الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والثلاثون:
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار. حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسندًا، ورواه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا فأسقط أبا سعيد (1)، وله طرق يُقَوَّى بعضُها ببعض.
الكلام على إسناد هذا الحديث ولفظه ومعناه.
أما إسناده فالكلام عليه في مواضع:
أحدها: الخدري بخاء معجمة مضمومة بعدها دال مهملة ساكنة، نسبة إلى خدرة اسم قبيلة من الأنصار، وإنما ضبطت هذا اللفظ على ظهوره لأن بعض مشايخنا الفضلاء أخبرني (أ) أنه تنازع هو وولده، وكان أيضًا فاضلا، في الخدري هل هو بدال مهملة أو معجمة وأنهما سألا عن ذلك الشيخَ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمه الله فأخبرهما أنها بدال مهملة.
الموضع الثاني: في المسند والمرسل وهما من ألقاب الحديث، فالمسند المتصل الذي لم يحذف من إسناده أحد، والمرسل ما حذف من إسناده الصحابي عند المحدثين، وَأَيَّ رَاوٍ كَانَ عند الأصوليين.
(أ) في س أخبرنا.
(1)
رواه مالك في الموطأ 2/ 745 مرسلًا وابن ماجه 2/ 784 عن إسحاق بن يحيى بن الوليد، عن عبادة بن الصامت، والدارقطني 3/ 77 عن الدراوردي، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري. وقد خالف الدراوردي مالكا، ويقدم قول مالك على قوله. انظر سلسله الأحاديث الصحيحة حديث 250.
الموضع الثالث: أن الحديث اللين، أو الضعيف من جهة الضبط قد يقوى بالشواهد المنفصلة حتى يبلغ درحة ما يجب العمل به، كالمجهول من الناس إذا وجد مزكيا صار عدلا تقبل شهادته وروايته، ثم الشاهد قد يكون كتابًا مثل أن يضعف الحديث لكن يوافقه ظاهر آية، أو عموم، فيقوى بها ويتعاضدان على صيرورتهما دليلا، وقد يكون سنة إما عن راوي الحديث نفسه، أو عن غيره، وقد قيل في المثل:
لَا تُخَاصِمْ بِوَاحِدٍ أَهْلَ بَيْتٍ
…
فَضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيَّا
وقال الآخر:
إِنَّ القِدَاحَ إذَا اجتَمَعْنَ فَرَاَمَها
…
بِالكسْرِ ذُو حَنَقٍ وبَطْشٍ أَيِّدِ
عَزّتْ فلم تُكْسَرْ، وَإِنْ هِيَ بُدِّدَتْ
…
فَالكَسْرُ والتَّوْهِيْنُ لِلْمُتَبَدِّدِ (1)
قلت: فكذلك الأسانيد اللينة إذا اجتمعت حصل منها إسناد قوي، كما قال الشافعي رضي الله عنه في قلتين نجستين (أ) ضمت (ب) إحداهما إلى الأخرى صارتا طاهرتين، وله نظائر (جـ)، فإذًا هذا الحديث ثابت يجب العمل بموجبه.
وأما لفظه فالضرر مصدر ضَرَّة يَضرُّة ضُرًّا وضَرَرًا، والضرار مصدر ضارَّهُ يُضَارُّهُ ضِرارًا. وفي التنزيل {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [سورة
(أ) في س متنجستين.
(ب) في ب جمعت وفي م إذا ضمت.
(جـ) في س نظير.
(1)
البيتان لقيس بن عاصم المنقري في أدب الدنيا والدين (ص 238 تحقيق ياسين السواس) وجمهرة الأمثال للعسكري 1/ 48، ولباب الآداب لابن منقذ ص 31.
البقرة: 231] والضرر إلحاق مفسدة بالغير مطلقا، والضرار إلحاق مفسدة به على جهة المقابلة، أي: كل منهما يقصد ضرر (أ) صاحبه.
ويروى هذا الحديث "ولا إضرار" بزيادة ألف، وهو مصدر أضر به إضرارًا إذا ألحق به ضررًا، وهو في معنى الضرر.
وقوله: "لا ضرر ولا ضرار" فيه حذف، أصله لا لحوق أو إلحاق ضَرَرٍ بأحد، ولا فعل ضِرَارٍ مع أحد. ثم المعنى لا لحوق ضرر شرعا إلا بموجب خاص مُخَصصٍ، أما التقييد بالشرع فلأن الضرر بحكم القدر الإلهي لا ينتفي، وأما استثناء لحوق الضرر لموجب خاص فلأن الحدود والعقوبات ضرر لاحق بأهلها، وهو مشروع بالإجماع، وإنما كان ذلك لدليل خاص، وإنما كان الضرر منفيا (ب) شرعا فيما عدا ما استثني لأن الله عز وجل يقول:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال صلى الله عليه وسلم "الدين يسر"(1)"بعثت بالحنفية السمحة السهلة"(2) ونحو ذلك من النصوص المصرحة بوضع الدين على
(أ) في م ضر.
(ب) في ب، م منتفيا.
(1)
سبق تخريجه.
(2)
سبق تخريجه.
تحصيل النفع والمصلحة، فلو لم يكن الضرر والضرار (أ) منفيا شرعا لزم وقوع الخلف في الأخبار الشرعية المتقدم ذكرها وهو محال.
وأما معناه فهو ما أشرنا إليه من نفى الضرر والمفاسد شرعا، وهو نفي عام إلا ما خَصَّصَهُ (ب) الدليل، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة؛ لأنا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تَضَمَّنَ ضررا فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملا بالدليلين، وإن لم ننفه به كان تعطيلا لأحدهما وهو هذا الحديث، ولا شك أن الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها.
ثم نقول: إن أدلة الشرع تسعة عشر بالاستقراء، لا يوجد بين العلماء غيرها.
أولها: الكتاب، وثانيها: السنة، وثالثها: إجماع الأمة، ورابعها: إجماع أهل المدينة، وخامسها: القياس، وسادسها: قول الصحابي، وسابعها: المصلحة المرسلة، وثامنها: الاستصحاب، وتاسعها: البراءة الأصلية، وعاشرها: العوائد، الحادي عشر: الاستقراء، الثاني عشر: سد الذرائع، الثالث عشر: الاستدلال، الرابع عشر: الاستحسان، الخامس عشر: الأخذ بالأخف، السادس عشر: العصمة، السابع عشر: إجماع أهل الكوفة، الثامن عشر: إجماع العشرة، التاسع عشر: إجماع الخلفاء
(أ) في م والإضرار.
(ب) في ب، م خصه.
الأربعة، وبعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه، ومعرفة حدودها، ورسومها، والكشف عن حقائقها، وتفاصيل أحكامها مذكور في أصول الفقه.
ثم إن قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" يقتضي رعاية المصالح إثباتا، والمفاسد نفيا، إذ الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما.
وهذه الأدلة التسعة عشر أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة، أو يخالفاها، فإن وافقاها فَبِهَا وَنِعْمَت، ولا نزاع إذ قد اتفقت الأدلة الثلاثة على الحكم، وهي النص والإجماع ورعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتيات عليهما والتعطيل لهما، كما تقدم السنة على القرآن بطريق البيان.
وتقرير ذلك أن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضررًا ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئًا من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضررا فإما أن يكون مجموعَ مدلوليهما أو بعضَه، فإن كان مجموعُ مدلوليهما ضررًا فلا بد أن يكون من قبيل ما استثني من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضررُ بعضَ مدلوليهما فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل فيه، وإن لم يقتضه دليلٌ خاصٌّ وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" جمعا بين الأدلة.
ولعلك تقول: إن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" لا تقوى على معارضة الإجماع لتقضي عليه بطريق التخصيص والبيان؛ لأن الإجماع دليل قاطع، وليس كذلك رعاية المصلحة؛ لأن الحديث الذي دَلَّ عليها واستفيدت منه ليس قاطعا، فهي أولى.
فنقول لك: إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع؛ لأن الأقوى من الأقوى أقوى، ويظهر ذلك بالكلام (أ) في المصلحة والإجماع.
أما المصلحة: فالنظر في لفظها، وَحَدهَا، وبيان اهتمام الشرع بها، وأنها مُبَرْهَنَةٌ.
أما لفظها: فهو مفعلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئة كاملة بِحَسَبِ مَا يُرَادُ ذلك الشيء له، كالقلم يكون على هيئته الصالحة للكتابة به، والسيف على هيئته الصالحة للضرب به.
وأما حدها بحسب العرف: فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع كالتجارة المؤدية إلى الربح، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة.
ثم هي تنقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وإلى ما يقصده لنفع المخلوقين وانتظام أحوالهم كالعادات.
(أ) في ب من الكلام.
وأما بيان اهتمام الشرع بها: فمن جهة الإجمال والتفصيل:
أما الإجمال فلقوله (أ) تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] الآيتين، ودلالتهما من وجوه:
أحدها: قوله عز وجل {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} حيث اهتم بوعظهم، وفيه أكبر مصالحهم، إذ في الوعظ كفهُّم عن الردى (ب) وإرشادهم إلى الهدى.
الوجه الثاني: وصف القرآن بأنه شفاء لما في الصدور، يعني من شك ونحوه، وهو مصلحة عظيمة.
الوجه الثالث: وصفه بالهدى.
الوجه الرابع: وصفه بالرحمة، وفي الهدى والرحمة غاية المصلحة.
الوجه الخامس: إضافة ذلك إلى فضل الله عز وجل ورحمته ولا يصدر عنهما إلا مصلحة عظيمة.
الوجه السادس: أمره إياهم بالفرح بذلك لقوله عز وجل {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} وهو في معنى التهنئة لهم بذلك، والفرح والتهنئة إنما يكونان لمصلحة عظيمة.
الوجه السابع: قوله عز وجل {هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} والذي
(أ) في م فقوله.
(ب) في ب، م الأذى.
يجمعونه هو من مصالحهم، فالقرآن ونفعه أصلح من مصالحهم، والأصلح من المصلحة غاية المصلحة، فهذه سبعة أوجه من هذه الآية تدل على أن الشرع راعى مصلحة المكلفين واهتَمَّ بها، ولو استقريت النصوص لوجدت على ذلك أدلة كثيرة.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون من جملة ما راعاه من مصالحهم نصب النص والإجماع دليلا لهم على معرفة الأحكام؟.
قلنا: هو كذلك، ونحن نقول به في العبادات، وحيث وافقا المصلحة في غير العبادات، وإنما نحن نرجح رعاية المصالح في العادات والمعاملات ونحوها؛ لأن رعايتها في ذلك هي قطب مقصود الشرع منها، بخلاف العبادات فإنها حق الشرع، ولا يعرف كيفية إيقاعها إلا من جهته نصًّا أو إجماعًا.
وأما التفصيل ففيه أبحاث:
الأول: في أن أفعال الله عز وجل معللة أم لا؟
حجة المثبت: أن فعلًا لا علة له عبث، والله عز وجل منزه عن العبث، ولأن القرآن مملوء من تعليل الأفعال نحو {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] ونحوه.
حجة النافي (أ): أن كل من فعل فعلا لعلة فهو مستكمل بتلك العلة ما لم يكن له قبلها، فيكون ناقصا بذاته، كاملًا بغيره، والنقص على الله
(أ) في س المنافي.
عزَّ وجلَّ محال.
وأجيب عنه بمنع الكلية، فلا يلزم ما ذكروه إلا في حق المخلوقين.
والتحقيق أن أفعال الله عز وجل معللة بِحِكَمٍ غائية يعود بنفع المكلفين، فَكَمَالُهُمْ لا ينفع اللهَ عز وجل وَكَمَالَهُ، لاستغنائه بذاته عما سواه.
البحث الثاني: أن رعاية المصالح تفضل من الله عز وجل على خلقه عند أهل السنة، واجبة عليه عند المعتزلة.
حجة الأولين: أن الله عز وجل متصرف في خلقه بالملك، ولا يجب لهم عليه شيء، ولأن الإيجاب يستدعى موجبا أعلى، ولا أعلى من الله عز وجل يوجب عليه.
حجة الآخرين: أن الله عز وجل كلَّف خلقه بالعبادة، فوجب أن يراعى مصالحهم إزالة لعللهم في التكليف، وإلا لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق أو شبيهًا به.
وأجيب عنه بأن هذا مبني على تحسين العقل وتقبيحه، وهو باطل عند الجمهور.
والحق أن رعاية المصالح واجبة من الله عز وجل حيث التزم التفضل بها، لا واجبة عليه، كما قلنا في {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 17] أن قبولها واجب منه، لا عليه، وكذلك الرحمة في قوله عز وجل {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ونحو ذلك.
البحث الثالث: في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعى مطلقها في جميع محالها، أو أكملها في جميع محالها، أو أوسطها في جميع محالها،
أو راعى مطلقها في بعض، وأكملها في بعض، وأوسطها في بعض، أو أنه راعى منها في كل محل ما يصلحهم وينتظم به حالهم؟
والأقسام كلها ممكنة، وأشبهها الأخير (أ).
البحث الرابع: في أدلة رعاية المصلحة على التفصيل، وهي من الكتاب والسنة والإجماع والنظر، ولنذكر من كل منها يسيرا على جهة ضرب المثال إذ استقصاء ذلك يتعذر.
أما الكتاب: فنحو قوله عز وجل {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وهو كثير، ورعاية مصلحة الناس في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم مما ذكرناه ظاهرة، وبالجملة فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة، أو مصالح كما بينَّاه (ب) في غير هذا الموضع.
وأما السنة: فنحو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا يبع حاضر لباد"(1)"ولا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم"(2) وهذا ونحوه في (جـ) السنة كثير؛ لأنها بيان الكتاب،
(أ) في أ، ب الآخر.
(ب) في س نبهنا وفي ب بيناها.
(جـ) في ب من.
(1)
رواه البخاري 2/ 752 ومسلم 3/ 1155 من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه أبو داود 2/ 554 والترمذي 3/ 432 وابن حبان (الإحسان 9/ 446) والزيادة الأخيرة له.
وقد بيَّنا اشتمال كل آية منه على مصلحة، والبيان على وفق المُبَيَّن.
وأما الإجماع: فقد أجمع العلماء إلا من لا يعتد به من جامدي (أ) الظاهرية على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد، وأشدهم في ذلك مالك حيث قال بالمصالح المرسلة، وفي الحقيقة لم يختص بها، بل الجميع قائلون بها غير أنه قال بها أكثرَ منهم (1)، وحتى إن المخالفين في كون الإجماع حجة قالوا بالمصالح، ومن ثَمَّ عُلِّلَ وجوبُ الشفعة برعاية حق الجار ومصلحته، وجواز السلم والإجارة لمصلحة الناس مع مخالفتهما القياس (ب)، إذ هما معاوضة على معدوم. وسائر أبواب الفقه ومسائله فيما يتعلق بحقوق الخلق معلل بالمصالح.
وأما النظر: فلا شك عند كل ذي عقل صحيح أن الله عز وجل راعى مصلحة خلقه عموما وخصوصا، أما عموما ففي مبدئهم ومعاشهم.
أما المبدأ فحيث أوجدهم بعد العدم على الهيئة التي ينالون بها مصالحهم في حياتهم ويجمع ذلك قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)} [الانفطار: 6 - 8] وقوله عز وجل {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
(أ) في س، م جاهل.
(ب) في م للقياس.
(1)
قال القرافي: يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك، وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها. انظر نفائس الأصول في شرح المحصول 9/ 4095.
وأما المعاش فحيث هيَّأ (أ) لهم أسباب ما يعيشون به ويتمتعون به من خلق السموات (ب) والأرض، وما فيهما، وما بينهما، وجماع ذلك في قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية: 13] وتفصيله بعض التفصيل في قوله عز وجل {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)} إلى قوله {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 6 - 17] وفي قوله عز وجل {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} إلى قوله عز وجل {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)} [عبس: 24 - 32].
وأما خصوصا فرعاية مصلحة المعاد (جـ) في حق السعداء حيث هداهم السبيل ووفقهم لنيل الثواب الجزيل في خير مقيل.
وعند التحقيق إنما راعى مصلحة المعاد (د) عموما حيث دعا الجميع إلى الإيمان الموجب لمصلحة المعاد، ولكن بعضهم فرط بعدم الإجابة بدليل قوله عز وجل {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
وتحرير هذا المقام أن الدعاء كان عموما والتوفيق المُكَملُ للمصلحة
(أ) في ب فحيث تهيأ، وفي س فهيأ لهم.
(ب) في ب السماء.
(جـ) في م العباد السعداء.
(د) في س، م العباد.
المُصَححُ لوجودها كان خصوصا بدليل قوله عز وجل {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] فدعا عاما، وهدى ووفَّق خاصًّا.
إذا عرف هذا فمن المحال أن يراعى الله عز وجل مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم، ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية، إذ هي أهم، فكانت بالمراعاة أولى، ولأنها أيضًا من مصلحة معاشهم إذ بها صيانة أموالهم ودمائهم وأعراضهم فلا معاش لهم بدونها فوجب القول بأنه راعاها لهم، وإذا ثبت (أ) رعايته إياها لم يجز إهمالها لها بوجه من الوجوه، فإن وافقها النص والإجماع وغيرهما من أدلة الشرع فلا كلام، وإن خالفها دليل شرعي وُفِّقَ بينه وبينها بما ذكرناه من تخصيصه بها، وتقديمها بطريق البيان.
وأما رعاية المصلحة مبرهنة فقد دلَّ عليه ما ذكرناه من اهتمام الشرع بها وأدلته.
وأما الإجماع فالنظر في لفظه وحَده وأدلته والاعتراض عليها، ثم معارضتها.
أما لفظه: فهو إفعال من أجمع يُجمِع، وهو في اللغة العزم والاتفاق يقال: أجمع القوم على كذا إذا عزموا، وإذا اتفقوا أيضًا.
وأما حده اصطلاحا: فهو اتفاق مجتهدي هذه الأمة على أمر ديني.
(أ) في ب تمت.
وأما أدلته فالكتاب والسنة والنظر.
أما الكتاب ففيه (أ) آيات:
الأولى: قوله عز وجل {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
وجه دلالتها (ب) أنه عز وجل توعَّد من شاقق الرسول واتبع غير سبيل المؤمنين، والوعيد لا يكون إلا عن فعل محرم، أو ترك واجب، والإجماع هو سبيل المؤمنين، وقد وقع الوعيد على تركه، فهو محرم، فاتباعه واجب.
