المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الخامس والثلاثون: - التعيين في شرح الأربعين - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثَّاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس:

- ‌الحديث السادس:

- ‌الحديث السابع:

- ‌الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌الحديث العاشر:

- ‌الحديث الحادي عشر:

- ‌الحديث الثاني عشر:

- ‌الحديث الثالث عشر:

- ‌الحديث الرابع عشر:

- ‌الحديث الخامس عشر:

- ‌الحديث السادس عشر:

- ‌الحديث السابع عشر:

- ‌الحديث الثامن عشر:

- ‌الحديث التاسع عشر:

- ‌الحديث العشرون:

- ‌الحديث الحادي والعشرون:

- ‌الحديث الثاني والعشرون:

- ‌الحديث الثالث والعشرون:

- ‌الحديث الرابع والعشرون:

- ‌الحديث الخامس والعشرون:

- ‌الحديث السادس والعشرون:

- ‌الحديث السابع والعشرون:

- ‌الحديث الثامن والعشرون:

- ‌الحديث التاسع والعشرون:

- ‌الحديث الثلاثون:

- ‌الحديث الحادي والثلاثون:

- ‌الحديث الثاني والثلاثون:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون:

- ‌الحديث السادس والثلاثون:

- ‌الحديث السابع والثلاثون:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون:

- ‌الحديث التاسع والثلاثون:

- ‌الحديث الأربعون:

- ‌الحديث الحادي والأربعون:

- ‌الحديث الثاني والأربعون:

الفصل: ‌الحديث الخامس والثلاثون:

‌الحديث الخامس والثلاثون:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. رواه مسلم (1).

هذا حديث كثير الفائدة كبيرها، وفيه أبحاث:

الأول: "لا تحاسدوا" أي: لا يحسد بعضكم بعضا، وقد أجمع (أ) الناس من المشرعين وغيرهم على تحريم الحسد وقبحه، ووردت نصوص الشرع بذلك، وهذا الحديث يقتضي تحريمه.

فإن قيل: ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا حسد إلا في اثنتين

" (2) الحديث هل هو إباحة للحسد في الخصلتين المذكورتين أم لا؟.

قلنا: الحسد لا يباح بوجه من الوجوه.

وأما قوله: "لا حسد إلا في اثنتين" فالمراد به الغبطة، أي (ب): ليس

(أ) في (ب)(س) اجتمع.

(ب) في (ب)(م) اذ.

(1)

4/ 1986.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 294

شيء في الدنيا حقيق بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان: إنفاق المال، والعلم في سبيل الله عز وجل.

والفرق بين الحسد والغبطة أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، والغبطة تمني الإنسان مثل ما لغيره من غير أن يزول عن الغير ماله.

وفي ذم الحسد آيات وأحاديث مشهورة.

ووحه قبح الحسد أنه اعتراض على الخالق ومعاندة له، حيث ينعم على زيد فيكره عمرو إنعامه عليه، ثم يحاول نقض فعله وإزالة فضله. وفي المعنى قول بعضهم (1):

ألَا قُلْ لِمَنْ بَاتَ لِي حَاسِدًا

أَتَدْرِي عَلَى مَنْ أَسَأْتَ الأَدَبْ

أَسَأْتَ عَلَى اللهِ فِي حُكْمِهِ

لأَنَّكَ لَمْ تَرضَ لِي مَا وَهَبْ

يعني على الله عز وجل، حيث كرهت فضله وعاندت فعله.

وقال أبو الطيب (2):

وَأَظْلَمُ أَهْلِ الأرْضِ مَنْ بَاتَ حَاسِدًا

لِمَنْ بَاتَ فِي نَعْمَائِهِ يَتَقَلَّبُ

ووجه ظلم الحاسد أنه يجب عليه أن يحب لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لنفسه زوال النعمة، فقد أسقط حق محسوده عليه، ولأن في الحسد

(1) وهو المعافى بن زكريا النهرواني الجريري المعروف بابن طرارة والبيتان في معجم الأدباء للحموي (6/ 2704 طبعة إحسان عباس).

