المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الرابع والعشرون: - التعيين في شرح الأربعين - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثَّاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس:

- ‌الحديث السادس:

- ‌الحديث السابع:

- ‌الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌الحديث العاشر:

- ‌الحديث الحادي عشر:

- ‌الحديث الثاني عشر:

- ‌الحديث الثالث عشر:

- ‌الحديث الرابع عشر:

- ‌الحديث الخامس عشر:

- ‌الحديث السادس عشر:

- ‌الحديث السابع عشر:

- ‌الحديث الثامن عشر:

- ‌الحديث التاسع عشر:

- ‌الحديث العشرون:

- ‌الحديث الحادي والعشرون:

- ‌الحديث الثاني والعشرون:

- ‌الحديث الثالث والعشرون:

- ‌الحديث الرابع والعشرون:

- ‌الحديث الخامس والعشرون:

- ‌الحديث السادس والعشرون:

- ‌الحديث السابع والعشرون:

- ‌الحديث الثامن والعشرون:

- ‌الحديث التاسع والعشرون:

- ‌الحديث الثلاثون:

- ‌الحديث الحادي والثلاثون:

- ‌الحديث الثاني والثلاثون:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون:

- ‌الحديث السادس والثلاثون:

- ‌الحديث السابع والثلاثون:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون:

- ‌الحديث التاسع والثلاثون:

- ‌الحديث الأربعون:

- ‌الحديث الحادي والأربعون:

- ‌الحديث الثاني والأربعون:

الفصل: ‌الحديث الرابع والعشرون:

‌الحديث الرابع والعشرون:

عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنَّه قال: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى، ومن وجد شرًّا فلا يلومن إلا نفسه. رواه مسلم (1).

القول في لفظه ومعناه.

أما لفظه فقوله: "لا تظالموا" بفتح التاء أصله لا تتظالموا.

(1) 4/ 1994.

ص: 182

وقوله: "تخطئون بالليل والنهار" ضبطه بعض الفضلاء بفتح التاء والطاء على وزن تفترون من الافتراء، وقال: لم أخطأ يخطيء رباعى إذا فعل عن غير قصد، وخَطِيء يَخْطَأُ وزن عَلِمَ يَعْلَمُ ثلاثيا إذا فعل عن قصد، ومنه {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} .

قال: وإنما وجب أن يكون هاهنا تَخطئون ثلاثيا لأنه جعله ذنبا يغفر لقوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" والخطأ عن غير قصد معفو عنه ولا يعتد به ذنبًا أصلا ولا غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم:"عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان"(1).

وينقص يستعمل لازمًا نحو نقص المال، ومعتديا نحو نقصتُ زيدًا حقَّه.

وينقص المَخِيَطُ هاهنا متعد لأن محل من البحر نصب به (2).

والمخيط الإبرة ونحوها وهو بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الياء وهو من الآلات فلذلك كسر أوَّله.

وأما معناه فقوله: "إني حرمت الظلم على نفسي".

قال الشيخ: إني تقدست عنه، فالظلم مستحيل في حق الله عز وجل لأنه مجاوزة الحد، أو التصرف في غير ملك، وهما جميعا محال في حق الله عز وجل.

(1) الحديث التاسع والثلاثون من هذا الأربعين.

(2)

هذا الإعراب فيه نظر، وذلك أن لفظ الحديث:"إلا كما ينقص المخيط إذا ادخل البحر" وليس "إذ أدخل من البحر" حتَّى يقال: إن محل من البحر نصب بينقص. والظاهر أن "البحر" تنازع فيه العاملان "ينقص" و"أدخل" فأعمل أحدهما في لفظه، وأعمل الآخر في ضميره، ثم حذف لأنه منصوب.