والاعتراض عليه بوجوه كثيرة أقواها ستة:
أحدها: أن الوعيد في الآية على شيئين: مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، فهما جميعا واجبان، ولا يلزم من وجوب الشيء مع غيره وجوبه منفردًا (جـ)، لجواز أن يكون الآخر شرطا فيه، أو ركنًا له.
الثاني: أن اللام في المؤمنين يحتمل العهد والاستغراق، وبتقدير كونها للعهد لا يتم الدليل لاحتمال إرادة جماعة من المؤمنين مخصوصة كالصحابة، أو بعضهم، كما ذهب إليه الظاهرية من أن الحجة في إجماع الصحابة، لا غير؛ لأن الخطاب لهم، وفي عصرهم فيختص بهم.
(أ) في أ، ب، م فمنه.
(ب) في ب دلالته.
(جـ) في س مفردا.
الثالث: أن الإضافة في غير سبيل المؤمنين ليست محضة (1)؛ لأن غير لا تتعرف بالإضافة لشدة إبهامها، وحينئذ لا تدل الآية على ترتب الوعيد على كل فرد فرد من اتباع غير سبيل المؤمنين، إذ يبقى تقدير الآية: ويتبع أمرًا مغايرا لسبيل المؤمنين، فيحمل ذلك الأمر على غير (أ) سبيلهم في الإيمان،
(أ) في ب، س مغاير.
(1)
هذا فيه نظر، فإن الإضافة على ثلاثة أنواع:
نوع: يفيد تعرف المضاف بالمضاف إليه إن كان معرفة كغلام زيد، وتخصص المضاف بالمضاف إليه إن كان نكرة، كغلام امرأة.
ونوع: يفيد تخصص المضاف دون تعرفه، وضابطه أن يكون المضاف متوغلا في الإبهام كغير إذا أريد بها مطلق المغايرة، لا كمالها، ولذلك صحَّ وصف النكرة بها في قولك مررت برجل غيرك، وتسمى الإضافة في هذين النوعين معنوية؛ لأنها أفادت أمرًا معنويًّا، ومحضة، أي: خالصة من تقدير الانفصال.
ونوع لا يفيد شيئًا من ذلك، وضابطه أن يكون المضاف صفة تشبه المضارع في كونها مرادًا بها الحال أو الاستقبال، وهذه الصفة ثلاثة أنواع: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، وتسمى الإضافة في هذا النوع لفظية؛ لأنها أفادت أمرا لفظيا، وغير محضة؛ لأنها في تقدير الانفصال. اهـ. مختصرًا من أوضح المسالك إلى ألفية بن مالك 3/ 86.
قلت: حاصل قول النحاة أن (غير) إذا أريد بها مطلق المغايرة لا تتعرف بالإضافة، وإن أريد بها المغايرة الكلية تعرفت بالإضافة، وهنا المقصود من الآية -والله أعلم-: المغايرة الكلية لسبيل المؤمنين مغايرة معتبرة شرعًا، إذ السبل ثلاثة: سبيل المؤمنين، وسبيل غير المؤمنين، والسبيل المتوسط بينهما، وهو غير معتبر شرعًا في الوعيد، فبقي سبيل المؤمنين، وسبيل غير سبيل المؤمنين أيًّا كان.
وحينئذ تدل الآية على ترتب الوعيد على كل فرد من اتباع سبيل غير سبيل المؤمنين، فيشمل ذلك اتباع غير سبيلهم في الإيمان والإجماع.
وحينئذ يصير الوعيد على مشاقة الرسول والكفر، ولا دليل فيه على اتباع الإجماع.
وفي هذا الوجه نظر، لأن الكلام في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تعم، كما في سياق النفى، ويمكن دفع هذا النظر بأن يحمل الأمر المنكور (أ) في قوله:(ويتبع أمرا مغايرا لسبيل المؤمنين)(1) على معهود معين وهو الكفر، ويدل عليه سياق الآية بعدها وقبلها، فإنها في الكفر والكفار.
ويمكن تقرير هذا الوجه ابتداء بأن يمنع العموم في سبيل المؤمنين، فيحمل على سبيلهم في خصوص الإيمان، فيكون الوعيد على مخالفتهم فيه بالكفر، وهذا غير ما قَدَّرَته أوَّلًا، لأن هذا منعٌ لعموم سبيل المؤمنين، وذلك منعٌ لعموم المغايرة التي دلت عليها غير.
الرابع: أن السبل ثلاث: سبيل المؤمنين، وسبيل غير المؤمنين، والسبيل المتوسط بينهما، لا سبيل هؤلاء، ولا سبيل هؤلاء، بل السبيل المباحة التي لا وعد عليها ولا وعيد، وبتقدير وجود هذه الواسطة لا يتم الدليل على وجوب اتباع سبيل المؤمنين.
الخامس: أن الآية مقابلة للتي قبلها في الجملة الشرطية والعطف عليها، وفي التي قبلها خصال ثلاث، فوجب أن يكون المراد بسبيل المؤمنين فيها أضداد تلك الخصال الثلاث تصحيحًا للمقابلة، وتحقيقا لها في الآيتين.
(أ) في س المنكر.
(1)
هذا تقدير المؤلف فحسب.
بيان ذلك أن الآية التي قبل هذه {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما} [سورة النساء: 115] ثم قابلها بقوله عز وجل {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين} أي: في الأمر بالصدقة والمعروف والإصلاح، بأن أمر بأضداد ذلك، وهذا (أ) تأويل له ظهور في الآية ولو لم يكن إلا مجرد احتماله قدح في دلالة الآية على المطلوب.
السادس: بتقدير تسليم ما ذكرتم فإنما يدل على وجوب اتباع الإجماع، ونحن نقول به في العبادات وأشباهها من المقدرات التي لا تعلم إلا بالنص أو ما قام مقامه، والنزاع إنما هو (ب) في تقديم المصلحة عليه بطريق البيان لكونها أقوى منه، وليس في دليلكم ما يمنع ذلك.
الآية الثانية (1): قوله عز وجل {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس} [سورة البقرة: 144] وجه دلالتها (جـ) أن الوسط هو العدل الخيار، والعدل الخيار لا يصدر عنه إلا الحق، والإجماع صادر عن هذه الأمة العدول الخيار، فليكن حقًّا.
(أ) في س وهو.
(ب) في ب والنزاع لنا هنا في تقديم.
(جـ) في ب دلالته.
(1)
من أدلة الإجماع.
والاعتراض عليه أن العدل إنما يلزم صدور الحق عنه بطريق الظاهر فيما طريقه الصدق والكذب، وهو نقل الأخبار، وأداء الشهادات، أما فيما طريقه الخطأ والصواب في استخراج الأحكام والاجتهاد فيها فلا.
فإن قيل: إذا ثبت عدالة الأمة لزم أنهم لا يجمعون إلا عن مستند قاطع، والقاطع يجب العمل به.
قلنا: لا نسلم أنهم لا يجمعون إلا عن قاطع، وقد صرح جمهور مثبتي الإجماع بجواز انعقاده عن الأمارات كالقياس وخبر الواحد، بل قد ذهب كثير إلى انعقاد الإجماع لا عن مستند أصلا، بل بالبحث المحض بناء على أن الأمة معصومة، فكيفما اتفقت على حكم كان اتفاقها حجة، عن مستند كان أو غيره.
سلمنا أنهم لا يجمعون إلا عن قاطع، لكن ما المراد بالقاطع؟ إن أريد به القاطع القطع العقلي الذي لا يحتمل النقيض فمثله نادر، أو متعذر في أدلة الشرع، وبتقدير وجوده لا نسلم أنه يخالف المصلحة فيعود إلى الوفاق، وإن أريد به القاطع الشرعي فقد بيَّنَّا أن أدلة الشرع تسعة عشر، وليس فيها ما بمكن دعوى القطع فيه إلا الإجماع والنص ورعاية المصلحة.
أما الإجماع فلا يجوز اعتباره في مستند (أ) الإجماع لأنه إثبات الشيء بنفسه، ولو اعتبر كان نزاعنا فيه كالنزاع في فرعه المنعقد عنه.
وأما النص فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في
(أ) في أ، س، م، مسند.
الحكم أو محتمل، فهي أربعة أقسام:
فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق (أ)، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا، فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة فنعود إلى الوفاق.
وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمال في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده، وأيضًا فإن الإجماع أقوى من النص فإذا نازعناكم في الإجماع ورجحنا عليه المصلحة فالنص بذلك أولى، فانتفت بذلك دعوى القطعية في مستند (ب) الإجماع من جهة الإجماع والنص، فلم يبق إلا رعاية المصلحة، فإذا استند الإجماع إليها فهو موافق لما نقوله، لأنا نعتمد في الأحكام المصلحة سواء كانتا بواسطة الإجماع ونحوه أو بغير واسطة.
الآية الثالثة (1): قوله عز وجل {كنتم خير أمة أخرجت للناس} [سورة آل عمران: 111] الآية، وهو ثناء عليهم، وثناء الله عز وجل عليهم تعديل لهم فليكن إجماعهم حجة.
(أ) في م العموم أو الإطلاق.
(ب) في أ، م مسند.
(1)
من أدلة الإجماع.
والاعتراض عليه كالاعتراض على الذي قبله فهذه الآيات المستدل بها على الإجماع من القرآن.
وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام: "أمتي لا تجتمع على ضلالة"(1) وما ورد بمعناه.
وجه الاستدلال به أنه ورد بألفاظ كثيرة، وروايات متعددة تبلغ التواتر المعنوي، كشجاعة علي، وسخاء حاتم، ودلالته قاطعة في وجوب اتباع الإجماع، فصار في قوة النص القاطع إسنادًا ومتنا على المطلوب، فيجب اتباعه.
والاعتراض عليه بأن هذا الخبر وإن تعددت ألفاظه ورواياته لا نسلم أنه بلغ رتبة التواتر المعنوي، لأنا إذا عرضنا هذا الخبر على أذهاننا، وسخاء حاتم، وشجاعة علي، ونحوهما من المتواترات المعنوية وجدناها قاطعة بثبوت الثاني، غير قاطعة بالأول، فهو إذًا في القوة دون سخاء حاتم، وشجاعة علي، وهما متواتران، وما دون المتواتر ليس بمتواتر، فهذا الخبر ليس بمتواتر، لكن في غاية الاستفاضة.
فإن قيل: تلقته الأمة بالقبول فدل على ثبوته (أ)، فجوابه من وجوه:
أحدها: لا نسلم تلقيها له بالقبول، إذ منكروا الإجماع كالنظام والشيعة والخوارج والظاهرية -فيما عدا إجماع الصحابة- لو تلقوه بالقبول لما خالفوه.
(أ) في س تقويته.
(1)
قطعة من حديث ابن عمر، يأتي تخريجه قريبا.
الثاني: أن الاحتجاج بتلقي الأمة له بالقبول احتجاج للإجماع (أ) بالإجماع، وهو إثبات الشيء بنفسه.
الثالث: سلمنا تلقيهم له بالقبول، لكن قبولا مظنونا لا مقطوعًا، والظن لا يصلح مستندًا للإجماع (ب) المُدَّعَى قطعيته، وكونه أقوى أدلة الشرع بحيث تُسْفَكُ به الدماء وتترتب عليه الأحكام القواطع، فإن ذلك (جـ) تفريع للقوي على الضعيف، والقاطع على المظنون.
سلمنا أنه بلغ رتبة التواتر، لكن لا نسلم أنه قاطع في وجوب اتباع الإجماع، لاحتمال أنه أراد (د) بها لا تجتمع على ضلالة الكفر، فلا يكون حجة في وجوب اتباع الإجماع فيما سوى الإيمان المقابل للكفر.
فأما نحو قوله عليه الصلاة والسلام: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار"(1) و "يد الله على الجماعة"(2) فإنما المراد به طاعة الأئمة والأمراء، وترك الخروج عليهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اسمعوا وأطيعوا
(أ) في ب، س الإجماع.
(ب) في ب مستند الإجماع.
(جـ) في ب، س إذ ذاك.
(د) في م أن يراد.
(1)
رواه الحاكم في المستدرك 1/ 115، 116 من حديث ابن عمر، ورواه أبو نعيم في تاريخ أصبهان 2/ 208 بنحوه من حديث سمرة بن جندب وسنده ضعيف.
(2)
رواه الترمذي 4/ 446 والحاكم 1/ 116 من حديث ابن عباس قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وإن تأمر عليكم عبد حبشي" (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: "من مات تحت راية عمية مات ميتة جاهلية" (2).
ثم يرد على دليل الإجماع من الكتاب والسنة سؤالان:
أحدهما: أنه استدلال بظواهر سمعية إذ (أ) لا قاطع فيها لورود الإشكالات المذكورة عليها، والظواهر السمعية إنما وجب الاحتجاج بها بالإجماع، فلو ثبت الإجماع بها لزم الدور.
الثاني: أن المؤمنين في الآية وأمتي في الخبر يقتضي كل مؤمن وجميع الأمة، لكن الأمة قد افترقت بموجب النص على ثلاث وسبعين فرقة، ونحن نقول بموجب الدليل، فإنَّ ما اجتمعت عليه الأمة بجميع فرقها الثلاث والسبعين حجة قاطعة يجب اتباعها، لكن مجموع الأمة بفرقها إنما أجمعوا على الإيمان بالله ورسوله (ب)، ومسائل يسيرة بعد ذلك، ولا جرم أن إجماعهم في تلك المسائل حجة، وبهذا يظهر سر قوله عليه الصلاة والسلام:"أمتي لا تجتمع على ضلالة"(3) أي: أمتي بفرقها.
وأما النظر (4) فلأن الجمَّ الغفير من أهل الفضل والذكاء مع استفراغ
(أ) في م ولا.
(ب) في ب ورسله.
(1)
رواه البخاري 1/ 246 من حديث أنس بنحوه.
(2)
رواه مسلم 3/ 1478 من حديث جندب بن عبد الله البجلي بنحوه.
(3)
قطعة من حديث ابن عمر السابق.
(4)
من أدلة الإجماع.
الوسع في الاجتهاد (أ) وإمعان النظر في طلب الحكم يمتنع في العادة اتفاقهم على الخطأ.
واعترض عليه بالنقض بإجماع اليهود والنصارى وسائر أهل الملل على ضلالهم مع كثرتهم وفضلهم واجتهادهم وإمعانهم في النظر، ثم إنهم مخطئون بإجماع المسلمين.
وأما معارضة أدلة الإجماع فمن وجوه:
أحدها: لو كان الإجماع حجة لكان إما لذات المجتمعين، أو لشهادة الشرع لهم بالعصمة، والأول باطل، إذ المجمعون ليسوا معصومين على إرادتهم، إذ لا يلزم من فرض عدم عصمتهم محال لذاته، والثاني باطل، لأن شهادة الشرع بعصمتهم إما متواترة، لكن تواترها ممنوع كما تقرر، أو آحاد، وهو لا يفيد المقصود، فظهر أن الإجماع ليس بحجة.
الوجه الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"(1) مع قوله: "أمتي لا تجتمع (ب) على ضلالة" فنقول: المراد بالأمة التي لا تجتمع على ضلالة، مجموع الفرق الثلاث والسبعين، أو الفرقة الناحية منهم؟
(أ) في م والاجتهاد.
(ب) في ب لا تجتمع أمتي.
(1)
رواه أبو داود 5/ 4 والترمذي 5/ 25 وابن ماجه 2/ 1321 من حديث أبي هريرة قال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
فإن أريد مجموع الفرق لم يصح (أ) لوجهين:
أحدهما: أن منهم من لا يقول بالإجماع، فلا يصح اعتبار إجماع من لا يرى الإجماع حجة.
الثاني: أن من فرق الأمة من يكفر ببدعته، والكافر لا يعتبر في الإجماع، وإن أريد الفرقة الناجية فليست مجموع الأمة، بل هي ثُمُنُ تُسُعِ الأمة تقريبا، جزء من ثلاثة وسبعين جزءًا، فيبقى تقدير الحديث ثمن تسع أمتي لا يجتمع على ضلالة، أو جزء من ثلاثة وسبعين جزءًا من أمتي لا يجتمع على ضلالة، وهو ركيك من الكلام، لا يجوز نسبة مثله إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه والإمامين قبله حجبوا الأم عن الثلث إلى السدس بأخوين، ولم يحجبها ابن عباس إلا بثلاثة، وناظر عثمان في ذلك، حيث قال لعثمان: إن الله عز وجل يقول: {فإن كان له إخوة فلأمه السدس} [سورة النساء: 12] وليس الأخوان إخوة في لسان قومك، فقال عثمان: إني لا أدع أمرا كان قبلي (1).
وهذا احتجاج من عثمان بالإجماع، ولو كان حجة لما خالفه ابن عباس لظاهر القرآن ابتداء، ولما أقره عثمان على خلافه دومًا (ب)، بل كان يأخذ على يده، ويرده إلى إجماع الناس، وهذا يدل على أن الإجماع دون ظواهر
(أ) في س لم أر.
(ب) في ب، م دواما.
(1)
رواه ابن جرير في التفسير (8/ 41 طبعة محمود شاكر) والحاكم 4/ 335 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 227 قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
النصوص في القوة، كما فعله ابن عباس حيث قدم ظاهرًا من ظواهر الكتاب على الإجماع، وخصوصا إجماع الخلفاء الثلاثة ومن في عصرهم.
الوجه الرابع: أن الصحابة أجمعوا على جواز التيمم للمرض وعدم الماء، وخالف ابن مسعود حيث قال: لو رخصنا لهم في هذا لأوشك أن يبرد على أحدهم الماء فيتيمم وهو يرى الماء، فاحتج أبو موسى عليه بالآية، وحديث عمار فلم يلتفت (1)، وهذا ترك للنص (أ) والإجماع بمجرد المصلحة، ثم اشتهر هذا عن ابن مسعود ولم ينكر عليه أحد، فهو في ذلك إما مصيب أو مخطئ، فإن كان مصيبا لزم جواز ترك النص والإجماع بالمصلحة ونحوها، وهو المطلوب، وإن كان مخطئا لزم خطأ أهل الإجماع في ترك الإنكار عليه، فأحد الأمرين لازم، إما جواز ترك الإجماع لفعل ابن مسعود فلا يكون حجة، أو وقوع الإجماع على الخطأ، لإقرار الصحابة ابن مسعود على خطئه، وكلا الأمرين قادح في الإجماع.
