز بها عن حركات النفس.

ومنها النيات وهي جمع نية بالتشديد والتخفيف، فإنَّ شُددَت كانت من نوى ينوي إذا قصد، وأصلها نِوْيَةٌ قلبت الواو ياءً ثم أدغمت في الياء بعدها فقيل نِيَّة، وإن خُفِّفَت كانت من وَنَى يَنِيْ إذا أبطأ وتأخر من قول الشاعر:

مِسَح إذَا ما السَّابِحَاتُ عَلَى الوَنى

أثَرْن الغُبَارَ بِالكَدِيْدِ المُرَكَّلِ (1)

أي على الإبطاء والتأخُّرِ في الجَرْيِ. وذلك لأن النيَّة تحتاج في توجيهها وتصحيحها إلى إبطاء وتَأَخُّر. ولهذا ترى بعض النَّاس ييطئُ في نية الصَّلاة حتَّى تفوته الركعة الأولى مع الإمام (2).

ومنها نوى ينوي إذا قصد، يقال: نواكَ الله بخير، أي قصدك به، ونَوَيْتُ فلانًا وانتويته بمعنى.

ومنها الهجرة وهي في الشريعة: مفارقة دار الكفر إلى دار الإسلام خوفًا من الفتنة وطلبا لإقامة الدين، وفي الحقيقة مفارقة ما يكرهه الله عز وجل إلى ما يحب. وقد ثبت في الحديث "المجاهد من جاهد نفسه والمهاجر من هاجر ما نَهَى الله عنه"(3) وكانت الهجرة في الإسلام مرتين إلى الحبشة وإلى المدينة،

(1) البيت رقم 51 من معلقة امرئ القيس.

(2)

لا ارتباط -لغة وشرعًا- بين وسوسة الموسوسين وتلاعب الشيطان بهم في عباداتهم وبين معنى النيَّة ودلالتها على التأخير والإبطاء.

(3)

رواه أحمد 6/ 21 وابن حبان (الإحسان 11/ 204) والطبراني في المعجم الكبير 18/ 309 من حديث فضالة بن عبيد بنحوه.

ص: 28

وأفضل المسلمين أصحاب الهجرتين إلَّا ما خَصَّهُ الدليل. وقوله عليه الصلاة والسلام "لا هجرة بعد الفتح"(1) يعني من مكّة لأنها حينئذٍ دار الإسلام.

أما من سائر بلاد الكفر فهي باقية لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنقطع الهجرة حتَّى تخرج (أ) الشّمس من مغربها"(2).

ومنها قوله: "لدنيا يصيبها" أي يحصلها شَبَّه تحصيل الدُّنيا بإصابَة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود.

وأمَّا معانيه ففيها أبحاث.

الأول: (إنَّما) تقتضي تأكيد الحكم الواقع بعدها اتفاقًا.

أما الحصر وهو: إثبات الحكم لما بعدها، ونفيه عما عداه ففيه للأصوليين أقوال (3): ثالثها: أنها تقتضيه عرفًا لا وضعًا.

حجة الحصر مطلقًا من وجوه:

أحدها: أنها صُدرَت (ب) في كلامهم والمراد بها الحصر فوجب أن تكون حقيقة فيه، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة.

الثَّاني: أنها في غالب مواردها للحصر فوجب أن تكون موضوعة له حملًا لها على غالب مواردها.

(أ) في م تطَّلع.

(ب) في م وردت.

(1)

رواه البُخاريّ 2/ 651 ومسلم 2/ 986 من حديث ابن عباس.

(2)

لم أقف عليه بهذا اللفظ.

(3)

ينظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الحنبلي 1/ 115.

ص: 29

الثالث: أن (إنَّما) مُرَكَّبَة من (إنَّ) التي هي للإثبات، و (ما) التي هي للنفي، فاقتضت إِمَّا نفى الحكم عما بعدها، وإثباته لغيره وهو باطل إجماعًا، أو إثبات الحكم لما بعدها ونفيه عن غيره، وهو المطلوب.

واعترض على الأول بأنها وردت لغير الحصر فوجب أن تكون حقيقة فيه بعين ما ذكرتم.

وعلى الثَّاني بمنع أنها في غالب مواردها للحصر. سَلَّمناه لكن لا نُسَلِّمُ أنَّ ذلك يوجب أنها موضوعة للحصر لجواز غلبة الاستعمال في غير ما وضعت له.

وعلي الثالث: بأنَّا لا نُسَلِّمُ تركيبها من (إنَّ) و (ما) بل هي كلمة موضوعة من أصلها كذلك من غير تركيب.

سلمناه لكن لا نُسَلِّمُ أن "ما" فيها للنفي، إذ لها معاني غير ذلك فتخصيص النفي من بينها هاهنا تحكم.

سلمنا أنها النافية لكن لا نُسَلِّمُ أنَّ معنى مُفْرَدَيْهَا أعني "إنَّ" و "ما" بعد التركيب مَعْنَاهُمَا قَبلَهُ، لأنَّ التركيب يُغَيرُ معاني المفردات نحو "لولا" هي مُرَكَّبَةٌ من "لو" و "لا" وليس معناها معنى واحد منهما.

حجة القائلين بعدم الحصر من وجوه:

أحدها: أنها وردت لغير الحصر كثيرًا فلتكن حقيقة فيه كما سبق.

الثَّاني: أنا إذا قلنا: إنَّما قام زيد، حسن أن يقال: فهل قام عمرو؟ ولو كانت للحصر لما حسن هذا الاستفسار (أ)، لأنَّه استعلام المعلوم وتحصيل الحاصل.

(أ) في م الاستفهام.

ص: 30

الثالث: لو كانت للحصر لاستوى قولنا: إنَّما قام زيد، وقولنا: ما قام إلَّا زيد، لكنهما لا يستويان، إذ الثَّاني أقوى من الأول.

الرابع: أن أسامة بن زيد رضي الله عنه روى "إنَّما الرِّبا في النسيئة"(1) ولم ينحصر الرِّبا فيها، بل هو ثابت في التفاضل.

والجواب عن الأول: بالمعارضة بما سبق.

وعن الثَّاني: بأنَّه إنَّما حسن الاستفسار لاحتمال أنها استعملت في غير الحصر مجازًا، لا لأنها ليست تقتضي الحصر.

وعن الثالث: بالتزام استواء الصيغتين في الحصر، ولئن سلمنا تفاوتهما فيه لكن لا يلزم أنَّ (إنما) ليست للحصر، لجواز أن للحصر قدرًا مشتركًا استويا فيه، واختصت إحداهما بمزيد قوة فيه، كما اشتركت السِّين وسوف في معنى التنفيس، وكانت سوف أكثر تنفيسا لكثرة حروفها، وكذلك "ما قام إلَّا زيد" أكثر حروفًا من "إنَّما قام زيد" ولأن الحصر في "إنَّما قام زيد" معنوي، وفي "ما قام إلَّا زيد" لفظي، فاقتضى التصريح (أ) فيها بـ (ما) و (إلا) جمعًا بين النفي والإثبات بالمطابقة.

وعن الرابع: أن ابن عباس من أهل اللسان وقد فهم من حديث أسامة الحصر وقال به، وإنَّما ثبت (ب) الرِّبا في التفاضل عند من ذهب إليه بأدلة أخر

(أ) في م لفظي للتصريح.

(ب) في م يثبت.

(1)

رواه مسلم 3/ 1218.

ص: 31

ناسخة لمفهوم الحصر في حديث أسامة، كما نسخ حدَّثنا عائشة ونحوه في التقاء الختانين (1) مفهوم حديث "إنَّما الماء من الماء"(2).

حجة القائلين باقتضائها للحصر (أ) عرفا لا وضعا لأن الوضع غائب عنا، وعليه من الشبه ما سبق فلا يثبت بالشك.

أمَّا في عُرفِ الاستعمال فنحن نجدهم يبادرون عند إرادة الحصر إلى "إنَّما" كما يبادرون إلى تصريح النفي والإثبات بما كان إلَّا كذا نحو قوله:

......................... وإنَّما

يدافعُ عن أحسابهم أنا أو مثلي (3)

.............................

