الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) وما بعدها لغاية الآية [129] وشرح ظروف ومشاهد وقعة أحد
وجمهور المفسرين على أن هذه الآيات والآيات العديدة الأخرى التي وردت فيما بعد إلى الآية [179] قد احتوت إشارات إلى مشاهد وظروف ونتائج وقعة أحد التي وقعت عند جبل أحد قرب المدينة بعد وقعة بدر بنحو خمسة عشر شهرا بين كفار قريش والمسلمين حيث جمع الكفار جموعهم وجاءوا لغزو المدينة وأخذ ثأر وقعة بدر.
وليس في هذه الآيات ولا فيما بعدها بسط قصصي تفصيلي لمشاهد الوقعة وإنما هي إشارات لمواضع وشؤون اقتضتها حكمة التنزيل للعظة والعبرة شأن ما جاء في صدد وقعة بدر في سورة الأنفال وغيرهما من الوقائع وهو الأسلوب القرآني فيما ورد في القرآن من قصص ووقائع بصورة عامة.
وهذه الآيات قد احتوت شيئا من العتاب والتطمين والعظة والتسلية. وقد جاءت كمقدمة تمهيدية بين يدي المشاهد والظروف التي اقتضت الحكمة الإشارة إليها والأقوال التي قيلت والمواقف التي وقفتها فئات المسلمين بعد الوقعة. وقد نزلت هذه الآيات وسائر الآيات الأخرى التي تتصل بيوم أحد والتي تأتي بعدها بعد انتهاء المعركة.
ومما يروى في صدد ما له صلة بهذه الآيات من ظروف وأسباب الوقعة «1» أن النبي لما علم بزحف كفار قريش نحو المدينة استشار الناس في الموقف، وأن كبير المنافقين عبد الله بن أبي وبعض أصحابه ومتابعيه وفريقا من المخلصين من أهل المدينة أشاروا بالتحصّن في المدينة وعدم الخروج لمقابلة العدو خارجها
(1) انظر ابن هشام ج 3 ص 3- 159، وطبقات ابن سعد ج 3 ص 78- 91. وانظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم.
والاستعداد لقتاله إذا هاجمهم في عقر بيوتهم، وقالوا له ما دخل علينا أحد إلا غلب وما خرجنا منها إلّا أصبنا. وأشار آخرون بالخروج للقائهم وعدم الظهور بمظهر الخائف وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جنح إلى الرأي الأول بادىء الأمر غير أن أصحاب الرأي الثاني استعظموا ذلك وأخذوا يلحون على الخروج وكانت نفوسهم قوية بما كان من نصر الله لهم في بدر. ومنهم من لم يشهد بدرا ورغبوا في أن يكون لهم حظ من الجهاد والنصر مثل ما كان لمن شهد بدرا حتى مال النبي إلى هذا الرأي فدخل بيته ولبس عدّة حربه ونادى بالناس إلى الخروج وفي وجهه شيء من الاستكراه. وقد روي فيما روى أن أصحاب الرأي الثاني ندموا على الإلحاح وما شعروا به من استكراه النبي فأعادوا الأمر إليه واعتذروا له فقال لهم إنه لا يصح لنبي لبس عدّة حربه أن يخلعها قبل أن يقاتل وأكد نداءه إلى الخروج فخرجوا في نحو ألف وكان عدد أعدائهم نحو ثلاثة آلاف. وفي الطريق انسحب عبد الله بن أبي كبير المنافقين قائلا: أطاعهم وعصاني. وإني لا أرى قتالا سيقع فانسحب معه نحو ثلاثمائة أكثرهم من المنافقين أشياعه. وكاد بطنان من الخزرج قبيلته ومن المخلصين في إيمانهم أن يتأثروا بالمنسحبين وينسحبا لولا أن ثبتهما الله وهما بنو حارثة وبنو سلمة على ما جاء في حديث رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: «فينا نزلت إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما. قال نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما يسرني أنها لم تنزل بقول الله والله وليهما» «1» .