(2)

ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح أبي البقاء العكبري. 1/ 185.

وفيه: وأظلم أهل الظلم.

ص: 295

تعب النفس وحزنها بغير فائدة بطريق (أ) محرم (ب)، فهو تصرف رديء {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله} [سورة النساء: 54].

وفي الحكمة: الحَسُوْدُ لَا يَسُوْدُ (1)، وَالحَسُوْدُ مَحْبُوْسٌ فِي جِلْدَتِه.

وفي ذم الحسد (جـ) من الشعر ما يطول ذكره.

البحث الثاني: قوله: "ولا تناجشوا" أي: لا ينجش بعضكم على بعض، وهو أن يزيد في ثمن المبيع غير راغب فيه، لِيُغِرَّهُ (د) واشتقاقه من نَجَشْتُ الصيدَ إذا أثرته، كأن الناجش بالجيم والشين المعجمة يثير كثرة الثمن بنجشه.

والنجش محرم للنهي عنه، ولأنه غش وخداع، وهما حرام، "من غشنا فليس منا"(2) ولأنه ترك النصح الواجب وترك الواجب حرام.

ثم النجش إما أن يكون بمواطأة البائع أو بدونها، وعلى التقديرين فقد اختلف في صحة البيع المنجوش فيه، فقيل: يبطل لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وقيل: لا يبطل لأن النهي فيه ليس راجعا إلى العقد، ولا ما يلزمه من ركن أو شرط.

(أ) في س، م وبطريق.

(ب) في م محرمة.

(جـ) في م الحسود.

(د) في ب، س لغيره.

(1)

انظر: التمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 451.

(2)

رواه مسلم 1/ 99 من حديث أبي هريرة.

ص: 296

نعم (أ) للمشتري الرجوع على البائع بمقدار ما غبن بالنجش، ويحتمل أن له الخيار في (ب) الرد أو الإمساك كالمصراة.

وقد اختلف الأصوليون في النهي، فقيل: يقتضي الفساد مطلقا لأن الشرع إنما نهى (جـ) عما ترجحت مفسدته، وإعدام المفاسد واجب، وطريقه (د) إفساد المنهى عنه، وقيل: لا يقتضي الفساد لأن ترتيب الصحة على سبب حرام ليس محالا عقلا، فكذا شرعا، وقيل: يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات.

والفرق أن العبادات حق الله تعالى، وهو غني عن عبادة منهى عنها، بخلاف المكلف فإنه قد يحتاج إلى عقد منهي عنه، فلو اقتضى النهي فساد المعاملات ضاق على المكلفين طرق المعاش، وقيل: إن رجع النهي إلى معنى في المنهي عنه اقتضى الفساد، وإن رجع إلى أمر خارج عنه لم يقتض الفساد.

والتحقيق أن النَّهي إن كان لذات المنهي عنه، أو لوصف لازم له اقتضى الفساد، وإن كان لأمر خارج أو وصف غير لازم فلا.

البحث الثالث: "لا تباغضوا" أي: لا يبغض بعضكم بعضا، والبغض للشيء هو النفرة منه لمعنى (هـ) مستقبح فيه.

(أ) في م وللمشتري.

(ب) في م بالرد.

(جـ) في س ينهى.

(د) في ب بطريق.

(هـ) في س بمعنى.

ص: 297

والظاهر أن البغض والكراهة واحد، أو هما متقاربان.

واعلم أن التباغض بين شخصين إما من الطرفين بأن يُبغض كل واحد منهما صاحبه، أو من أحدهما بأن يبغض أحدهما صاحبه دون الآخر، فهي ثلاث صور.

ثم البغض فيهن إما لله عز وجل أو لغيره، والتباغض والبغض حرام للنهي عنه إلا في الله عز وجل فإنه واجب ومن كمال الإيمان، لقوله عز وجل {لا تتخدوا عدوي وعدوكم أولياء} [سورة الممتحنة: 1] وقوله عليه الصلاة والسلام: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان"(1).

