الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا الموقف من الآيات المحكمات والمتشابهات هو الجدير بذوي العقول الراجحة الذين يتعظون بالموعظة والتذكير ويقفون عند الحق الموقف الواجب.
تعليق على الآية هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ
…
إلخ والآيتين التاليتين لها ومداها في صدد التنزيل القرآني
لقد روى المفسرون روايتين في نزول الآيات جاء في واحدة منها أن جماعة من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الحروف المتقطعة في أوائل السور ومدة نبوته ومدة الحياة الدنيا بقصد تعجيزه وإفحامه، فنزلت الآيات لتدمغهم بالزيغ والمماحكة وقصد صرف الناس عن آيات القرآن المحكمة وإثارة شكوكهم وشبهاتهم. وجاء في واحدة أن وفد نصارى نجران بعد أن تناظروا مع النبي في أمر عيسى ودعاهم النبي إلى المباهلة امتنعوا وقالوا له ألست تقول إن عيسى من روح الله وكلمته قال بلى. فقالوا هذا حسبنا فنزلت الآيات لتندد بهم وتذكر أنهم احتجوا بالآيات المتشابهة وتركوا الآيات المحكمة التي تنزّه الله عن الولد وتقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه دعا إلى عبادة الله وحده وأن ولادته كانت بمعجزة ربانية وحسب.
والروايتان لم تردا في الصحاح. غير أن اتفاق الرواة على أن صدر سورة آل عمران نزل في مناسبة قدوم وفد نصارى نجران ومناظرته مع النبي تجعل الرجحان للرواية الثانية.
والروايات تدور حول نزول الآية الأولى أي السابعة مع أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها جملة واحدة نزلت معا في ما يتبادر لنا. والمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت تنزيل الآيات الثلاث معا لإتمام التقرير للموقف الذي يجب أن يقفه الراسخون في العلم وذوو العقول الراجحة من الآيات المحكمة والمتشابهة.
ودوران الرواية حول الأولى لا يمنع أن تكون الآيات الثلاث نزلت معا كما هو المتبادر.
والآيات وإن كانت نزلت في مناسبة حادث وقع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن أسلوبها المطلق يجعلها عامة المدى والتطبيق كشأن أمثالها.
ومدى الآيات خطير جدا لاتصاله بالقرآن وفهمه وهذا مما يسوغ التوسع في شرحها.
وفيما يلي شرح لمداها وما روي وقيل في سياقها وتعليق عليه:
1-
في صدد معنى مُحْكَماتٌ تعددت التأويلات المروية عن أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم «1» منها أنها كل ما يعول عليه في القرآن من أحكام ويعمل به من حلال وحرام. أو كل ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى بيان. أو الآيات الواضحة التي لا تحتمل تأويلات عديدة. أو الأوامر والنواهي القرآنية. أو الآيات الناسخة المثبتة للأحكام. أو الأحكام التي لم يطرأ عليها نسخ. أو أركان الإسلام وعماد الدين والفرائض والحدود وسائر ما بالخلق حاجة إليه وما كلفوا به بعاجلهم وآجلهم. ولم نطلع على حديث نبوي أو صحابي وثيق السند. والكلمة تتحمل كل هذه المعاني أو جلّها. ويمكن مع ذلك أن يقال استلهاما من روح الآية من جملة هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أنها تعني الآيات التي لا تتحمل تأويلات عديدة ولا اشتباها والتي فيها إلى ذلك مبادئ وأحكام ووصايا واضحة غير منسوخة في الشؤون الدينية والدنيوية. وفي سورة محمد آية قد تساعد على فهم مدى الكلمة أو صورة من صورها وهي: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) والصورة في الآية هي أمر رباني قطعي وصريح بالقتال والله أعلم.
(1) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي إلخ.
2-
في صدد مدى مُتَشابِهاتٌ قيل «1» إنها ما سوى الأحكام والحلال والحرام. أو ما استأثر الله تعالى بعلمه الحقيقي أو أشراط الساعة. أو القصص والأمثال. أو المجازات والتشبيهات. أو ما يحتمل وجوها عديدة للتأويل. أو المتشابهة في الصفة المختلفة في النوع. ولم نطلع كذلك على أثر نبوي أو صحابي وثيق السند في ذلك. والذي نستلهمه من روح الآية أنها الآيات التي تتحمل وجوها عديدة للتأويل أو التي يتشابه فهمها وتأويلها على الأذهان بسبب تنوعها وتنوع سبكها ومقامها وألفاظها والله تعالى أعلم.
وننبّه بهذه المناسبة إلى أنه ورد في الآية [23] من سورة (الزمر) تعبير (المتشابه) في هذه الصيغة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) غير أن التعبير في هذه الآية ليس هو في مقام ومدلول تعبير المتشابهات في آية آل عمران التي نحن في صددها كما هو ظاهر. وهذه ميزة من ميزات البلاغة القرآنية واللغة الفصحى التي نزل بها القرآن حيث يتغير مدلول الكلمة أحيانا بتغير الصيغة التي وردت فيها. ولقد شرحنا مدى الكلمة في تفسير سورة الزمر فنكتفي بهذا التنبيه.
3-
والآية الأولى على كل حال تقرر بصراحة أن القرآن يحتوي نوعين من الآيات واحدا محكما وآخر متشابها. والأول هو أمّ الكتاب وعماده. وأهل التأويل متفقون إجمالا على أن المحكمات هي ما فيها أحكام ومبادئ دينية ودنيوية محكمة. فيكون ما عدا ذلك هو من النوع الثاني الذي يتبادر لنا والله أعلم أن الآيات التي فيها تشبيه وتمثيل وترغيب وترهيب ووعظ وتذكير وتنبيه وتنويه وتأنيب وحجاج ثم الآيات التي فيها صفات الله عز وجل وروحه وأعضاؤه وحركاته وكلامه والملائكة والجن وإبليس والشياطين والمعجزات وخلق الأكوان ومشاهدها ونواميسها ومشاهد الحياة الأخروية. فالآيات التي فيها ذلك مختلفة في أساليبها
(1) انظر كتب التفسير السابقة.
وألفاظها وصورها ويمكن أن تتحمل وجوها عديدة أو أن يتشابه فهمها على الأذهان. أو يعجز العقل البشري بعامة أو عقول بعض الناس عن إدراك مداها وماهيتها. أو يبدو للمشرّع غير المتمعن وغير الراسخ في العلم أن فيها تغايرا أو تباينا أو تناقضا.
والمتمعن في هذا النوع من الآيات يجد أنها تهدف إلى تدعيم ما احتواه القرآن من المبادئ والتلقينات والعقائد والأحكام والتشريعات والتعاليم والوصايا أو بكلمة أخرى إلى تدعيم المحكمات القرآنية. وبذلك يظهر له حكمة التنزيل في جعل آيات القرآن نوعين نوعا محكما وآخر داعما. أو نوعا أسسا ونوعا وسائل كما ذكرنا ذلك في كتابنا (القرآن المجيد) .
ويبدو أن حكمة التنزيل قد شاءت أن تأتي آيات النوع الثاني بالأساليب المتنوعة التي وصفت بالمتشابهات التي ذكرنا ما قيل في مدى مفهومها لتحقيق ما أرادته هذه الحكمة من تدعيم للمحكمات. ولقد لحظنا ذلك ونبهنا على ما استشففناه من حكمته ومقاصده في المناسبات الكثيرة التي وردت فيها فصول وآيات النوع الثاني وأساليبها المتنوعة في اختلاف مقاماتها في السورة التي سبق تفسيرها. وإنه ليصح أن يقال على ضوء ما تقدم أن الآية (الأولى) أي السابعة هي مفتاح القرآن الذي يجب على الناظرين فيه مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يتقيدوا به والذي لا يجوز ولا يصح الخروج عنه. لأنه المفتاح الذي جعله الله فاتحا لفهم آيات القرآن.
