الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا هم من المؤمنين المخلصين وقد وجّه الكلام في هذه الآيات إليهم على سبيل التأنيب والعظة ومعالجة الحالة الروحية التي ألمّت بهم نتيجة لآلام الوقعة ووسوسة المنافقين.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فهي كسابقاتها مستمرة التلقين لكل مسلم في كل ظرف بوجوب عدم التشبه بالكفار والمنافقين والاندماج في دسائسهم والاستماع إلى وساوسهم المؤدية إلى الانحراف عن الإخلاص لله تعالى والجهاد والتضحية في سبيله. ومن شأنها أن تمدّ المؤمن المخلص بالصبر والرضا والتسليم لحكمة الله والجرأة والإقدام وإيثار ما عند الله على حطام الدنيا ومتاعها.
[سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
. (1) فبما رحمة: الجمهور على أن (ما) هنا زائدة وأن الجملة بمعنى فبرحمة من الله.
تعليق على الآية فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ
…
إلخ وأمر الشورى في الإسلام
الآية متصلة بالسياق ومعقبة على ما جاء في الآيات السابقة كما هو المتبادر.
وعبارتها واضحة. وفيها وصف لموقف النبي صلى الله عليه وسلم مما بدا من بعض المخلصين من أقوال وتذمر ومرارة وحسرة. فقد وسعهم بحلمه الذي جبله الله عليه فكظم غيظه وعاملهم باللين والرقة. وقد احتوت تنويها بهذا الموقف الكريم وإقرارا له وبيانا لما كان يمكن أن ينتج في مثل هذا الظرف الذي ثارت فيه النفوس وغلت الأفكار
وهاجت وغلبت عاطفة الحسرة والندم والتذمر لو كان فظا غليظ القلب حيث كان من الممكن أن ينفضوا من حوله. وأمرا بما هو أكثر من ذلك وهو العفو عنهم واستغفار الله لهم ومشاورتهم في الأمر.
وتتجلّى في الفقرة الأولى صورة رائعة للخلق النبوي الكريم من لين وعدم فظاظة وقسوة قلب مما كان متحليا به من قبل وكان من دون ريب من أسباب اصطفاء الله له للرسالة العظمى واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سورة الأنعام [124] والذي انطوى في التقرير التنويهي في جملة وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم [4] مما علّقنا عليه في سياق تفسير السورتين تعليقا يغني عن التكرار.
وينطوي في الآية علاج قوي محبب وشاف لثورة النفوس وهياج الأفكار وغلبة العواطف مما كان من آثار يوم أحد. ومما لا شك فيه أن هذا العلاج قد آتى نفعه فهدّأ النفوس والأفكار وطمأنها بالنسبة للموقف الحاضر والمواقف المستقبلة معا.
والآية كما قلنا قبل تنطوي على دلالة على أن المتذمرين الذين قالوا هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ولَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على ما حكته الآية [154] كانوا من المخلصين وليسوا من المنافقين كما هو واضح من روحها ومضمونها وتلقينها.
ومع خصوصية الآية الموضوعية والزمنية فإن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى. فالذي يختار لرئاسة المسلمين وكل زعيم وحاكم فيهم يجب أن يكونوا متصفين باللين والرقة. بعيدين عن الجفاء والغلظة والقسوة. مدركين لمقتضيات المواقف. واسعي الصدر والحلم إزاء استفزاز المستفزين عن جهل أو خبث طوية ولا سيما في الظروف الحرجة والأزمات العصيبة. وعليهم فوق ذلك أن لا يستبدوا بالرأي والعزائم بل يشاوروا أهل العلم والرأي والمكانة والخبرة والعقول الراجحة قبل أن يضطلعوا بمسؤولية السير فيما يعتزمون أن يسيروا فيه. وأن لا يسيروا إلّا بعد نضوج الرأي وتبين أصحّ الوجوه وأصلحها وأكثرها اتساقا مع الظروف القائمة
ومصلحة المسلمين العامة. وكل مخالفة أو إهمال لأي من ذلك هو مخالفة وإهمال للتلقين الذي انطوى في الآية.
وروح الآيات ومضمونها يحددان أولا واجب كل من الرئيس أو الزعيم أو الحاكم أو المستشار. فللمستشار أن يبدي رأيه، وللرئيس والزعيم والحاكم أن يضطلعوا بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ.
