الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
وقد كانوا يودون أن تكون لهم الطائفة الضعيفة مع أن الله قد أراد أن يحقق وعده بالنصر لهم على الطائفة القوية ليكون في ذلك قطع لدابر الكافرين فينتصر الحق ويعلو ويزهق الباطل ويسقط ويكون في ذلك إرغام وقهر للكافرين المجرمين.
4-
ولقد أخذ المسلمون يستغيثون الله حينما واجهوا عدوهم القوي فاستجاب لهم بأنه ممدهم بألف من الملائكة لينجدوهم ويساعدوهم. وقد كان هذا من الله على سبيل تطمين قلوبهم وتسكين روعهم، فالله هو الذي نصرهم وهو العزيز القادر الحكيم.
5-
ولقد ألقى الله عليهم النعاس ليكون لهم فيه راحة وهدوء، وأنزل عليهم المطر ليكون لهم فيه زيادة طمأنينة وتمكين وتثبيت قدم وإحباط لوساوس الشيطان لهم. ولقد أمر الله الملائكة ليكونوا في صفوف المسلمين ويثبتوا قلوبهم وأقدامهم مؤذنا بأنه سيلقي في قلوب الكافرين ويمكّن الملائكة أو المسلمين منهم ليضربوا أعناقهم وأياديهم. فقد شاقوا الله ورسوله وعاندوهما فاستحقوا شديد العقاب الذي يستحقه من يفعل ذلك. فليذوقوا طعم هذا العقاب الآن بما حل فيهم ولهم من بعده عذاب النار.
تعليق على الآية كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ إلخ وما بعدها إلى آخر الآية [14] وشرح ظروف ومشاهد وقعة بدر
والمتفق عليه أن هذه الآيات في صدد وقعة بدر. وواضح من أسلوبها وفحواها أنها نزلت بعد انتهاء المعركة وانتصار المسلمين فيها. وأنها استمرار للآيات السابقة التي نزلت هي الأخرى بعد انتهاء المعركة بسبب الخلاف على قسمة الغنائم.
والآيات لم تحتو سياقا تاما عن الوقعة لأن قصتها لم تقصد لذاتها، وإنما قصد فيها التذكير والعتاب وبيان إرادة الله في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وإنزال العقاب الشديد في الكفار وقطع دابرهم. ومما يلمح من مقاصد الآيات تدعيم العتاب الموجه للمسلمين المعترضين وتأنيبهم على ما كان منهم من مشادة في صدد الغنائم بتقريرها أن الله هو الذي ألهم نبيه الخروج وأنه هو الذي رزقهم النصر والغنيمة معا على كره منهم.
وليس في هذه السورة ولا في غيرها إشارة أو وصف بأن الله قد أمر نبيه بالخروج ووعد المؤمنين بأن تكون إحدى الطائفتين أنها لهم. وهناك رواية يرويها المفسرون ووردت في كتب السيرة القديمة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين خروجه إلى بدر سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين» . على ما سوف نذكره بعد. فإما أن يكون الأمر بالخروج والوعد نزلا قرآنا ثم رفعا لحكمة ربانية وإما أن يكونا إلهاما ربانيا ووحيا غير قرآني عبّر عنهما بما جاء في العبارة. وفي هذا صورة من النسخ القرآني في حياة رسوله إذا كان قرآنا ورفع، أو مظهر من مظاهر حكمة الله ورسوله إذا كان إلهاما ربانيا. أو صورة من صور الوحي الرباني إذا كان وحيا غير قرآني. ومن هذا الباب تحويل القبلة عن المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام على ما خمّنّاه وشرحناه في سياق تفسير آيات تحويل القبلة في سورة البقرة.
ولقد روت كتب الحديث والسيرة والتفسير والتاريخ المعتبر «1» تفصيلات لأحداث ومشاهد وقصة بدر متفقة في الجوهر مع تباين في الجزئيات والأسماء ومتّسقة في الوقت نفسه إجمالا مع مدى هذه الآيات وغيرها من آيات السيرة.
ومجمل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أن أبا سفيان بن حرب مقبل من الشام في عير عظيمة لقريش (قافلة تجارية) وليس معه إلّا نحو ثلاثين أو أربعين رجلا، فندب المسلمين إليها، وقال لهم هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير وسيرة ابن هشام ج 2 ص 243- 420 وطبقات ابن سعد ج 3 ص 50- 66 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 172.
