الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن عشر:
عن أبي ذر جندب بن جنادة، وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتق الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن. رواه الترمذي وقال: حديث حسن، وفي بعض النسخ حسن صحيح.
من عَرَفَ اللهَ فلم تُغْنِهِ
…
مَعْرِفَةُ اللهِ فذاك الشَّقِي
ما يَصنَعُ العبد بِعِز الغِنَى
…
فالعزُّ كل العِز للمُتَّقِي
جُندب وجُنَادة بضم الجيم، ومعاذ بضم الميم، وأبو ذر أصدق الناس لهجة وزهدًا، ومعاذ أعلم الأمة بالحلال والحرام.
وفي الحديث أحكام ثلاثة جامعة في بابها:
أحدها: يتعلق بحق الله عز وجل، وهو أن يتقيه حيث ما كان فإن الله عز وجل معه وناظر إليه ورقيب عليه حيث ما كان.
وتقوى الله عز وجل: امتثال مأموره واجتناب محظوره، وقيل: تقوى الله عز وجل: أن لا يراك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، ولهذا قال بعضهم لصاحبه: إذا أردت أن تعصي الله فاعصِه حيث لا يراك -ففيه غاية الاعتبار، وأي شيء يمنع الإنسان من رؤيته تعالى- أو أخرج من داره، أو كل غير رزقه.
وتقوى الله عز وجل يتضمن ما تضمنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" وما تضمنه حديث جبريل من الإسلام والإيمان والإحسان، لأن سائر أحكام التكليف لا تخرج عن الأمر والنهي،
فإذا اتقى الله بفعل ما أمر، وترك ما نهى فقد أتى مجميع وظيفة التكليف.
الحكم الثاني: يتعلق بحق المُكلَّفِ، وهو أنَّه إذا فعل سيئة أتبعها حسنة تمحوها، وتدفع عنه حكمها لقوله عز وجل {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [سورة هود: 114] أي: عظة لمن اتعظ، فلا تعجَزَنَّ أيها الإنسان إذا أتيت بسيئة بقلبك أو لسانك أو جارحتك أن تتبعها حسنة من صلاة ركعتين، أو صدقة وإن قلَّت، أو ذكر الله عز وجل، ولو أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنه أحبُّ الكلام إلى الله عز وجل، والحمد لله تملأ الميزان. وفي الصحيح:"كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" فلا تعجزن عن إتباع السيئة نحو هذا الكلام المبارك يمحها إن شاء الله عز وجل.
ثم إن كانت السيئة صغيرة كفاها الحسنة اليسيرة، والذكر اليسير، وإن كانت كبيرة فأكثر مما يمحوها من ذلك.
الحكم الثالث: يتعلق بحقوق الناس وهو مخالقتهم، أي: معاشرتهم بخلق حسن، والخلق الحسن قيل: كفُّ الأذى وبذل الندى.
والأشبه تفسيره بأن يحب للناس ما يحب لنفسه، ويأتي إليهم ما يحب أن يؤتى إليه، ففي ذلك أعني معاشرتهم بخلق حسن اجتماع القلوب (أ)، وانتظام الأحوال، وكفُّ الشرِّ عنهم واكتفاء شرهم، وذلك جماع الخير وملاك الأمر
(أ) في س للقلوب.
إن شاء الله عز وجل.
ومما يتعلق بالحكم الأول: وهو التقوى أنها مذكورة في قوله عز وجل {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [سورة البقرة: 177] الآية.
ثم قال الله عز وجل {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [سورة يونس: 62 - 63] فنقول: من أتى بما في الآية الأولى من الإيمان والإسلام فهو متقى، والمتقي (أ) وليُّ الله عز وجل، فصار معنى قوله عليه الصلاة والسلام:"اتق الله حيث ما كنت" كن وليًّا لله بتقواك إياه.
وفيه دليل على أن الولاية (ب) مكتسبة، وإلا لم يصحَّ الأمر بها، ولا يجيء في النبوة مثل ذلك لأن النبوة ولاية خاصة كاملة، لكن الجمهور على أنهما موهوبتان (جـ) من الله عز وحل لا مكتسبتان، والتحقيق أنهما موهوبتان (جـ) من فضل الله عز وجل، وهو مرتب على زكاء النفس وصلاح (د) العمل كالرزق هو من فضل الله عز وجل، وهو مرتب على الأسباب، والاكتساب الَّذي جرت به العادة في حصول الرزق، وكما قال الله
(أ) في أوالتقي.
(ب) في أعلى الولاية أنها مكتسبة.
(جـ) في س، م موهبتان.
(د) في م إصلاح.
عزَّ وجلَّ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [سورة الملك: 15] وقال {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [سورة السجدة: 24] وقال الله عز وجل {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [سورة الأنبياء: 90] يعني الأنبياء المذكورين في سورتهم، علَّل ما مَنَّ به عليهم بمسارعتهم في الخيرات وما بعده.
ومن شعر أبي الدرداء في التقوى (أ):
يريد المرءُ أن يعطَى مُناه
…
ويأبَى اللهُ إلا ما أَرادَا
يقول المرءُ: فائِدَتِي وَمَالِي
…
وَتَقوَى اللهِ أفضلُ ما استَفَادَا (1)
وأما قول الترمذي حديث حسن صحيح فهو مشكل على اصطلاحه،
لأنه قد ذكر في كتاب العلل من جامعه (2): أنَّه يريد بالحسن ما ليس في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذا، ويروى مع ذلك من غير وجه.
