الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس:
عن أم المؤمنين أم عبد الله عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ" رواه البخاري ومسلم (1)، وفي رواية لمسلم "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ".
الكلام على إسناده ولفظه ومعناه.
أما إسناده ففي موضعين:
أحدهما: أن عائشة رضي الله عنها وغيرها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لهن: أمَّهات المؤمنين لقوله عز وجل {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} [سورة الأحزاب: 6] ولهذا حرم نكاحهن على غيره بدليل {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا} [سورة الأحزاب: 53] ولأنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم للناس كالأب لرأفته ورحمته بهم -ولذلك قال: "إنما أنا لكم كالوالد أعلمكم"(2) كُنَّ أزواجه كالأمَّهات لهم، فأمَّا قوله عز وجل {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله} [سورة الأحزاب: 40] فالمراد نفي أبوة النسب، ولذلك لم يعش له ابن حتى يصير من الرجال.
الموضع الثاني: إنما كنيت عائشة أم عبد الله بابن أختها أسماء، روي أنها قالت: يا رسول الله كل نسائك لهن كنى إلا أنا، فقال: "اكتني بابن
(1) رواه البخاري 2/ 959 ومسلم 3/ 1343 - 1344.
(2)
رواه أبو داود 1/ 18 والنسائي 1/ 38 وابن ماجه 1/ 114 من حديث أبي هريرة.
أختك عبد الله بن الزبير" (1) فقيل لها: أم عبد الله، وإلا فالأصحُّ أنها لم تلد من النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، وقيل: ألقت سقطا وليس بثابت.
وأما لفظه فقوله: "من أحدث" أي: أتى بأمر حادث، و "أمرنا" ديننا وشرعنا، و "ما ليس منه" أي: لا يستند إلى شيء من أدلة الشرع "فهو رَدٌّ" أي: مردود كالخلق بمعنى المخلوق، وثوب نسج اليمن أي: منسوجه، ومنه في الحديث "الغنم والوليدة ردٌّ عليك" (2) أي: مردودة (أ).
وقوله: "ليس عليه أمرنا" أي: لا يرجع إلى دليل شرعنا كما سبق في قوله: "ما ليس منه".
وأما معناه من حيث الجملة فهو أن ما خرج عن الشرع فهو باطل، لا صيور له ولا عبرة به.
وأما من حيث التفصيل فهذا الحديث على إيجازه واختصاره من أعظم قواعد الشرع وأعمِّهَا نفعا من جهة منطوقه ومفهومه.
أما من جهة منطوقه فلأنه مقدمة كلية في كل دليل نافٍ لحكم، مثل أن يقال في الوضوء بماء مغصوب، أو مسروق، أو نجس، أو بدون النية، وفي الصلاة لغير القبلة، أو بغير سترة، أو الصوم بلا نية من الليل، أو بيع الغائب، أو النجش، أو الغرر، أو نكاح الشغار، أو المتعة، أو بلا وليٍّ أو شهود
(أ) في م مردود.
(1)
رواه أحمد 6/ 186 وأبو داود 4/ 253.
(2)
رواه البخاري 2/ 959 ومسلم 3/ 1325 من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.
ونحو ذلك (أ) من أحكام لا تحصى، يقال في كل واحد منها: هذا عمل ليس من الشرع، أو ليس عليه أمر الشرع، وكل ما كان كذلك فهو باطل مردود، فهذا العمل باطل مردود، فالمقدمة الثانية ثابتة بهذا الحديث الصحيح الصريح، وإنما يتجه النزاع في المقدمة الأولى فإذا ثبت تم الدليل، وثبتت الدعوى، وانتفى الحكم.
وأما من جهة مفهومه فهو مقدمة كلية في كل دليل مثبت للحكم، لأن مفهوم قوله:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" أن من عمل عملا عليه أمرنا فليس مردودًا، فيكون صحيحًا، فيقال في الوضوء بدون المضمضة والاستنشاق، والتسمية، وغسل اليدين من نوم الليل، وبدون النية، والترتيب، والموالاة، واستيعاب مسح الرأس ونحوها: كل واحد منها عمل عليه أمر الشرع، وكل ما دَلَّ (ب) عليه أمر الشرع فهو صحيح، فهذا العمل أو الوضوء صحيح.
والمقدمة الثانية ثابتة بمفهوم هذا الحديث الصحيح عند من يحتج بالمفهوم، وإنما النزاع في الأولى فيثبتها المستدل بدليلها إن أمكنه، فيتم الدليل وتثبت الدعوى ويثبت الحكم.
وهذه قاعدة كلية في إثبات الأحكام ونفيها، وهذا الحديث يصلح أن يسمى نصف أدلة الشرع لأن الدليل إنما يتركب من مقدمتين صغرى
(أ) في أ، ب، م ونحوها من أحكام.
(ب) في أ، م ما كان.
وكبرى، وإن شئت قلت: أولى وأخرى، ثم المطلوب بالدليل إما إثبات الحكم أو نفيه، وهذا الحديت مقدمة كبرى في إثبات كل حكم شرعي، ونفيه، وإنما يقع الخلاف في المقدمة الصغرى، فلو وجد حديث يكون مقدمة صغرى في إثبات كل حكم شرعي ونفيِه لاستقل الحديثان بأدلة أحكام الشرع، لكن هذا لم يوجد، فإذن هذا الحديث نصف أدلة الشرع باعتبار ما ذكرناه.
فإن قيل: كثير من أوامر الشرع العامة خُصَّت بصور فتلك الصور ليس عليها أمر الشرع، وإلا لما كان مخصوصًا بها، ومع ذلك فهي صحيحة في الشرع فإذًا قد صَحَّ في الشرع ما ليس عليه أمر الشرع.
قلنا: تخصيص تلك الصور من أوامر الشرع إن كان بغير دليل شرعي فهي باطلة، ولا نسلم صحتها، وإن كان بدليل شرعي فعليها أمر الشرع فلا نسلم خروجها عن أمر الشرع.
فإن قيل: ثبت أن خالد بن الوليد تأمَّر على جيش مؤتة بعد قتل أُمَرَائِهِ من غير إمرة (1)، وهي ولاية ليس عليها أمر الشرع، ثم قد صحَّت؛
قلنا: لا نسلم أنه ليس عليها أمر الشرع، لأن المراد بأمر الشرع دليله، وإمرة خالد يومئذ كان عليها دليل الشرع من وجهين:
أحدهما: أنه هو وأصحابه رأوا في إمرته المصلحة العامة الراجحة للمسلمين، واعتبار المصالح من أدلة الشرع القوية على ما سنقرر في أثناء هذا
(1) ينظر السيرة النبوية لابن هشام 3/ 379 - 380.
الكتاب إن شاء الله عز وجل، وقد قال به مالك رحمه الله حيث اعتبر المصالح المرسلة (1).
الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه إمرة خالد سُرَّ بها ورضي، وهو عليه الصلاة والسلام صاحب الشرع، ورضى صاحب الشرع أقوى أدلة الشرع والله أعلم.
(1) سيأتي العزو إليه في أثناء شرح حديث "لا ضرر ولا ضرار".