فإن قيل: لا نسلم انعقاد الإجماع على التيمم عند عدم الماء لمخالفة ابن مسعود فيه، ولا نسلم اتفاق الصحابة على ترك الإنكار على ابن مسعود قوله، لرد أبي موسى عليه، فبطل ما احتججتم به على القدح في الإجماع.
قلنا: بتقدير أن ابن مسعود لم يخالف الإجماع فقد خالف النص الذي هو أصل الإجماع بمجرد المصلحة، وأنتم لا تقولون بترك النص لقياس ولا مصلحة، فهو إذًا مخطئ عندكم، وقد أقره الصحابة على الخطأ، ولزم
(أ) في ب النص.
(1)
رواه البخاري 1/ 132 بنحوه.
المحذور، وأما رَدُّ أبي موسى على ابن مسعود فهو رَدُّ مُنَاظَرَةٍ وجدال، لا رَدُّ إنكار، والفرق بينهما واضح.
واعلم أن غرضنا من هذا كله ليس القدح في الإجماع وإهداره بالكلية، بل نحن نقول به في العبادات والمقدرات ونحوهما، وإنما غرضنا بيان أن رعاية المصلحة المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" أقوى من الإجماع، ومستندها أقوى من مستنده.
وقد ظهر ذلك مما قررناه في دليلها (أ)، والاعتراض على أدلة الإجماع.
ومما يدل على تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع على الوجه الذي ذكرناه وجوه:
أحدها: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصاع فهو إذًا محل وفاق، والإجماع محل خلاف (ب)، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
الوجه الثاني: أن النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الأحكام المذموم شرعا (1)، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه ولا يختلف فيه،
(أ) في س دليلهما وفي م فيما قررناه في دليلهما.
(ب) في م الخلاف.
(1)
هذه كلمة شنيعة، وجرأة ذميمة، جَرَّه إليها التعسف الذي ركبه الشارح في تقرير المصلحة كما يريدها، ذلك لأنه يستحيل أن يقع تضاد وتعارض في الواقع ونفس الأمر بين نصوص الوحي من كتاب وسنة، وإنما التعارض الظاهر في أفهام الناس ومداركهم. وقد نقل عن إمام الأئمة أبي بكر ابن خزيمة أنه قال:"لا أعرف أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين، فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما".
فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعا، فكان اتباعه أولى.
وقد قال الله عز وجل {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} [سورة آل عمران: 104]{إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء} [سورة الأنعام: 160] وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(1) وقد قال عز وجل في مدح الاجتماع {وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} [سورة الأنفال: 64] وقال عليه الصلاة والسلام "وكونوا عباد الله اخوانا"(2) ومن تأمل ما حدث بين اتباع أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر (أ) علم صحة ما قلنا، حتى إن المالكية استقلوا بالمغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يُقارُّ أحد المذهبين أحدًا من غيره (ب) في بلاده إلا على وجهٍ ما، حتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة إذا دخل إليهم حنفي قتلوه وجعلوا ماله فيئًا، كحكمهم في الكفار، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية، فكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد، فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق! فلم يزل كذلك حتى أصبح يومًا وقد سُدَّ باب ذلك المسجد بالطين واللبن
(أ) في س والتنازع.
(ب) في م من الآخر.
(1)
رواه مسلم 1/ 323 من حديث أبي مسعود.
(2)
قطعة من الحديث الخامس والثلاثين من هذا الأربعين.
فأعجب الوالي ذلك. ثم إن كُلًّا من أتباع الأئمة يفضل إمامه على غيره في تصانيفهم ومحاوراتهم (أ). (1)
حتى رأيت حنفيًّا صنف مناقب (ب) أبي حنيفة فافتخر فيه (جـ) بأتباعه كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك ونحوهم، ثم قال (د) يعرض بباقى المذاهب:
أُولَئِكَ أَصْحَابِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ
…
إِذَا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ المَجَامِعُ (2)
وهذا شبيه بدعوى الجاهلية، وغيره كثير.
وحتى أن المالكية يقولون: إن الشافعي غلام مالك، والشافعية يقولون: أحمد بن حنبل غلام الشافعي، والحنابلة يقولون: الشافعي غلام أحمد بن حنبل، وقد ذكره أبو الحسين ابن الفراء في كتاب الطبقات (3)، من أتباع أحمد، والحنفية يقولون: الشافعي غلام أبي حنيفة، لأنه غلام محمد بن
(أ) في س محاضراتهم.
(ب) في م في مناقب.
(جـ) في ب، م فيها.
(د) في س ثم مال يعرض بباقي المذاهب حتى يقول.
(1)
فمن المالكية: القاضي عياض في مقدمة ترتيب المدارك، وابن فرحون في مقدمة الديباج المذهب، ومن الأحناف: أكمل الدين البابرتي في رسالة في ترجيح مذهب الإمام أبي حنيفة، والكردري في مناقب أبي حنيفة، ومن الشافعية: الجويني في مغيث الخلق، والغزالي في خاتمة المنخول، والرازي في مناقب الشافعي، ومن الحنابلة: ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد .... وغيرهم كثير.
(2)
ديوان الفرزدق 1/ 418 (طبعة دار بيروت) وفيه: أولئك آبائي.
(3)
طبقات الحنابلة 1/ 280.
الحسن، ومحمد غلام أبي حنيفة، قالوا: ولولا أن الشافعي من أتباع أبي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه الخلاف، وحتى أن الشافعية يصفون (أ) أبا حنيفة بأنه من الموالي، وأنه ليس من أئمة الحديث، وأحوج ذلك الحنفية إلى الطعن في نسب الشافعي، وأنه ليس قرشيا، بل هو من موالي قريش، ولا إمامًا في الحديث لأن البخاري ومسلما أدركاه (1)، ولم يرويا عنه، ولم يدركا إمامًا إلا ورويا عنه، حتى احتاج الإمام فخر الدين والتميمي (2) في تصنيفهما مناقب الشافعي إلى الاستدلال على هاشميته (3).
وحتى جعل كل فريق يروي السنة في تفضيل إمامه، فالمالكية رووا "يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل، فلا يوجد عالم أعلم من عالم المدينة"(4) قالوا: وهو مالك.
(أ) في أيضعون من أبي حنيفة.
(1)
انتهى الكلام على حديث 32 في نسخة (أ) ثم خالفت نسخة (أ) جميعَ النسخ الثلاثة
(ب)(س)(م) تماما، فهي تمثل كتابًا آخر، لا علاقة له بكتاب الطوفي، وهو تصرف من أحد النساخ سامحه الله.
(2)
هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي أبو منصور البغدادي ت 429. انظر طبقات الشافعية الكبرى 5/ 136 ذكر له حاجي خليفة في كشف الظنون 2/ 1839 كتابًا في مناقب الشافعي.
(3)
انظر مناقب الإمام الشافعي لفخر الدين الرازي 25 - 28.
(4)
رواه أحمد 2/ 299 والترمذي 5/ 47 وقال: هذا حديث حسن، وقد روي عن ابن عيينة أنه قال: إنه مالك بن أنس.
والشافعية رووا "الأئمة من قريش"(1) و "تَعَلَّمُوْا من قريش وَلَا تُعَلِّمُوْهَا"(2) و "عالم قريش يملأ الأرض علمًا"(3) قالوا: ولم يظهر من
(1) رواه أحمد في المسند 3/ 128 والنسائي في السنن الكبرى 3/ 467 من حديث أنس.
(2)
رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده (المطالب العالية النسخة المسندة 4/ 326) وفي المصنف 12/ 169 وعنه ابن أبي عاصم في السنة 2/ 636 من طرت عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعا. قال البوصيري: رحاله ثقات (بواسطة هامش المطالب العالية).
ورواه عبد الرزاق في المصنف 11/ 55 ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 121 عن معمر عن الزهري (في المصنف عن سليمان بن أبي حثمة، وفي السنن الكبرى عن ابن أبي حثمة) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال.
ورواه البيهقي في مناقب الشافعي 1/ 20 - 21 من طريق شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال: كان أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة -وكان من علماء قريش- يقول: فذكره.
قال البيهقي: هكذا رواه شعيب بن أبي حمزة. ورواه محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الله بن واقد، عن أبي بكر بن سليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مرسل جيد.
- ورواه الشافعي في المسند 2/ 194 ومن طريقه البيهقي في معرفة السنن والآثار (1/ 154 طبعة قلعجي) عن ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكره.
- وروى أيضًا من حديث جبير بن مطعم رواه ابن أبي عاصم في السنة 2/ 636 والبيهقي في مناقب الشافعي 1/ 22 - 23.
- وروى أيضًا من حديث عتبة بن غزوان، ومن حديث عبد الله بن السائب أخرجهما ابن أبي عاصم في السنة.
- وروى أيضًا من حديث أنس، أخرجه أبو نعيم في الحلية 9/ 64 فالحديث صحيح بهذه المتابعات والشواهد.
(3)
رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم في حلية الأولياء 9/ 65 والخطيب في تاريخ بغداد 2/ 60 والبيهقي في مناقب الشافعي 2/ 26 من حديث ابن مسعود قال الذهبي: النضر، قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث. سير أعلام النبلاء 10/ 82.
قريش بهذه الصفة إلا الشافعي.
والحنفية رووا "يكون في أمتي رجل يقال له: النعمان، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، هو سراج أمتي، ويكون فيهم (أ) رجل يقال له: محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس"(1).
