المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحديث الثَّاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قال: - التعيين في شرح الأربعين - جـ ١

[الطوفي]

فهرس الكتاب

- ‌الحديث الأول:

- ‌الحديث الثَّاني:

- ‌الحديث الثالث:

- ‌الحديث الرابع:

- ‌الحديث الخامس:

- ‌الحديث السادس:

- ‌الحديث السابع:

- ‌الحديث الثامن:

- ‌الحديث التاسع:

- ‌الحديث العاشر:

- ‌الحديث الحادي عشر:

- ‌الحديث الثاني عشر:

- ‌الحديث الثالث عشر:

- ‌الحديث الرابع عشر:

- ‌الحديث الخامس عشر:

- ‌الحديث السادس عشر:

- ‌الحديث السابع عشر:

- ‌الحديث الثامن عشر:

- ‌الحديث التاسع عشر:

- ‌الحديث العشرون:

- ‌الحديث الحادي والعشرون:

- ‌الحديث الثاني والعشرون:

- ‌الحديث الثالث والعشرون:

- ‌الحديث الرابع والعشرون:

- ‌الحديث الخامس والعشرون:

- ‌الحديث السادس والعشرون:

- ‌الحديث السابع والعشرون:

- ‌الحديث الثامن والعشرون:

- ‌الحديث التاسع والعشرون:

- ‌الحديث الثلاثون:

- ‌الحديث الحادي والثلاثون:

- ‌الحديث الثاني والثلاثون:

- ‌الحديث الثالث والثلاثون:

- ‌الحديث الرابع والثلاثون:

- ‌الحديث الخامس والثلاثون:

- ‌الحديث السادس والثلاثون:

- ‌الحديث السابع والثلاثون:

- ‌الحديث الثامن والثلاثون:

- ‌الحديث التاسع والثلاثون:

- ‌الحديث الأربعون:

- ‌الحديث الحادي والأربعون:

- ‌الحديث الثاني والأربعون:

الفصل: ‌ ‌الحديث الثَّاني: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قال:

‌الحديث الثَّاني:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أيضًا قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتَّى جلس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفَّيه على فخديه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصَّلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا. قال: صدقت. قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإنَّ لم تكن تراه فإنَّه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل. قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أن تلد الأمَّة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. ثم انطلق فلبثت مليًّا. ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنَّه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. رواه مسلم (1).

الكلام على هذا الحديث في لفظه ومعناه.

أما لفظه فمنها قوله: "بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا

(1) رواه مسلم 1/ 36.

ص: 45

رجل" أي: كان طلوعه علينا بَيْنَ، أو في أثناء أزمنة كوننا عند النبي صلى الله عليه وسلم، لأن بين تقتضي شيئين فصاعدًا، وهذا تأويله هاهنا. وقد يقال في بينما: بينا بحذف الميم تخفيفًا، قال الشاعر:

بَينَا نَحنُ نَرْقُبُهُ أتانَا

مُعَلّقَ وَفْضَةٍ وَزِنَادَ رَاعِي (1)

ومنها قوله: "ذات يوم" ذات ها هنا تأنيث ذو بمعنى صاحب، أي: بينا نحن في ساعة ذات مرَّة في يوم فحذفت هذه المضافات لوضوح الأمر كما حذفت من قوله:

إذَا أقَامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُمَا

نَسِيمَ الصِّبا (2) ..........

أي: تضوَّع تضوعا مثل تضوع نسيم الصبا.

ومنها قوله: "لا يُرى عليه أثر السفر" هو بضم الياء آخر الحروف من يُرَى على ما لمَّ يسمَّ فاعله، وهو أبلغ من نرى بالنون على تسمية الفاعل ومنها قوله:"أخبرني عن أمارتها" بفتح الهمزة أي: علامتها وربما روي أماراتها على الجمع، يقال: أمارة وأمارات وأمار، نحو ضلالة وضلالات وضلال، من باب ما بين واحده وجمعه حذف الهاء نحو تمرة وتمر. أما الإمارة بكسر الهمزة فالولاية.

ومنها "رَبَّتها" أي: سيدتها ومالكتها تأنيث رَبٍّ وقد سبق معناه.

ومنها "الحفاة" بحاء مهملة جمع حاف وهو الذي لا نعل له. والعُرَاة

(1) البيت لرجل من قيس عيلان ينظر الكتاب لسيبويه 1/ 87 وشرح أبيات سيبويه للسيرافي 1/ 405 والوفضة: جعبة السهام، وزناد راعي: الخشبة التي تقدح بها النَّار.

(2)

البيت رقم 6 من معلقة امرئ القيس.

ص: 46

جمع عار. والعالة جمع عائل وهو الفقير ومنه {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [سورة الضحى: 8] و {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لا تعولوا} [سورة النساء: 3] أي: لا تفتقروا.

ورعاء الشاء رعاة الغنم ومنه {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} [سورة القصص: 23] ومنها قوله: "فلبثت مليا" قال الشَّيخ: هو بتشديد الياء أي: زمانًا كثيرًا، وكان ذلك ثلاثا. هكذا جاء مبينًا في رواية أبي داود والترمذي (1) وغيرهما انتهى.

قلت: مَلِيٌّ غير مهموز ومنه {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [سورة مريم: 46] لأنه من الملوان وهو الليل والنهار {وَأُمْلِي لَهُمْ} [سورة القلم: 45] وإن الله عز وجل ليملي للظالم، ولا همز في شيء من ذلك.

أما الملئ ضد المعدم، فمهموز لأنَّه من ملأ كيسه ونحوه مالًا، ومن الملاءة (أ) وهي اليسار، وكذلك الملأ الأعلى، والملأ من النَّاس مهموز ذلك كله.

وقوله: "فلبثت مليًّا" أي: زَمَانًا مَلِيًّا أي: طويلًا فحذف الموصوف لظهوره. ومنها جبريل، وهو اسم أعجمي سرياني، قيل: معناه عبد الله. والدين: الملة والشريعة، ويستعمل أيضًا في الجزاء، ومنه {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: الجزاء، وبمعنى العادة ومنه قوله (2):

(أ) في ب الملاء.

(1)

رواه أبو داود 5/ 69 والترمذي 5/ 6.

(2)

البيت رقم 7 من معلقة امرئ القيس.

ص: 47

كَدِيْنكَ مِن أُم الحُوَيرِثِ قَبلَهَا

........................

وروي كدأبك، وهو أشهر.

وقول الآخر (1):

تَقُولُ: وَقَد ذَرَأتُ لَها وَضِيْني

أَهَذا دِيْنُهُ أَبَدًا وَدِيني

أي: عادته وعادتي.

وأمَّا معانيه ففيها أبحاث:

البحث الأول: قوله: "شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر" هو إشارة إلى غرابة هذه القضية لأنَّ الرجل هيئته هيئة حاضر لا يخفى عليه أمر الدين مع اشتهاره غالبًا خصوصًا في المدينة، وسؤاله سؤال أعرابي وارد غير عالم بالدين. وهذا بخلاف حديث طلحة بن عبيد الله جاء أعرابي ثائر الرأس من أهل نجد يُسمع دويُّ صوته الحديث (2)؛ إذ وصفه بصفة الأعراب الواردين فلم يكن في سؤاله غرابة ولا عجب.