ص: 183

قلت: هذا قول الجمهور (1)، وقد ذهب قوم إلى أن الله عز وجل قادر على الظلم، وهو متصور منه، لكنه لا يفعله عدلًا منه، وتنزها عنه، واحتجوا بقوله عز وجل {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة ق: 29] وهو تمدح بنفي الظلم، والحكيم (أ) لا يمتدح إلا بما يقدر عليه، ويصح منه، ولو قال الأعمى: إني لا أنظر إلى المحرمات على جهة التمدح (ب) لضحك منه الناس، وقالوا: شيء لا يقدر عليه، كيف يتمدح بتركه، وأيضًا قوله: "إني حرمت الظلم

(أ) في س والحكم.

(ب) في م المدح.

(1)

تناول المؤلف لهذه المسألة فيه نظر، يعلم مما يأتي:

قال الإمام ابن القيم: إن طرق الناس اختلفت في حقيقة الظلم الَّذي يُنزه عنه الرب سبحانه وتعالى، فقالت الجبرية: هو المحال الممتنع لذاته كالجمع بين الضدين، وكون الشيء موجودا معدوما، قالوا: لأن الظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وإمَّا مخالفة الآمر، وكلاهما في حق الله تعالى محال، فإن الله مالك كل شيء، وليس فوقه آمر تجب طاعته، قالوا: وأما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل كائنا ما كان، وهذا قول جهم ومن اتبعه، وهو قول كثير من الفقهاء أصحاب الأئمة الأربعة، وغيرهم من المتكلمين.

وقال أهل السنة والحديث ومن وافقهم: الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وهو سبحانه حكم عدل، لا يضع الشيء إلا في موضعه الَّذي يناسبه ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة

وهذا قول أهل اللغة قاطبة، وتفسير الظلم بذينك التفسيرين اصطلاح حادث، ووضع جديد

وهذا القول هو الصواب المعروف في لغة العرب والقرآن والسنة، وإنما تحمل ألفاظهما على لغة القوم، لا على الاصطلاحات الحادثة، فإن هذا أصل كل فساد وتحريف وبدعة، وهذا شأن أهل البدع دائمًا يصطلحون على معان يضعون لهما ألفاظا من ألفاظ العرب، ثم يحملون ألفاظ القرآن والسنة على تلك الاصطلاحات الحادثة. (مختصر الصواعق 198 - 199 دار الندوة الجديدة بيروت).

ص: 184

على نفسي" حقيقته أني منعت نفسي منه، وإنما يمنع الحكيم نفسه مما يقدر على فعله، ولو قال آدمي: إني منعت نفسي من صعود السماء لسخر منه كذلك، ولأن الله عز وجل عامل عباده معاملة المستأجر مع الأجراء (أ) حيث قال لأهل الكتاب: هل ظلمتكم من أجوركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء. والمستأجر يصح منه ظلم الأجراء، ولأن ترك الظلم مع إمكانه والقدرة عليه، أمدح من تركه مع استحالته والعجز عنه، كما أن ترك الفحل الزنا أمدح له بالعفاف من ترك الخصي والعنين له.

وقوله: "وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" أصله تتظالموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي: حرمته عليكم ومنعتكم منه شرعا.

والظلم لغة وضع الشيء في غير موضعه، وشرعا التصرف في غير ملك، أو في ملك الغير، (فلا تظالموا) أي: فلا يظلم بعضكم بعضًا.

ويحتج بهذا أهل القدر، ووجه الحجة أنَّه نهى عن الظلم، فلو كان خالقًا له لكان ناهيًا عما خلق، وهو باطل.

وجوابه بمنع بطلانه، فإن لله عز وجل في خلقه تصريفين ظاهرًا وباطنا، فبتصريفه للظاهر (ب) ينهى عنه شرعًا، وبتصريفه للباطن (جـ) يقضي به ويخلقه حقيقة، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن.

قوله: "كلكم ضال إلا من هديته" هذا كقوله عز وجل {مَنْ يَهْدِ

(أ) في م الأجير.

(ب) في م الظاهر.

(جـ) في م الباطن.

ص: 185

اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [سورة الأعراف: 178] ونحوها {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} ولبيان ذلك أنَّه عز وجل خلق النفوس بقواها وطباعها وما أرصد لها من الأهواء والشياطين، مائلة إلى الضلال، فمن أراد ضلاله أرسله على سجيته وتخلى عنه، ومن أراد هدايته عارضه بأسباب الهدى فصده عن الضلال فاهتدى.

