الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والثلاثون:
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نَفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه. رواه مسلم بهذا اللفظ (1).
القول في لفظه ومعناه.
أما لفظه فقوله: "نَفَّس" فَرَّج، وهو من تنفس الخناق، وأصله من التنفس (أ)، كأنه يرخي له الخناق حتى يأخذ نفسا.
والكربة ما أهَمَّ النفس وغمَّ القلب، كأنها مشتقة من "كرب" التي للمقاربة لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس.
والطريق فعيل من الطرق لأن الرجل ونحوها تطرقه.
ويلتمس يطلب ويبغي. والسكينة ثبوت الطمأنينة. وغشيتهم الرحمة خالطتهم وعمتهم. وحفتهم أحاطت بهم {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ
(أ) في س من التنفيس.
(1)
4/ 2074.
الْعَرْشِ} [سورة الزمر: 75]. وبَطَّأَ بِهِ، وأَبْطَأَ بِهِ: أخَّره.
وأما معناه ففيه أمور:
الأول: فضيلة تنفيس الكرب عن المؤمنين وأن ذلك يجازى عليه بجنسه من تنفيس كرب الآخرة.
والأصل والقياس أن الجزاء يكون من جنس العمل ثوابا وعقابا كالتنفيس بالتنفيس، والستر بالستر، والعون بالعون في هذا الحديث، ونظائره كثيرة في أحكام الدنيا والآخرة.
وقياس هذه القاعدة أن يقطع ذكر الزاني وفرج الزانية لتكون العقوبة في محل الجناية قياسا على قطع اليد والرجل في السرقة، لكن لما كان الذكر والفرج آلة التناسل الحافظ للنوع كان مراعاة (أ) بقائه أصلح.
وإنما كان تنفيس الكرب مطلوبا للشرع مثابا عليه لأن الخلق عيال الله عز وجل فتنفيس كربهم إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيد والملك يحب الإحسان إلى عياله وحاشيته والمحسن إليهم.
وفي الأثر "الخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أرفقهم بعياله"(1).
الثاني: فضيلة التيسير على المعسر، والجزاء عليه بحسبه في الآخرة كما مَرَّ في تنفيس (ب) الكربة.
(أ) في م رعاية.
(ب) في س تفسير.
(1)
سبق تخريجه.
الثالث: فضيلة ستر عورة المسلم، والمكافأة عليها بجنسها كما مَرَّ، ولأن الله عز وجل حَيِيٌّ كريم، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلق بِخُلُق الله عز وجل، والله عز وجل يحب التخلق بأخلاقه.
فإن قلت (أ): لم قال: "من نَّفَّسَ عن مؤمن كربة .... " وقال: "من ستر مسلما .... ".
قلت (ب): يحتمل أنه من باب تغاير الألفاظ دفعا للتكرار، ويحتمل أن الكربة لما كانت معنى باطنا على ما مَرَّ من (جـ) تفسيرها ناسبت الإيمان الذي هو باطن، وهو التصديق كما مَرَّ في حديث حبريل عليه السلام، والستر لما كان إنما يتعلق بالأمور الظاهرة غالبا كالأعمال العلانية ناسب وصف الإسلام الذي هو أعمال ظواهر (د).
فإن قيل: لم قال: "نَفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة
…
" ولم يقل: من كرب الدنيا، وقال: "ستره الله في الدنيا والآخرة .... " فكافأه بالستر فيهما؟.
قلنا: يحتمل أن هذا اتفاق لأن الترغيب حاصل بكلا الأمرين، أعني التنفيس والستر في الدارين، أو في أحدهما، ويحتمل أن الدنيا لما كانت محل
(أ) في س فان قيل.
(ب) في س قلنا.
(جـ) في م في.
(د) في ب ظاهرة.
العورات والمعاصي احتيج إلى الستر فيها، وأما الكُرَبُ فهي وإن كانت الدنيا محلا لها لكن لانسبة لِكُرَبِهَا إلى كرب الآخرة حتى تذكر معها.
الرابع: فضيلة عون الأخ على أموره والمكافأة عليها بجنسها من الإعانة اللإهية.
وقوله: "ما كان العبد في عون أخيه" أي: مدة كونه في عونه، ولا فرق بين كونه في عونه بقلبه أو بيده أو بهما لأن الكل عون.
فإن قيل: هل يثاب على تنفيس كربة غير المؤمن والتيسير عليه وستره وإعانته أم يختص ذلك بالمؤمن؟.