وقوله: "بياض الثياب، وسواد الشعر" مطابقة جَيدَةٌ تامَّةٌ.

(1) البيت للمُثَقِّب العَبدِي، ينظر ديوان شعر المثقب العبدي 195 ورواية الديوان هكذا:

تقولُ: إذا دَرَأتُ لَهَا وَضيني

أهَذَا دِينُهُ أبدًا وَدِيني

أخرى: أقول: إذا ذَرَأتُ لها وَضيْنًا

ذَرَأته: أزَلتُهُ عن موضعه. وفي هامش الديوان: يريد أن ناقته سئمت كثرة ما يرحلها، فإذا شَدَّ عليها الوضين -والوضين إنَّما يُشدُّ عليها مع الرحل- ضَجَّت، فكأنها في حالة الذي لو تكَلَّم لنطق بهذا القول، وشَكَا حَالَهُ.

(2)

رواه البُخاريّ 1/ 25 ومسلم 1/ 40.

ص: 48

وفيه أيضًا استحباب التجمل وتحسين الهيئة للعالم والمتعلم لأن هذا الرجل هو جبريل عليه السلام كما بين في آخر الحديث وهو معلم من جهة لقوله عليه الصلاة والسلام: "جاء يعلمكم دينكم" ومتعلم من جهة أنه في سورة سائل.

قوله: "ولا يعرفه منا أحد" إشارة إلى غرابة القضية أيضًا لأن هيئته تقتضي أنه من أهل المدينة، ولو كان منها لعرفناه أو بعضنا فقد حصل فيه (أ) أمارة معرفتنا لَهُ، مع عدم معرفتنا لَهُ. والله أعلم.

البحث الثاني: قوله: "فأسند ركبتيه إلى ركبتيه" تقتضي أنه جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وإلا لم يتصور إسناد ركبتيه إلى ركبتيه، لأنه لو جلس إلى جانبه لما أمكنه إلا إسناد ركبة واحدة منه إلى ركبة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا جلوس المتعلمين بين يدي المشايخ (ب) للتعلم.

وقوله: "ووضع كفيه على فخذيه" الضمير في كفيه للرجل، وفي فخذيه يحتمل أنه للرجل أيضًا، وأنه وضع كفيه على فخذي نفسه معتمدا عليهما وقت السؤال، ويحتمل أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الرجل وضع كفيه على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم استئناسًا باعتبار ما بينهما من الأنس في الأصل حين يأتيه جبريل عليه السلام لتبليغ (جـ) الوحي، وهذا الاحتمال أرجح، وإنما رُجحَ

(أ) في م منه.

(ب) في م الشيخ.

(جـ) في م السلام بالوحي.

ص: 49

الاحتمال في ضمير فخذيه، دون ضمير ركبتيه، لجواز وضع الإنسان يده على فخذيه، وعلى فخذي غيره، واستحالة إسناد ركبتيه إلى ركبتي نفسه والله أعلم.

البحث الثالث: قوله: "يا محمد أخبرني عن الإسلام" فيه فوائد:

الأولى: جواز تسمية المتعلم شيخه، والمرؤوس رئيسه باسمه، لكن قد غلب في العرف تسمية المشايخ والرؤساء بالأسماء الشريفة المفخمة فينبغي اتباعه إلا أن يعلم أن الشيخ لا ينقبض من تسميته باسمه الأصلى، ولا يكون ذلك على سبيل الوضع منه، فيكون ذلك هو الأولى اتباعا لهذه السنة وغيرها، ولأنه أقرب إلى التواضع وأولى بالصدق.

الثانية: أن للمسؤول من مفت وغيره أن يجيب عن السؤال معتمدا على ما فهم بالقرينة، وذلك لأن هذا السائل قال:

أخبرني عن الإسلام، وهو سؤال مجمل، يحتمل أن يكون عن حقيقة الإسلام، وعن شروطه، وعن أركانه، وعن زمانه ومكانه، وغير ذلك من لواحقه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أجابه بماهية الإسلام وحقيقته مبادرًا من غير استفسار، وما ذلك إلا لما فهمه بالقرينة من أنه سأل عن الماهية، ولأن القرائن كالنصوص فجاز الاعتماد عليها في الخطاب سؤالًا وجوابًا وشواهده كثيرة.

الثالثة: فيه دليل على أن الإسم غير المسمى لأن جبريل قال: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ فأتى بأسمائها وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بمعانيها، ولو كان الإسم هو المسمى لما احتاج إلى السوال عنه لعلمه به، ولما أجابه

ص: 50

النبي صلى الله عليه وسلم بل كان يقول له: إنك عالم بمسمى ما سألت عنه، لأنك عالم باسمه لتلفظك به.

واعلم أن للناس في هذه المسألة أقوالًا:

أحدها: أن الإسم غير المسمى كما قلنا.

والثاني: أنه هو المسمى لقوله عز وجل {سبح اسم ربك الأعلى} [سورة الأعلى: 62] والتسبيح إنما هو للرب عز وجل فدلَّ على أن اسمه هو هو، وحوابه: أنه ضمن (سبح اسم) معنى اذكر فكأنه قال: اذكر اسم ربك كقوله عز وجل {واذكر اسم ربك بكرة وأصيلًا} [سورة الإنسان: 25] وعكس ذلك قوله عز وجل {واذكر ربك} [سورة الأعراف: 205] ضمن (اذكر) معنى سبح ونزه، أي: نزه ربك عما لا يليق به، واحتجوا أيضًا بقوله عز وجل {بغلام اسمه يحيى} [سورة مريم: 7] ثم قال: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [سورة مريم: 12] فنادى الاسم فدلَّ على أنه المسمى. وجوابه أن المعنى: يا أيها الغلام الذي اسمه يحيى.

والثالث: أن الاسم المسمى (1) لا هو هو، ولا هو غيره، كالواحد من العشرة لا هو هي ولا هو غيرها، وجوابه أن هذا لا يتحقق، لأن قولنا: إن هذا الشيء لهذا الشيء، إما بمعنى أنه يملكه أو يستحقه أو يختص به اختصاص الموصوف بالصفة ونحوه، وعلى كل تقدير هو يقتضي المغايرة لأن ملك الشيء نفسه واستحقاقه لها واختصاصه بها محال.

(1) كذا في النسخ والسياق يقتضي أن يكون (للمسمى).

ص: 51

واعلم أن المغايرة تارة تكون بالذات نحو زيد غير عمرو، وتارة بالأحوال والصفات، نحو قولنا: وجه زيد اليوم غير وجهه أمس، وقد دخل عمرو بغير الوجه الذي خرج به، أي: حاله وصفته الآن غير حاله وصفته الذي كان، والمغايرة بين الإسم والمسمى بالذات لأن الاسم لفظ محل وجوه اللسان كلفظ زيد الذي هو الزاي والياء والدال، والمسمى ذات محل وجودها الأعيان كشخص زيد الطويل المنتصب القامة الذي هو حيوان ناطق، وهذه مغايرة ذاتية بالضرورة (1).

