الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثالث والعشرون:
عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها. رواه مسلم (1).
الطهور بفتح الطاء ما يتطهر به من مائع أو حامد، وبضمها هو التطهر به، وهو المراد هاهنا (2).
وقال المصنف: المراد بالطهور الوضوء. قلت: وهو أعم من ذلك، إذ يشمل الوضوء والغسل وغيرهما.
ثم في قوله: "الطهور شطر الإيمان" أقوال: ذكرها المصنف:
أحدها: أنَّه ينتهى تضعيف ثوابه إلى نصف أجر الإيمان.
الثاني: أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله من الخطايا، وكذلك الوضوء، لكن الوضوء تتوقف صحته على الإيمان فصار نصفا، أي: لأن الوضوء يحتاج إلى نيَّة، والنِّيَّة لا تصح من الكافر والله أعلم.
(1) قال ابن هشام اللخمي في المدخل إلى تقويم اللسان ص: 80 "أما الطّهور فهو بفتح الطاء، سواء أردتَ المصدر أو الماء، وقول عامة زماننا (الطُّهور) لحن".
ونقل عن سيبويه أن من المصادر التي شذّت فجاءت مفتوحة الأوائل: الوضوء، والطهور، والوقود، والولوع، والقبول.
(2)
1/ 203.
الثالث: أن المراد بالإيمان الصلاة، والطهور شرط لصحتها فصار كالشطر.
قلت: يشهد لهذا قوله عز وجل {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [سورة البقرة: 143] أي: صلاتكم (أ) إلى بيت المقدس قبل أن تفرض الصلاة إلى الكعبة وتحت هذا كلام طويل ليس هذا محله.
قال المصنف: وقيل: معناه غير ذلك.
قلت: الإيمان شرط لصحة الصلاة باطن، والطهور شرط لها ظاهر، فاقتسماها بالشرطية أشبه افتِسَامَهُمَا لها بالشَّطريَّة.
قوله: "والحمد لله تملأ الميزان" أي: ثوابها يملأ الميزان خيرًا، ولعل السبب المناسب لذلك أن اللام في الحمد لله للاستغراق، وجنس الحمد الَّذي يجب لله عز وجل ويستحقه يملأ الميزان فكذا ثوابه.
وهذا الحديث ظاهر في ثبوت الميزان في المعاد حقيقة خلافًا للمعتزلة أو بعضهم إذ قالوا: إن الميزان الوارد ذكره في الكتاب والسنة كناية عن إقامة العدل في الحساب، لا أنَّه ميزان حقيقة ذو كفَّتين ولسان، كما يقال: يد فلان ميزان، والظواهر (ب) في إثبات كونه حقيقة مع أهل السنة. وقد قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: أين نجدك يا رسول الله في القيامة؟ قال: "عند الحوض أو الصراط أو الميزان"(1) وهو كما تراه ظاهر فيما ذكرناه.
(أ) في م صلواتكم.
(ب) في م والظاهر.
(1)
رواه الترمذي 4/ 622 من حديث أنس. وقال: هذا حديث حسن غريب.
قوله: "وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السموات والأرض" أقول: إن هذا التردد في تملآن، وتملأ شك من بعض الرواة، وكلا الأمرين جائز لغة لأن سبحان الله والحمد لله جملتان في اصطلاح النحاة، ويطلق (أ) عليهما كلمة عند أهل اللغة كما يسمون الخطبة والقصيدة والرسألة كلمة، ويقولون: قال فلان في كلمته، فإن كانت الرواية سبحان الله والحمد لله تملآن فباعتبار كونهما (ب) جملتين اصطلاحًا، وإن كانت تملأ فباعتبار أنهما كلمة لغة.