والحنابلة رووا "يكون في أمتي رجل يقال له: أحمد بن حنبل يصبر على سُنَّتِي صبر الأنبياء"، أو كما قال، ذهب عني لفظه. وقد ذكره أبو الفرج الشيرازي (2) في أول كتابه المبهج (ب).
واعلم أن هذه الأحاديث ما بين صحيح لا يدل، أو دالٍّ لا يصح.
أما الرواية في مالك والشافعي فجيدة لكنها لا تدل على مقصودهم، لأن عالم المدينة إن كان اسم جنس فعلماء المدينة كثير، ولا اختصاص لمالك دونهم، وإن كان اسم شخص فمن علماء المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم من مشايخ مالك الذين أخذ عنهم، وكانوا حينئذ أشهر منه فلا وجه لتخصيصه
(أ) في م في أمتي.
(ب) في م المنهج.
(1)
قال أبو الفرج ابن الجوزي في كتاب الموضوعات 2/ 48 هذا حديث موضوع، لعن الله واضعه، وهذه اللعنة لا تفوت أحد الرجلين، وهما مأمون، والجويباري، وكلاهما لا دين له، ولا خير فيه، كانا يضعان الحديث.
(2)
هو عبد الواحد بن محمد بن علي بن الشيرازي ثم المقدسي ثم الدمشقي أبو الفرج الأنصاري شيخ الشام في وقته، كان إماما عارفا بالفقه والأصول، شديدًا في السنة، زاهدا، له عدة تصانيف في الفقه والأصول منها (المبهج) ت 486 بدمشق. كتاب الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب 1/ 68.
بذلك دونهم، وإنما حمل أصحابَهُ على حمل الحديث عليه كثرةُ أتباعه وانتشار مذهبه في الأقطار، وذلك أمارة على ما قالوه.
وكذلك "الأئمة من قريش" لا اختصاص للشافعي به، ثم (أ) هو محمول على الخلفاء في ذلك، وَرِدْفٌ على ذلك، احتجَّ به أبو بكر رضي الله عنه يوم السقيفة.
وكذلك "تعلموا من قريش" لا اختصاص لأحد به.
أما قوله: "عالم قريش يملأ الأرض علما" فابن عباس يزاحم الشافعي فيه، وهو أحق به لسبقه وصحبته ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في قوله:"اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"(1) وكان يسمى بحر العلم وحبر العرب، وإنما حمل الشافعية الحديث على الشافعي لاشتهار مذهبه وكثرة أتباعه، على أن مذهب ابن عباس مشهور بين العلماء لا ينكره أحد.
وأما الرواية في أبي حنيفة وأحمد بن حنبل فموضوعة باطلة لا أصل لها.
أما حديث "هو سراج أمتي" فأورده ابن الجوزي في الموضوعات، وذكر أن مذهب الشافعي لما اشتهر أراد الحنفية إخماله (ب) فتحدثوا مع مأمون بن أحمد السلمي (2)، وأحمد بن عبد الله الجويباري (3)، وكانا كذابين
(أ) في م بل هو.
(ب) في م إخماده.
(1)
رواه البخاري 1/ 66 ومسلم 4/ 1927 من حديث ابن عباس.
(2)
قال الذهي: أتى بطامَّات وفضائح. ميزان الاعتدال 3/ 429.
(3)
قال الذهبي: الجويباري ممن يضرب المثل بكذبه. ميزان الاعتدال 1/ 107.
وضَّاعين فوضعا هذا الحديث في مدح أبي حنيفة، وذم الشافعي، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
وأما الرواية في أحمد بن حنبل فموضوعة قطعا، لأنا قدَّمنا أن أحمد كان أحفظ الناس للسنة وأشدهم بها إحاطة، حتى ثبت أنه كان يذاكر بألف ألف حديث، وأنه قال: خرجت مسندي من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث، وجعلته حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، فما لم تجدوه فيه فليس بشيء. ثم إن هذا الحديث الذي أورده الشيرازي في مناقب أحمد ابن حنبل ليس في مسنده، فلو كان صحيحًا لكان هو أولى الناس بإخراجه والاحتحاج به في محنته التي طبق الأرض ذكرها.
فانظر بالله أمرًا يحمل الأتباع على وضع الأحاديث في تفضيل أئمتهم وذم بعضهم، وما سَبَبُه إلّا تَنَافِيْهِم في المذاهب، بتحكيمهم الظواهر ونحوها على رعاية المصالح، الواضع بيانُها الساطعِ برهانُها، فلو اتفقت كلمتهم بطريق ما لما كان شيء مما ذكرناه عنهم.
واعلم أن (أ) من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص.
وبعض الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب، وذلك أن الصحابة (ب) استأذنوه في تدوين السنة من ذلك الزمان فمنعهم من ذلك،
(أ) في م أن أسباب.
(ب) في م أصحابه.
وقال: لا أكتب مع القرآن غيره، مع علمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اكتبوا لأبي شاه"(1) خطبة الوداع، وقال:"قيدوا العلم بالكتابة (أ) "(2) قالوا: فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لانضبطت السنة، ولم يبق بين أحد (ب) من الأمة وبين النبي صلى الله عليه وسلم في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته، لأن تلك الدواوين كانت تتواتر عنهم إلينا، كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما (3).
(أ) في م بالكتاب.
(ب) في س أحد الأمة، وفي م آخر الأمة.
(1)
رواه البخاري 1/ 53 من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه الحاكم في المستدرك 1/ 106، والطبراني في المعجم الأوسط 1/ 259 من حديث عبد الله بن عمرو وفي سنده عبد الله بن المؤمل. قال الذهبي في التلخيص: ابن المؤمل ضعيف.
(3)
بئس هؤلاء الناس الذين يطعنون في الخليفة الراشد الهادي المهدي بذلك، فإنه لم ينفرد بالمنع، بل أُثِرَ المنع من كتابة الحديث عن جماعة من الصحابة، منهم أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، وعبيدة السلماني، والقاسم بن محمد، وعمرو بن دينار، والضحاك، وغيرهم، وقد ساق الخطيب البغدادي في تقييد العلم روايات المنع من كتابة الحديث عنهم. ثم قال: ثبت أن كراهة من كره الكتاب من الصدر الأول إنما هي لئلا يضاهى بكتاب الله تعالى غيره، أو يشتغل عن القرآن بسواه. 57.
تنبيه: عَدَّ الحافظ ابن رجب هذا الكلام كذبا وفجورا من الطوفي، ودسيسة من دسائسه الخبيثة المتضمنة: أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه هو الذي أضل الأمة قصدا منه وتعمدا. انظر ذيل طبقات الحنابلة 2/ 368.
الوجه الثالث (1): فقد ثبت في السنة معارضة النصوص بالمصالح ونحوها في قضايا؛
منها: معارضة ابن مسعود النص (أ) والإجماع في التيمم لمصلحة الاحتياط للعبادة كما سبق.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه حين فرغ من الأحزاب: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة"(2) فصلى بعضهم قبلها، وقالوا: لم يرد منا ذلك، وهو شبيه بما ذكرناه.
ومنها قوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: "لولا قومك حديث عهد بالإسلام لهدمت الكعبة، وبنيتها على قواعد إبراهيم"(3) وهو يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب في حكمها، فتركه لمصلحة التألف (ب).
ومنها أنه عليه الصلاة والسلام لما أمرهم يحعل الحج عمرة، قالوا: كيف وقد سَمَّينَا الحَجَّ؟ (4) وتوقفوا، وهو معارضة للنص بالعادة، وهو شبيه بما نحن فيه، وكذلك يوم الحديبية لما أمرهم بالتحلل توقفوا تمسكا
(أ) في ب للنقل.
(ب) في م الناس.
(1)
من وجوه أدلة تقديم رعاية المصلحة على النصوص والإجماع عند المؤلف.
(2)
رواه البخاري 1/ 321 ومسلم 1/ 1391 من حديث ابن عمر.
(3)
رواه البخاري 2/ 573 ومسلم 2/ 968 من حديث عائشة.
(4)
انظر صحيح البخاري 2/ 567 ومسلم 2/ 910.
بالعادة في أن لا حلَّ (أ) قبل قضاء المناسك، حتى غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ما لي آمر بالشيء فلا يفعل (1).
ومنها ما روى أبو يعلى الموصلي في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ينادي: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، فوجده عمر فَرَدَّهُ، وقال: إذن (ب) يتكلوا (2).
وكذلك رَدَّ عمر أبا هريرة عن مثل ذلك في حديث صحيح (3).
وهو معارضة لنص الشرع بالمصلحة.
ومنها ما روى الموصلي أيضًا أن رجلا دخل المسجد يصلى فأعجب الصحابة سمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:"اذهب فاقتله" فذهب فوجده يصلي، فرجع عنه، ثم أمر عمر بذلك فرجع عنه، كلاهما يقول: كيف أقتل رجلا يصلي؟ ثم أمر عليا بقتله فذهب فلم يجده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو قتل لم يختلف من أمتي إثنان"(4). فهذان الشيخان قد تركا النص،
(أ) في م إن أحد لا يحل.
(ب) في س إذا.
(1)
انظر صحيح البخاري 2/ 978.
(2)
رواه أبو يعلى في مسنده 1/ 100 قال الهيثمي: وفي إسناده سويد بن عبد العزيز وهو متروك.