واعلم أن لنا اسما ومُسَمَّى بفتح الميم، ومُسَمِّي بكسرها، وتسمية، فالاسم هو اللفظ الموضوع للذات لتعريفها أو تخصيصها عن غيرها كلفظ زيد، والمسمَّى: هو الذات المقصود تمييزها بالاسم كشخص زيد، والمسمي: هو الواضع ذلك اللفظ لتلك الذات كأبي زيد الذي وضع اسمه لشخصه، والتسمية: هي وضع ذلك اللفظ لتلك الذات، والوضع هو تخصيص لفظ بمعنى بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ فهم ذلك المعنى، فبهذا التفصيل يعلم أن الاسم غير المسمَّى بالضرورة.

(1) قال الإمام أبو جعفر الطبري في رسالته صريح السنة:

26 وأما القول في الاسم أهو المسمى أم غير المسمى فإنه من الحماقات الحادثة التي لا أثر فيها فيتبع، ولا قول من إمام فيسمع، فالخوض فيه شين والصمت عنه زين، وحسب امرئ من العلم به والقول فيه أن ينتهي إلى قول الله عز وجل ثناؤه الصادق، وهو قوله:{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} أهـ وينظر كتاب الفنون لأبي الوفاء علي بن عقيل الحنبلي 1/ 238 - 240.

ص: 52

ومن شبه الخصم أن الله عز وجل قال {اعبدوا الله} .

فإن عبدتم المسمى خالفتم النَّصَّ، وإن عبدتم الاسم سلَّمتُم أنه المسمَّى، وجوابه أنَّا نعبد المسمَّى وهو الذات التي اسمها "الله" والتقدير: اعبدوا المسمى أو الذات التي اسمها الله واندفع الإشكال. وليس {اعبدوا الله} نصًّا في عبادة الاسم ولا ظاهرا ولا له على ذلك دلالة (أ) أصلًا.

ومن شبههم أنَّا لو كتبنا الجلالة على قرطاس أو أرض فإن كانت هي المعبود كان ذلك إشراكا وإن كان المعبود غيرها كان كفرا لعبادة غير الله عز وجل.

وجوابه أن الجلالة المكتوبة معظَّمَةٌ، والمعبود غيرها وهو مدلولها ومسمَّاها وهو الذَّات القديمة الواجبة الوجود، ولا نُسَلِّمُ أن عبادة غيرها عبادة غير الله عز وجل حتى يكون كفرًا.

البحث الرابع: قوله عليه السلام: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا قال: صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت" الكلام عليه من (ب) أمور:

(أ) في م ولا له عليه دليل.

(ب) في أ، م في.

ص: 53

أحدها: أن قوله: تشهد منصوب بأن، وباقي الأفعال عطف عليه، وهي تقيم، وتؤتي، وتصوم، وتحج. فأمَّا تؤمن فنصب بأن مباشرة مثل تشهد. وتنبيهنا على هذا لأن بعض الناس يغلط فيه فيرفع بعض هذه الأفعال ظنًّا أنها مستأنفة.

الثاني: لم قيد الحج بقوله: إن استطعت إليه سبيلا، ولم يقيد بذلك الصلاة والزكاة والصوم مع أنَّها إنَّما تجب بالاستطاعة (أ) لقوله عز وجل {فاتقوا الله ما استطعتم} [سورة التغابن: 16] وهذه العبادات من التقوى.

وقوله عليه السلام: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعم" وكان ينبغي أن يقيد الجميع بالإستطاعة أولًا يقيد أحدًا (ب) منها بها.

فالجواب أن الخطب في هذا يسير، وأنه عليه الصلاة والسلام تابع القرآن في قوله عز وجل {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا} [سورة آل عمران: 97] ولم يقل ذلك في خصوص غيره من العبادات، فإن قيل: ينتقل السؤال إلى القرآن لم قيد الحج بالاستطاعة دون غيره؟ قلنا: لأنه يتعلق بقطع مسافة، وفيه من المشقة ما ليس في غيره فكان أحقَّ بالتقييد بالاستطاعة من غيره.

الثالث: قوله: "فعجبنا له يسأله ويصدقه" لأن سُؤاله يقتضي عدم العلم بما سأل عنه وتصديقه النبي عليه الصلاة والسلام فيما أجابه به يقتضي

(أ) في م مع الاستطاعة.

(ب) في م واحدا.

ص: 54

أنه عالم به، فكان ظاهر حاله أنه عالم بذلك، غير عالم به، وهو محل التعجب (أ)، وإنما زال التعجب عنهم بقوله عليه الصلاة والسلام:"أنه حبريل أتاكم يعلمكم دينكم".

فتبين أنه كان عالما في صورة متعلم لقصد التعليم والتبيين لهم وذلك لا عجب فيه.

الرابع: الإسلام مصدر أسلم إسلاما، وهو في اللغة الطاعة والانقياد، وفي الشرع ما فَسَّر به في هذا الحديث، وهو الأعمال الظاهرة كالشهادتين وباقي العبادات. والإيمان مصدر آمن إيمانًا وزن أكرم إكرامًا فالهمزة الثانية في آمن نظير الكاف في أكرم فإذًا آمن من أفعل، لا فَاعَلَ إذ لو كان فاعل لكان مصدره فِعَالًا نحو قاتل قِتَالًا، وضارب ضِرَابًا ونحوه وهو قياس في مصدر فاعل الفِعَال والمفاعلة كالمقاتلة والمضاربة.

الخامس: اختلف في الإسلام والإيمان هل هما واحد أو متغايران وهذا الحديث يقتضي تغايرهما لأن حبريل عليه السلام سأل عنهما سؤالين، وأجيب عنهما بجوابين، وفُسرَ له الإسلام بأعمال الجوارح كالصلاة والزكاة والحج، وفُسرَ الإيمان بعمل القلب وهو التصديق، ولو كانا واحدًا لكان السؤال والجواب عن أحدهما كافيا عن السؤال عن الآخر، ولكان تفسير أحدهما هو عين تفسير الآخر كما لو سأل عن الخمر والعقار لكان حوابه أنهما جميعا الشراب المسكر.

(أ) في ب، م العجب.

ص: 55

احتج القائل بأنهما واحد بقوله عز وجل {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 35، 36] والمراد بهما آل لوط، فوصفهم تارة بأنهم مؤمنون، وتارة بأنهم مسلمون، فَدَلَّ على أن الإسلام والإيمان شيء واحد. وحوابه أنه معارض بقوله عز وجل {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [سورة الحجرات: 14] الآية فنفى الإيمان عنهم وأثبت الإسلام، ولو كانا واحدًا لمّا صَحَّ ذلك.

ثم الجواب عن الآية الأولى أنه وصف آل لوط بمجموع الأمرين الإيمان والإسلام لأنه أمدح وأكمل، وأيضًا لئلا تتكرر فاصلة واحدة في آيتين متواليتين.