وإنَّما العزة للكاثر (4)

وقوله عز وجل {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة التحريم: 7] كما قال عز وجل {وَمَا تُجْزَوْنَ إلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [سورة الصافات: 39] و {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} [سورة طه: 89] كما قال {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إلا اللَّهُ} [سورة ص: 65] وهو كثير، فثبت أنها للحصر يعرف الاستعمال.

قلت: الأشبه أنها ليست للحصر مطلقًا لقوله عليه الصلاة والسلام "ما من نبي من الأنبياء إلَّا وقد أوتي من الآيات ما آمن عليه البشر، وإنَّما

(أ) في م الحصر.

(1)

رواه مسلم 1/ 272 من حديث عائشة.

(2)

رواه مسلم 1/ 269 من حديث أبي سعيد الخدري.

(3)

البيت للفرزدق ينظر ديوانه 2/ 153. وصدره: أنا الضامن الراعي عليهم، وإنَّما.

(4)

البيت للأعشي الكبير ينظر ديوانه 179. وصدره: ولستَ بالأكثرِ منهم حَصًى.

ص: 32

كان الذي أوتيته وحيًا" (1) فلو كانت إنَّما للحصر لانحصرت آيات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ومعجزاته في الوحي، وانتفى غيره بإقرار النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بحصرها في القرآن، فكنَّا نحتاج في إثبات غيره من المعجزات بعد ذلك إلى تعب لأنَّ الخصم يقول لنا: أنتم تثبتون لنبيكم من الآيات ما هو مصرح بنفيه، ومن المعلوم أن من نفى بَينَتَهُ لم تسمع منه بعد ذلك.

أما إذا جعلنا إنَّما للإثبات المؤكَّد لا يلزمنا هذا السؤال، لأنَّا نقول: إنَّما (أ) أراد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام إثبات الوحي، لا نفي ما عداه، وقد ثبت له غيره من الآيات ما لا يُحصى، وقوله (ب) عليه الصلاة والسلام غير منكر له، فيجب القول بثبوته.

فرع: من قال: إن (إنما) للحصر قال: إن حصرها قد يكون عامًّا نحو {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ} وقد يكون خاصًّا باعتبار أمر خاص نحو {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النساء: 171] أي: باعتبار إنكار منكري التوحيد (جـ) لا مطلقًا، فإنَّ لله عز وجل صفات كثيرة غير التوحيد (جـ).

وللحصر أدوات وأنواع ذكرت في كتب الأصول.

البحث الثَّاني: قوله: "الأعمال بالنيات" الأعمال مبتدأ وبالنيات

(أ) في م أن النَّبيَّ عليه السلام إنما أراد.

(ب) في م وهو عليه السلام غير.

(جـ) في م الوحدانية.

(1)

سبق تخريج الحديث.

ص: 33

متعلق بالخبر المحذوف، واختلف فيه، فمنهم من قدره بالصحة، أى: الأعمال صحيحة أو جائزة بالنيات، فيحصر صحتها وجوازها فيما إذا كانت منوية فيقتضي أن لا يصح عمل إلا بنية إلا بدليل مخصص، ومنهم من قدره بالكمال، أي: الأعمال كاملة بالنيات فيكون المحصور في النيَّة كمالها لا صحتها، ولا يلزم من ذلك انتفاء صحتها بدون النيَّة، وكلا الأمرين جائز لكن الأول أظهر لقوله عليه الصلاة والسلام:"وإنما لكل امرئ ما نوى" إلى آخر الحديث، مع ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام:"ليس للمرء من عمله إلَّا ما نواه، ولا عمل إلَّا بالنية"(1) فإنَّ ذلك قوي جدًّا في إرادة حصر صحة الأعمال في النيات، لا حصر الكمال فقط.

البحث الثالث: قوله: "وإنما لكل امرئ ما نوى" أي: جزاء ما نوى من خير أو شر، فهو من باب حذف المضاف نحو واسأل القرية أي: أهل القرية ونحوه.

وحكى عن الشَّافعي رضي الله عنه أنه قال: يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه.

