الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس:
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع (أ) فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب. رواه البخاري ومسلم (1).
النعمان هذا هو الذي تنسب إليه معرة النعمان لأنه كان مقيما بها أو واليا عليها، وأمه عمرة بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة، أحد الأمراء الذين قتلوا بمؤتة، وأبوه بشير بن سعد الذي قال: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك، فكيف نصلي عليك؟ (2) وهو بفتح الباء الموحدة وبشين معجمة مكسورة.
ثم الكلام في لفظه ومعناه.
أما لفظه فالحرام الممنوع منه شرعا لأن حكمه أن يُحرَمَهُ الإنسانُ، أي:
(أ) في س، م يقع.
(1)
رواه البخاري 1/ 28 ومسلم 3/ 1219.
(2)
كلا، لم يروِ بشير بن سعد هذا الحديث، ولكن رواه كعب بن عجرة، أخرج عنه البخاري 5/ 2338 ومسلم 1/ 305.
يمنع منه حِسًّا، والحلال ضده (1).
والمشتبهات ما تَردَّد بينهما فقامت فيه شبهة الحل وشبهة الحرمة.
واتقى: اجتنب، والشبهات جمع شبهة، وهي ما خُيِّلَ (أ) للناظر أنه حجة وليس كذلك.
واستبرأ لدينه مهموز وقد يخفَّف، ومعناه طلب البراءة لدينه من النقص وحصَّلها له، وكذلك استبرأ من البول حصَّل البراءة منه.
وعرضه بكسر العين محل المدح والذم منه.
والحمى هو الشيء الممنوع، وحمى الملك ما تحجَّره لخيله ونحوها من آلات مصالحه ومنع منه غيره، ومنه حمى كليب، قال الشاعر:(2)
أَبَحْتَ حِمَى تِهَامَةَ بَعْدَ نَجْدٍ
…
وَمَا شَيءٌ حَمَيْتَ بِمُسْتَبَاح
ومحارم الله عز وجل ما حرَّم على خلقه.
والقلب عضو باطن في الجسد عليه مدار حال الإنسان، قيل: سمي قلبا لتقلبه (ب) كما قال الشاعر:
وما سمي الإنسانُ إلا لِنَسْيِهِ (جـ)
…
ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ (3)
(أ) في أ، م يخيل.
(ب) في س من أجل تقلبه.
(جـ) في س لانسه.
(1)
في أأسفل هذه الكلمة "أي فهو المأذون فيه شرعا".
(2)
البيت لجرير، انظر ديوانه 77، وهو في خزانة الأدب 6/ 42 بلا نسبة.
(3)
والبيت في الدر المصون للسمين الحلبي 1/ 119 وتاج العروس 1/ 124 (شرح خطبة المصنف).
وهو عضو صغير الجِرْمِ، ولذلك سماه مضغة ولكنه عظيم الجُرْمِ.
وأما معناه ففيه أبحاث:
الأول: أن قسمة أحكام الأشياء إلى حلال وحرام وما بينهما قسمة صحيحة، لأن كل شيء أو فعل يفرض فإما منصوص على الإذن فيه، وهو الحلال البين، أو على المنع منه وهو الحرام البين، أو لا ينص فيه لا على هذا ولا على هذا، وهو المسكوت عنه، وهو مشتبه بناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة أو الحظر، أو ينص فيه عليهما فإن علم آخر النصين فالحكم له من حِلٍّ أو حرمة، والأول منسوخ به ويرجع هذا إلى الحلال أو إلى الحرام، وإن لم يعلم آخر النصين فهو مشتبه أيضًا.
وقد يقع الاشتباه من جهة أخرى وهي أن تكاليف الشرع إما أن تأتي بالتخيير بين الفعل والترك وهو الإباحة، أو باقتضاء الفعل، أو باقتضاء الترك لكن الاقتضاء تارة يُصرَّح فيه بالجزم فيكون إيجابا أو حظرا، وتارة بعدم الجزم فيكون ندبا أو كراهة، وتارة يطلق فلا يُصرح فيه بجزم ولا بعدمه فيبقى مترددًا بين الأمرين الإيجاب والندب، أو الكراهة والحظر، فينشأ الاشتباه من ها هنا.