مجمع الزوائد (1/ 172 طبعة حسين سليم أسد).
(3)
رواه مسلم 1/ 60 من حديث أبي هريرة.
(4)
رواه أبو يعلى في مسنده 1/ 90 قال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة وهو متروك. مجمع الزوائد 6/ 226.
ولا مستند لهما إلا استحسان إقباله على العبادة.
ولا يقال: إنما تركا هذا النص على قتله بقوله عليه الصلاة والسلام: "نهيت عن قتل المصلين"(1) لأن ذلك نسخ في حق هذا الشخص لهذا النص الخاص المتأخر، فظهر أن تركهما للأمر (أ) بقتله إنما كان استحسانًا منهما مُجَرَّدًا، وهو من باب ما نحن فيه من معارضة النصوص ونحوها بالمصالح.
هذا مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليهما ترك أمره، ولا عاتبهما، ولَا ثرَّب عليهما، بل سلَّم لهما حالهما، وأجاز اجتهادهما لما علم من مرتبتهما وصدقهما (ب) في ذلك، فكذلك من قدم رعاية مصالح المكلفين على باقي أدلة الشرع، يقصد بذلك إصلاح شأنهم وانتظام حالهم وتحصيل ما تفضل الله عز وجل به عليهم من الصلاح وجمع الأحكام عن التفريق (جـ)، وائتلافها عن الاختلاف، فوجب أن يكون جائزا إن لم يكن متعينا، ووجب أن يكون تقديم رعاية المصالح على باقي أدلة الشرع من مسائل الاجتهاد على أقل أحواله، وإلا فهو راجح (د) متعين كما ذكرنا، فقد ظهر بما قررناه أن
(أ) في ب وظهر تركهما الأمر، وفي م أن تركهما الأمر.
(ب) في س، م وقصدهما.
(جـ) في س من التفرق.
(د) في س أرجح.
(1)
رواه الطبراني في المعجم الكبير 18/ 26 من حديث أنس. قال الهيثمي وفيه عامر بن يساف وهو منكر الحديث. مجمع الزوائد 1/ 296.
دليل رعاية / المصالح أقوى من دليل الإجماع فلنقدم (أ) عليه، وعلى غيره من أدلة الشرع عند التعارض بطريق البيان.
فإن قيل: حاصل ما ذهبتم إليه تعطيل أدلة الشرع بقياس مجرد، وهو كقياس إبليس فاسد الوضع والاعتبار.
قلنا: هذا وَهَمٌ، واشتباه من نائم بعيد الانتباه، وإنما هو تقديم دليل شرعي على أقوى منه (1) وهو متعين، للإجماع على وجوب العمل بالراجح، كما قدمتم أنتم الإجماع على النص، والنص على الظاهر.
وقياس إبليس وهو قوله {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} [سورة الأعراف: 13] لم يقم عليه ما قام على رعاية المصالح من البراهين، وليس هذا من باب فساد الوضع، بل من باب تقديم الراجح (ب) كما ذكرنا.
فإن قيل: الشرع أعلم بمصالح الناس وقد أودعها أدلة الشرع وجعلها أعلامًا (جـ) عليها يعرف بها، وترك أدلته لغيرها مراغمة ومعاندة له.
قلنا: أما كون الشرع أعلم بمصالح المكلفين فنعم، وأما كون ما ذكرناه من رعاية المصالح تركا لأدلة الشرع بغيرها فممنوع، بل إنما يترك أدلته بدليل شرعي راجح عليها مستند إلى قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار"
(أ) في س فليقدم.
(ب) في م رعاية المصالح.
(جـ) في س علامات.
(1)
كذا في النسخ، ولعل المقصود "وإنما هو تقديم دليل شرعي على (ما هو) أقوى منه.
كما قلتم في تقديم الإجماع على غيره من الأدلة.
ثم إن الله عز وجل جعل لنا طريقا إلى معرفة مصالحنا عادة، فلا نتركه لأمر مبهم يحتمل أن يكون طريقا إلى المصلحة، ويحتمل أن لا يكون.
فإن قيل: إجماع الأمة حجة قاطعة فلا يُخَالَفُ.
قلنا: إن عنيتم بكونه قاطعا القطع (أ) العقلي الذي لا يحتمل النقيض كقولنا: الواحد نصف الاثنين، فلا نسلم أن الإجماع قاطع بهذا المعنى، وإن عنيتم به استناده إلى دليل قاطع فقد سبق تفصيل جوابه في الاعتراض على دلالة الآية الثانية من أدلة الإجماع، وإن عنيتم به أنه لا يجوز خلافه فهو عين الدعوى ومحل النزاع، بل عندنا يجوز خارقه بأقوى منه وقد بيناه.
فإن قيل: خلاف الأمة في مسائل الأحكام رحمة واسعة (ب) فلا يحويه حصرهم في جهة واحدة لئلا يضيق عليهم مجال الاتساع.
قلنا: هذا الكلام ليس منصوصا عليه من جهة الشرع حتى يُمتثل، ولو كان لكنَّ مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدم.
ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف بالتوسعة على المكلفين مُعَارَضٌ بمفسدة تعرض منه، وهو أن الآراء إذا اختلفت وتعددت اتبع بعض الناس رخص (جـ) المذاهب فأفضى إلى الانحلال والفجور كما قال بعضهم:
(أ) في م القاطع.
(ب) في م وسعة.
(جـ) في م أرخص.
فَاشْرَبْ وَلُطْ وَازْنِ وَقَامِر وَاحْتَجِجْ
…
فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ بِقَوْلِ إمامِ (1)
يعني بذلك شرب النبيذ، وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة، والوطء في الدبر على ما يعزى إلى مالك، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي.
وأيضًا فإن بعض أهل الذمة ربما أراد الإسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد الآراء ظنا منه أنهم يخطئون (2) في عمياء، لأن الخلاف منفور عنه بالطبع، ولهذا قال الله عز وجل {الله نزل أحسن الحديث كتابًا متشابها} [سورة الزمر: 23] أي: يشبه بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، لا يُختَلَفُ إلا بما فيه من المتشابهات، وهي ترجع إلى المحكمات بطريقها، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" على ما تقرر لَاتَّحَدَ طريقُ الحكم، وانتفى الخلاف فلم يكن ذلك شبهة في امتناع (أ) من أراد الإسلام من أهل الذمة وغيرهم.
فإن قيل: هذه الطريقة التي سلكتها إما أن تكون خطأ فلا يلتفت إليها، أو صوابا فإما أن ينحصر الصواب فيها أو لا، فإن انحصر لزم أن الأمة من أول الإسلام إلى حين ظهور هذه الطريقة على خطأ، إذ لم يقل بها أحد
(أ) في م منع.
(1)
البيت الأخير من مقطوعة أوردها السبكي في معيد النعم ومبيد النقم 102 ونسبه لبعض سفهاء الشعراء. وقال: رأيي في مثل هذا الشاعر أن يضرب بالسياط ويطاف به في الأسواق. قبحه الله تعالى وأخزاه. وانظر بقية كلامه فيه ص 103.
(2)
كذا في النسخ، ولعلها يخطبون.
منهم، وإن لم ينحصر فهي طريق جائزة من الطرق، لكن طرق الأئمة التي اتفقت الأمة على اتباعها أولى بالمتابعة لقوله عليه الصلاة والسلام:"اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار"(1).
فالجواب أنها ليست خطأ، لما ذكرنا عليها من البرهان، ولا الصواب منحصر فيها قطعا، بل ظنا واجتهادا، وذلك يوجب المصير إليها، إذ الظن في الفرعيات كالقطع في غيرها، وما يلزم على هذا من خطأ الأمة فيما قبله لازم على رأي كل ذي قول أو طريقة انفرد بها غير مسبوق إليها، والسواد الأعظم الواجب اتباعه هو الحجة والدليل الواضح، وإلا لزم أن يتبع العلماء العامة إذا خالفوهم، لأن العامة أكثر، وهو السواد الأعظم. والله عز وجل أعلم بالصواب.
واعلم أن هذه الطريقة التي قررناها مستفيدين لها من الحديث المذكور ليست هي القول بالمصالح المرسلة على ما ذهب إليه مالك، بل هي أبلغ من ذلك، وهي التعويل على النصوص والإجماع في العبادات والمقدرات، وعلى اعتبار المصالح في المعاملات وباقي الأحكام.
وتقرير ذلك أن الكلام في أحكام الشرع إما أن يقع في العبادات والمقدرات ونحوها، أو في المعاملات والعادات وشبهها، فإن وقع في الأول اعتبر فيه النص والإجماع ونحوهما من الأدلة، غير أن الدليل على الحكم إما أن يَتَّحِدَ أو يَتَعَدَّدَ، فإن اتَّحَدَ مثل أن كان فيه آية أو حديث أو قياس أو غير
(1) سبق تخريجه.
ذلك ثبت به، وإن تَعَدَّدَ الدليل مثل أن كان آية وحديثا وقياسا واستصحابا ونحوها، فإن اتفقت الأدلة على إثبات أو نفي ثبت بها، وإن تعارضت فيه فإما تعارضا يقبل الجمع، أو لا يقبله، فان قبل الجمع جمع بينهما لأن الأصل في أدلة الشرع الإعمال، لا الإلغاء، غير أن الجمع بينهما يجب أن يكون بطريق قريب واضح لا يلزم منه التلاعب ببعض الأدلة، وإن لم يقبل الجمع فالإجماع مقدم على ما عداه من الأدلة التسعة عضر، والنَّصُّ مقدم على ما سوى الإجماع.
