الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والعشرون:
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلي الجنة ويباعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يَسَّرَهُ الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفيء الماء النار، وصلاة الرجل من جوف الليل، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه، قلت: بلى يا رسول الله قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بِمِلَاكِ ذلك كله، قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: كُفَّ عليك هذا، قلت: يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به! فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (1).
القول في لفظه ومعناه.
أما لفظه: فالجنة الوقاية والساتر، ومادة (جن) كيفما تصرفت تفيد معنى الستر.
(1) 5/ 11.
وقوله: "من جوف الليل" أي: في جوفه، وحروف الصفات (1) تتناوب، ويحتمل أن مبدأ الصلاة جوف الليل فتكون لابتداء الغاية، ويحتمل أنها للتبعيض، أي: صلاته بَعْضَ -أَيْ في بَعْضِ- جوف الليل. ورأس الأمر، أي: العبادة أو الأمر الذي سألت عنه. وعموده ما اعتمد عليه كعمود الخيمة. وذروة سنامه بكسر الذال المعجمة وضمها، أي: أعلاه، استعار له صورة البعير وأجزاءه.
ومِلَاك ذلك بكسر الميم مقصوده وجماعه. وحصائد الألسنة ما اكتسبته من الإثم بالكلام (أ) فيما لا يباح.
وأما معناه فقوله: "لقد سألت عن عظيم" هو كما قال عليه السلام؛ لأن عظم المُسَبَّبَات بعظم الأسباب، ودخول الجنة والتباعد عن النار أمر عظيم سببه امتثال كل مأمور، واجتناب كل محظور.
وذلك عظيم صعب قطعًا، ولولا ذلك لما قال الله عز وجل {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] قوله: "وإنه ليسير على من يسره الله عليه" أي: بشرح الصدر للطاعة وتهيئة أسبابها والتوفيق لها {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] وبالجملة فالتوفيق إذا ساعد على
(أ) في م في الكلام.
(1)
يسمي الكوفيون حروف الجر بحروف الصفات. انظر عدة السالك إلى تحقيق أوضح المسالك 3/ 3.
شيء تَيَسَّرَ ولو نقل الجبال، قال الشاعر:
......................
…
إذَا اللهُ سَنَّى عِنْدَ شَيْءٍ تَيَسَّرَا (1)
قوله: "تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة" إلى "وتحج البيت" الظاهر أن المراد بالعبادة ها هنا التوحيد بدليل قوله "لا تشرك به شيئًا" ومنه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] أي: وحدوه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أي: يوحدون، فعلى هذا يكون قد ذكر له التوحيد وأعمال الإسلام، ويحتمل أن العبادة ها هنا ما يتناول الإيمان الباطن والإسلام الظاهر فيكون قوله:"وتقيم الصلاة" إلى آخره عطف خاص على عام لتضمن قوله: "تعبد الله" لما بعده.
قوله: "ألا أدلك على أبواب الخير" أي: طرقه الموصلة إليه.
وقوله: "ألا أدلك" عرض نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] أي: عرضت ذلك عليك فهل تحبه أو نحو ذلك (أ).
(أ) في م هذا.
(1)
شطر بيت مشهور، وهو عجز بيت لبشار، وصدره:
فَبِاللهِ ثِقْ إنْ عَزَّ مَا تبتغي وقُلْ
ووقع أيضًا في كلام معاوية. انظر: تمام المتون ص 356. وهو بلا نسبة في عيون الأخبار 1/ 102 وتهذيب اللغة 13/ 78 والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ص 9. وهو في عامة المصادر برواية "عَقْدَ أمرٍ" وهو الصواب، وفي تهذيب اللغة "عِنْد" تحريف. وفيه: قولك: سنَّيت الأمر: إذا فتحت وجهه.
قوله: "الصوم جنة" أي: وقاية من ثورة (أ) الشهوة في العاجل، ومن النار في الآجل (ب)، والجنة بضم الجيم.
قوله: "والصدقة تطفئ الخطيئة" أي: تمحوها {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] وإنما استعار لفظ الإطفاء بمقابلته بقوله (جـ): "كما يطفئ الماء النار"، أو أن الخطيئة يترتب عليها العقاب الذي هو أثر الغضب، والغضب يستعمل فيه الإطفاء، يقال: طفئ غضب فلان، وانطفأ غضبه لأنه في الشاهد فوران دم القلب عن غلبة الحرارة، ولعله إنما خص الصدقة لتعدي نفعها، ولأن الخلق عيال الله عز وجل، والصدقة إحسان إليهم، والعادة أن الإحسان إلى عيال شخص يطفئ غضبه.
وسبب إطفاء الماء النار أن بينهما غاية التضاد إذ النار حارة يابسة، والماء بارد رطب، فقد ضادها بكيفيته جميعا، والضد يدفع الضد ويعدمه.
وقوله: "وصلاة الرجل من جوف الليل" أي: وسطه أو آخره، إذ في الحديث "أي الدعاء أسمع قال: جوف الليل الآخر" (1) والمعنى أن صلاة الرجل من الليل من أبواب الخير، وإنما خص الرجل بالذكر لأن السائل
(أ) في أ، م سورة.
(ب) في م في الآخرة.
(جـ) في أ، ب، م بمقابلة كما يطفئ.
(1)
رواه الترمذي 5/ 527 والنسائي في عمل اليوم والليلة (186 طبعة المغرب) من حديث أبي أمامة. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وحسنه الألباني أيضًا في صحيح سنن الترمذي 3/ 168.
