الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والثلاثون:
عن أبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس فقال: "ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس" حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة (1).
أمَّا أن الزهد في الدنيا سبب لمحبة الله عز وجل فلأن الله عز وجل يحب من أطاعه، ويبغض من عصاه، وطاعة الله عز وجل مع محبة الدنيا مما لا يجتمع، عرف ذلك بالنصوص والنظر والتجربة والطبع والتواتر، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"حب الدنيا رأس كل خطيئة"(2) والله عز وجل لا يحب الخطايا ولا أهلها، ولأن الدنيا لهو ولعب والله عز وجل لا يحب اللهو ولا اللعب، ولأن القلب بيت الرب عز وجل، والله عز وجل لا شريك له، ولا يحب أن يشركه (أ) في بيته حب الدنيا ولا غيره.
وبالجملة فنحن نعلم قطعا أن محب الدنيا مبغوض عند الله عز وجل، فالزاهد فيها الراغب عنها محبوب له عز وجل، ومحبة الدنيا المكروهة هي إيثارها لقضاء شهوات النفس وأوطارها لأن ذلك يَشغل عن الله عز وجل،
(أ) في م يشرك به.
(1)
رواه ابن ماجه 2/ 1374 صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه 3/ 344.
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس له إسناد معروف. أحاديث القصاص 74 وانظر الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لعلي القاري 179.
أما محبتها لفعل الخير وتقديم الآخرة (أ) بها عند الله عز وجل ونحو ذلك فهي عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام: "نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحما أو يصنع به معروفا"(1) أو كما قال.
وفي الأثر "إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الذهب والفضة كالجبلين العظيمين ثم يقول: هذا مالنا عاد إلينا سَعِدَ به قوم وشقي به آخرون".
وأمَّا أن الزهد فيما عند الناس سبب لمحبة الناس فلأن الناس يتهافتون على الدنيا بطباعهم، إذ الدنيا ميتة والناس كلابها، فمن زاحمهم عليها بغضوه (ب)، ومن زهد فيها وَوَفَّرَهَا عليهم أحبوه، وعَدُوُّ المرء من يعمل عمله.
ومما يروى من شعر الشافعي رضي الله عنه في هذا المعنى قوله (2):
وَمَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعِمْتُهَا
…
وَسِيْقَ إِلَيْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا
فَلَمْ أَرَهَا إلا غُرُوْرًا وَبَاطِلًا
…
كَمَا لَاحَ فِي ظَهْرِ الفَلَاةِ سَرَابُهَا
وَمَا هِيَ إلا جِيفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ
…
عَلَيْهَا كِلَابٌ هَمُّنَّ اجتِذَابُهَا
فَإِن تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِها
…
وَإِن تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلَابُهَا.
(أ) في أ، س، م الأجر.
(ب) في م أبغضوه.
(1)
رواه البخاري في الأدب المفرد 84 (الطبقة السلفية) وأحمد 4/ 197 من حديث عمرو بن العاص بنحوه. وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد 127.
(2)
ديوان الشافعي 131 طبعة د / محمد زهدي يكن.
واعلم أن الزهد في اللغة هو الإعراض عن الشيء لاستقلاله واحتقاره وارتفاع الهمة عنه، مأخوذ من قولهم: شيء زهيد، أي: قليل. وفي الحديث "إنك لزهيد"(1). وقال الشاعر:
وَأَغْدُو عَلَى القُوْتِ الزَّهِيدِ
…
................... البيت
وأما في الحكم فهو على أضرب:
أحدها: الزهد في الحرام، وهو الزهد الواجب العام.
والثاني: الزهد في الشبهات، والأشبه وجوبه لأنه وسيلة إلى اتقاء الوقوع في الحرام لقوله عليه الصلاة والسلام:"ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" الحديث، واجتناب الحرام واجب، ووسيلة الواجب واجبة، فالزهد في الشبهات واجب.
الثالث: الزهد فيما عدا الضرورات من المباحات وهو المراد من هذا الحديث ظاهرا، وهو زهد الخواص العارفين بالله عز وجل.
والرابع: الزهد فيما سوى الله عز وجل من دنيا وجنة وغير ذلك، فلا قصد لصاحب هذا الزهد إلا الوصول إلى الله عز وجل والقرب منه، وهو زهد المقربين، فلا جرم لما حصل لهم مقصودهم اندرج في ضمنه كل مقصود لغيرهم عفوا من غير طلب ولا قصد له، ولا جعلوه ثمن عبادتهم، و "كل الصيد في جوف الفرا"(2) والله عز وجل أعلم بالصواب.
(1) رواه الترمذي 5/ 407 من حديث علي بن أبي طالب. وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2)
المثل في مجمع الأمثال للميداني 3/ 11.