قال: يريد الأبواب الكلية كالطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والطلاق ونحوها من الأبواب، أما المسائل الجزئية التفصيلية فأكثر من أن تحصر (أ).

(أ) في م تحصى.

(1)

لم أقف عليه بهذا اللفظ.

ص: 34

ومن مشهور مسائل هذا الباب أن النيَّة شرط في الوضوء للحديث والقياس على التَّيمم. وقال أبو حنيفة: لا تشترط، وأجاب عن الحديث بأنَّ معناه الأعمال كاملة بالنية، ونحن نقول به، ولا يلزم منه نفي الصحة كما سبق.

وهو أيضًا (أ) عام مخصوص بِرَد الغصوب والأمانات ونحوها وهي أعمال، ولا تتوقف صحتها على النيَّة، فَيُخَصُّ محل النزاع بالدليل (1)، وفرَّق بين الوضوء والتيمم بأنَّ الماء يطهر (ب) بطبعه فاستغنى بقوته عن النيَّة بخلاف التَّيمم. وأيضًا فقوله عز وجل {فَتَيَمَّمُوا} أمر بالتيمم وهو القصد، وهو حقيقة النيَّة بخلاف الوضوء فإنَّ الآية (جـ) وهي {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْتسِلُوا} ليس فيها تصريح بالنية ولا تعريض.

وأجيب عن الأول بأنا قد (د) بينا أن المحصور في النيات هو الصحة لا مجرد الكمال، والحديث عام في الوضوء وغيره، ولا مخصص له منه، ولا نُسَلِّمُ أن الماء يطهر (هـ) بطبعه لأنَّ الطهارة عبادة لا تأثير فيها للطبع بخلاف

(أ) في أوأيضًا فهو.

(ب) في م مطهر لطبعه.

(جـ) في م آيته.

(د) في م قدمنا.

(هـ) في م مطهر.

(1)

ينظر اللباب في الجمع بين السنة والكتاب للمنبجي 1/ 127 - 128.

ص: 35

الري فإنَّه ليس بعبادة، والوضوء والتيمم طهارتان (أ) فكيف يفترقان، وهذا لفظ الشافعي في إلزامهم النيَّة للوضوء قياسًا على التَّيمم (1).

واختلف العلماء في النيَّة في الطهارات فأوجبها الشَّافعي وأحمد رضي الله عنهما في آخرين في الطهارة بالمائع والجامد (2)، ونفاها زفر (3) والحسن بن صالح (4) فيهما لأن الطهارة وسيلة إلى العبادة فلا تعتبر فيها (ب) النيَّة، إنَّما النيَّة للعبادات (5)، وأوجبها أبو حنيفة رضي الله عنه في التَّيمم دون الوضوء لما مَرَّ.

ومن مسائل النيَّة أنه لو وطئ امرأة أجنبية يظنها (جـ) زوجته أو أمته لا إثم عليه، ولو وطئها يعتقدها (د) أجنبية فإذا هي مباحة له أثم ولولا مصادفة

(أ) في م عبادتان.

(ب) في م لها.

(جـ) في م يظن أنها.

(د) في م معتقدا أنها.

(1)

لم أقف في الأم ولا في الرسالة.

(2)

ينظر الأم 1/ 100، 186 طبعة د / أحمد بدر الدين حسون والمغني لابن قدامة 1/ 156، 329.

(3)

هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة ت 158 الطبقات السنية 3/ 254.

(4)

هو الحسن بن صالح بن حي الكوفيِّ الهمداني الفقيه العابد ت 167 الطبقات السنية في تراجم الحنفية 3/ 65.

(5)

قال أبو جعفر الطحاوي: وقال الحسن بن حَيٍّ: يجزئ الوضوء والتيمم جميعًا بغير نية، قال أبو جعفر: ولم نجد هذا القول في التَّيمم عن غيره. أهـ. مختصر اختلاف العلماء 1/ 135.

ص: 36

المحل المباح لَحُدَّ، وكذا لو شرب مباحًا يعتقده حرامًا أثم. أو بالعكس لا يأثم.

ولو قال لامرأته: أنت طالق يظنها (أ) أجنبية طلقت زوجته لمصادفة الطلاق محله.

ولو قال لأجنبية: أنت طالق وظَنَّها (ب) زوجته اختلف فيه، والأشبه طلاق زوجته اعتبارًا للنية، وقيل: لا تطلق لفوات المحل.

ولو قال لرقيق له: أنت حُرٌّ يَظُنُّه أجنبيًّا عتق لمصادفة العتق مَحَلَّه، وفي عكسه خلاف، العتق للنية، وعدمه لفوات المحلَّ.

وعلي هذا القياس في مسائل الشريعة والحقيقة والمعاملات الظاهرة والباطنة، ولهذا افتتح البُخاريّ كتابه به مع أنه لا يناسب ترجمة "باب بدء نزول الوحي"، إنما أراد التنبيه على تصحيح النيَّة في الأعمال حتَّى قال بعضهم: ينبغي لكل بادئ عمل أو مصنف (جـ) كتاب أن يفتتح به.

وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل للحفظة يوم القيامة: "اكتبوا لعبدي كذا وكذا من الأجر، فيقولون: رَبَّنَا لم نحفظ ذلك عنه ولا هو في صحفنا فيقول: إنَّه نواه" (1).

(أ) في م يظن أنها.

(ب) يظنها.

(جـ) في م تصنيف.

(1)

لم أقف عليه في مسند أبي يعلى.

ص: 37

قلت: ولهذا المعنى ونحوه قيل: "نية المرء (أ) خير من عمله"(1) وقد ذهب بعض العلماء إلى وقوع الطلاق بالنية المجردة، ولزوم النذر بها اعتمادا على هذا الحديث، ولا يَرِدُ عليهم (ب) قوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله تجاوز لأمَّتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به"(2) لأنَّ المعفو (جـ) عنه في هذا الحديث هو الخطرات والهمم الضعيفة، بخلاف ما عقدت عليه العزائم، وهم إنَّما يوقعون الطلاق ونحوه بالنية إذا قويت وصارت عزيمة أكيدة.

وسيأتي الكلام في نحو هذا إن شاء الله عز وجل.

البحث الرابع: قوله: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" هذا تفصيل لما سبق في قوله: "إنَّما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" وإنَّما فرض الكلام في الهجرة لأنها السبب الباعث على هذا الحديث وذلك لأن رجلًا من أهل مكّة كان يهوى امرأة يقال لها: أم قيس فهاجرت إلى المدينة فهاجر الرجل لأجلها لا تدينًا فَعَرَّض النبي صلى الله عليه وسلم به في الحديث تنفيرا عن (د) مثل قصده، وكان ذلك الرجل

(أ) في س، م المؤمن.

(ب) في س عليه.

(جـ) في م المرفوع.

(د) في م من مثل فعله.

(1)

رواه الطّبرانيّ في المعجم الكبير 6/ 228 من حديث سهل بن سعد الساعدي، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1/ 61 ورجاله موثقون إلَّا حاتم بن عباد بن دينار الجرشي لم أر من ذكر له ترجمة.

(2)

رواه البُخاريّ 2/ 894 ومسلم 1/ 117 من حديث أبي هريرة.

ص: 38

بعد يُدعى مهاجر أم قيس (1).

ثم قيل على هذه الجملة: إن قاعدة الجملة الشّرطيّة أن يكون الشرط فيها غير الجزاء نحو من أطاع أُثيب، ومن عصى عوقب، أما هذه الجملة فالشرط فيها هو الجزاء بعينه، وهما الهجرة إلى الله ورسوله، فهو بمثابة قولنا: من أكل أكل، ومن شرب شرب، ومن كان مؤمنًا فهو مؤمن ومن كان كافرًا فهو كافر.

وجوابها أن الشرط والجزاء في هذه الجملة إنَّما اتحدا لفظا لا معنًى، والاعتبار بالمعاني لا بالألفاظ.

ومعنى الكلام من كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا ونية، فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا؛ أي: من هاجر إلى الله كان أجره على الله، وكانت هجرته مقبولة فاندفع السؤال.