فإذًا عموم النهي عن التباغض مخصوص بالبغض في الله عز وجل، فهو محرم خص بواجب أو مندوب، فإذا تباغض اثنان في الله عز وجل أثيبا على غيرتهما لله وتعظيم حقه، وإن كانا عند الله عز وجل من أهل السلامة أو الزلفة، وذلك بأن يؤدي كل منهما اجتهاده إلى اعتقادٍ أو عملٍ ينافي اجتهاد الآخر فيبغضه على ذلك، وهو معذور عند الله عز وجل بخروجه عن عهدة التكليف بالاجتهاد.

وأحسب -إن شاء الله تعالى- أن تخالف (أ) طوائف الأمة وفرقها من

(أ) في ب، م غالب.

(1)

رواه أحمد 3/ 438، وأبو داود 5/ 60 والبغوي في شرح السنة من حديث أبي أمامة وحَسَّن سنده الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيق شرح السنة.

ص: 298

هذا الباب ما لم يتضمن رأي بعضها كفرا أو فسقا بواحا.

وما ذاك إلا كاثنين اختلفا في جهة القبلة فصلى كل منهما إلى جهة، فكل منهما يعتقد خطأ صاحبه، ومجرم عليه الائتمام به، وهما معذوران مأجوران، ولَا تحْسَبَنَّ هذا قياسا فاسدا، إذ هو قياس أصل على فرع، وقطعي على اجتهادي، إذ قد بيّنا قَبْلُ أن أكثر العقائد المختلف فيها بين الأمة احتهادي أو يلحق (أ) بالاجتهادي.

واعلم أن كل متباغضين فإما أن يبغض كل منهما الآخر في الله عز وجل، أو يبغض أحدهما صاحبه في (ب) الله والآخر يبغضه في غير (جـ) الله عز وجل، وبكل حال فالمبغض في الله عز وجل مثاب، والمبغض لغير (د) الله معاقب لفعله المحرم.

البحث الرابع: "لا تدابروا" أي: لا يدبر بعضكم عن بعض، أي: يعرض عنه بما يجب عليه من حقوق الإسلام من الإعانة والنصرة ونحوهما، ولا ملازمة بين التباغض والتدابر لأن الشخص قد يبغض صاحبه عادة، ويقبل عليه بتوفية حقوق الإسلام عبادة، وقد يعرض عنه وهو يحبه خشية تهمة، أو تأديبًا له ونحو ذلك، وفي نحو هذا قيل: لَا يَكْتُمُ الحُبَّ إلا خَشْيَةُ التُّهَمِ.

وقوله: "ولا تدابروا" أصله تتدابروا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا،

(أ) في م ملحق.

(ب) في ب لله.

(جـ) في ب لغير الله.

(د) في س، م لغيره.

ص: 299

وهل هي تاء المضارعة أو فاء الكلمة (1)، فيه خلاف، وكذلك الثلاث قبلها وهي "تحاسدوا" و "تناجشوا" و"تباغضوا".

البحث الخامس: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" وذلك لأن فيه تفريقا للقلوب، وتنفيرا لبعضها من بعض، إذ يفسد أحدهما على الآخر مصلحته.

وقد جاء في هذا أو نحوه "إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"(2) فإن باع مسلم على بيع مسلم حرم فعله، وفي صحة البيع خلاف، ووجهه ما سبق من أن النهي لمعنى خارج عن المنهي عنه هل يقتضي الفساد أم لا؟.

أما بيع المسلم على الذمي فيحتمل جوازه لنقص حرمته، ولأن القصد من ذلك بين المسلمين أن لا يتنافروا والذمي نافر عن (أ) المسلم لا تؤلفه محاباته في بيع ولا غيره، ويحتمل تحريمه لأنه في ذمة الإسلام، فله ما للمسلم إلا ما خصه الدليل.

أما بيع الذمي على المسلم فلا يجوز له ولا يبعد أن يؤدب عليه لأنه افتيات على المسلمين واستخفاف بحقهم.

فإن قلت: المتبايعان لهما ثلاثة أحوال (ب): قبل المساومة، وبعد المعاقدة،

(أ) في ب من.