الله ينفلكموها. فخفّ بعضهم وثقل بعضهم وكان هؤلاء يظنون أن رسول الله لن يلقى حربا، وبلغ أبا سفيان خبر استنفار النبي له فأرسل رسولا إلى مكة لإنذارهم.
وأخذ حذره فسلك طرقا غير مطروقة واستطاع أن ينجو من الخطر ويتجه آمنا نحو مكة. وقد خرج رسول الله على رأس ثلاثمائة ونيف نحو ربعهم من المهاجرين والباقون من الأنصار في أوائل شهر رمضان للسنة الهجرية الثانية. وقد سارعت قريش حينما جاءها النذير إلى النفرة حتى لم يكد يتخلف من أشرافها أحد. ومن لم يستطع الخروج منهم بنفسه بعث رجلا مكانه حيث لم يكن أحد منهم إلّا وكان له شركة في القافلة.
وفي الطريق علم رسول الله أن أبا سفيان نجا مع القافلة وأن قريشا مقبلة نحوه في نحو ألف فيهم عدد كبير من زعمائهم حتى قال لأصحابه هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ أكبادها. وقد انقسم المسلمون في الرأي فريقين، منهم من قال إنما خرجنا للعير فلما نجت لم يعد حاجة إلى قتال، ومنهم من قال إذا عدنا اتهمتنا قريش بالجبن والفرار فلا بدّ من لقائهم. وجمع رسول الله كبار أصحابه من مهاجرين وأنصار وهتف بهم أن أشيروا عليّ، فقام أبو بكر ثم عمر ثم المقداد فقالوا فأحسنوا. ولكن رسول الله ظلّ يهتف قائلا أشيروا عليّ قاصدا سماع الأنصار لأن الأوّلين من المهاجرين. لأن الأنصار بايعوه على الدفاع عنه وكان يظن أنهم قد لا يرون عليهم نصرته إلّا ممن دهمه في المدينة. فقام سعد بن معاذ زعيم الأوس وقال يا رسول الله لكأنك تريدنا؟ قال: أجل، فقال: لقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به الحق. وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منّا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا. إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة الله «1» . فسرّ رسول الله ونشط بذلك ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله
(1) هذه رواية ابن هشام عن ابن إسحق. وروى مسلم عن أنس حديثا جاء فيه: «إن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر ثم تكلم عمر فأعرض عنهما فقام سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا..» انظر التاج ج 4 ص 366. واختلاف الروايتين في اسم الزعيم القائل ليس من شأنه الإخلال بجوهر الرواية.
تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين. والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم. وكما انقسم المسلمون في قتال المشركين انقسم المشركون في قتال المسلمين. حيث قال فريق إنا خرجنا لإنقاذ القافلة وقد نجت فلم يعد سبب للقتال. ورفض فريق على رأسهم أبو جهل أن يعودوا إلّا بعد ورودهم بدرا وكان مكان مياه وموسم عربي عام وإقامتهم ثلاثة أيام يأكلون ويشربون ويلهون حتى يهابهم العرب. وغلب هذا الفريق الفريق الآخر الذي أراد السلامة والعودة وخشي من مغبّة الحرب ومآسيها على الفريقين، وفيهم الأرحام الواشجة، ولم يعجب ذلك من كان بالجيش من بني زهرة وبني عدوا فرجعوا ولم يشهدوا المعركة.
وهكذا صار اللقاء محتما، ولقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء بدر فأشار عليه المنذر بن الحباب إذا لم يكن منزله بأمر الله أن يتقدم حتى يكون جميع الماء وراءه فيشرب المسلمون ويعطش المشركون فاستحسن رأيه وتقدم إلى حيث أشار قائلا:
إن منزله ليس بأمر الله إنما هو رأي اجتهد فيه.
وبدأت المعركة بمبارزات فردية كان الغالبون فيها أصحاب رسول الله حيث قتل حمزة وعلي وغيرهما مبارزيهم من شبان وصناديد قريش. ثم تهيأ الفريقان للتزاحف، وأخذ رسول الله حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا وسوّى صفوف أصحابه ثم قال لهم شدّوا فشدّوا فالتحم الفريقان وحميت المعركة وانجلت عن هزيمة المشركين وقتل منهم نحو سبعين وأسر مثلهم. وكان في عداد قتلاهم عدد كبير من صناديدهم. واستشهد من المسلمين أربعة عشر ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار. وكان النصر يوم السابع عشر من رمضان على أشهر الروايات. وكان عدد المسلمين ثلاثمائة ونيفا وعدد المشركين نحو ألف. وقد وصّى النبي بالأسرى خيرا ونهى عن التمثيل بالقتلى. واستثنى من الأسرى اثنين كانا من أشدّ المشركين
أذى ومناوأة له وللمسلمين وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط حيث أمر بقتلهما ثم قفل بالمسلمين راجعا. وفي الطريق اختلفوا على قسمة الغنائم وأنزل الله الشطر الأكبر من سورة الأنفال فأفرز النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم الخمس وقسم الباقي على شاهدي المعركة للراجل سهم وللفارس سهمان وقيل ثلاثة. ونفل نفلا منها لمن كان له بلاء خاص. وكان بعض المؤمنين المخلصين قد تخلفوا لأعذار منهم عثمان بن عفان فقسم لهم من الغنائم وعاد بالأسرى إلى المدينة إلى أن افتداهم أهلهم على ما سوف نشرحه في مناسبة آتية.
وهناك بعض مشاهد أخرى رويت في سياق آيات أخرى تأتي بعد قليل سنلمّ بها في مناسبتها.
ولقد توطدت في هذه المعركة أخوة الجهاد بين المهاجرين والأنصار كما توطدت من قبل أخوة الدين. ولقد كان نصر الله لنبيه والمؤمنين فيها من أقوى دعائم الدعوة الإسلامية وعوامل توطدها. ولذلك فإنها شغلت حيزا خطيرا في السيرة النبوية. ونال الذين شهدوها من المسلمين من التنويه والتكريم ما خلّد لهم الذكر وأحاطهم بهالة من الإجلال والإكبار في تاريخ الإسلام. ومن أروع ما كان من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم المأثور فيهم الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي:
«لعلّ الله اطّلع على أهل بدر فقال لهم افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1» .
ومما تذكره الروايات من مشاهد يوم بدر أن المسلمين بنوا للنبي عريشا والتمسوا منه أن يكون فيه ليكون من ورائهم درءا لهم فجلس مستقبلا القبلة يناشد ربّه. وفي هذا المشهد يروي البخاري عن عمر أنه قال: «لما كان يوم بدر نظر رسول الله إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل القبلة ومدّ يديه فجعل يهتف بربّه اللهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف مادّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأخذ أبو بكر الرداء فألقاه على منكبيه ثم التزمه
(1) انظر الحديث في التاج، ج 4 ص 232.
من ورائه وقال يا نبيّ الله كفاك مناشدتك ربّك فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) » «1» .
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: «أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله. هذا جبريل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع» .
وتروي الروايات عن بعض شهود المعركة أنهم كانوا يشعرون بأن الملائكة يقاتلون معهم. وأن بعضهم سمع هتافهم وبعضهم رآهم عيانا معتمّين بعمامات بيضاء وخضراء وصفراء راكبين على خيل بلق. وبعض هذه الروايات رواها مسلم عن ابن عباس قال: «بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتدّ في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقف ورأى فارسا يقول أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك فإذا هو قد خطّم أنفه وشقّ وجهه كأنما كان ذلك بضربة سوط، فجاء الرجل وحدّث رسول الله فقال: صدقت ذلك مدد السماء» «2» .
وأمر الملائكة من المسائل المغيبة الواجب الإيمان بكل ما يخبره القرآن عنهم. وقد أخبر القرآن بأن الله أيّد المسلمين في هذه الوقعة بالملائكة فوجب الإيمان بذلك والوقوف عنده وإذا كان شيء يمكن أن يقال في صدد ما جاء في الآيات أن الآيات لا تفيد أن المسلمين رأوا الملائكة وإنما تتضمن إخبارا بعد الوقعة بأن الله أيدهم بالملائكة ثم تذكرهم بما كان من استغاثتهم وما كان من استجابة الله لهم مما قد يلهم أنهم تمنوا على الله أن يؤيدهم ويمدهم بالملائكة.
فلما اشتدّت المعركة وقطع المسلمون صلتهم بالدنيا واستغرقوا في الجهاد في سبيل الله ولم يكن في أذهانهم إلّا الله ورسوله ودينه شملتهم العناية الربانية وأيقنوا أن الله قد استجاب لهم وأمدهم وأيدهم بملائكته وشعروا بحقيقة ما أخبرهم الله به في الآيات بعد الوقعة.
(1) التاج، ج 4 ص 365- 366.
(2)
المصدر نفسه، ص 367.