واحتج أيضًا بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: هل تدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم" (1) الحديث. ففسر الإيمان هاهنا بما فسر به الإسلام في حديث جبريل من الأعمال الظاهرة فدلَّ على أنهما شيء واحد.

وجوابه من وجوه:

أحدها: أن حديث حبريل مصطحب، وحديث ابن عباس هذا مضطرب لأن فيه أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بأربع ولم يأمرهم إلا

(1) متفق عليه رواه البخاري 1/ 29 ومسلم 1/ 47 - 48.

ص: 56

بالإيمان وحده (1).

فإن قيل: الإيمان يشتمل على الأربع ولذلك فسَّره بها.

قلنا: هذا لكم أن تقولوه، غير أنه فسر الإيمان بخمس:

إحداهن: الشهادتان، والثانية: الصلاة، والثالثة: الزكاة، والرابعة: الصوم، والخامسة: أداء الخمس من الغنيمة، وفي بعض الروايات أنه قال: شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة (2).

(1) للمؤلف سقطات سيئة من نواح عدة في الكلام على حديث ابن عباس هذا المتفق عليه، الحائز أعلى درجات الصحة والقبول، حيث تصور أنه معارض لحديث عمر السابق، فنثر كنانته ليرفع هذا التعارض وليزيل هذا التدافع فلم يجد فيها أجود من خروجه على الناس بعلل رديئة بعضها أردأ من بعض لم يسبق إليها، وقد وافق بينهما وألف أهل العلم من غير إحداث هذه الشناعة، قال الحافظ أبو عمرو بن الصلاح:

فقوله: "أمرهم بالإيمان بالله" إعادةٌ لذكر الأربع ووصفٌ لها بأنها إيمان بالله ثم فسر الأربع بالشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم فهذا إذا موافق لقوله عليه السلام "بني الإسلام على خمس" ولتفسير الإسلام بخمس في حديث جبريل صلى الله عليه وسلم على ما سبق تقريره من أن ما يسمى إسلامًا يسمى إيمانًا، وأن الإيمان والإسلام مجتمعان ويفترقان، وقد قيل: إنما لم يذكر الحج في هذا الحديث لكونه لم يكن فرض حينئذ والله أعلم.

وأما قوله: "أن تؤدوا خمسًا" فليس عطفًا على قوله: "شهادة أن لا إله إلا الله" فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسًا، وإنما هو عطف على قوله:"وأمرهم بأربع" فيكون مضافًا إلى الأربع، لا واحدًا منها، وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان، وحسن أن يقرأ: وأن يؤدوا بياء المغايبة، ويجوز بتاء المخاطبة

فافهم ذلك وتدبره تجده إن شاء الله تعالى مما هدانا سبحانه لِحَلِّه من العقد والعضل والله أعلم. أهـ صيانة صحيح مسلم. وينظر فتح الباري للحافظ ابن حجر 1/ 161 - 163.

(2)

رواه البخاري 4/ 1588 ومسلم 1/ 47.

ص: 57

وهو يقتضي أنها ستٌّ، فإذا أخبر بأنه أمر (أ) بأربع، ثم أمر بست، كان ذلك اضطرابا في الحديث لعدم مطابقة العدد المعدود والخبرِ المُخبَرَ.

وقد روي هذا الحديث من غير جهة ابن عباس في الصحيح (1)، وهو مضطرب أيضًا كذلك (2)، فالاضطراب لازم له، فلا يعارض حديث جبريل المنتظم المصطحب.

فإن قيل: الاضطراب إنما يكون في الإسناد لا في المتن قلنا: بل يكون فيهما واضطراب هذا الحديث في متنه.

الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس ليس فيه ذكر الحج فلا يخلو وقوعه إما أن يكون بعد فرض الحج أو قبله فإن كان بعده فمحال أن لا يذكره النبي صلى الله عليه وسلم للقوم في جملة خصال الإيمان خصوصًا وهم في مقام البيان. وحينئذ يكون سقوط الحج من الحديث مؤكدا لاضطرابه موجها للقدح فيه لترك راويه بعض مهماته (3)، وإن كان قبله فابن عباس كان حينئذ صغيرًا لا يضبط ما يروي فلا تعارض روايته رواية عمر المتقن الضابط المشاهد لما روى، ويترك حديث ابن عباس هاهنا إما لذلك كما ترك حديثه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة

(أ) في م يأمر.

(1)

رواه مسلم 1/ 48 - 50 من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

كلا بل هو حديث صحيح، والقول باضطرابه ساقط لسقوط ما بني عليه.

(3)

يسوق الرواه الحديث بطوله أحيانًا، ويختصرونه أحيانا، فيقتصرون منه على بعض ألفاظه لسببٍ ما، وليس هذا من الاضطراب في شيء.

ص: 58

وهو محرم (1)، أو حملا لحديثه على أنه أرسله عن غيره كما أرسل حديث:"إنما الربا في النسيئة"(2) عن أسامة بن زيد، ومراسيل الصحابة وإن كانت صحيحة لكنها لا تعارض متصلاتهم، وحديث عمر في مغايرة الإسلام الإيمان متصل فلا يعارضه مرسل ابن عباس في اتحادهما.

الوجه الثالث: أن حديث ابن عباس قول رسول واحد وهو النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وحديث جبريل قول رسولين محمد صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام لأنه أقَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على ما قاله، وتقريره كقوله وقول رسولين أرجح من قول رسول واحد (3).

فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم معصوم وحده، ومع غيره فلا أثر لهذا الترجيح.

قلنا: الترجيح بين أخبار الآحاد يحصل بما ذكرناه، وما هو دونه في القوة كالترجيح بكثرة الرواة والروايات وهذا شبيه بقول عبيدة السلماني لعلي حين

(1) الأصل أنه ضابط متقن سامع لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُترك هذا الأصل إلا لدليل قاطع ناقل عن هذا الأصل، كما أنه لا يُسلِّم للمؤلف أن مراسيل الصحابة عن الصحابة لا تعارض متصلاتهم، بل مراسيل الصحابة عن الصحابة صحيحة، فإذا وقع تعارض بين مراسيلهم ومتصلاتهم يُسلك مسالك أهل العلم في ذلك، وليس منها هذا المسلك الذي اخترعه لنا المؤلف غفر الله له.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

هذا سقط من القول، وَخَلْفٌ من الكلام، وجري وراء بحث كاذب وتحقيق فاسد، فإن كون هذا الحديث قول رسولين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتعلق به ترجيح من حيث إنه قول رسولين على قول النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فإن قوله قول معصوم لا ينطق عن الهوى، والصمت عن هذا كله كان أوفر لدينه وعلمه وعرضه.

ص: 59

خالف في بيع أم الولد: رأيك مع الجماعة خير من رأيك لنا وحد (1) ك (2).

الوجه الرابع: أن حديث عمر هو تعليم جبريل لجمهور المسلمين أو لجميعهم مجموع الدين، وحديث ابن عباس هو تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لشرذمة يسيرة من الناس بعض أحكام الدين، فكانت العناية في حديث جبريل أشَدّ (3)، فكان تقديمه أولى.