البحث الثاني: قوله: "لا يعلمهن كثير من الناس" أي: ليست أحكام تلك الشبهات معطلة لا تعلم، بل يعلمها بعض الناس وهم أولوا العلم والنظر في أحكام الشرع، وفيه إشارة إلى فضل العلماء لعلمهم بما لم يعلم غيرهم، وحَلِّهم ما أشكل على غيرهم.
ثم الناس في الشبهات قسمان:
أحدهما: يتَّقيها ويتجنَّبُهَا (أ) فذلك يستبرئ لدينه وعرضه، أي: يصونهما عن النقص والخلل، ووقوع الناس فيه، لاتهامهم إياه بمواقعة المحظورات، وقد جاء في الأثر "من وقف موقف تهمة فلا يلومنَّ من أساء به الظن" ولهذا لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلين ومعه امرأته صفية قال لهما:"على رسلكما، إنها صفية بنت حيي" خشية أن يتهماه (1) فيأثما (2)، ولذلك قالا له: يا رسول الله من كنا نتهمه فلا نتهمك، فقال:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا"(3) وكذلك لما رأى تمرة ملقاة قال: "لولا أني أخشى أنَّها من الصدقة لأكلتها"(4) وذلك من اتقاء الشبهة تورعا.
فإن قيل: لم لم يتورع عن لحم بريرة والشبهة قائمة به؟
قلنا: لا نسلم أن الشبهة قائمة به، وقد بين انتفاء الشبهة بقوله:"هو عليها صدقة، ولنا هدية"(5) ولئن سلمنا قيام الشبهة به لكنه عليه الصلاة والسلام
(أ) في أ، م ويجانبها.
(1)
في هامش أ "حاشية لو اتهماه بريبة كفرا كذا صرح به الأئمة".
(2)
وقد استنبط الشافعي من الحديث معنى لطيفا، روى البيهقي في مناقب الشافعي 2/ 241 قال ابن عيينة للشافعي: ما فقه هذا الحديث؟ فقال الشافعي: إن كان القوم اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا بتهمتهم إياه كفارا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أدَّبَ من بعده، فقال إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا لكيلا يظن بكم السوء، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيرا، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحب.
(3)
رواه البخاري 2/ 175 ومسلم 4/ 1712 من حديث صفية.
(4)
رواه البخاري 2/ 725 ومسلم 2/ 752 من حديث أنس بن مالك.
(5)
رواه البخاري 2/ 543 ومسلم 2/ 755 من حديث عائشة.
كان مُشَرِّعًا، فهو تارة يترك الشيء تورعا لئلا ينهمك الناس في الشبهات، وتارة يفعل الشيء توسيعا (أ) لئلا يَحْرَجَ الناسُ بضيق مجال الشهوات.
والثاني: من يواقع الشبهات فذلك يعرض دينه للنقص وعِرْضَه للمضغ، ثم تفضي به مواقعة (ب) الشبهات إلى مواقعة المحظورات بالتدريج والتسامح ولذلك أمثلة:
أحدهما: ما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلًا لذلك وهو الراعي يرعى حول الحمى وهو المرعى الممنوع منه، فيوشك، أي: يقرب أن يرتع فيه لأن من قارب الشيء خالطه غالبا، ومنه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] نهى عن المقاربة حذرا من المواقعة.
وثانيها: يسير الخمر ليس محذورا في نفسه، وإنما حرم لئلا يتدرج منه إلى الكثير المحذور.
وثالثها: الخلوة بالأجنبية لا محذور فيه إلا كونه داعية بالتدريج إلى الوطء المحرم.
ورابعها: قبلة الصائم إذا حَرَّكت شهوته تكره لئلا يتدرج بها إلى الوطء المفسد للصوم.
وخامسها: في التدريج قوله عليه الصلاة والسلام: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده"(1) الحديث.
(أ) في أ، م توسعا.
(ب) في م مواقع.
(1)
رواه البخاري 6/ 2490 ومسلم 3/ 1314 من حديث أبي هريرة.
أي: يتدرج من سرقة مالا يقطع به، إلى سرقة ما يقطع به، وأمثلة هذا كثيرة.
وقد أجاز بعض أهل العلم وطء الزوحة والأمة فيما بين الأليتين، وهذا الحديث يقتضي كراهته (أ) لما فيه من التعريض للإيلاج المحرم، والتعرض (ب) للحرام أقل أحواله أن يكون مكروها، وأقل ما يقال فيه: إن الورع تركه.