(ب) في م أوجه.

(1)

والذي حذف عند سيبويه (تاء) تفاعل، وعند الكوفيين (تاء) المضارعة. انظر شرح شافعية ابن الحاحب للرضي 3/ 290.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 300

وفيما بين ذلك، فما محل النهي المذكور عن البيع على البيع؟.

قلنا (أ): هو بين المساومة والمعاقدة حين يسكن أحدهما إلى الآخر، أما قبل التساوم وبعد المعاقدة فلا وجه للمنع.

والبيع على البيع هو أن يشتري سلعة بخمسة مثلًا فيقول له قائل: أنا أبيعك خيرا منها بخمسة، أو مثلها بأربعة، وضرره على البائع.

والشراء على الشراء هو أن يشتري سلعة بخمسة فيقول قائل للبائع: أنا أشتريها منك بستة، وضرره على المشتري.

والبيع على البيع، والشراء على الشراء، والسوم على السوم، والخِطبة على الخِطبة كل ذلك منهي عنه، وكذلك كل ما في معناه مما يفرق (ب) القلوب، ويورث التباغض إلا أن يرضى من له الحق فيجوز، مثل أن يأذن له في شراء ما ساوم عليه، أو في خِطبة من كان خطبها لأن الحق له وقد تركه وزال محذور التنافر.

البحث السادس: "وكونوا عباد الله إخوانا" هذا شبيه بالتعليل لما تقدم، كأنه قال: إذا تركتم التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر وبيع بعضكم على بعض كنتم إخوانا، وإن (جـ) لم تتركوا ذلك كنتم (د) أعداء.

والإخوان الإخوة من غير النسب، والإخوة من النسب.

(أ) في م قلت.

(ب) في م ينفر.

(جـ) في ب، م وإذا.

(د) في س صرتم.

ص: 301

وقوله: "وكونوا إخوانا" أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانا فيما سبق ذكره وغيره من فعل المؤلفات وترك المنفرات.

وقوله: "عباد الله" أي: عبادًا لله، وفيه إشارة إلى أنكم عبيد الله عز وجل فحقكم أن تطمعوه بأن تكونوا إخوانا.

فإن قيل: ما وجه طاعة الله عز وجل في كونهم إخوانا؟.

قلنا: التعاضد على إقامة دينه وإظهار شعائره (أ)، إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتم ذلك.

ألا ترى إلى قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [سورة الأنفال: 64] الآية.

البحث السابع: "المسلم أخو المسلم" اعلم أن الأخوة تارة تكون نَسَبِيّة بأن يجمع الشخصين ولادةٌ من صلب أو رحم أو منهما، وتارة تكون دينية بأن مجمعهما دين واحد أو رأي واحد.

وفي التنزيل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات: 11] وفي السنة "المسلم أخو المسلم" والأخوة الدينية أعظم من النسبيّة، بدليل أن الأخوين من النسب إذا افترقا في الدين لم يتوارثا، والأجنبيان إذا اتفقا في الدين توارثا، إما بإسلام أحدهما على يدي (ب) الآخر كما كان أولًا ثم نسخ، أو بعموم الدين عند فقد القرابة كما وَرَّثَ الشافعي بيت مال المسلمين لاجتماعهم في

(أ) في م شعاره.

(ب) في س، م يد.

ص: 302

الإسلام أو لغير ذلك.

قوله: "لا يظلمه" أي: لا يدخل عليه ضررا بغير إذن شرعي، لأن ذلك حرام ينافي أخوة الإسلام، بل الظلم حرام حتى للكافر فالمسلم أولى، فالظلم يكون في النفس والدين والمال والعرض ونحو ذلك، وكله حرام منهي عنه بدليل آخر الحديث.