البحث الخامس: قوله: "الإيمان أن تؤمن بالله" إن قيل: في هذا تعريف الشيء بنفسه لأن تؤمن مشتق من الإيمان فهو كقوله: الأكل أن تأكل، والشرب أن تتسرب، والتصديق أن تصدق!

فجوابه: أنا لا نسلم أن هذا من باب تعريف الشيء بنفسه، وإنما هو من باب تعريف الشرعي باللغوي، وذلك أن الإيمان في اللغة التصديق، وفي الشرع تصديق خاص وهو التصديق بالله عز وجل وما ذكره بعد فكأنه قال: الإيمان شرعًا هو التصديق بهذه الأشياء، أو الإيمان الشرعي هو الإيمان اللغوي بهذه الأشياء، كما يقال:

الصلاة شرعًا هي الصلاة لغة وهي الدعاء وزيادة أمور أخر وهو كلام صحيح. واعلم أنه قد تبين من هذا الحديث أن مسمى الإيمان والإسلام لغة غير مسمَّاهما شرعا. وفيه دليل على إثبات الحقائق الشرعية، وهي من

(1) رواه ابن أبي شيبة في المصنف 6/ 436 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 348.

(2)

كلا، لا شبه بين هذين الأمرين، وهل يجرؤ مؤمن يؤمن بالله ورسوله أن يقول: إن كلام الرسول مع كلام جبريل أحب إلينا من كلام الرسول وحده.

(3)

هذه شناعة أخرى ظاهرة للمؤلف حول هذا الحديث، وقى الله شرَّها عنا وعنه.

ص: 60

مسائل الخلاف في أصول الفقه (1).

البحث السادس: لم قدم السائل في سؤاله الإسلام على الإيمان وهل له وجه مناسب أم وقع اتفاقا؟ وحوابه بأنَّ في رواية الترمذي قدم الإيمان على الإسلام، وهي أولى بالتقديم.

فإن قيل: لم تلك (أ)، ومسلم أشهر بالصحة وأقعد بها من الترمذي؟

قلنا: لأن السنة بيان لكتاب الله عز وجل فأولاها بالتقديم أوفقها للكتاب، ورواية الترمذي هاهنا أوفق لكتاب الله عز وجل في تقديم الإيمان على الإسلام بدليل قوله عز وجل {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} [سورة الأنفال: 2] الآيتين، قدم فيهما الإيمان على الإسلام. وقوله عز وجل {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] فقدم ذكر الإيمان. وقوله {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك} [سورة محمد: 19] و {سبح باسم ربك} [سورة الواقعة: 74] فقدم التوحيد الذي هو من قبيل الإيمان، على الاستغفار والتسبيح الذي هو من قبيل الإسلام، لأنه اعتقاد، وهما عمل.

وقوله عز وجل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 177] الآية ذكر فيها الإيمان بأركانه قبل الإسلام بأعماله.

(أ) في أ، م ذلك.

(1)

ينظر التمهيد في أصول الفقه لأبي الخطاب الحنبلي 1/ 88 - 97.

ص: 61

فإن قيل: علام تحمل رواية مسلم في تقديم الإسلام؟ قلنا: تحمل على التقديم والتأخير من بعض الرواة بناء على الرواية بالمعنى، أما الجمع بينهما بوجه من الوجوه فعسر جدًّا.

البحث السابع: قوله: "فأخبرني في الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" اعلم أنه فسر الإحسان بالمراقبة والإخلاص في العبادة، وأن الإنسان يشاهد الله عز وجل بعين إيمانه مطلعا عليه في جميع أحواله حتى كأنه يشاهده عيانا فلا يَنْحرِف في عبادته عن الطريق الذي نهجه له الشرع وأدَّاه إليه طريق المعرفة، فإن الله عز وجل قائم على كل نفس بما كسبت، مشاهد لكل واحد من خلقه في حركته وسكونه، فمن أحسن الأدب أحسن إليه، ومن أساء الأدب عاقبه أو عفا عنه، فمن اعتقد هذا وصدق به جرى على طريق الاستقامة، ووقى الحسرة والندامة، وكان في عبادة الرب جل جلاله كشخص ضعيف، بين يدي ملك جبار قوي بينهما حجاب، وهو يتيقن أنه ملاحظ له فإنه يتحرى أن لا يصدر منه سوء أدب فيأمر بتأديبه عليه. واعلم أن العبادة تكون إما بالقلب كالإيمان، وإما بالبدن كالإسلام، ولما كان الإحسان هو المراقبة في العبادة كان الإحسان هو المراقبة والإخلاص في الإيمان والإسلام فلا يظهر الإيمان رياء أو خوفا فيكون منافقا، ولا يظهر أعمال الإسلام كالصلاة ونحوها لغير الله عز وجل، فيكون مرائيا مشركا، بل يرى أن الله عز وجل معه مطلع عليه وأقرب إليه مما سواه فلا يعبد إلا إياه ولا يراقب سواه، وعلى هذا فالإحسان شرط في الإسلام والإيمان أو كالشرط فيهما إذ بدون الإخلاص والمراقبة فيهما

ص: 62

لا يقبلان لقوله عليه السلام، إن الله عز وجل لا يقبل إلا ما كان خالصًا لوجهه (1)، ويدل على ذلك قوله عز وجل {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه} [سورة البقرة: 112].

{ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} [سورة لقمان: 22] فشرط الإحسان في الإسلام. وقال عز وجل {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [سورة المائدة: 93] الآية، فاشترط الإحسان في التقوى والإيمان.

فائدة: حكى بعض (أ) الفقراء عن الشيخ أبي محمد (ب) بن سكران وهو من مشاهير مشايخ بغداد المتأخرين رحمة الله عليه وعليهم أجمعين أنه ذكر هذا الكلام يوما فقال: "اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه"(2) ثم وقف هاهنا. وهي إشارة صوفية معناها أنك إذا فنيت عن نفسك فلم ترها شيئًا شاهدت الله عز وجل، فإن النفس ورؤيتها حجاب دون الله عز وجل، فمن ألقى الحجاب شاهد الجناب. وهذا شبيه بما حكي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت رب العزة في النوم فقلت: يا رب كيف الطريق إليك؟ فقال: خَل نفسك وتعال.

(أ) في م عن بعض.

(ب) في أ، م محمد بن سكزن.

(1)

رواه النسائي 6/ 25 من حديث أبي أمامة.

(2)

شِنْشِنَة أعرِفُهَا مِن أخْزَم، ورفض السياق هذا المعنى الذي تفضل به ابن سكران، ولم أقف على ترجمته.