البحث الثالث: قوله: "ألا وإن لكل ملك حمى" أي: ما يحميه ويمنعه عن غيره، وأقل ذلك ملكه وبلاده فيمنعها (جـ) من غيره أن يغلبه عليها، وقد يكون الحمى خاصة (د) كما سبق ذكره.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حول المدينة اثني عشر ميلا حِمىً (1)، أي: حرما لا يقطع شجره ولا يصاد صيده، وحمى عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة أرضا ترعى فيها (2)"ألا وإن حمى الله محارمه" هذا من باب قياس الغائب على الشاهد، والمعقول على المحسوس.
ونظم القياس هكذا: الله عز وجل ملك، وكل ملك فله حمى، فالله عز وجل له حمى، ثم حمى كل ملك ما منعه، فكذلك حمى الله عز وجل
(أ) في م كراهيته.
(ب) في م والتعريض.
(جـ) في أ، م التي يمنعها.
(د) في أ، م خاصا.
(1)
رواه مسلم 2/ 1000 من حديث أبي هريرة.
(2)
رواه البخاري 3/ 1113 عن زيد بن أسلم عن أبيه.
ما منعه وهو المحارم.
قوله: "ألا وإن" هو افتتاح كلام يقصد به تنبيه السامعين لفهم الكلام نحو {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} [هود: 8]، {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} [فصلت: 54] {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54].
البحث الرابع: قوله: "ألا وإن في الجسد مضغة" إلى آخره معناه أن صلاح الجسد تابع لصلاح القلب، وفساده تابع لفساده، لأن القلب مبدأ الحركات البدنية والإرادات النفسانية، فإن صدرت عنه إرادة صالحة تحرك الجسد حركة صالحة، وإن صدرت عنه إرادة فاسدة تحرك الجسد حركة فاسدة. وبالجملة فالقلب كالملك، والجسد وأعضاؤه كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، وأيضًا القلب كالعين والجسد كالمزرعة إن عَذُبَ ماءُ العين عذب الزرعُ، أو مَلُحَ مَلُحَ، وأيضًا القلب كالأرض وحركات الجسد كالنبات {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلا نَكِدًا} [الأعراف: 58] وشاهد ما ذكرناه من أمر القلب والجسد أن النبي صلى الله عليه وسلم شق عن قلبه مرتين (1)، واستخرج منه علقة سوداء، قيل: هذه حظُّ الشيطان منك، ثم غسل بالماء المبارك الطهور، فلما طاب قلبه طاب جسده، ثم صار إماما للمتقين، ورحمة للعالمين،
(1) روى أحمد قصة شق قلبه المرة الأولى 5/ 139 من حديث ابن عباس، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وأشهر.
وروى البخاري 1/ 135 ومسلم 1/ 148 من حديث أنس قصة شق قلبه المرة الثانية في ليلة الإسراء والمعراج.
وخاتما للنبيين صلوات الله عليه وعليهم أجمعين.
البحث الخامس: هذا الحديث أصل في الورع وهو ترك المشتبه من الأفعال إلى غيره (1).
وإن شئت قلت (أ): هو (2) الأخذ في الأفعال بنفس الإباحة وبراءة الذمة.
وقد نقل عن الحسن البصري أنه قال: أدركنا قوما يتركون سبعين بابًا من الحلال خشية الوقوع في باب من الحرام.
وقد ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أكل شبهة غير عالم بها، فلما علم بها أدخل يده في فيه (ب) فقاءها (3).
وهذا الحديث يرجع من آي الكناب إلى قوله عز وجل {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] وإطلاق الطيب يقتضي المحض الخالي من الشبهة، لأن الشيء إما طيب، أو خبيث، أو مركب منهما، والخبيث لا يدخل تحت لفظ الطيب، والمركب منهما يرجع كل جزء منه إلى أصله، فلا يدخل منه تحت لفظ الطيب إلا الجزء الطيب، ومن السنة إلى قوله عليه الصلاة والسلام:"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وهو من أحاديث الأربعين.
(أ) في م قل.
(ب) في س، م فمه.
(1)
في هامش أ "وهو ما لا اشتباه فيه أصلا".
(2)
في هامش أ "أي الورع".
(3)
رواه البخاري 3/ 1395.