البحث الخامس: قوله: "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" قلت: اللام في لدنيا يحتمل أنها للتعليل على بابها، أي: من كانت هجرته لعلة دنيا أو لأجل دنيا، ويحتمل أنها بمعنى إلى، أي: من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها لأنه قابله بقوله:

(1) قال العلامة أحمد بن محمد القسطلاني في كتابه إرشاد الساري إلى شرح صحيح البُخاريّ 1/ 55 وقد اشتهر أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس المروية في المعجم الكبير للطبراني بإسناد رجاله ثقات من رواية الأعمش، ولفظه عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها: أم قيس، فأبت أن تتزوجه حتَّى يهاجر فهاجر فتزوجها، قال: فكنا نسميه مهاجر أم قيس أهـ ولم أقف عليه في المعجم الكبير المطبوع.

ص: 39

"فهجرته إلى ما هاجر إليه" ولم يقل فهجرته لما هاجر إليه، وهذا جيدٌ، والأول أشبه، وتقديره فمن كانت هجرته لأجل دنيا يحصلها انتهت هجرته أو كانت نهاية هجرته إلى ذلك، لا يحصل له غيره.

وقوله: "لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها" يحتمل أن مهاجر أم قيس المذكور كان يُحبها لمالها وجمالها فجمعهما في التعريض به.

ويحتمل أنه كان يطلب نكاحها، وغيره من النَّاس هاجر لتحصيل (أ) دنيا من جهةٍ ما فَعَرَّض بهما، ويحتمل أنه عليه السلام عرَّض لطلب نكاح المرأة، وأنشأ ذكر المال إنشاءً تقريرًا لقاعدة زجر النَّاس عن قصده بنيَّة الهجرة كما أنه لما سئل عن طهورية ماء البحر فقال:"هو الطهور ماؤه الحِلُّ ميتته"(1) فزاد على السبب تمهيدًا لقاعدة أخرى، وهذا من باب زيادة النص على السبب.

البحث السادس: يقال: لم اتحد الشرط والجواب في الجملة السابقة واختلفا هاهنا؟ وَهلَّا قيل: من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها كما قيل: "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله"؟.

والجواب أن اتحاد الشرط والجزاء خلاف الأصل، وإنَّما اتحدا في قوله:"فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" تبركا

(أ) في م لتحصل له دنيا.

(1)

رواه أبو داود 1/ 64 والترمذي 1/ 101 والنسائي 1/ 50 وابن ماجه 1/ 136 من حديث أبي هريرة، قال التِّرمذيُّ هذا حديث حسن صحيح.

ص: 40

وتعظيمًا لهما بتكرار ذكرهما، وكونه أبلغ في حصول مقصود (أ) الهجرة إليهما، لأنَّ من سعى إلى خدمة الملك تعظيمًا له أجزل عطاءً ممن يسعى ليأخذ كسرة من سماطه، بخلاف الدنيا والمرأة فإنهما لا يستحقان التعظيم ولا يحصل بذكرهما تبرك، والعدول عن ذكرهما أبلغ في (ب) الزجر عن قصدهما كأنه قال:"فهجرته إلى ما هاجر إليه" وهو حقير مهين لا يجدي، وأيضًا فإنَّ ذكر الدُّنيا ونكاح المرأة ممَّا يستحلى عند عامة النَّاس فلو كرَّر ذكره ربما عَلِقَ بقلب (جـ) بعض السامعين فيقول: قد رضيا أن (د) تكون هجرتي إلى دنيا أصيبها أو امرأة أنكحها، فهل العيش إلَّا ذلك؟ فكان قوله:"فهجرته إلى ما هاجر إليه" أبلغ وأجدر باندفاع هذا المحذور.

البحث السابع: هذا الحديث أصل في الإخلاص وله مرجع إلى الكتاب والسنة.

أما مرجعه من الكتاب فكل آية تضمنت مدح الإخلاص أو ذم الرياء نحو {وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة: 5]{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة غافر: 14]{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [سورة يوسف: 24]{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [سورة الكهف: 110]{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ}

(أ) في م المقصود بالهجرة.

(ب) في م من.

(جـ) في م بقلوب.

(د) في م بأنَّ.

ص: 41

[سورة البقرة: 264]{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} الآية [سورة البقرة: 266]{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} [سورة البقرة: 266] الآية.