4-
والرواية التي رويت في سبب نزول الآية والتي تذكر أنها نزلت في مناسبة قول وفد نجران للنبي «ألست تقول إن عيسى كلمة الله وروح منه. قال بلى، قالوا هذا حسبنا» . تساعد على القول بالإضافة إلى ما ذكرناه في الفقرة السابقة إن على الناظرين في القرآن أن يرجعوا إلى المحكمات لفهم ما يتشابه عليهم من المحكمات ألفاظا أو حكمة. فوفد نجران أخذ بآيات متشابهة أريد بها التمثيل والتقريب لتقرير كون ولادة عيسى تمّت بمعجزة ربانية وحسب وتركوا المحكمات
في صدد عيسى، في حين أن في هذه المحكمات القول الفصل في ذلك من حيث أنها تقرر أن عيسى عبد الله ورسوله وأنه بشر ولد كبشر وعاش ومات كبشر وإن مثله كمثل آدم قال الله كن فكان وإن الله جلّ وتنزّه أن يتجزأ وأن يسري منه روح إلى بشر بالمعنى التام للكلمة لأن روحه هي ذاته أبدية سرمدية فنزلت الآية تندد بهم وتدمغهم بالزيغ لأنهم تمسكوا بالمتشابهات وتركوا المحكمات التي هي أمّ الكتاب. وهناك حديث رواه الشيخان عن عائشة فيه تدعيم آخر. فقد سئلت عما إذا كان النبي رأى ربّه اشتباها ببعض آيات القرآن التي توهم ذلك فقالت «من زعم أنّ محمدا رأى ربّه فقد أعظم الفرية والله يقول لا تدركه الأبصار» «1» . حيث جعلت في هذه الجملة القرآنية التي وردت في الآية [103] من سورة الأنعام القول الفصل في موضوع رؤية النبي لله تعالى.
وهناك آيات كثيرة جدا من نوع المتشابهات تثير بعض الإشكال ولكن ذلك يزول إذا ما جعلت المحكمات مرجعا فاعلا لها. وقد نبهنا على كثير من ذلك في ما سبق تفسيره من السور. فنكتفي بهذا التنبيه ونقول إن الغفلة عن هذا من أسباب كثير من الخلافيات الكلامية في الإسلام ومن أسباب كثير من التوهمات غير الإسلامية في صدد محتويات القرآن ومبادئ الإسلام وتلقيناته وأهدافه.
5-
والآية الأولى تقرر أن المحكمات هنّ أمّ الكتاب كما تقرر أن الله وحده يعلم التأويل الصحيح للمتشابهات. وإن الذين يتبعون المتشابهات هم الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة بتأويلها تأويلا تعسفيا. وهذا يوجب على من لا يريد أن يدمغ بذلك من الناظرين في القرآن أن يصرفوا اهتمامهم الأعظم للمحكمات وتدبّرها وفهمها والالتزام بها لأنها هي القرآن التي فيها تقرير الرسالة المحمدية ومبادئها وعقائدها وأحكامها وأسسها ووصاياها وتلقيناتها. وأن يقف من المتشابهات عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه منها بالأساليب التي أوحيت بها لتحقيق المقاصد التدعيمية للمحكمات دون مماراة ولا تيهان في التأويل التعسفي
(1) انظر التاج، ج 4 ص 100.
ولا توسع وتزيد مع استشفاف الحكمة والمقاصد الربانية فيها حسب مقاماتها. وما استطاع أن يفهمه بعقله لفظا ودلالة وحكمة ومقصدا وموعظة وتدعيما فهمه. وعليه أن يسأل من هو أعلم منه عما لا يستطيع أن يفهمه بعقله. وما عجز عنه هو ومن هو أعلم منه عن فهمه فيجب أن يقولوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ويكلون تأويله إلى الله تعالى.
6-
ولقد أثرت أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الكتب المعتبرة فيها تدعيم لما جاء في الفقرة السابقة. فقد روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عائشة قالت «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية ثم قال فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين عناهم الله فاحذروهم» «1» . وروى مسلم حديثا جاء فيه: «سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين اختلفا في آية وفرق في وجهه الغضب وقال إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب» «2» . وقد أورد ابن كثير في سياق تفسير الآية حديثا أخرجه ابن مردويه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به» .