ومثال (أ) ذلك راع له إبل عطاش أو جياع فهي بداعيتها تهوي إلى موارد الهلكة ومراتع الغرة إلا ما عارضه الراعي فصدَّه عن ذلك، وفي التنزيل {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [سورة يونس: 25].

"فاستهدوني" أي: اسألوني (ب) الهداية، واعلموا واعتقدوا أنها لا تكون إلا من فضلي وبأمري "أهدكم".

قوله: "كلكم جائع إلا من أطعمته" وذلك لأن الناس عبيد، لا يملكون شيئًا، وخزائن الرزق بيد الله عز وجل، فمن لا يطعمه بفضله بقي جائعًا بعدله (جـ)، إذ ليس عليه إطعام أحد.

فإن قلت: كيف هذا مع قوله عز وجل {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [سورة هود: 6].

قلنا: هذا التزام منه تفضلا، لا أن عليه للدابة حقًّا بالأصالة، ويشبه (د)

(أ) في م ومثل.

(ب) في م سلوني.

(جـ) في أفمن يطعمه بفضله ومن يتركه جائعا فبعدله.

(د) في م وشبيه بهذا.

ص: 186

هذا قوله عز وجل {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [سورة النساء: 17] الآية: أي: ذلك واجب منه تفضلًا التزاما، لا عليه لزوما.

فإن قيل: كيف نسب (أ) الإطعام إلى الله عز وجل ونحن نشاهد الأرزاق مرتبة على هذه الأسباب الظاهرة من الحرف والصناعات وأنواع الاكتسابات؟.

قلنا: هو المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن، والعارف محجوب بالباطن عن الظاهر.

وفي بعض الحكمة: ابن آدم أنت أسوأ بربك ظنا حين كنت أكمل عقلًا لأنك تركت الحرص جنينا محمولًا ورضيعًا مكفولًا، ثم ادَّرَعْتَهُ عاقلا قد أصبت رشدك وبلغت أشدَّك. معناه عن عيسى بن مريم.

"فاستطعموني" أي: سلوني الطعام "أطعمكم" أي: بتقدير أسبابه وتيسير طِلَابه واسألوا الله من فضله.

واعلم أن العالم جماده وحيوانه مطيع لله عز وجل طاعة العبد لسيده، فكما أن السيد يقول لعبده: أعط فلانًا كذا، وأهد لفلان كذا وتصدق على هذا الفقير بكذا، كذلك الله عز وجل يُسَخِّرُ السحابَ فيسقي أرض فلان، أو البلد الفلاني، ويحرك قلب فلان لإعطاء فلان، ويخرج فلان إلى فلان بوجه من الوجوه لينال منه نفعا ونحو ذلك، وتصرفات الله عز وجل في العالم عجيبة لمن تدبرها {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [سورة الذاريات: 58].

(أ) في م ينسب.

ص: 187

قوله: "إنكم تخطئون بالليل والنهار" هذا من باب مقابلة الجمع بالجمع، أي: تصدر منكم الخطيئة (أ) ليلًا ونهارا، من بعضكم ليلا، ومن بعضكم نهارا، وليس (ب) كل عبد من العباد يخطئ بالليل والنهار، مع أنَّه غير ممتنع، فيجوز أن يكون مرادًا.

وقوله في هذا الحديث متكررا: "يا عبادي" متناول للإماء، وهن النساء إجماعا، ولكن بقرينه التكليف. وقد قال الأصوليون: إن الخطاب إما بلفظ يخص الذكور كالرجال، أو يخص الإناث كالنساء فحكمه واضح، أو بلفظ يصلح لهما نحو من، والأناسي فيتناول القبيلين (جـ)، واختلف في نحو المسلمين والمؤمنين هل يتناول النساء أم لا؟ فالأشبه أنَّه لا يتناولهن وضعا، بل بقرينة أو عرف (1).

