الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الرابع والثلاثون:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان. رواه مسلم (1).
هذا الحديث قاله أبو سعيد حين غَيَّرَ مروان أو غيره شيئًا في الصلاة، فقام رجل فقال: غيرتم يا مروان أو نحو هذا، فلم يلتفت إليه، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
الحديث.
والمنكر ما لا يجوز في الشرع، فدليله يأباه وينكره، والمعروف خلافه.
قوله: "من رأى منكم منكرا فليغيره" هو خطاب للأمة جميعها، حاضرها حينئذ بمشافهتها بالأمر، وغائبها ممن يأتي لقوله عليه الصلاة والسلام:"حكمي على الواحد حكمي (أ) على الجماعة"(2) أو لأن الحاضر يتضمن (ب) الغائب.
وقوله: "رأى" يحتمل أنه من رأي (جـ) العين، ثم يقاس عليه ما علمه ولم يره فيجب تغييره مع القدرة؛ لأن المقصود دفع مفسدة المنكر، ولا فرق
(أ) في م كحكمي.
(ب) في ب، م تضمن.
(جـ) في م رؤية.
(1)
1/ 69.
(2)
لا أصل له. انظر: المقاصد الحسنة ص 192، والدرر المنتثرة للسيوطي ص 110، والفوائد المجوعة للشوكاني ص 200.
بين ما أبصره، أو علمه ولم يره، ويحتمل أن رأى من رؤية القلب، أي: من علم منكم منكرا فليغيره، فهو أعم مما أبصره أو علمه، وهو أشبه في النظر وإن كان لفظ رأى ظاهرا في الإبصار.
وقوله: "فليغيره" أي: يزيله ويبدله بغيره، وغير المنكر هو المعروف، وهو ما عرفه الشرع وأجازه من واجب أو مندوب أو مباح، ولا واسطة بينهما على هذا، أعني تفسير المعروف والمنكر. مما يجوز وبما لا يجوز، وربما أريد بالمعروف الطاعة، وبالمنكر المعصية، فعلى هذا ثبتت الواسطة بينهما، وهو المباح إذ ليس بطاعة ولا معصية.
ثم الأمر بتغيير المنكر يقتضي وحوب إنكاره مطلقا، والتحقيق التفصيل وهو أن من رأى منكرا فإن قدر على إنكاره، وأمن على نفسه، ولم يخف تزايد المنكر بإنكاره -وبالجملة إن لم يعارض مصلحةَ الإنكار مفسدة راجحة ولا مساوية- لزمه الإنكار، وإن عجز عن إنكاره فهو معذور، والمكلف به غيره من الناس، إذ إنكاره فرض كفاية، وإن قدر على إنكاره ولكن خاف على نفسه ضررًا من هلاك أو غيره فيه احتمالان:
أحدهما: لا يجب؛ لقوله عز وجل {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [سورة النحل: 107] فأجاز النطق بكلمة الكفر عند الخوف والإكراه وهو في معنى ترك إنكار المنكر لذلك.
والثاني: يجب؛ لعموم قوله: "فليغير" ولقوله عليه الصلاة والسلام: "يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقول الله عز وجل: ما منعك إذ رأيت كذا وكذا أن تنكره؟ فيقول: يا رب خشيت الناس، فيقول الله عز وجل: أنا
كُنتُ أَحَقَّ أن تخشى" (1) وهذا يقتضي أن لا يسقط الإنكار عند الخوف، وإن أمن على نفسه لكن عارض مصلحة الإنكار مفسدة راجحة أو مساوية، أي: مثل من خشى إن أنكر قتل نفس قتل نفسين أو نفس أخرى فإن كان لزوم تلك المفسدة المعارضة متيقنا سقط (أ) الإنكار، وإن كان مشكوكا فيه لم يسقط، وإن كان مظنونا فهو محل نظر فليرجع (ب) فيه إلى اجتهاد المنكر بحسب ما يقتضيه الحال والقرائن ونحوها، فإن ترجح عنده الإنكار أنكر وإلا ترك.
وظاهر الحديث أن من علم منكرا فعليه تغييره على التفصيل المذكور ولا يتوقف ذلك على إذن الإمام لقوله: "فليغيره بيده" وهو مخصوص بما إذا خاف من ترك إذن الإمام مفسدة راجحة أو مساوية من انحراف ولي الأمر عليه، أو تعلقه عليه بأنه افتات عليه ونحوه فيجب حينئذ استئذان من ولي الأمر في الإنكار (جـ) دفعا للمفسدة المذكورة.
وقوله: "من رأى منكم منكرا" عام في الأشخاص مخصوص بما لا تكليف (د) عليه كالصبي والمجنون، أو لا قدرة له على الإنكار كالعاجز عنه فلا يجب على هؤلاء. وربما قيل: إن الخطاب بقوله: "من رأى منكم"
(أ) في (ب) يسقط.
(ب) في (س) فليراجع.
(جـ) في م في إنكاره.
(د) في (ب) يكلف.
(1)
رواه أحمد 3/ 30، 48 وابن ماجه 2/ 1328 من حديث أبي سعيد الخدري بنحوه.