وأمَّا مرجعه من السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "يقول الله عز وجل "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملًا أشرك فيه غيرى فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك" (1) وفي رواية "تركته وشركه" (2).

وعن أبي موسى أن رجلًا قال يا رسول الله: الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(3) رواه السبعة الذين رووا حديث "إنَّما الأعمال بالنيات".

البحث الثامن: قوله: "الأعمال بالنيات" قدمنا (أ) أن معناه الأعمال صحيحة بالنيات، ثم الصحة هي ترتب آثار الفعل عليه، لكن هذا الحديث مخصوص (ب) بالحس والنظر، أما تخصيصه بالحس فلأن الأعمال العادية

(أ) في م قد بينا.

(ب) في م مخصص.

(1)

رواه أحمد 2/ 301 وابن ماجه 2/ 1405 من حديث أبي هريرة صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 2/ 409.

(2)

رواه مسلم 4/ 2289 من حديث أبي هريرة.

(3)

رواه أحمد 4/ 397 والبخاري 1/ 58 ومسلم 3/ 1513 وأبو داود 3/ 31 والترمذي 4/ 179 والنَّسائيُّ 6/ 23 وابن ماجه 2/ 931.

ص: 42

كالأكل والشرب والنوم والنكاح وبناء الدور وزرع الزروع (أ) ونحوه تصح بدون النيَّة إذ يترتب آثارها عليها بمجرد عملها، وأمَّا تخصيصه بالنظر فلأن قضاء الديون ورد الغصوب والأمانات ودفع النفقات الواجبة تصح (ب) ويترتب أثرها عليها وهو براءة العهدة منها بدون النيَّة، وهذا التخصيص إنَّما لحق الجملتين الأوليين من الحديث وهما:"إنَّما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" لعمومهما في أعمال العادات والعبادات، أما الجملتان الأخيرتَان وهما "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها" فهما على عمومهما لم يُخَصَّا بشيء لاختصاصهما بالهجرة التي هي من أعمال العبادات، والعبادات تشترط لها النيات.

البحث التاسع: إن قيل: لم قال: "إنَّما الأعمال بالنيات" ولم يقل: إنَّما الأفعال؟ قلنا: قال بعض العلماء: إنَّما قال: إنَّما الأعمال لأنَّه لو قال: إنَّما الأفعال بالنيات لتناول أفعال القلوب، ومنها النيَّة، ومعرفة الله تعالى، فكان يلزم أن لا يصحَّا إلَّا بالنية، لكن النيَّة فيهما محال.

أما في النيَّة فلأنها لو توقَّفَت على نيَّة أخرى لتوقَّفت الأخرى على نيَّة أخرى، ولزم تسلسل النيَّات، أو الدور وهما محالان، وأمَّا معرفة الله عز وجل فلأنها لو توففت على النيَّة -مع أن النيَّة قصد المنوي بالقلب (1) -

(أ) في ب الزرع.

(ب) في م يصح ترتب آثارها عليها وهي.

(1)

في هامش أ "أي فتكون المعرفة سابقة على النيَّة حتَّى تكون مقصودة بالنية إذ لا يُقصد ما لا يُعلم".

ص: 43

لزم أن يكون الإنسان عارفًا بالله عز وجل قبل معرفته به، وأن يكون الله عز وجل معروفًا له قبل أن يكون معروفًا له، وأن يكون المُكَلَّفُ عارفًا بالله عز وجل غير عارف به في حالة واحدة وكل ذلك محال.

تم الكلام على هذا الحديث إن شاء الله تعالى، وهو من أحاديث أعمال القلوب والطاعات المتعلقة بها، وعليه مدارها وهو قاعدتها، وهي قاعدة، فهذا الحديث قاعدة الدين لتضمنه حكم النيات التي محلها القلب بخلاف الذكر الذي محله اللسان، ولهذا لو نوى الصَّلاة بلسانه دون قلبه لم تصح، ولو قرأ (أ) الفاتحة بقلبه دون لسانه لم تصح. والله أعلم.

(أ) في س اوقرا.

ص: 44