ص: 63

البحث الثامن: قوله: "فأخبرني عن الساعة" يعني عن القيامة، أي: عن زمن وجودها، سميت ساعة وإن طال زمنها اعتبارا بأول أزمنتها فإنها تقوم بغتة في ساعة، ومن الناس من يكون قد تناول لقمة فلا يمهل حتى يبتلعها {فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها} [سورة محمد: 18] قوله: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" أي: كلانا سواء في عدم العلم بزمن وقوعها {إن الله عنده علم الساعة} [سورة لقمان: 34]{إن الساعة آتية أكاد أخفيها} [سورة طه: 15]{يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي} [سورة الأعراف: 187] الآيات. وفي الصحيح "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله" وتلا {إن الله عنده علم الساعة} (1) الآية. قوله: "فأخبرني عن أمارتها" أي: شرطها وعلامتها، قال:"أن تلد الأمة ربتها" فيه وجوه:

أحدها: أن تكثر السراري حتى تلد الأمة السُّريه بنتًا لسيدها وبنت السيد في معنى السيد.

والثاني: أن يكثر بيع السراري حتى تشتري المرأة أمَّهَا فتستعبدها جاهلة أنها أمها.

الثالث: معناه أن الإماء يلدن الملوك فتلد الأمة الملك وهي من رعيته فهو كَرَبهَا.

قوله: "وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"

(1) رواه البخاري 4/ 1793 من حديث ابن عمر.

ص: 64

قال الشيخ: معناه أن أسافل الناس يصيرون أهل ثروة ظاهرة، انتهى كلامه.

قلت: ولعل هذا ينظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(1) لأن أسافل الناس وأراذلهم ليسوا من أهل الإمرة (أ) والولاية، فإذا تأمروا آثروا.

قلت: وقد ذكر للساعة أمارات وشروط كثيرة في كتب الحديث، كطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وكثرة الهرج، وفيض المال حتى لا يقبله أحد، وأن يحسر الفرات عن جبل من الذهب، ونحو ذلك كثير.

ولعله إنما اقتصر في هذا الحديث على هاتين الأمارتين تحذيرا للحاضرين وغيرهم منها، أعني كثرة اتخاذ السراري وبيعهن، والتطاول في البنيان، وتوسيد الأمر إلى غير أهله، لاقتضاء الحال ذلك إذ لعلهم كانوا يتعاطون شيئًا من ذلك فزجرهم عن (ب) ذلك.

قوله: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" قيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف جبريل حين سأله، وإنما عرفه بعد ذلك بوحي أو نظر.

ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: "ما جاءني في صورة لم أعرفها

(أ) في س الإمارة.

(ب) في م عنه.

(1)

رواه البخاري 1/ 33 من حديث أبي هريرة.

ص: 65

إلا هذه المرة" (1) وجبريل لم يعلمهم شيئًا، وإنما الذي علمهم بالحقيقة هو النبي صلى الله عليه وسلم لكن جبريل لما كان سؤاله سببا للتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم نسب التعليم إليه مجازا من باب إطلاق اسم المُسَبَّبِ على السبب.

البحث التاسع: احتج الاتحادية والحلولية من هذا الحديث على مذهبهم بوجهين (أ):

أحدهما: أن جبريل عليه السلام روحاني وقد خلع في هذا الحديث صورة الروحانية وظهر بمظهر البشرية، مع أن جبريل أحد مخلوقات الله عز وجل، ولذلك كان يظهر في سورة دحية الكلبي فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم مَلَكا، والناس حوله يعتقدونه بشرا.

قالوا: فالله عز وجل أقدر على الظهور في صورة الوجود الكلي أو بعضه، وبنحو هذا احتج ابن الفارض في نظم السلوك (2).

الوجه الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" قالوا: هذا يدل على أنه عز وجل ماهية لطيفة في غاية اللطافة بحيث أنه يَرَى

(أ) في م من وجهين.

(1)

رواه أحمد 4/ 129، 164، من حديث عامر الأشعري. وصحَّح الحافظ ابن حجر سنده فتح الباري 1/ 116.

(2)

هو عمر بن علي بن مرشد الحموي ثم المصري.

صاحب الاتحاد الذي قد ملأ به التائية، فإن لم يكن في تلك القصيدة الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال. أهـ سير أعلام النبلاء 22/ 368 ونظم السلوك هي قصيدته التائية الاتحادية في نحو ثمانمائة بيت تنعق بصريح الاتحاد.

ص: 66

ولا يُرى، ويشهد لذلك قوله عز وجل {وهو معكم أينما كنتم} [سورة الحديد: 4] {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [سورة المجادلة: 7]{ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} [سورة ق: 16]{ونحن أقرب إليه منكم} [سورة الواقعة: 85]{ونعلم ما توسوس به نفسه} {لا تدركه الأبصار} الآية [سورة الأنعام: 103] وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المصلي يناجي ربه فلا يتنخمنَّ في قبلته فإن الله عز وجل بينه وبين قبلته"(1) وقوله عليه الصلاة والسلام: "اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا،

إنكم تدعون سميعًا بصيرًا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" (2) قالوا: فكل هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على أن الله عز وجل سار بذاته في الوجود.

والجواب: أن البرهان قد قام على استحالة الاتحاد مطلقا، وعلى استحالة الحلول على الرب جل جلاله. وما ذكرتموه من الاستدلال بهذا الحديث وغيره ظواهر لا تعارض البرهان القاطع.

وقد أجمع علماء الكتاب والسنة على تأويلها على خلاف ما ذكرتم فبطل ما ادعيتم والحمد لله رب العالمين.

وإنما ذكرت استدلالهم وحوابه لئلا يُمَوهَ به بعضهم على أحد، ويحتج بهذا الحديث الصحيح ونحوه عليه فيقبله وليس كذلك، فإن الحديث صحيح،

(1) رواه البخاري 1/ 159 ومسلم 1/ 390 من حديث أنس بنحوه.

(2)

رواه البخاري 3/ 1091 ومسلم 4/ 2077 من حديث أبي موسى الأشعري.

ص: 67

ولكن الاستدلال به على ما ذكرتموه باطل، ولا يلزم من صحة النقل صحة الاستدلال به.

البحث العاشر: أن اللام في "الحفاة العراة العالة" يحتمل أنها فيه للعموم، فيكون مخصوصا بقاطع العادة، إذ العادة تقتضي أن ليس جميع الفقراء يتطاولون في البنيان بل بعضهم. ويحتمل أنها لمعهود بين المتخاطبين، أو لتعريف الماهية، أو لبعض الجنس كما ذهب إليه بعضهم، فلا عموم ولا تخصيص. وكذلك قوله:"أن تلد الأمة ربَّتها" ليست اللام للعموم إذ ليس كل أمة يتفق لها ذلك ففيها الوجهان في لام الحفاة.

وقوله عليه الصلاة والسلام لعمر: "أتدري من السائل" إلى آخره فيه دليل على استحباب تنبيه المعلم تلاميذه والرئيس من دونه على سائر فوائد العلم وغرائب الوقائع طلبا لنفعهم وفائدتهم.

البحث الحادي عشر: هذا الحديث يرجع من كتاب الله عز وجل إلى آيات كثيرة تضمنت ما تضمنه من ذكر الإسلام والإيمان نحو قوله {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} إلى قوله {ومما رزقناهم ينفقون} [سورة الأنفال: 2 - 3]{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه} الآية [سورة البقرة: 285]. {ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر} الآية [سورة النساء: 136]{ليس البر أن تولوا وجوهكم} الآية [سورة البقرة: 177] ونحو ذلك.