قوله: "ولا يخذله" أي: لا يترك نصرته الجائزة مع القدرة عند الحاجة لأن من حقوق أخوة الإسلام التناصر لقوله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة: 4] وقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [سورة الأنفال: 73] وقوله عليه الصلاة والسلام: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"(1) وسواء كان الخذلان دنيويًّا مثل أن ترى عَدُوًّا يريد أن يبطش به فلا تعينه عليه، أو دينيًّا بأن ترى الشيطان مستوليا عليه في بعض الأعمال أو الأحوال يريد أن يستفزه ويهلكه في دينه فلا تعينه على الخلاص من حبالته بوعظ أو نحوه وكلا النوعين من الخذلان حرام.

قوله: "ولا يكذبه" أي: يخبره بأمر على خلاف ما هو عليه لأنه غش وخيانة، والكذب أشد الأشياء ضررا، والصدق أشدها نفعا، ولهذا كانت رتبة الصدق فوق رتبة الإيمان لأنه إيمان وزيادة، ولهذا قال الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة: 120] فأمر المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين ولأن الصدق مرادف التقوى بدليل قوله

(1) سبق تخريجه.

ص: 303

عزَّ وجلَّ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة البقرة: 178].

ثم التقوى أخص من الإيمان فكذا الصدق الذي هو رديفها أو كرديفها واستفيد هذا من قوله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [سورة البقرة: 178] الآية.

ويروى أن أعرابيا بايع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يترك خصلة من خصال وهي الزنا والسرقة والكذب ونحوها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"دع لي منهن الكذب" فذهب الأعرابي فجعل إن همَّ بزنا أو سرقة أو غيرهما قال: كيف أصنع إن فعلت، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل زنيت؟ فإن قلت: نعم، حدَّني، وإن قلت: لا، كذبت، وقد عاهدني على ترك (أ) الكذب، فترك الفواحش كلها لترك الكذب (1).

وبالجملة فموضع الكذب من القبح مقابل الصدق من الحسن.

قوله: "ولا يحقره" أي: يستصغر شأنه ويضع من قدره؛ ولأن الله عز وجل لم يحقره حين خلقه ورزقه وخاطبه وكلفه فاحتقار المخلوق مثله له تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء، وهو حرب عظيم، وهذا وجه قوله عليه الصلاة والسلام:"بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" أي: يكفيه من الشر في أخلاقه ومعاشه ومعاده.

ومعنى هذه الجملة أن من حق الإسلام وإخوته أن لا يظلم المسلم أخاه

(أ) في س بترك.

(1)

أورده المبرد في الكامل 2/ 748 وقال الشيخ أحمد محمد شاكر في تحقيقه للكامل 566: وهذا الحديث لم أجده في شيء من كتب الحديث.

ص: 304

ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره.

وللإسلام حقوق أخر قد ذكرت في غير هذا الحديث، وقد جمعت في قوله عليه الصلاة والسلام: "

حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومفهوم قوله: "لا يحقر المسلم" أن الكافر يجوز احتقاره إذ لا حرمة له لعصيانه الله عز وجل {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [سورة الحج: 19].

قوله: "التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات" يعني أن محل التقوى القلب الذي هو في الصدر، وتحقيق هذا أن مادة التقوى في القلب؛ لأن حقيقة التقوى اجتناب عذاب الله عز وجل بفعل المأمور واجتناب المحظور، ومادة ذلك -وهو الخوف الحامل على ذلك الاجتناب- في القلب، هذا تحقيقه فتأمله.

البحث الثامن: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه" أقول: كل المسلم مبتدأ وحرام خبره، ودمه وما بعده بدل منه، وجعل هذه الثلاثةَ كُلَّ المسلم وحقيقَتَهُ لشدة اضطراره إليها. أما الدم فلأن به حياته، والمال مادة الدم، فهو مادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية، واقتصر على هذه الثلاثة لأن ما سواها فرع عليها، وراجع إليها لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية فلا حاجة إلى غير ذلك.

وقد وقع في هذا الحديث إضافة كل إلى المعرفة، وقد أنكره بعضهم، وقال: لا تضاف إلا إلى نكرة نحو {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلا وَجْهَهُ} [سورة القصص: 88] والله عز وجل أعلم بالصواب.

ص: 305