قوله: "وأنا أغفر الذنوب جميعًا" هو كقوله عز وجل: {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الْذُّنُوبَ جَمِيْعًا} [سورة الزمر: 53] وهو عام مخصوص بالشرك وما شاء الله عز وجل أن لا يغفره، لقوله سبحانه وتعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

"فاستغفروني" أي: اطلبوا مني المغفرة "أغفر لكم" وجاء في الحديث

(أ) في م الخطيئات.

(ب) في م إذ ليس.

(جـ) في س، م القبيلتين.

(1)

انظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب 1/ 290.

ص: 188

"لو أنكم لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم فيذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" وأصل الغفر الستر، وغفرت المتاع سترته، والمغفر وقاية تستر (أ) الرأس في الحرب، وغفر الذنب ستره ومحو أثره وأمن عاقبته.

قوله: "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني" إلى آخره.

اعلم أن الإجماع والبرهان على أن الله عز وجل منزه مقدس غني بذاته لا يلحقه ضرٌّ ولا نفع ولا يحتاج إلى ذلك، وظاهر هذا الحديث أن لضره ونفعه غاية لكن لا يبلغها العباد، وهذا الظاهر مؤول محمول على ما دلَّ عليه الإجماع من غناه المطلق، أو يكون من باب:

.........................

وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ (1)

وقوله:

عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِه (2)

..........................

(أ) في س ستر وفي م لستر.

(1)

صدر البيت: لا يَفْزَعُ الأرنَبَ أهْوَالُهَا.

وهو لعمرو بن أحمر، وقد خرجه محقق الدر المصون للسمين الحلبي. قال السمين: أي ليس فيها أرنب فيفزع لهولها، ولا ضَبٌّ فينجحر، وليس المعنى أنَّه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضَّبِّ. الدر المصون في علوم الكتاب المكنون 2/ 625. وقال ابن جني: أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها. الخصائص 3/ 165.

(2)

عجز البيت: إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّباطِيُّ جَرْجَرَا.

وهو لامرئ القيس. انظر ديوانه (طبعة محمد أبو الفضل إبراهيم 66).

وفي شرح الديوان: قرله "لا يهتدي بمناره" أي ليس فيه علم ولا منار فيهتدي به، يصف أنه طريق غير مسلوك فلم يجعل فيه علم.

ص: 189

أي: لا ضب بها فينجحر، ولا منار له لم فَيُهتَدَى به، كذلك المعنى هاهنا، لا يتعلق بي ضر ولا نفع فتضروني أو تنفعوني، ولأن الحق جل جلاله غنيٌّ مطلق، والعبد فقير مطلق {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} والفقير المطلق لا يملك ضرًّا ولا نفعًا خصوصا للغني المطلق.

قوله: "لو أن أولكم وآخركم" إلى آخره، معناه إنَّ تقوى العالم بأجمعه لا يزيد في ملك الله شيئًا، وكذلك فجورهم لا ينقص من ملكه شيئًا، لأن ملك الله عز وجل يرتبط (أ) بقدرته وإرادته، وهما دائمان لا انقطاع لهما، فكذلك ما ارتبط بهما، وإنما يفيد (ب) التقوى والفجور على أهلهما نفعا أو ضرًّا.

قوله: "قاموا في صعيد واحد" أي: في أرض واحدة ومقام واحد "ما نقص ذلك من ملكي شيئًا" إلى آخره، لأن ملك الله عز وجل بين الكاف والنون، إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون.

وفي بعض الأثر: "عطائي كلام، ورضاي كلام" أو كما قال، إشارة إلى قوله: كن، فيكون.

فإن قيل: هل يعقل ملك يعطى منه هذا العطاء العظيم ولا ينقص؟

قلنا: نعم كالنار والعلم يقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقصان (جـ)، بل يزيد العلم على البَذْل.

(أ) في م مرتبط.

(ب) في م عايد.

(جـ) في م ولا ينقص منهما شيء.

ص: 190

وفي الحديث "يد الله ملأى سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض لم ينقص ما في يمينه"(1) أو كما قال.