ومعنى سبحان الله: نزهت الله عما لا يليق به، وسبحان الله علم على معنى التنزيه، قال الشاعر (1):
سُبْحَان ذِي العَرْشِ سُبْحَانًا يَدُوْمُ لَهُ
…
وَقَبْلُ سَبَّحَهُ الجُوْدِيُّ وَالجُمُدُ
قال المصنف: ومعناه أن ثوابهما لو قدر جسما لملأ ما بين السماء والأرض وسببه ما اشتملتا عليه من التنزيه والتفويض إلى الله تعالى.
قلت: أما التنزيه فظاهر من سبحان الله، وأما التفويض إلى الله فلعله مأخوذ من عموم الحمد لله، إذ يقتضي عموم الحمد على كل حال من السراء والضراء، وذلك رضى وتفويض.
قوله: "والصلاة نور" ذكر الشيخ فيه أقوالًا:
(أ) في أ، ب، م يصدق.
(ب) في م أنهما جملتان.
(1)
البيت نسب إلى أمية بن أبي الصلت وغيره، وفيه روايات أخرى، انظر ديوان أمية بن أبي الصلت (333 طبعة بهجة عبد الغفور الحديثي).
أحدها: أن الصلاة تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء، وتهدي إلى الصواب، فهي نور بهذا الاعتبار.
والثاني: أن ثوابها يكون نورًا لصاحبها يوم القيامة.
الثالث: أنها سبب في استنارة القلب.
قلت: الأقوال الثلاثة صحيحة، ويجوز أن يكون جميعها مرادة.
قوله: "والصدقة برهان" ذكر المصنف فيه قولين:
أحدهما: أنها حجة لصاحبها في أداء حق المال.
الثاني: أنها حجة في إيمان صاحبها لأن المنافق لا يفعلها غالبًا.
قلت: البرهان هو الحجة المركبة من مقدمات قاطعة (1)، وهو حاصل هاهنا فإنه يقال مثلًا: فلان يؤدي الزكاة، وكل من أدى الزكاة فقد أدَّى حقَّ المال، ففلان أدَّى حقَّ المال، أو يقال: فلان أدَّى الزكاة طيبة بها نفسه، وكل من أدَّى الزكاة طيبة بها نفسه فهو مؤمن، ففلان مؤمن.
قوله: "والصبر ضياء" قال الشيخ أي: الصبر المحبوب، وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والبلاءِ ومكارهِ الدنيا، وعن المعاصي، ومعناه لا يزال صاحبه مستضيئا مستمرا على الصواب.
(1) هذا تعريف المناطقة للبرهان، ولم يرد في الكتاب والسنة بهذا المعنى، فلا حاجة إلى صياغة مقدمات -على طريقة المناطقة- توصل إلى النتيجة. وانظر ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية عليهم في كتابه الفذ "الردّ على المنطقيين" ص 250، حيث ذكر أن الدليل أو البرهان هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود، وقد يكون مقدمة واحدة متى عُلِمَتْ عُلِم المطلوب، وقد يحتاج المستدل إلى مقدمتين أو أكثر، وليس لذلك حدّ مقدّر يتساوى فيه جميع الناس في جميع المطالب. عزير.
قلت: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن ثواب الصبر ضياء ونور في الآخرة.
والثاني: أن أثر الصبر على الطاعات وعن المعاصي نور (أ) القلب واستضاءتُهُ (ب) بالحق، وشاهده في قياس العكس {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين: 14] أي: أن المعاصي سوَّدت قلوبهم وصيَّرتها مظلمة سوداء، لما ورد أن الشخص إذا أذنب ذنبًا انتكت في قلبه نكتة سوداء، فإذا أذنت الثاني انتكت كذلك، ولا يزال كلما أذنب ذنبا انتكت نكتة إلى أن يسودَّ القلب كله، والعياذ بالله فيصير أسود مظلما.
فهذا معنى ما قلنا من أن المعاصي تُسَودُ القلب.
فإن قلت: لم جعل الصلاة نورا والصبر ضياء، وهل بينهما فرق؟.