ثم إنَّ النص منحصر في الكتاب والسنة، ثم لا يخلو إما أن ينفرد بالحكم أحدهما أو يجتمعا فيه، فإن انفرد به أحدهما فإما الكتاب أو السنة، فإن انفرد به الكتاب فإما أن يَتَّحِدَ الدليلُ أو يَتَعَدَّدَ، فإن اتحد بأن كان في الحكم آية واحدة عمل بها إن كانت نَصًّا أو ظَاهِرًا فيه، وإن كانت مجملة فإن كان أَحَدُ احتماليها أو احتمالاتها أشبَهَ بالأدب مع الشرع عمل به، وكان ذلك كالبيان، وإن (أ) استوت احتمالاتها في الأدب مع الشرع جاز الأمران، والمختار أن يتعبد بكل منهما مرة، وإن لم يظهر وجه الأدب فيها وقف الأمر على البيان، وإن تَعَدَّدَ الدليل من الكتاب بأن كان في الحكم منه آيتان فأكثر فإن اتَّفَقَ مقتضاهن فكالآية الواحدة، وإن اختلف فإن قبل الجمع جمع بينهن بتخصيص أو بتقييد أو نحوه، فإن لم يقبل الجمع فإن علم نسخ بعضها بعينه فالعمل على ما سواه، وإن لم يعلم نسخ بعضها بعينه فالمنسوخ
(أ) في س إذا.
منها مبهم، ويستدل عليه بموافقة السنة غيره، إذ السنة بيان الكتاب وهي إنما تبين ما ثبت حكمه، لا ما نُسِخَ.
وإن انفردت السنة بالحكم فإن كان فيه حديث واحد، فإن صح عمل به كالآية الواحدة، وإن لم يصح لم يعتمد عليه وأخذ الحكم من الكتاب إن وجد، وإلا فمن الاجتهاد إن ساغ مثل أن يعمل بما هو الأشبه بالأدب مع الشرع وتعظيم حقه، وإن لم يَسُغْ فيه الاجتهاد وقف على البيان، وإن كان فيه أكثرُ من حديث فإن صحت جميعها فإمَّا أن تتساوى في الصحة أو تتفاوت، فإن تساوت في الصحة فإن اتفق مقتضاها فكالحديث الواحد، وإن اختلف فإن قبل الجمع جمع بينهما، وإلا فبعضها منسوخ، فإن تعين، وإلا استدل عليه لموافقة الكتاب أو الإجماع غيره، أو بغير ذلك من الأدلة، وإن لم يصح جميعها فإن كان الصحيح منها واحدا فكما لو لم يكن في الحكم إلا حديث واحد وإن كان الصحيح أكثر من واحد فإن اتفقت عمل بها، وإن اختلفت جمع بينهما إن أمكن الجمع، وإلا فبعضها منسوخ كما سبق فيما إذا كان جميع الأحاديث صحيحا، فإن تفاوتت في الصحة بأن كان بعضها أصح من بعض، فإن اتفق مقتضاها فلا إشكال، وهي كالحديث الواحد، وإن تعارضت فإن قبلت الجمع جمع بينهما، فإن لم تقبله قدم (أ) الأصح فالأصح، ثم إن اتحد الأصح عمل به، وإن تعدد فإن اتفق فكالحديث الواحد، وإن تعارض جمع بينه إن قبل الجمع، وإلا فبعضه منسوخ معين أو مبهم
(أ) في م يقدم.
يستدل عليه بما سبق.
وإن اجتمع في الحكم كتاب وسنه فإن اتفقا عمل بهما وأحدهما بيان للآخر (أ) أو مؤكد له، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يمكن فإنه اتَّجهَ نسخ أحدهما بالآخر نسخ به، وإن لم يَتَّجِهْ فهو محل نظر وتفصيل. والأشبه تقديم الكتاب لأنه الأصل الأعظم فلا يترك بفرعه (ب).
هذا تفصيل القول في أحكام العبادات.
أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت كما اتفق النص والإجماع والمصلحة على إثبات الأحكام الخمسة الكلية الضرورية، وهي قتل القاتل والمرتد وقطع السارق وحد القاذف والشارب ونحو ذلك من الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جُمِعَ، مثل أن يحمل بعضُ الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يخل بالمصلحة، ولا يُفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله عليه الصلاة والسلام:"لا ضرر ولا ضرار" وهو خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصود من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة
(أ) في م الآخر.
(ب) في ب لفرعه.
التقديم على الوسائل.
ثم إن المصالح والمفاسد قد تتعارض، فتحتاج إلى ضابط يدفع محذور تعارضها، فنقول: كل حكم تفرضه فإما أن تتمحض مصلحته، أو مفسدته، أو يجتمع فيه الأمران، فإن تَمحَّضَت مصلحته فإن اتحدت مصلحته بأن كانت فيه مصلحة واحدة حُصلَتْ، وإن تعددت بأن كان فيه مصلحتان أو مصالح فإن أمكن تحصيل جميعها حُصلَ، وإن لم يمكن حُصلَ الممكنُ، فإن تعذَّرَ تحصيل ما زاد على المصلحة الواحدة فإن تفاوتت المصالح في الاهتمام بها حُصلَ الأَهَمُّ منها، وإن تساوت في ذلك حُصلَتْ واحدةٌ منها بالاختيار إلا أن يقع هاهنا تهمة فبالقرعة.
وإن تَمَحَّضَت مفسدته فإن اتَّحَدَتْ دُفِعَتْ، وإن تَعَدَدَّتْ فإن أمكن درء جميعها دُرِئَتْ، وإن تعذر دُرِئَ منها الممكنُ، فإن تَعَذَّرَ دَرْأُ مازاد على مفسدة واحدة، فإن تفاوتت عظم المفسدة دُفِعَ أعظمها، وإن اتساوت في ذلك فبالاختيار أو بالقرعة إن تحققت (أ) التهمة.
وإن اجتمع فيه الأمران المصلحة والمفسدة فإن أمكن تحصيل المصلحة ودفع المفسدة تعين، وإن تعذر فعل الأهم من تحصيل أو دفع إن تفاوتا في الأهمية، وإن تساويا فبالاختيار أو القرعة إن اتَّجَهَتْ التُّهْمَةُ.
وإن تعارض مصلحتان أو مفسدتان، أو مصلحة ومفسدة وترجح كل واحد من الطرفين بوجه (ب) دون وجه اعتبرنا أرجح الوجهين تحصيلا أو دفعا،
(أ) في س تمحضت.
(ب) في م من وجه.
فإن تساويا في ذلك عدنا إلى الاختيار أو القرعة.
فهذا ضابط مستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار" يتوصل به إلى أرجح الأحكام غالبا، وينتفي به الخلاف بكثرة الطرق والأقوال، مع أن في اختلاف الفقهاء فائدة عرضية خارجة عن المقصود، وهي معرفة الحقائق التي تتعلق بالأحكام وأعراضها ونظائرها وأشباهها، والفرق بينها، وهي شبيهة بفائدة الحساب من جزالة (أ) الرأي.
وإنما اعتبرنا المصلحة في المعاملات ونحوها دون العبادات وشبهها لأن العبادات حقُّ الشرعِ خَاصٌّ به، ولا يمكن معرفة حقه كمًّا وكيفًا وزمانا ومكانا إلا من جهته، فيأتي به العبد على ما رَسَمَ له سَيدُهُ، ولأن غلام أحدنا لا يعد مطيعًا (ب) خادمًا له إلا إذا امتثل ما رَسَمَ له سَيدُهُ، أو فعل ما يعلم أنه يرضيه فكذلك هاهنا؛ ولهذا لما تعبدت الفلاسفة بعقولهم ورفضوا الشرائع أسخطوا الله عز وجل وضلوا وأضلوا، وهذا بخلاف حقوق المكلفين فإن أحكامها سياسية شرعية وضعت لمصالحهم فكانت هي المعتبرة، وعلى تحصيلها المُعَوَّلُ (جـ).
ولا يقال: إن الشرع أعلم بمصالحهم (د) فيؤخذ (هـ) من أدلته؛
(أ) في جزالة.
(ب) في س طائعا.
(جـ) في م هو المعول.
(د) في م بمصالحها.
(هـ) في م فليؤخذ.
لأنا (أ) نقول: قد قررنا أن رعاية المصلحة من أدلة الشرع، وهي أقواها وأَخَصُّهَا فلنقدمها في تحصيل المصالح.
ثم إن هذا إنما يقال في العبادات الى تَخفَى مصالحها على (ب) مَجَارِي العقول والعادات، أما مصلحة سياسة المكلفين في حقوقهم فهي معلومة لهم بحكم العادة والعقل، فإن (جـ) رأينا دليل الشرع متقاعدا عن إفادتها، علمنا أنه أحالنا في تحصيلها على رعايتها، كما أن النصوص لما كانت لا تفي بالأحكام علمنا أَنَّا أُحِلْنَا بتمامها على القياس، وهو إلحاق المسكوت عنه، بالمنصوص عليه، بجامع بينهما. والله عز وجل أعلم بالصواب.
(أ) في م فإنا.
(ب) في م عن.
(جـ) في ب فاذا.