قوله: "إلا كما ينقص المخيط من البحر" أي: لا ينقص شيئًا لأن الإبرة لا يتعلق بها من الماء شيء أصلا، وهذا بظاهره مخالف لقول الخضر لموسى:"ما نقص علمي وعلمك من علم الله عز وجل إلا كما نقص هذا العصفور من البحر" فإن نقر العصفور من البحر لا بد أن ينقصه شيئًا وإن قلَّ، لأن منقار العصفور يتعلق به شيء من الماء، ولذلك يزيل عطشه، بخلاف الإبرة، لكن ليس المراد أن علمهما نقص من علم الله عز وجل قليلًا ولا كثيرًا، إنما المراد تقريب أنَّه لم ينقص (أ) من علم الله شيئًا أصلًا.

ويحكى أن رجلًا سأل ابن الجوزي: هل ينقص بشرب العصفور البحر؟ فقال: أمعه شيء يضعه فيه؟.

وهذا جواب على جهة التحقيق، وقول الخضر لموسى على جهة التقريب، وإلا فلو فرضنا الوجود مملوءًا خردلًا وأخذنا (ب) منه خردلة لنقصه بالضرورة.

قوله: "أحصيها لكم" أي: تضبطها (ح) الحفظة. فإن قيل: ما

(أ) في م لم ينقص شيء من علم الله.

(ب) في ب وأخذ أحد، وفي م وأخذ العصفور.

(جـ) في س أي الحفظة، وفي أ، م أي بعلمي وملائكتي الحفظة.

(1)

رواه البخاري 4/ 1724 ومسلم 2/ 691 من حديث أبي هريرة.

ص: 191

الحاجة إلى الحفظة مع علمه (أ)؟

قيل: ليكونوا شهودا بين الخالق وخلقه، ولهذا يقال لبعض الناس يوم القيامة: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودا، وقيل فيه غير ذلك.

وقوله: "ثم أوفيكم إياها" أي جزاءها وثوابها، فحذف المضاف فانقلب الضمير المخفوض منصوبا منفصلًا كالمفعول المحذوف.

قوله: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله" إلى آخره، أي: أن الطاعات التي يترتب عليها الثواب والخير بتوفيق الله عز وجل، فيجب حمده على التوفيق، والمعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كان بقدر الله عز وجل وخذلانه العبد فهي بكسب العبد فليلم نفسه لتفريطه بالكسب القبيح (ب).

ويحتج القدرية بهذا، ووجه احتجاحهم منه أن لوم العبد نفسه على سوء العاقبة يقتضي أنَّه الخالق لأفعاله، وقوله عز وجل:"فلا يلومن إلا نفسه" تنصل من القضية، وأنه ليس له فيها أثر بخلق فعل ولا تقديره. وجوابه بما سبق بقوله:"لا تظالموا" ثم يلزمهم أن من وجد خيرًا لا يحمد الله إذ ليس له في القضية أثر كما ذكروا، بل يحمد الإنسان نفسه لأنه الخالق لطاعته الموجب لسلامته، وهو مراغمة للنص (جـ) المذكور وغيره.

(أ) في م مع العلم.

(ب) في م الخبيث.

(جـ) في م النص.

ص: 192

وقد أخبر الله عز وجل عن أهل الجنّة أنهم يقولون فيها: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [سورة الأعراف: 43].

فإن قلت: فوله: "إنما هي أعمالكم" إلى آخره، يقتضي انحصار فائدة الناس في معادهم في ثواب أعمالهم، ونفي المزيد من فضل الله عز وجل، لكن بالنص والإجماع يثبت المزيد نحو {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [سورة ق: 35] {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [سورة يونس: 26].

فالجواب أن الحصر إنما هو للجزاء في سببية الأعمال، أي: لا جزاء إلا عن عمل يكون سببًا له، أما الجزاء وزيادته وتضعيفه فالجميع من فضل الله عز وجل، إذ العبد وعمله ملك لسيده، لا يستحق عليه ثوبًا إلا تفضلًا. والله عز وجل أعلم بالصواب.

ص: 193