قلت: أما الفرق بين النور والضياء فقد قيل: إن الضياء أعظم وأبلغ من النور بدليل قوله عز وجل {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [سورة يونس: 5] والشمس أعم وأعظم نورًا من القمر، ولذلك قال الله عز وجل {ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ} [سورة البقرة: 17] ولم يقل بضيائهم لأن نفي الأعم أبلغ.
وأورد على هذا قوله عز وجل {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة النور: 35] ولم يقل ضوءهما ولا ضياءهما {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ
(أ) في س ينور.
(ب) في ب واستعانة بالحق.
رَبِّهِا} [سورة الزمر: 69] ولم يقل بضوء ربها.
وأجيب بأن معنى الآية: الله نَوَّر السموات والأرض.
وأورد عليه أن السؤال باق، ولم يقل: مضيء أو يضئ السموات والأرض.
فأجيب بأن النور أعمَّ وأشمل لأنه ليلا ونهارًا، والضوء ليس إلا نهارًا (أ) بالشمس، على أن المراد بنور السموات والأرض هادي أهلهما، وإنما جرت العادة لغة وشرعًا أن يقال: نور الهداية لا ضوء الهداية وبذلك استعمل في الكتاب والسنة نحو {يُخْرِجَهُمْ مِنَ الْظُّلُمَاتِ إِلَى الْنُّورِ} [سورة البقرة: 257]{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [سورة النور: 40].
أما قوله عز وجل {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبْهِا} ولم يقل بضوء ربها، فيجاب عنه بأن الضوء كالوصف الزائد على النور، وإنما يحتاج إلى النور المخلوق الناقص، أما نور الله عز وجل فهو قديم كامل لذاته لا يحتاج إلى معنى زائد يضيء به، كما أن القديم لذاته لم يحتج إلى علة توحده، ويحتمل أن المعنى أشرقت الأرض بنور ملائكة ربها، أو بنور عدل ربها بدليل أن الأرض لو أشرق عليها نور الرب جل جلاله لاضطربت وتصدعت كالجبل لما تجلَّى له، ولا يلزم من نور الملائكة والعدل أن يكون ضوءًا. وبالله عز وجل التوفيق.
وأما لم جعل الصلاة نورًا والصبر ضياء، فلأن الصبر أخص من الصلاة
(أ) في م للنهار.
لاشتماله على الصلاة وغيرها من الطاعات، أو تعلقه بذلك إذ هو حبس النفس على الطاعة، وعن المعصية فكان جعله الضياء الَّذي هو أخص من النور أولى به، ولأن الله عز وجل قال:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [سورة البقرة: 45] والتقديم للأهم فالأهم.
وقال الله عز وجل {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [سورة السجدة: 24] ولم يقل لما صلوا.
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما أعطي أحد خيرًا وأوسع عطاء من الصبر"(1).
وقال الله عز وجل {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [سورة الزمر: 10] ولم يأت ذلك لغيرهم.
قوله: "والقرآن حجة لك أو عليك" يعني إن عملت به واهتديت بأنواره كان حجة لك، وإن أعرضت عنه كان حجة عليك.
وفي الحديث: "القرآن شافع مشفع، وما حل مصدق، من قدمه أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله وراءه دفع في قفاه إلى النار"(2) ذكر معناه ابن الأنباري (3).
وإنما تقوم الحجة بالقرآن لمن اتبعه عملًا، وإن حَفِظَهُ تَذَكرَهُ وتَعَاهَدَهُ تلاوةً.
(1) رواه البخاري 2/ 535 ومسلم 2/ 729 من حديث أبي سعيد الخدري.
(2)
رواه ابن حبان (الإحسان 1/ 331) من حديث جابر. وفيه كلمة نفيسة لأبي حاتم ابن حبان في بيان معنى الحديث.
(3)
لعله ذكره في: "غريب الحديث" له، وهو مفقود الآن.
قوله: "كل الناس يغدو" إلى آخره، أي: يسعى، فمنهم من يبيع نفسه بطاعة الله عز وجل فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان بطاعته فيوبقها، أي: يهلكها بسخط الله عز وجل، أعاذنا الله من ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.