وهناك أحاديث عديدة أخرى من باب هذه الأحاديث فيها بعض زيادات لا تخرج في جوهرها عما في هذه الأحاديث أخرجها أئمة حديث آخرون وأوردها المفسرون في سياق الآية ومن ذلك أحاديث تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله بما علمته الآيتان [8 و 9]«3» .
ولقد روى الطبري عن قتادة وغيره أن المقصود بجملة الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم الحرورية والخوارج والسبئية والقدرية. والمتبادر أن هذا القول هو من قبيل التطبيق الاجتهادي ومن وحي الأحداث والفتن الإسلامية التي حدثت في صدر الإسلام. ولقد قال الطبري بعد أن أورد هذا القول إن المعني بها كل مبتدع بدعة
(1) التاج، ج 4 ص 64.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
انظر ابن كثير والطبري.
في دين الله فمال قلبه إليها تأويلا منه لبعض متشابه آي القرآن ثم حاجّ به وجادل أهل الحق. وعدل عن الواضح من أدلة الآيات المحكمة إرادة منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين وطلبا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك كائنا من كان وأي أصناف البدعة كان، من أهل النصرانية واليهودية والمجوسية أو كان سبئيا أو حروريا أو قدريا أو جهميا. وفي هذا السداد والصواب المتساوقان مع إطلاق العبارة القرآنية «1» .
7-
ومن المؤسف أن كثيرا من المسلمين لم يتقيدوا بالتلقين الجليل الذي احتوته الآية والأحاديث وانصرف همهم الأكبر إلى الانشغال والجدل فيما يدخل في نطاق المتشابهات أكثر بكثير مما انصرف إلى المحكمات. والناظر في كتب التفسير المطولة يجد الشيء الكثير الذي يعكس ذلك الاهتمام ويجد الأقوال والروايات المعزوة إلى مسلمة اليهود وعلماء الأخبار والتي فيها كثير من الخيال والمبالغة والتناقض والكذب حول المتشابهات المذكورة هي التي تشغل الجزء الأوسع من هذه الكتب برغم ما فيها وما تؤدي إليه من تشويش وتغطية على المحكمات ورغم ما فيها من إشغال ذهن واستنفاد جهد على غير طائل ورغم تحذير كتاب الله ورسوله، وأدى ذلك إلى استمرار ذلك الانصراف والانشغال إلى اليوم حتى لا يكاد المتسائلون يتساءلون عن غيرها.
ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ. فهناك من حاول أن يستخرج من القرآن نظريات فنية ورياضية ووقائع تاريخية، مع أن كل ما جاء في القرآن من ذلك جاء بقصد التدعيم للمحكمات وبالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لذلك بدون قصد لتلك النظريات والوقائع. حتى لكأن القرآن أصبح كتاب تاريخ وفن وهندسة
(1) السبئية نسبة إلى عبد الله بن سبأ اليهودي الذي ينسب إليه بدعة القول بوصاية علي بعد النبي ثم برجعته ثم بألوهيته. والحرورية هي تسمية أخرى للخوارج لأن الخوارج خرجوا أول خروجهم في مكان اسمه حروراء والقدري هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان خالق أفعال نفسه. والجهمي هو المنسوب إلى الفرقة التي تقول إن الإنسان مجبور على عمله.
وفلك. وهناك من حاول استخراج الغيب والأسرار من بعض الآيات والحروف وهناك من زعم أن للقرآن ظاهرا وباطنا وجرى في متاهات وتخيلات عجيبة من المعاني والاستنباطات واللعب بالألفاظ والشطح إلى ما يكاد يكون هذيانا بسبيل إظهار هذا الباطن. ومنهم من فعل هذا بتأثير من النزعة الصوفية المغالية. ومنهم من فعله لتأييد الأهواء المتنوعة وبخاصة الشيعية. وهناك من كذب على الله ورسوله وأصحابه بسبيل ذلك كله مما أوردنا بعض أمثله منه في ما سبق تفسيره من السور.