ويوجبان ثانيا على الرئيس والزعيم والحاكم الاستشارة في كل أمر وعزيمة.
ويوجبان ثالثا التوسع في الاستشارة بحيث لا يهمل أي فريق من الجماعات التي يتألف منها المجتمع الإسلامي. ويلهمان رابعا إقرار حقّ الاعتراض لأصحاب الشأن والرأي والعلم إذا ما رأوا ما يوجب ذلك من خطط وعزائم. ويوجبان خامسا على أولياء الأمور توسيع صدورهم لذلك والنظر فيه بتروّ بقصد تبيّن الحق والمصلحة.
وفي كل هذا قواعد صريحة ورائعة للحكم في الإسلام كما هو واضح.
وجملة فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ تفيد أن الحكم في الإسلام يشبه ما يسمى اليوم بالنظام الرأسي الذي يكون فيه رئيس الدولة صاحب السلطة التنفيذية الذي يجب عليه أن يستشير أصحاب الشأن والعلم من مختلف الفئات ثم يضطلع بمسؤولية اختيار أصحّ الآراء وأفضلها وبمسؤولية المبادرة والتنفيذ. ولقد تركت الآية أسلوب المشاورة بدون تعيين وتحديد. ويتبادر لنا من حكمة ذلك والله أعلم أن كون هذا الأمر مما لا يمكن تحديده لأن ظروف الاجتماع عرضة للتطور والتبديل فينبغي تركه للظروف والأحوال. وهذا هو أسلوب القرآن الذي جعل للشريعة الإسلامية صلاحية الخلود والإلهام في كل زمن ومكان.
ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن القرآن المكي قد نوّه بالشورى وجعلها من خصائص المسلمين الصالحين كما جاء في آية سورة الشورى هذه: وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) فلما صار للإسلام سلطان نافذ في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أكّد القرآن هذا المبدأ بأسلوب الإيجاب
والتنفيذ حين اقتضت حكمة التنزيل والمناسبة.
ولعل من الحق أن يقال إن تشريع إيجاب استشارة أهل الرأي والمكانة والعلم من مختلف الجماعات على الرؤساء والزعماء والحكام بالأسلوب الذي جاء به في القرآن من خصائص ما انفردت به الشريعة الإسلامية ومن جملة مرشحاتها للخلود والعموم.
ولقد قال المفسرون «1» عزوا إلى بعض التابعين وتابعي تابعين أن المشاورة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها هي فيما ليس فيه نصوص قرآنية ووحي رباني وفيما ليس له علاقة بالمبادىء الدينية والشرعية الأساسية. وهذا قول وجيه واجب التسليم به من دون ريب. وإذا صح هذا في حقّ النبي فإنه يكون من باب أولى بالنسبة لمن يخلفه في رئاسة المسلمين. وهذا متسق مع القاعدة العامة التي تقول (لا اجتهاد مع النصّ) . غير أنه يلاحظ أن كثيرا مما ورد في القرآن من تعاليم ومبادئ في شؤون السياسة والحكم والجهاد والمال والقضاء والاجتماع قد ورد على الأكثر كخطوط وأسس عامة. وقلّما جاء محدود الأشكال والجزئيات. وقد ترك أسلوب تنظيمها وتنفيذها على ما هو المتبادر إلى ظروف المسلمين وأحوالهم مما بينّا حكمته أكثر من مرة. فمن المعقول أن تكون هذه محلّا للتشاور والاجتهاد ضمن الخطوط والحدود الأساسية القرآنية. ونضيف إلى هذا أن ما ورد في تحديده وتنظيمه سنّة نبوية ثابتة وصريحة هو واجب الاتباع وليس محلّا للاجتهاد. وقد أمر الله المسلمين بأن يأخذوا ما آتاهم الرسول وينتهوا عمّا نهاهم في آية سورة الحشر [7] . كما أمرهم بإطاعة الرسول مثل إطاعتهم لله وردّ الأمر إليه وإلى سنّته بعد الله وقرآنه في آيات عديدة مثل: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ النساء [59] .
ولقد روى ابن كثير عن ابن عباس أن المقصود في جملة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أبو بكر وعمر. وهذا غريب مناقض لروح الآية وفحواها وسياقها وظروف
(1) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن.