للمكلفين القادرين فلا تخصيص إذ لم يتناول غير المكلف وغير القادر حتى يُخصَّا منه.
وقوله: "فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" هذا تنزل في تغيير المنكر بحسب الاستطاعة الأبلغ في ذلك فالأبلغ، إذ اليد أبلغ في التغيير ككسر أوعية الخمر والملاهي من يد (أ) مستعمليها، ثم اللسان بأن يغوث عليهم ويصيح فيتركوا ذلك، أو يسلط عليهم بلسانه من يفعل ذلك، ثم القلب بأن ينكر المنكر بقلبه وينوي أنه لو قدر على تغيير المنكر لغيره لأن الإنسان يجب عليه كراهة ما يكرهه الله عز وجل من المعاصي، والأعمال بالنيات.
وشبيهه بهذا التنزل والتدريج قوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين: "صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب"(1).
وقول الفقهاء: يتنزل في دفع الصائل من الكلام إلى العصا إلى السيف ونحوه، الأسهل فالأسهل، غير أن التنزل في تغيير المنكر من الأعلى إلى الأدنى، بخلاف دفع الصائل فإنه من الأدنى إلى الأعلى، والمعتبر في ذلك تحصيل المصلحة وأمن المفسدة.
قوله: "وذلك أضعف الإيمان" يعني (ب) التغيير بالقلب، ظاهره أن
(أ) في س، م من بين يدي.
(ب) في م أي.
(1)
رواه البخاري 1/ 376.
تغيير المنكر من الإيمان، وتأويله على ما سبق من أنه من آثار الإيمان ومقتضاه، لا من حقيقة معناه إذ سبق في حديث جبريل عليه السلام أن الإيمان هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فوجب تأويل هذا على ما ذكرنا جمعا بين الحديثين (1)، فالتقدير إذًا: وذلك أضعف آثار الإيمان وثمراته؛ لأن تغيير المنكر بالقلب لازم وهو كراهة الشخص له، وتغييره باليد واللسان مُتَعَدٍّ، إذ فيه كراهة المنكر وإزالته.
وجاء في حديث آخر "وهو أضعف الإيمان""ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"(2) لأنه إذا لم يكره المنكر بقلبه فقد رضي بمعصية الله عز وجل وليس ذلك من شأن أهل الإيمان.
فإن قيل: إذا رضي بالمنكر بقلبه ولم يكره هل يكفر بذلك أم لا؟
(1) كلا، لا يجب ذلك، ولا يستحب، ولا يباح، بل دخول الأعمال في الإيمان من أبرز مذاهب أهل السنة. قال ابن رجب في فتح الباري: وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل، وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث.
وحكى الشافعي: إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أثور الإجماع عليه أيضًا. فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1/ 5.
(2)
خلط المؤلف حديث أبي سعيد الخدري بحديث ابن مسعود، ذلك أن جملة "وهو أضعف الإيمان" من حديث أبي سعيد، وجملة "وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل" من حديث ابن مسعود، وأوله "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأحذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدمهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
قلنا: إن رضيه معتقدا جوازه فهذا تضمن (أ) تكذيب الشرع في تحريمه وهو كفر، وإن رضي به لغلبة الهوى والشهوة مع اعتقاده تحريمه فهو فسق لا كفر.
واعلم أن هذا الحديث يصلح أن يكون نصف الشريعة لأن أعمال (ب) الشريعة إما معروف يجب الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه، فهو نصف بهذا الاعتبار.
ثم الناس إما آمِرٌ بمعروف ناه عن المنكر فهو المؤمن العدل، أو لا آمِرٌ بمعروف ولا نَاهٍ عن منكر، فإن كان مع عدم الحاجة إلى ذلك فهو معذور، وإن كان مع الحاجة إليه فإن كان لعذر (جـ) مُسقطٍ ذلك عنه، وأقام غيره مقامه فلا حرج عليه، وإلا فهو آثم فاسق، أو آمِرٌ بالمعروف غير نَاهٍ عن المنكر ففي تركه النهي عن المنكر التفصيل المذكور في القسم قبله، أو ناهٍ عن المنكر غير آمِرٍ بالمعروف فالتفصيل المذكور أيضًا، أو آمِرٌ بالمنكر نَاهٍ عن المعروف فهو منافق لأن الله عز وجل وصف المنافقين بذلك.
ثم النفاق على ضربين:
نفاق في الإيمان، ونفاق في الأعمال فهذا لا بد له من أحدهما.
واعلم أن هذا الحديث يرجع إلى قوله عز وجل {كنتم خير أمة
(أ) في (س) يتضمن.
(ب) في م الأعمال الشرعية
(جـ) في (س) بعذر.
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [سورة آل عمران: 111]{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [سورة التوبة: 72] وقوله عز وجل {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه} [سورة المائدة: 80] وأشباه ذلك.
ومن السنة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا ظهر المنكر في أمتي فلم ينكروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده"(1) في أحاديث أخر مشهورة. والله عز وجل أعلم بالصواب.
(1) رواه أبو داود 4/ 510 والترمذي 4/ 467 وابن ماجه 2/ 1327 من حديث أبي بكر بنحوه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.