ويرجع من السنة إلى أحاديث منها الثالث والثامن من هذه الأربعين.

ثم هاهنا سؤال: وهو أنه عليه الصلاة والسلام سمَّى مجموع ما تضمنه

ص: 68

هذا الحديث دينا وهو الإسلام والإيمان والإحسان بقوله: "إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" وإنما علمهم هذه الثلاثة فمجموعها هو الدين، لكن هذا معارض لقوله عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} [سورة المائدة: 3] إذ يقتضي أن الدين هو الإسلام وحده، وهو جزء الدين المذكور في حديث جبريل.

وهذا سؤال أوردته في درس بعض الفضلاء فلم يحصل عنه ما يشفي.

والذي أستحضره الآن في الجواب عنه: أن الدين لفط يطلق على الثلاثة التي سأل عنها جبريل، وعلى الأول منها وحده، وإطلاقه على هذين المعنيين إما بالاشتراك، أو بالحقيقة والمجاز، أو بالتواطئ أو غير ذلك، ففي الحديث أطلق الدين على مجموع الثلاثة، وهو أحد مدلوليه، وفي الآية أطلق على الإسلام وحده وهو مسماه الآخر.

ويحتمل أن يقال في الجواب: إن قوله عز وجل {ورضيت لكم الإسلام دينا} لا عموم فيه لأن دينا نكرة لا عموم لها، وهي نصب على التمييز، والتقدير رضيت لكم الإسلام من الدين، والمتيقن من ذلك أن الإسلام بعض الدين لا كله، وهو موافق للحديث لأن الإسلام فيه بعض الدين وهو ثلثه، خصلة من ثلاث خصال، وهي الإسلام والايمان والإحسان، لكن هذا الجواب يعارضه قوله عز وجل {إن الدين عند الله الإسلام} [سورة آل عمران: 19] وقوله عز وجل {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} [سورة آل عمران: 85] فإنه يقتضي أن الإسلام جميع الدين، لا بعضه والأقرب هو الجواب الأول.

ص: 69

البحث الثاني عشر: أن الإيمان هل هو التصديق المجرد أو التصديق بالقلب مع أعمال الجوارح الظاهرة.

حجة الأول حديث جبريل هذا حيث قال: "الإيمان أن تؤمن بالله" وهو التصديق كما مَرَّ، وخص أعمال الجوارح باسم الإسلام، وأيضًا قوله عز وجل {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} [سورة الكهف: 107] والعطف يقتضي التغاير فالأعمال غير الإيمان (أ).

حجة الثاني وهم جمهور أهل الحديث حديث ابن عباس في وفد عبد القيس حيث فسر لهم الإيمان بالأعمال مع التوحيد وقد سبق أنه لاضطرابه لا يعارض حديث جبريل (1)، وأيضًا احتجوا بقوله عليه الصلة والسلام:"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان"(2).

وجوابه: أن الأعمال من آثار الإيمان وَمسَبَّباتِهِ لا من حقيقته، بدليل ما سبق من حجة الآخرين وجمعا بينه وبين حديث جبريل.

واحتجوا بما رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان".

وجوابه أن هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو قول بعض مجتهدي أئمة

(أ) في م والإيمان غير الأعمال.

(1)

سبق الكلام على هذا الاضطراب المزعوم.

(2)

رواه البخاري 1/ 13 ومسلم 1/ 63 من حديث أبي هريرة.

ص: 70

السلف، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل حجة عليهم في أن الإيمان هو التصديق المجرد.

فإن قيل: قوله عليه الصلاة والسلام: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" يقتضي أن أعمال الجوارح من الإيمان فلم لا يجعل هذا زيادة على مقتضى حديث جبريل فيعمل به (أ)، ويكون الإيمان هو التصديق مع الأعمال عملا بالحديثين؟

قلنا (ب): لأن حديث جبريل محل تعليم وبيان بحضرة رسولي السماء والأرض ومعصومي الملائكة والبشر (1)، فلو كان الإيمان زيادة على التصديق لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.

وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل علمهم دينهم ومقتضاه أنه علمهم دينهم كاملًا، فلو كان مع ذلك قد أخل بجزء الإيمان ولم يبينه لم يكن قد علمهم دينهم كاملًا هذا خلف، فثبت أن الإيمان هو التصديق، وهو مذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء (2)، نعم يتفاضل الناس في آثار الإيمان وهي الأعمال.

البحث الثالث عشر: أنه عليه السلام ذكر أجزاء الدين ثلاثة:

أحدها: الإسلام وهو الشهادتان والعبادات الخمس وتفصيلها التام في

(أ) في أ، م بها.

(ب) في س قلت.

(1)

سبق ما فيه.

(2)

سيأتي التعليق على هذه المسألة في شرح الحديث الرابع والثلاثين.

ص: 71

كتب الفقه، والثاني: الإحسان وهو المراقبة والإخلاص وتفصيلها التام في كتب التصوف والحقائق والمعاملات كالرعاية للمحاسبي (1)، وقوت القلوب لأبي طالب المكي (2)، والإحياء للغزالي ونحوها، والثالث: الإيمان ومُتَعَلَّقُهُ ستة أشياء الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر، والعلم بهذه (أ) الأشياء الستة هو العلم المسمى بأصول الدين، فأما ما ضَمَّته إليه متأخروا المتكلمين فموضعه اللائق به كتب الفلسفة، ولا حاجة بالمسلم إليه إلا ليناضل به عن دينه أو يعرف غثَّ كلام الناس من سمينه، ونحن إن شاء الله تعالى نشير إلى بعض تفصيل هذه الجملة لتكون كالعقيدة المختصرة، ولئلا يلتبس على بعض الناس ما هو من أصول الدين بغيره فنقول:

أما الإيمان فقد سبق القول في لفظه وأنه التصديق المجرد وأنه مغاير للإسلام، وقال بعض العلماء: لا يدخل الجنة والنار إلا مؤمن! لكن إيمان أهل الجنة نافع لأنه مستصحب من حين التكليف، وإيمان أهل النار لا ينفع (ب)؛ لأنه مستأنف حينئذ اضطرارًا {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} الآية [سورة غافر: 85] ونحوها.

(أ) في أ، م بأحكام هذه.

(ب) في م لا ينتفع به.

(1)

هو الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو عبد الله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي صاحب التصانيف الزهدية ت 243 سير أعلام النبلاء 12/ 17 طبع كتابه (الرعاية) مرات.

(2)

هو الزاهد العارف شيخ الصوفية أبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي المنشأ العجمي الأصل ت 386 السير / 536 طبع كتابه (قوت القلوب) مرات.

ص: 72

أما الله عز وجل فيتعلق الإيمان بذاته وصفاته وأفعاله، أما ذاته فيجب الإيمان بوجودها وجودا قديما لم يسبقه ولا يلحقه عدم، وأن ما سواه محدث هو أحدثه وأوجده:

وأما صفاته فَضَرْبَان: ذاتي مقارن في الوجود للذات لم يفارقها كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام والسمع والبصر، وغير ذاتي وهو إما سلبي أو إضافي (1)، وقد اشتمل على أكثر ذلك الأسماء الحسنى، وتفصيل أحكام الصفات يطول، ومنها الوحدانية وهو أنه عز وجل واحد لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وصفاته الذاتية معان زائدة على مفهوم ذاته قائمة بها عند الجمهور ولا محذور.

وأما أفعاله فهي متعلق الإيمان بالقدر فيجب اعتقاد أن الله قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وأن جميع الكائنات بقضاء الله عز وجل وقدره وهو مريد لها، وأن له رحمة من شاء من خلقه متفضلا، وله تعذيب من شاء من خلقه عادلًا، كل نعمة منه فضل، وكل نقمة منه عدل، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وأنه أعلم بطباع خلقه منهم {هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم} الآية [سورة النجم: 32] فما فعل فيهم فهو غير ملوم ولا مطعون على عمله ولا عدله، وله تكليفهم بما شاء من الأفعال مع تقدير أسباب منعهم منها، وهو المسمى تكليف ما لا يطاق.

(1) تابع المؤلف طائفة من الفلاسفة في تقسيم صفات الله إلى صفات سلبية أو إضافية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون صفات الإثبات". التدمرية 17.

ص: 73

قال بعض العلماء: يجب السكوت عن (كيف) في صفاته، وعن (لم) في أفعاله.

وأما الملائكة فيجب الإيمان بأنهم عباد مكرمون، وأنهم خلقوا من نور، وأنهم مطيعون معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فقولنا: عباد، رَدٌّ على من تألههم كالكفار، وقولنا: مكرمون، رَدٌّ على من تنقصهم كاليهود.

أما التفضيل بين الملائكة والبشر فالأشبه أنهم أفضل من البشر في الجملة، وأما التفصيل ففيه تطويل، وأنهم جواهر روحانية أعطوا من القوة والنفوذ في الموجودات ما لم يعط غيرهم، وأنهم كثيرون بحيث لا يعلم جنود ربك إلا هو.

وأما الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان (أ) فيجب الإيمان بإنزالها وبما تضمنته من حكم وخبر والعمل بما فيها ما لم يثبت نسخه، أما قدمها وحدوثها فقد اختلف فيه المتكلمون، والتحقيق فيه يحتاج إلى تدقيق من نظر دقيق.

وأما الرسل فيجب الإيمان بعد النظر في معجزاتهم بإرسالهم وبما أرسلوا به وأن إرسالهم واجب من الله عز وجل لا عليه، واختلف (ب) في النبوة: هل هي موهبة أو مكتسبة (1).

(أ) في م القرآن.

(ب) في م واختلفوا.

(1)

هذا خلاف للزنادقة، وليس بين أهل الحق خلاف في النبوة هل هي موهبة من الله سبحانه =

ص: 74

وأما اليوم الآخر فأوله من ساعة الموت إلى المحشر، ثم إلى الأبد إما في نعيم مخلد -جعلنا الله وإياكم من أهله- وإما في عذاب شديد (أ) -أعاذنا الله عز وجل وإياكم منه، فيجب الإيمان بما بينَ الموت إلى دخول إحدى الدارين فما بعد ذلك مما صحَّت به نصوص الشرع، إذ لا طريق إلى معرفة ذلك إلا خبر الشرع المعصوم، وهي كثيرة موجودة في كتاب البعث والنشور (1) للبيهقي، وفي العاقبة لعبد الحق (2)، وفي غيرهما من كتب السنة، وفي القرآن العظيم أكثرها؛ بل جميعها، لكن على طريق الإجمال في بعضها.

وأما القدر: فقد سبق معنى الإيمان به في ذكر أفعاله عز وجل.

وظاهر هذا الحديث أن القدرية يكفرون بإنكار القدر لأنه عليه الصلاة والسلام جعل الإيمان به من جملة أركان الدين التي لا يتم بدونها، ويشهد لهذا قول ابن عمر: أخبرهم: يعني القدرية أني منهم برئ، ولولا أنه علم كفرهم من السنة لما تبرأ منهم، وقوله عليه الصلاة والسلام: "القدرية

(أ) في م سرمد.

= وتعالى أم مكتسبة، بل هم مطبقون على أن النبوة موهبة ربانية لا تُدرك برياضات صوفية، ولا مجاهدات اتحادية، وكان للمؤلف سعة في السكوت عنه وعدم نقل مثل هذا الإلحاد في كتاب يشرح فيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي وأمي.

(1)

طبع طبعات ناقصة.

(2)

هو عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الإشبيلي الأندلسي الإمام الحافظ البارع ت 581 السير 21/ 198 وكتابه (العاقبة في ذكر الموت والآخرة) طبع مرات، أجودها طبعة الكويت.

ص: 75

مجوس هذه الأمة" (1) والأشبه أنهم لا يكفرون لأن تعارض الشبه في مسألة القدر شديد، فهم فيه معذورون، وكذلك غيرهم من فرق الأمة ممن حاله في ذلك كحالهم.

وتحقيق ذلك أن مسائل الشريعة إما قاطع كالتوحيد والنبوات فيكفر منكره، وإما ظني (أ) اجتهادي كمسائل الفروع فلا يكفر منكره كإنكار وجوب النية للوضوء، وجواز الوضوء بالنبيذ، أو متردد بين القسمين كمسألة الجبر والقدر، وحدوث الكلام، وإثبات صفة العلو، ونحوها مما قويت فيه الشبهة من الطرفين فاختلف الناس في التكفير به، والأشبه عدم التكفير إلحاقا له بالاجتهاديات.

واعلم أنه لو لم يكن في الأربعين، بل في السنة جميعها غير هذا الحديث

(أ) في ب، س: وظني.

(1)

رواه أبو داود 4/ 66 والحاكم 1/ 85 واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/ 712 من طريق عبد العزيز بن أبي حازم عن أبي حازم عن ابن عمر. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر ولم يخرجاه.

ورواه اللالكائي 3/ 707 والآجري في الشريعة 1/ 378 من طريق زكريا بن منظور عن أبي حازم عن ابن عمر.

ورواه الآجري 1/ 379 وابن أبي عاصم في السنة 1/ 150 من طريق الجعيد بن عبد الرحمن عن نافع عن ابن عمر.

ورواه أحمد 10/ 252 من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن نافع عن ابن عمر.

ورواه أيضًا 9/ 415 من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة عن ابن عمر وقد حسن الحديث الألباني في ظلال الجنة.

ص: 76

لكان وافيا بأحكام الشريعة لاشتماله على جملها مطابقة، وعلى تفاصيلها تضمنا، وجمعه بين الطاعات المتعلقة بالقلب والبدن أصولا وفروعا.

تم الكلام على هذا الحديث إن شاء الله عز وجل.

ص: 77