8-
هناك اختلاف في مدى (الواو) التي سبقت كلمة وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ حيث قال بعضهم إنها عطفت وإن التعبير يفيد أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله أيضا وقدروا العبارة هكذا (والراسخون في العلم الذين يقولون آمنا به كل من عند ربنا يعلمون تأويله) . وحيث قال بعضهم إنها إنشائية وإن الجملة مستقلة عن سابقتها وتفيد أن الراسخين لا يتمحلون في التأويل ويكتفون بإيكال ما اشتبه عليهم فهم كنهه وتأويله إلى الله ويقولون آمنا به كل من عند ربنا ويدعون ربهم بأن لا يزيغ قلوبهم بعد أن هداهم. ومما دلّل عليه الذين يقولون القول الأول إنه لا يصح أن يكون في كتاب الله ما لا يعرف تأويله وما لا يفهمه أحد. والله طلب من الناس أن يتدبروا آيات القرآن وأنزلها وهو يعلم أنهم يفهمون ويعقلون ويعلمون كما جاء ذلك في آيات عديدة وهذا الكلام وجيه بدون ريب. وقد يزيد في وجاهة ذلك أن القول الثاني يؤدي إلى القول إن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا لا يعلم تأويله مما قد يكون غير مستساغ.
ومع ذلك فنحن نرجح كون الواو إنشائية وليست عطفية. وأن كلمة تَأْوِيلِهِ في الآية أريد بها والله أعلم ما في المتشابهات من ماهيات وأسرار استأثر الله تعالى بعلمه وأن في القرآن حقا ما لا يفهمه أحد غير الله سرّه وماهيته وكنهه مثل سرّ الله وسرّ الوجود وسرّ الخلق وسرّ النبوة وسرّ الوحي وسرّ الملائكة والجن وإبليس والشياطين إلخ
…
وماهيات ذلك. وحينئذ تكون وجاهة قول
القائلين إنه لا يصح أن يكون في القرآن ما لا يفهمه أحد هي في صدد ما في ذلك من حكم وحقائق إيمانية وهذا حق. ولا نرى هذا التقرير متناقضا مع قولنا الآنف لأن ذلك مقرر في آيات قرآنية عديدة. ولسنا نرى من الضروري لأجله أن تكون (الواو) عطفية.
ومعلوم أن الصدر الإسلامي الأول درج على عدم الخوض في كيفيات وماهيات ما ورد في القرآن من صفات الله وأعضائه وحركاته ومشاهد كونه وسائر ما في المتشابهات من أمور لا تعرف حقائقها والاكتفاء بالقول آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا والمتبادر أن هذا الذي يراه كثير من الأئمة في مختلف الحقب الإسلامية هو الأولى والأسلم هو نتيجة لما في الآية ثم في الأحاديث من تلقين.
ولقد روى بعض المفسرين عن ابن عباس قوله: «أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله» . ونحن نشكّ في صدور هذا القول عن ابن عباس إذا كان أريد به علم تأويل كل ما في القرآن من أسرار ومتشابهات علما لا يقتصر على الحكمة ويشمل السرّ والكنه والماهية. ولقد روى عن ابن كثير الذي روى عنه القول الأول قولا آخر جاء فيه «التفسير على أربعة أنحاء تفسير لا يعذر أحد على فهمه. وتفسير تعرفه العرب من لغاتها. وتفسير يعلمه الراسخون في العلم. وتفسير لا يعلمه إلّا الله» . وعقب ابن كثير على هذا بقوله: إن هذا القول يروى عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم. ولا يخلو هذا القول من سداد فيه توفيق بين القولين. والله تعالى أعلم.
ولقد روى المفسر الشيعي الطبرسي عن أبي جعفر أحد الأئمة قوله: «إن الأئمة والأوصياء من آل رسول الله يعلمون تأويله» . وروى المفسر الشيعي العلوي عن الصادق من الأئمة قوله: «نحن الراسخون في العلم نحن نعلم تأويله» . ونحن نقف من هذا موقف التحفظ كما فعلنا في قول ابن عباس. ونرجح أن هذا من نوع الأقوال التي يسوقها مفسرو الشيعة في كل مناسبة. والله تعالى أعلم.