قلنا: ظاهر الحديث اختصاصه بالمؤمن والمسلم والأخ في الدين، والأشبه أن ذلك يثاب عليه في المومن والكافر لقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"(1) وقوله: "في كل كبد حَرَّى أجر"(2) ويحمل الحديث المذكور على أن المؤمن أولى بتنفيس الكربة عنه من الكافر لشرف (أ) الإيمان، والأجر عليه أعظم، ثم يليه الذمي، ثم المستأمن، ثم الحربي على حسب قوة تعلقهم بالإسلام وضعفه وهذا أحسن.
الخامس: أن سلوك طريق العلم يجازى عليه بتسهيل طريق (ب) إلى الجنة،
(أ) في س بشرف.
(ب) في س طريق الجنة.
(1)
الحديث السابع عشر من هذا الأربعين.
(2)
سبق تخريجه.
وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن طلب العلم وتحصيله يرشد إلى سبيل الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة، وذلك بتسهيل الله عز وجل له (أ)، وإلا فبدون لطفه وتوفيقه لا ينتفع بشيء من علم ولا غيره.
والثاني: أنه يجازى على طلب العلم وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بقطع العِقَابِ (1) الشاقة دونها يوم القيامة، بأن يُسَهَّلَ عليه الوقوف في المحشر (ب) والجواز على الصراط ونحو ذلك.
والعلم الذي يترتب على التماسه تسهيل طريق الجنة هو العلم الشرعي النافع بنية القربة والانتفاع، ونفع الناس به كعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله ونحو ذلك، لا الخارج عن علم الشرع كالفلسفة من منطق وإلاهي وطبيعي (جـ) ورياضي إلا أن يقصد بتعليمها معرفة مذاهب أهلها للرد عليهم ودفع شبههم (د) وكف شرهم عن الشريعة فيكون من باب إعداد العدة، هذا قول غالب مشايخ الشريعة كالحليمي في شعب الإيمان (2)، وغيره، وهو
(أ) في س عليه.
(ب) في س الحشر.
(جـ) في م وطبعي.
(د) في ب شبهتهم.
(1)
جع عقبة.
(2)
الحليمي هو الحسين بن الحسن بن محمد بن حليم أوحد الشافعيين بما وراء النهر ت 403 طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 4/ 333 وانظر المنهاج في شعب الإيمان 5/ 192 - 200.
كلام صحيح، غير أنا نستثني من ذلك النطق فإنه علم مفيد لا محذور فيه، إنما المحذور في غيره من علومهم، ولأنه نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، ولأن بعض فضلاء الأصوليين صَرَّحَ، وبعضهم عَرَّضَ بأن المنطق علم شرعي، وهو كالعربية في أنه من مواد أصول الفقه لأن الأحكام الشرعية لا بد من تصورها والتصديق بها إثباتا أو نفيا، والعلم المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق هو المنطق، فوجب أن يكون علما شرعيا، إذ المراد بالعلم الشرعي ما صدر عن الشرع، أو توقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجود كعلم الكلام، أو توقف كمال كعلم العربية (أ) والمنطق.
واعلم أني قررت هذا البحث مع علمي بأن أكثر الفقهاء يكرهونه لما تقرر عندهم من النفرة عن المنطق، ومع أني -علم الله- لا أعرف المنطق، وإنما هو شيء قاد إليه الدليل، ثم إن لهم فيه سلفا فاضلا كالغزالي والرازي وأبي الحسين البصري والسيف الآمدي وابن الحاحب وشراح كتابه من بعده كل هؤلاء عارفون بالمنطق فلا وجه لنفرتهم عنه وإنكارهم له (1).
(أ) في ب، م كالعربية.
(1)
اشتد نكير الأئمة الذين صفت مشاربهم من كدر المنطق والفلسفة وخلصت مشارعهم من لوثة التراث اليوناني على الذين أدخلوا المنطق والفلسفة في علوم الإسلام، وفتحوا على المسلمين باب شر بذلك فقال الإمام أبو عمرو بن الصلاح:"الفلسفة أس السفه والإنحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المؤيدة بالححج الظاهرة والبراهين الباهرة، ومن تلبس بها تعليما وتعلما قارنه الخذلان والحرمان، واستحوذ عليه الشيطان".
إلى أن قال: "وأما المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشر شر، وليس الاشتغال بتعليمه =
فإن قلت: قوله: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما" عام في كل علم شرعي أو فلسفي، فلم خصصتموه بالعلم الشرعي؟.
قلنا: بدليل قوله: "سهل الله له به طريقا إلى الجنة" والعلوم التي يطلب بها الجنة ويسهل بها طريقها هي الشرعية (أ) دون غيرها.