نزولها على ما شرحناه قبل، بل إن ذلك ينطوي على مشاورة الذين تذمروا وقالوا ما لا ينبغي أن يقال نتيجة لهيجان أفكارهم ومرارتهم وحسرتهم، وهذا يعني أن المشاورة يجب أن تكون مع ذوي الرأي والشأن والعلم والخبرة من مختلف طبقات الناس كما قلنا قبل.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا أخرجه ابن مردوديه عن علي بن أبي طالب قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم فقال مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم» .
ولم يرد هذا الحديث في الصحاح. فإن صحّ ولا مانع من صحته فيكون الاتّباع لما يكون عليه رأي أكثرهم واختيار الأصلح من الآراء والأخذ به. وجواب رسول الله يفيد أن الأخذ بالرأي الذي يتفق عليه أكثر المستشارين أمر واجب. ويتبادر لنا أن هذا منطو في صيغة الآية والله تعالى أعلم.
ولقد أورد المفسر المذكور حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنيم قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر لو اجتمعتما في مشورة لما خالفتكما» . والحديث لم يرد في الصحاح فإذا صحّ ولا مانع من صحته فيكون فيه تلقين بوجوب الأخذ بآراء المخلصين الموثوقين من ذوي العقل والرأي. وهناك أحاديث وردت في الصحاح يمكن أن تؤيد معنى الحديث. منها حديث رواه الترمذي عن عبد الله بن حنطب قال: «إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى أبا بكر وعمر فقال هذان السمع والبصر» «1» . وحديث رواه الترمذي أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السماء ووزيران من أهل الأرض. فأما وزيراي من أهل السماء فهما جبريل وميكائيل وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» «2» .
ولقد روى البغوي بسنده عن عائشة أنها قالت: «ما رأيت رجلا أكثر استشارة للرجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم» وفي هذا الحديث إن صحّ ولا مانع من صحته سير
(1) التاج، ج 3 ص 316- 317.
(2)
المصدر نفسه.
رسول الله في الخطة التي أمر الله رسوله بها. ولقد كان رسول الله يستشير أصحابه في كل أمر هام وفي كل موقف عام مما كثرت أمثلته في كتب التفسير في مناسبات عديدة ومما كثرت أمثلته في روايات السيرة وأوردناه في مناسبات سابقة. ومن واجب المسلمين أن يكون لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة.
ولقد قال بعض المفسرين ورووا عن بعض أهل التأويل إن الله أمر رسوله بمشاورة المسلمين لتعليم المسلمين ورؤسائهم ليستنّوا بذلك وحسب لأنه لم يكن في حاجة إلى ذلك وهو يتلقى الوحي من الله أو ليعلم الناصح من الغاشّ منهم أو ليعلم مدى عقولهم وأفهامهم أو لتطييب قلوبهم ورفع شأنهم وجمعهم.
وما دام أن النص القرآني مطلق وصريح بأمر الله لرسوله بمشاورة المسلمين، فالذي يتبادر لنا أن الأولى أخذه على مفهومه دون التزيد بتعليلات لا قرينة عليها من كتاب وحديث. وليس من تعارض بين هذا وبين كون النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى وحي الله. فكل ما فيه وحي رباني لا يحتاج بطبيعة الحال إلى مشاورة. ولكن هناك كما قلنا آنفا شؤونا كثيرة لا يكون فيها وحي رباني. وهذه هي التي أمر الله رسوله بمشاورة المسلمين فيها. وهناك مأثورات كثيرة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستشير المسلمين في شؤون متنوعة من شؤون الحرب وغير الحرب ويعمل بما يشيرون. فإذا كان ذلك خلاف الأولى نزل قرآن بالتنبيه أو العتاب. وإذا كان حائزا لرضاء الله وموافقته نزل قرآن بذلك أو بقي الأمر سكوتا عنه وماضيا. وقد أوردنا أمثلة من ذلك في مناسبات سابقة بحيث يكون ذلك القول على إطلاقه في غير محله.
وهناك بعض الأحاديث في أدب الاستشارة والمشيرين يصحّ أن تساق في هذا المساق. منها حديث أورده ابن كثير وهو من مرويات أصحاب السنن أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المستشار مؤتمن» «1» . وحديث أورده ابن
(1) التاج، ج 5 ص 67.
الجزء السابع من التفسير الحديث 17