الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثامن:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى. رواه البخاري ومسلم (1).
في هذا الحديث مباحث:
الأول: قوله: "أمرت" أي: أمرني الله تعالى إذ ليس فوق رتبة النبي صلى الله عليه وسلم من يأمره إلا الله عز وجل، ولا يأتي هاهنا الاحتمال الوارد في قول الصحابي: أُمِرْنَا أَوْ نُهِيْنَا، لأن فوق الصحابي من يحتمل إضافة الأمر إليه، والإحالة به عليه من خليفة ومعلم ووالد ورئيس ونحوه، وليس فوق الرسول عليه الصلاة والسلام من يضاف أمره إليه إلا الله عز وجل وجبريل، وهو إنما يأتي بأمر الله عز وجل.
البحث الثاني: "أمرت أن أقاتل الناس" أي: بأن أقاتل، لأن أمر غالبًا إنما يتعدى غالبًا بالباء، و "أمرتُك الخيرَ" ونحوه قليل جاء في الشعر (2)، على أنهم قد جعلوا أمر مما يتعدى بنفسه وبغيره، وتقدير الحديث
(1) رواه البخاري 1/ 17 ومسلم 1/ 53.
(2)
يشير إلى البيت المستشهد في كتب النحو واللغة:
أمرتكَ الخيرَ فافعلْ ما أُمرتَ به
…
فقد تركتُك ذا مالٍ وذَا نَشَبِ
وانظر الخلاف في نسبته إلى عمرو بن معدي كرب أو غيره في خزانة الأدب 1/ 339، 343 وشرح أبيات سيبويه 1/ 250.
أمرت بقتال الناس.
ولو قال قائل: أمرت قتال الناس لكان نائيًا عن اللسان.
البحث الثالث: قوله: "حتى يشهدوا" إلى آخره، فيه دليل على قتل تارك الصلاة والزكاة غير جاحد لهما لأن غاية الأمر بالقتال فعل الصلاة والزكاة، فما لم يفعلا لا يبلغ القتال غايته، فيكون قتال تاركهما جائزًا بل واجبا بموجب الأمر الإلهي، ثم القتال ينتهي إلى القتل غالبًا ولو لم يكن إلا جواز إفضائه إليه، وذلك يدل على جواز بل وجوب قتل تاركهما.
فإن قيل: الحديث إنما دل على قتال الكافر الأصلي حتى يؤمن ويصلي ويزكي، فلم قلتم: إن المسلم إذ تركهما يجوز قتاله؟
قلنا: لوجهين:
أحدهما: أن الكافر الأصلي إذا قوتل على تركهما مع أنه لا يعتقد وجوبهما، فالمسلم المعتقد لوجوبهما أولى بالقتال عليهما.
ولمثل هذا قال أهل العلم: إن المرتد يقضي بعد إسلامه ما تركه في حال ردته، بخلاف الكافر الأصلي.
الوجه الثاني: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "حتى يشهدوا" إلى آخره وإن كان غاية ففيه معنى الشرط، ولهذا قيل: إن حكم ما بعد الغاية مخالف لما قبلها، فصار كفُّ القتال عنهم مشروطا بالشهادتين والصلاة والزكاة، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط، فإذا انتفى فعل الصلاة والزكاة انتفى كفُّ القتال والقتل، وصار التقدير إن صلوا وزكوا كُفَّ عنهم القتالُ، ويشهد لهذا قوله عز وجل {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11] {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].
البحث الرابع: إذا ثبت أن في الحديث دليلًا على قتله فيشبه أن فيه دليلا على كفره لقوله عليه الصلاة والسلام: "فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأمولهم إلا بحق الإسلام" مفهومه إن لم يفعلوا ذلك لم يعصموا مني دماءهم، يعني بحق الكفر؛ لأن حق الإسلام فد ذكره بعد إلا، وما بعدها مخالف لما قبلها، والذي بعدها هو حق الإسلام، والذي قبلها وهو عدم العصمة، لعدم الفعل، يكون بحق الكفر.
ومعنى عصموا: منعوا.
فإن قلت: لم ذكر الصوم والحج في الحديث الثاني والثالث، وهو من رواية ابن عمر أيضًا، ولم يذكرهما هاهنا؟
قلنا: لأنه عليه الصلاة والسلام قال هذا الحديث قبل فرضهما، بخلاف الحديثين الآخَرَينِ (أ) فإنه قالهما بعد فرض الحج والصوم، فروى الراوي كل حديث على ما سمعه، والحديثان الأولان مع هذا من باب الزيادة في الأحكام، وليس من باب التعارض ولا النسخ.
البحث الخامس: قوله: "إلا بحق الإسلام" يعني القتل بالقصاص والزنا والقطع بالسرقة فإنها حدود واجبة بحق الإسلام، والمسلم التزمها بإسلامه فتقام عليه بمقتضى إسلامه (ب) "وحسابهم على الله عز وجل" أي: أنا أحكم فيهم بهذه الأحكام أهل الكفر والإسلام ظاهرا، وحسابهم فيما يتعلق بالباطن إلى الله عز وجل، فرب عاص في الظاهر يصادف عند الله
(أ) في م الأخيرين.
(ب) في أ، س، م التزامه.
عزَّ وجلَّ خيرا في الباطن، وبالعكس.
وشبيه بهذا قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم تختصمون إليَّ (أ) ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض"(1) الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام:"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر"(2).
واعلم أن من العجب أن هذا الحديث الثابت كان عند ابن عمر، وهو نص في قتال مانعي الزكاة، ولم يبلغ أبا بكر وعمر حتى تشاجرا في قتالهم، وجرت بينهما مناظرة في ذلك، واحتاج أبو بكر إلى القياس بأن قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، وإلى الاستنباط من قوله عليه الصلاة والسلام:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" قال أبو بكر: والزكاة من حقها.
قلت: فلعل ابن عمر كان غائبًا أو مريضًا أو ناسيًا للحديث ذلك الوفي، ولقد وُفِّق أبو بكر حيث وقع استنباطه وقياسه موافقا لهذا النص، وخالفه عمر في هذا المقام، وكان الأولى موافقته لما عهد منه من موافقة النصوص، حتى قال: وافقت ربي في ثلاث (3). ثم إن عمر رجع في هذه القضية إلى متابعة أبي بكر والله عز وجل أعلم بالصواب.
(أ) في س لدي.
(1)
رواه البخاري 2/ 868 ومسلم 3/ 1337 من حديث أم سلمة.
(2)
قال الشوكاني في الفوائد المجموعة 200 يحتج به أهل الأصول، ولا أصل له.
(3)
رواه مسلم / 1865 ولفظه: وافقت ربي في ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر.