الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تظاهرهم بالميول السلمية فالله هو حسبه. وهو الذي أيده بنصره وبالمؤمنين وألّف بين قلوبهم هذا التأليف الشديد الذي لو أنفق في سبيل تحقيقه ما في الأرض ما كان يتحقق لولا عناية الله العزيز الحكيم القادر على نصره والذي يأمر بما فيه الحكمة والمصلحة والصواب.
10-
وتطمين آخر له وللمؤمنين في الصدد نفسه، فإن الله هو حسبه وحسب الذين اتبعوه وكافيهم ومانعهم فلا ينبغي أن يكونوا في قلق من جراء ما يمكن أن يقفه الأعداء من مواقف ويبيتونه من نيات.
تعليق على الآية إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) والآيات التالية لها إلى آخر الآية [63] وشرح وقعة بني قينقاع وما في الآيات من مبادئ وتلقينات
1-
الآيات تبدو فصلا مستقلا عن السياق السابق إلّا التناسب وبين ذكر مصير الكفار الذي ذكر في الآيات السابقة لها وبين ذكر حالة الكفار فيها. وهي فصل متكامل جميعه في موضوع واحد. ولذلك جمعناها في هذه الطبعة وشرحناها في سياق واحد. وقد تكون نزلت بعد الآيات السابقة لها مباشرة فوضعت بعدها للتناسب الظرفي الموضوعي والله أعلم.
2-
وروايات المفسرين «1» متفقة على أن الآيات عنت اليهود في المدينة، وظروف نزولها التي كانت بعد قليل من وقعة بدر على ما سوف نشرحه بعد وأسلوبها يؤيد ذلك. فلم يكن بين النبي وبين أحد من الذين جحدوا رسالته عهد عدا اليهود في السنتين الأوليين من الهجرة. وروايات السيرة «2» تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(2)
انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 119- 123.
حينما استقرّ في المدينة بعد هجرته إليها من مكة كتب كتاب موادعة أبقى فيه اليهود على صلاتهم ومحالفاتهم مع الأوس والخزرج الذين كان الإسلام قد نشأ فيهم.
ومنحهم حرية الدين وأوجب عليهم نصرة المؤمنين والاتفاق معهم في الحرب كما أوجب على نفسه والمؤمنين نصرتهم غير مظلومين ولا تناصر عليهم إلّا من أثم وظلم فكان هذا عهد بينه وبينهم على تعدد كتلهم في المدينة وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة.
3-
والمفسرون إلى قولهم إنها في صدد اليهود يروون روايات تخصيصية حيث يروون أن الآيتين الأوليين نزلتا في يهود بني قريظة أو عنتهم لنقضهم العهد ومظاهرتهم لقريش في وقعة الخندق. وروى الطبرسي مع إيراده الرواية السابقة أن الآية [58] نزلت في صدد بني قينقاع وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت قال: إني أخاف بني قينقاع وسار إليها. والمناسبة بعيدة بين وقعتي بني قريظة وبني قينقاع لأن الأولى كانت في السنة الهجرية الخامسة والثانية في السنة الثانية وبعد قليل من وقعة بدر التي نزلت فيها سورة الأنفال. ووقعة الخندق ذكرت في سورة الأحزاب وليس من الوارد أن تذكر في سورة نزلت قبل وقوعها. وابن سعد يتوافق في طبقاته «1» مع رواية الطبرسي بأن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى بني قينقاع بالآية [58] ويروي المفسرون وكتب السيرة القديمة معا أن يهود بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا العهد ووقع الصدام بينهم وبين النبي والمسلمين. وأن آيات سورة آل عمران هذه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) قد نزلت بسبيل إنذارهم ودعوتهم إلى الاعتبار بما حلّ في قريش الذين كانوا ضعف المسلمين وبنصر الله للمؤمنين. وذلك حينما بدت منهم أمارات الغدر والنقض بعد قليل من وقعة بدر. فجمعهم النبي وأنذرهم فقالوا له: «لا يغرنك أنك لقيت قوما
(1) طبقات ابن سعد ج 3 ص 67- 68.
لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، وإنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس» «1» ، وسورة الأنفال نزلت قبل سورة آل عمران. وآيات سورة الأنفال التي نحن بصددها نزلت بعد وقعة بدر وقبل وقعة أحد التي جاء في سورة آل عمران فصل طويل فيها وهذا يسوغ عدم التسليم بالروايات التي تذكر أن آيات سورة آل عمران [12 و 13] نزلت في بني قينقاع. والقول إنها نزلت في قوم آخرين ظهرت منهم بوادر غدر وعداء. والله أعلم.
ومهما يكن من أمر فالملحوظ أن آيات سورة الأنفال عامة الشمول بحيث يتبادر لنا منها أنه لما بدأ يظهر من اليهود بوادر الغدر والخيانة بعد مواقف التعجيز والتشكيك والسخرية واللجاج والدسّ والتآمر التي حكتها سلسلة سورة البقرة اقتضت حكمة التنزيل الإيحاء بهذه الآيات كخطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاههم. ومن الجائز أن يكون بنو قينقاع ركبوا رؤوسهم ولم يرعوا فجمعهم النبي وأنذرهم فأجابوه بما حفظته الروايات، ويجوز أنهم استمروا في غيّهم ولم يرعووا فبادر إلى التنكيل بهم وطبق مبادرته على جملة وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ فقال ما حفظته الروايات إني أخاف بني قينقاع، والله أعلم.
4-
أما ما كان من أمر بني قينقاع فخلاصة ما روته كتب السيرة والتفسير أنهم كانوا يسكنون وسط المدينة، وكان لهم سوق خاص وأن امرأة من العرب جاءت بجلب لها فباعته في سوقهم ثم جلست إلى صائغ، فسألها بعضهم كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا عليها فصاحت فوثب مسلم حاضر على الصائغ فقتله فشدّ عليه اليهود فقتلوه فاستصرخ أهله فعظم الشرّ. وقد حصرهم النبي والمسلمون في محلتهم خمس عشرة ليلة وضيّق عليهم حتى نزلوا على حكمه. وكانوا حلفاء للخزرج فطلب عبد الله بن أبيّ أحد كبار زعمائهم وكان كبير المنافقين من النبي صلى الله عليه وسلم أن
(1) انظر سيرة ابن هشام ج 2 ص 426 و 429 وانظر تفسير آيات آل عمران في كتب التفسير المذكورة.
يحسن في حلفائه، وألحّ في الطلب حتى أساء أدبه مع النبي، وقال له فيما قال أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة. ورأى النبي من الحكمة المسايرة فاكتفى بإجلائهم عن المدينة وسمح لهم بحمل ما قدروا عليه من مال وسلاح واستولى على ما بقي لهم في محلتهم من عقار وسلاح ومتاع وأثقال فأخذ خمسه ووزع الباقي على من شهد الحصار معه، وقد جلوا إلى أذرعات «1» .
ويتبادر لنا من فحوى الآيات وروحها وقول النبي صلى الله عليه وسلم إني أخاف بني قينقاع الذي أجمعت الروايات على ذكره ولو لم يرد حديث صحيح فيه أنه كان لبني قينقاع مواقف غدر ونقض عديدة فجاء حادث الامرأة والصائغ لتملأ الكأس وكان التنكيل مباشرة بعده، والله أعلم.
5-
ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون في المعنيين بجملة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ منها أنهم المنافقون استئناسا بآية سورة التوبة هذه وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [101] ومنها أنهم الفرس. ومنها أنهم كل عدو للمسلمين لم يكن ظاهرا أو معروفا بعدائه، ومنها أنهم الجن. وأوردوا في المقول الأخير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم جاء فيه:«إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في قول الله وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ هم الجنّ» ، والحديث لم يرد في الصحاح ونرى التوقف فيه كما نرى الوقوف عند الآية والقول إنها هدفت إلى تنبيه المسلمين إلى ما يمكن أن يكون لهم من أعداء لا يعرفونهم ويعرفهم الله بسبيل التحذير وإيجاب الاستعداد وإعداد ما استطاعوا من قوة لإرهاب أعدائهم المعروفين وغير المعروفين، وقد يكون من جملة هؤلاء الطوائف اليهودية الأخرى التي كانت لم تظهر عداء صريحا ولكنها تبطنه والتي حكت سلسلة سورة البقرة ما كان لها من مواقف جحود ودسّ
(1) هذا تلخيص ما ورد في كتب التفسير والسيرة، انظر كتب التفسير المذكورة وانظر ابن هشام ج 2، ص 119- 122 وابن سعد ج 3 ص 67 و 68.
وتشكيك وتآمر ونقض، والله تعالى أعلم.
6-
وجمهور المفسرين على أن المعنيين في الآية [63] الذين ألّف الله بينهم هم الأوس والخزرج الذين كانوا غالبية عرب المدينة والذين صار اسمهم في الإسلام (الأنصار) . وقد كان بينهم تنافس وحروب وثارات قبل الإسلام وكان بعض كتل اليهود يحالفون الأوس وبعضهم يحالفون الخزرج على ما شرحناه في سياق الآيات [84 و 85] من سورة البقرة. وقد ألّف الله قلوبهم على يد رسوله فدعا من اجتمع إليه منهم في مكة واستجابوا لدعوته ثم بعد أن هاجر النبي إلى المدينة فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وقد جاءت إشارة ثانية إلى هذا في آية سورة آل عمران هذه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وهذه الآية في ظرف حاول اليهود فيها أن يثيروا فتنة بين الأوس والخزرج بتذكيرهم بما كان بينهم من ثارات على ما سوف نشرحه في مناسبتها.
7-
ولقد روى البغوي عن سعيد بن جبير في صدد الآية الأخيرة من الآيات إلى [64] أنها نزلت بعد إسلام عمر حيث كان أسلم قبله ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة فكمل عددهم بإسلام عمر أربعين. وعلق ابن كثير على ذلك بقوله إن إسلام عمر كان في مكة وهذه الآية مدنية، وهو تعليق في محله. على أن جمهور المفسرين على أن هذه الآية جزء متمم للكلام وهو الحق المتبادر.
ولقد تعددت أقوال المفسرين والمؤولين في مدى الآية، منها أنها بمعنى (إن الله حسبك وحسب من اتبعك) وذلك بسبيل تهوين شأن أعدائهم. ومنها أنها بمعنى (الله هو حسبك، وحسبك كذلك متبعوك) فهذا كاف لك للانتصار على الأعداء، وكلا القولين وجيه.
وجملة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) في الآية السابقة لها قد تؤيد وجاهة التأويل الثاني وإن كان مقام الآية قد يجعل الرجحان للتأويل الأول من