ومما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد. وقال لا يقاتلن أحد منكم حتى نأمره بالقتال.
وباستثناء حديث جابر ليس شيء مما روي وأوردنا خلاصته واردا في الصحاح مع التنبيه على أن هناك أحاديث في الصحاح في صدد مشاهد أخرى من مشاهد يوم أحد على ما سوف نورده بعد. ومع التنبيه على أن بعض الروايات تتسق مع بعض الآيات وبعضها لا تتسق. فليس في الآيات ما يدل على أن المنافقين خرجوا ثم
(1) التاج، ج 4 ص 73.
الجزء السابع من التفسير الحديث 15
انسحبوا. وهناك آيات تأتي بعد تدل على أنهم لم يخرجوا مع الذين خرجوا لأن الخروج كان على خلاف رأيهم ثم احتجوا بأنه لن يقع قتال. كذلك فإنه ليس في الآيات ما يؤيد ما روي من جنوح النبي صلى الله عليه وسلم للرأي القائل بعدم الخروج أولا ثم جنوحه للرأي القائل بالخروج. ولا يؤيد ما روي من أن الكثرة كانت مع الرأي الأول. والذي نرجحه استلهاما من هذه الآيات والآيات التالية أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب الناس للقاء العدو خارج المدينة فاعترض بعض المخلصين والمنافقون واقترحوا البقاء في المدينة والقتال من وراء الجدران. فعارضهم أكثر المخلصين وحبذوا الخروج وأظهروا الاستعداد للجهاد والموت في سبيل الله وهذا مما ذكر في بعض الآيات. فكان هذا من مشجعات النبي على تنفيذ عزيمته بالخروج وعدم الأخذ برأي الذين اقترحوا البقاء والقتال من وراء الجدران وكان هذا مما أغاظ المنافقين فقعدوا ولم يخرجوا وكاد قعودهم يؤثر على بطني الخزرج المخلصين ولكن الله ثبتهما.
ولقد روى المفسرون ورواة السيرة فيما رووه أن الفتيان من أبناء المهاجرين والأنصار كانوا يتسابقون إلى الاشتراك في الحرب. وكانوا شديدي الحرص على ذلك وأنّ النبيّ كان يستعرضهم فيأخذ من يراه أهلا لبنيته أو قوته ممن بلغ الخامسة عشرة. وأن منهم من كان يرفع قامته أو يقف على أصابع قدميه ليبدو طويلا وأن منهم من قال للنبي حينما ردّه وأخذ رفيقا له إنه أقوى منه وقادر على صرعه فأذن لهما بالمصارعة أمامه فصرع رفيقه فأخذه. وذكروا من أسمائهم رافع بن خديج وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب، والمتصارعان كانا الأولين. وقد روى أصحاب الصحاح حديثا فيه شيء من ذلك عن ابن عمر قال:«إن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرضه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه» «1» .
وفي كل هذا صور مشرقة فيها العبرة والأسوة فأجبنا إيرادها.
(1) انظر التاج، ج 4 ص 374، روى الحديث الخمسة.
والمفسرون يروون في صدد ما جاء في مدد الملائكة المذكور في الآيتين [124- 125] أقوالا معزوة إلى بعض التابعين وتابعيهم «1» . منها أن الوعدين بالثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف كانا في يوم بدر. وأن الكلام تتمة للآية [123] التي ذكر فيها هذا اليوم. ومما يروون في صدد الوعد الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أحد رؤساء مشركي الأعراب واسمه كرز وعد قريشا بالمدد يوم بدر وأن ذلك شقّ على المسلمين فوعدهم النبي بمدد آخر من الملائكة إذا جاء هذا المدد. وقد تمت الهزيمة على قريش فلم يأت هذا المدد. ومن هذه الأقوال أن الوعد بالثلاثة الآلاف خاص ببدر والوعد بالخمسة الآلاف خاص بأحد. وقد تحقق الوعد الأول فأيّد الله المجاهدين بالملائكة. أما الوعد الثاني فلم يتحقق لأنه كان مشروطا بصبر المسلمين وتقواهم فلم يصبروا وتمّت عليهم الهزيمة.
وليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح. وفي سورة الأنفال التي نزلت في ظروف يوم بدر ومشاهده هذه الآية إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وهذا النص ينقض الروايات التي تذكر أن الواعدين أو أحدهما كانا يوم بدر على ما هو المتبادر من اختلاف العدد. وعبارة وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا في الآية [125] تنقض بدورها الرواية التي تذكر أن وعد الخمسة آلاف كان يوم أحد وكان مشروطا على صبرهم. لأن العبارة تفيد أن الوعد كان موقوفا على أن يأتيهم العدو ثانية، ولقد روي أن قريشا بعد أن انصرفوا من أحد توقفوا في الطريق وفكروا في الكرّة على المسلمين ثانية. وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب الناس إلى لقائهم فاستجابوا له على ما كان فيهم من جروح وحزن من الهزيمة. وكان النبي نفسه مجروحا وساروا حتى بلغوا حمراء الأسد فوجدوا قريشا قد انصرفوا. وقد أشير إلى ذلك في آيات تأتي هي وشرحها بعد.
والذي يتبادر لنا ويلهمه نظم السياق أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما ندب المسلمين إلى الخروج بشّرهم بمدد من الملائكة في ثلاثة آلاف. فحكت الآية [124] ذلك ثم
(1) انظر الطبري وابن كثير والخازن.
أعقبتها الآية [125] بشرى ربانية مباشرة فيها تأييد للبشرى النبوية مع زيادة بالعدد إذا كرّ عليهم العدو أو لقوه. وإذا صحّ هذا كما نرجو تكون الآيتان وما فيهما من بشرى الله ورسوله بالمدد عائد إلى يوم أحد والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسرون «1» أن الآية [128] نزلت لتنبيه النبي حينما قال وقد شجّ رأسه: «كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم» أو حينما كان يختص باللعن بعض قوّاد الحملة مثل أبي سفيان وصفوان بن أمية والحرث بن هشام. أو حينما دعا على مضر بسبب عداء قريش وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين الذين لم يستطيعوا الإفلات والهجرة أو حينما دعا على قبائل لحيان ورعل وذكوان وعصية بسبب عدوانهم على جماعة من المسلمين واغتيالهم إياهم غدرا. وباستثناء الرواية الأولى فإن شيئا من الروايات الأخرى لم يرد في الصحاح. والرواية الأولى جاءت في حديث رواه الشيخان والترمذي عن أنس قال: «إنّ رسول الله كسرت رباعيته يوم أحد وشجّ رأسه فجعل يسلت الدم عنه ويقول: كيف يفلح قوم شجّوا نبيّهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله فأنزل الله لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ الآية» «2» .
والحديث يقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها. والروايات الأخرى تقتضي أن تكون الآية نزلت لحدتها وفي غير مناسبة أحد. والذي يتبادر لنا أن فيها وفي الآية التي تلتها تعقيبا على الآية [127] وأن جملة لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أسلوبية أو استدراكية. وأنها انطوت على تنبيه من الله تعالى موجه إلى النبي بأنه وإن كان يبشّر المؤمنين بالمدد والنصر ليقطع طرفا من الكفار أو يكبتهم ويذلهم ويردهم خائبين فإنه يظل يحتفظ بالأمر لنفسه وأن الأمر أمره وحده فقد يتوب عليهم وقد يعذبهم. وإذا عذّبهم فإنه يعذّبهم لأنهم ظالمون مستحقون للعذاب.
ولا ننفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال ما جاء في الحديث. وخبر نزول الآية في هذه
(1) انظر الطبري وغيره، والطبري أكثرهم استيعابا للروايات التي رويت في صيغ مختلفة وعديدة.
(2)
انظر التاج ج 4 ص 374.