والصحيح عنده وعند غيره: ما رواه العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه.
ثم إن الترمذي كثيرًا ما يقول في كتابه: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا ينافي اشتراطه في الحسن أن يكون قد روي من غير وجه.
والذي أجيب عن قول الترمذي حديث حسن صحيح فيما يُعلم وجهان:
(أ) في أشعر أبي الدرداء حيث قال في التقوى.
(1)
البيتان له في حلية الأولياء 1/ 225 والمدخل إلى تقويم اللسان لابن هشام اللخمي ص 238.
(2)
جامع الترمذي 5/ 758.
أحدهما: أن معناه أنَّه حسن بإسناد صحيح بإسناد آخر، وما ذكرناه (أ) من قوله: حسن صحيح غريب يبطل هذا الجواب.
والثاني: أن قوله: حسن، يريد به الحسن اللغوي، وهو ما يوافق القلب، وتهواه النفس وهو باطل بأنَّ الترمذي فسَّر الحسن بغير ذلك وهو ما ذكرناه، وبأن من أحاديثه (ب) ما ليس حسنا باعتبار اللغة نحو "من نوقش الحساب عذب"(1) وأشباهه من نصوص الوعيد فإنها لا توافق القلب ولا تهواها النفس، بل تجد منها كربا وألما من الخوف.
والصواب في ذلك ما أشار إليه بعض العلماء، وهو أن الحسن قسم من الصحيح، لكن ليس قسيمه (2).
(أ) في ب وما ذكرته.
(ب) في س حديثه.
(1)
رواه البخاري 1/ 51 ومسلم 4/ 2204 من حديث عائشة.
(2)
وقد ظهر لي معنى جديد لقول الترمذي "حسن صحيح" لم يذكره العلماء، واستفدته من مشايخي. وهو أن الترمذي يقصد به أعلى درجة من الصحة، فيكون قوله "حسن" مزيد تأكيد لمعنى "صحيح" ويكون حكمه على الحديث بـ "حسن صحيح" أقوى مرتبة من مجرد "صحيح" و "حسن".
ومما يؤيد هذا المفهوم أن الترمذي يطلق هذا الحكم عادة على الأحاديث التي أخرجها البخاري ومسلم، ولا يكتفي بقوله "صحيح" فيها إلَّا نادرًا، ويظهر ذلك بمراجعة "تحفة الأشراف" ورموزه للصحيحين والترمذي، حيث نجد أن أغلب الأحاديث المتفق عليها يحكم عليها الترمذي بقوله "حسن صحيح". وبهذا يبطل قول من يجعل "حسن صحيح" أدنى مرتبة من "صحيح"، ومن يفهم منه التردد ويقدّر (أو)، ومن يفهم منه الجمع بين حكمين بالنظر إلى إسنادين ويقدّر (و). هذه خلاصة ما توصلت إليه، وللتفصيل مقام آخر. عزير.
قلت: وبيانه أن مدار الرواية على عدالة الراوي، وضبطه، فإن كان مبرزًا فيهما كشعبة وسفيان ويحيى القطان ونحوهم فحديثه صحيح، وإن كان دون المبرز فيهما، أو في أحدهما، لكنه عدل ضابط بالجملة فحديثه حسن، هذا أجود ما قيل في هذا المكان.
واعلم أن العدالة والضبط إما أن ينتفيا من (أ) الراوي، أو يجتمعا فيه جميعا، أو توجد فيه العدالة وحدها، أو الضبط وحده، فإن انتفيا منه (ب) لم يقبل حديثه أصلا، وإن اجتمعا فيه قبل، وهو الصحيح المعتبر، وإن وجدت فيه العدالة دون الضبط قُبِلَ حديثه لعدالته، ويُوْقَفُ فيه -لعدم ضبطه- على شاهد منفصل، يجبر ما فات من صفة الضبط، وإن وجد فيه الضبط دون العدالة لم يقبل حديثه لأن العدالة هي الركن الأكبر في الرواية، ثم كل واحد من العدالة والضبط له مراتب عليا ووسطى ودنيا، ويحصل بتركيب بعضها مع بعض مراتب الحديث (جـ) مختلفةً في القوة (1) والضعف، ظاهرةً مما ذكرناه.
واعلم أن نسخ الترمذي تختلف في التحسين والتصحيح (2)، ففي بعضها
(أ) في ب، س، م في الراوي.
(ب) في س، م فيه.
(جـ) في ب للحديث.
(1)
من قوله: واعلم، إلى قوله: في القوة، في (المقنع في علوم الحديث لابن الملقن 1/ 96 - 97).
(2)
هذا الاختلاف قديم، وينبغي الاعتماد الآن على ما نقله المزّي في تحفة الأشراف، وما ذكره المنذري في كتبه، والزيلعي في نصب الراية. وأفضل طبعة للسنن هي التي مع "تحفة الأحوذي" طبعة الهند، فقد قوبلت على عدة نسخ وكثيرًا ما يشير في الشرح إلى اختلاف الروايات.
يوجد حديث حسن، وفي بعضها حسن صحيح، وفي بعضها حسن غريب، وفي بعضها حسن صحيح غريب، أعني في بعض أحاديثه هذا وغيره، وذلك بحسب اختلاف الرواة عنه لكتابه والضابطين له، والله عز وجل أعلم بالصواب.