رجل، ولأن الخير غالب في الرجال، وأن أكثر أهل النار النساء، وتلاوته {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} شاهد لما قال من أن الصلاة من جوف الليل من أبواب الخير لأنه رتب عليها {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
قوله: "ألا أخبرك برأس الأمر" إلى آخره لأن الجهاد مقرون بالهداية بدليل قوله عز وجل {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] والهداية محصلة لمقصود هذا السائل إذ يلزمها دخول الجنة، والمباعدة عن النار، فلا جرم كان الجهاد رأس أمر السائل وعموده وذروة سنامه.
قوله: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله" إلى آخره أي: رابطه وضابطه لأن الجهاد وغيره من أعمال الطاعات غنيمة، وكف اللسان عن المحارم سلامة، والسلامة في نظر العقلاء مقدمة على الغنيمة.
وقد سبق قوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يومن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" وثبت في الحديث "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله عز وجل لا يلقي لها بَالًا يكتب له رضوانه إلى يوم يلقاه (أ)، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يعلم أنها تقع حيث تقع فيكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه، أو قال يهوي بها في النار سبعين خريفا"(1) أو كما قال.
(أ) في س يوم القيامة.
(1)
رواه البخاري 5/ 2377 من حديث أبي هريرة بنحوه.
وقوله: "كف عليك هذا" إما أنه وضع (على) موضع (عن)، أي: كُفَّهُ عنك، أو أنه ضمن كُفَّ بمعنى احبس، أي: احبس عليك لسانك، لا يَزِلُّ عليك بكلام يؤذي. وفي الحكمة "لِسَانُكَ أَسَدُكَ إِن أَطْلَقْتَهُ فَرَسَكَ، وإن أَمْسَكْتَهُ حَرَسَكَ" وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمسك لسانه فيقول: هذا الذي أوردني الموارد (1).
وقوله: "كف عليك" يحتمل أنه عام خص بالكلام بالخير لقوله "فليقل خيرا أو ليصمت" ويحتمل أنه من باب المطلق، وقد عمل به في كف اللسان عن الشر فلا تبقى له دلالة على غير ذلك، وأصل الاحتمالين أن الفعل يدل على المصدر لكن هل يقدر المصدر مُعَرَّفًا فيعم نحو (اكفف الكفَّ) أو منكرا فلا يعم نحو (اكفف كفًّا) أو يبنى على أن المصدر جنس فيعم، أو لا فلا يعم. وعليه اختلف فيما أحسب فيما إذا قال:(طلقتك طلاقا) هل يقع ثلاثا أو واحدة.
قول معاذ: "وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به" هذا استفهام استثبات وتعجب واستغراب يدل على أن معاذا لم يكن يعلم ذلك.
فإن قيل: كيف (أ) خفي هذا عن معاذ مع قوله عليه الصلاة والسلام: "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل"(2) والكلام المؤاخذ به حرام،
(أ) في ب، س فأين.
(1)
رواه ابن أبي شيبة في المصنف 9/ 66 وهناد في الزهد 2/ 512 عن زيد بن أسلم عن أبيه.
(2)
رواه الترمذي 5/ 665 وابن ماجه 1/ 55 من حديث أنس قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وها هو (أ) لم يعلمه؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ظاهر الحلال والحرام في المعاملات الظاهرة بين الناس، لا في معاملة العبد مع ربه، فلا يرد السؤال.
الوجه الثاني: إنما صار أعلمهم بالحلال والحرام بعد هذا بمثل هذا السؤال وأمثاله من طريق التعلم والاستفادة.
قوله: "ثكلتك أمك" حقيقته الدعاء بموته، وليس المراد ذلك، إنما غلب في ألسنتهم للتحريض على الشيء والتهييج إليه، أو لاستقصار المخاطب عن أمر، ونحو ذلك بحسب الحال وقرائنه، وكذلك تَرِبَتْ يَدَاكَ، وعَقْرَى حَلْقَى، ولا أُمَّ لَكَ ولا أبَا لَكَ، ولا دَرَّ دَرُّكَ، وأشباه ذلك.
قوله: "وهل يكب الناس" هو بضم الكاف أي: يلقيهم "في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" جمع حصيدة بمعنى محصودة، شبه ما تكسبه الألسنة (ب) من الكلام الحرام بحصائد الزرع بجامع الكسب والجمع.
قوله: "وهل يكب الناس" استفهام إنكار أي: ما يكب الناس إلا حصائد ألسنتهم، وهو يقتضي أن كل من يكب في النار فسبب ذلك لسانه، وهو عام أريد به الخاص، فإن في الناس من يكب في النار بكلامه، وبعضهم بعمله، وإنما خرج هذا مخرج المبالغة في تعظيم الكلام كقوله:
(أ) في م وهذا.
(ب) في ب الألسن.
"الحج عرفة"(1) والمراد معظمه الوقوف، كذلك معظم أسباب النار الكلام كالكفر والقذف والسب والنميمة والغيبة ونحو ذلك، ولأن الأعمال يقارنها الكلام غالبا فله حصة في سببية الجزاء ثوابًا وعقابًا. وفي المثل "يقول اللسان للقفا كل يوم: كيف أصبحت؟ فيقول: بخير إن سلمت منك" والله عز وجل أعلم بالصواب.
(1) سبق تخريجه.