السادس: أن الاجتماع في بيوت الله عز وجل لمذاكرة الكتاب
(أ) في س الشريعة.
= وتعلمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين وسائر من يقتدي به من أعلام الأمة وسادتها، وأركان الأمة وقادتها قد برأ الله الجميع من معرة ذلك وأدناسه وطهرهم من أوضاره. وأما استعمال الاصطلاحات المنطقية في مباحث الأحكام الشرعية فمن المنكرات المستبشعة والرقاعات المستحدثة، وليس بالأحكام الشرعية - ولله الحمد - افتقار إلى المنطق أصلا. وما يزعمه المنطقي للمنطق من أمر الحد والبرهان فقعاقع قد أغنى الله عنها كل صحيح الذهن، لا سيما من خدم نظريات العلوم الشرعية، ولقد تمت الشريعة وعلومها وخاض في بحار الحقائق والدقائق علماؤها حيث لا منطق ولا فلسفة ولا فلاسفة" فتاوى ابن الصلاح (1/ 209 طبعة قلعجي).
وقال شيخ الإسلام -وهو حامل لواء الإجهاز على المنطق والفلسفة-: "وقد صنف في الإسلام علوم النحو واللغة والعروض والفقه وأصوله والكلام وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرب هذا المنطق اليوناني".
إلى أن قال: "بل إدخال صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطول العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدا، واليسير منه عسيرا، ولهذا تجد من أدخله في الخلاف والكلام وأصول الفقه وغير ذلك لم يفد إلا كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق" نقض المنطق 169. ولشيخ الإسلام كتابان في رد المنطق أحدهما: كتاب الرد على المنطقيين، وثانيهما: نقض المنطق، ولجلال الدين السيوطي كتاب حافل في جمع فتاوى العلماء الذين حَرَّموا المنطق، وهو: القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق. وقد حققه الأخ البحاثة محمد عزيز شمس.
ومدارسته يجازى عليه بأشياء:
أحدها: نزول السكينة عليهم لأنها الطمأنينة، وبذكر الله عز وجل تطمئن القلوب، والمراد أنها تطمئن للإيمان حتى يفضي بها إلى الروضات (أ) في جوار الرحمن.
الثاني: غشيان الرحمة لهم لأن ذكر الله تعالى إحسان، والرحمة إحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
الثالث: حفت الملائكة بهم لاستماع الذكر تعظيما للمذكور وإكراما للذاكر.
الرابع: ذكر الله عز وجل لهم فيمن عنده من الملائكة لقوله عز وجل {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [سورة البقرة: 152]{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [سورة العنكبوت: 45] وقوله: "من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منه"(1).
وقوله: "وما اجتمع قوم" قد سبق الخلاف في القوم، فإن قلنا: هم الذكور والإناث فلا إشكال، وإن قلنا: هم الرجال خاصة ألحق النساء بهم في ذلك بالقياس، وأنهن إذا اجتمعن لذكرٍ أو تلاوة حصل لهن الجزاء المذكور لاشتراك القبيلتين (ب) في التكليف.
(أ) في س، م الرضوان.
(ب) في ب القبيلين.
(1)
رواه البخاري 6/ 2694 ومسلم 4/ 2061 من حديث أبي هريرة.
فإن قلت: قوله: "في بيوت الله" هل هو قيد في حصول الجزاء المذكور أم لا؟.
قلنا: يحتمل ذلك إظهارًا لتشريف بيوت الله عز وجل على غيرها، والأشبه أنه لا يختص، بل الذكر في بيوت الله عز وجل كالذكر في غيره لأن الأرض كلها مسجد، غير أنه في البيوت المعدة للعبادة أكمل (أ).
السابع: أن الإسراع إلى السعادة إنما هي بالأعمال، لا الأنساب لقول الله عز وجل {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: 13] وقوله عليه الصلاة والسلام: "ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم".
وقوله عليه الصلاة والسلام: "كلكم من آدم، وآدم من تراب"(1) ولأن الله عز وجل خلق الخلق لطاعته، وهي المؤثرة لا غيرها {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101].
واعلم أن الناس إما عامل بنسب، أو لا عامل ولا نسب، أو عامل لا نسب (ب)، أو نسب لا عامل، والتأثير ذلك كله للعمل لا للنسب.
والله عز وجل أعلم بالصواب.
(أ) في م أفضل.
(ب) في س لا بنسب.
(1)
رواه الترمذي 5/ 389 بنحوه من حديث ابن عمر. صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي 3/ 108 وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم حديث 2700.