الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
واستدراك مستأنف بأن كل أمر موضع محاسبة الله في أي موقف وحال دون ما استثناء فالذي يوفي بعهده ويتقي الله فإنه يستحق رضاءه لأن الله يحب المتقين. أما الذين يبيعون عهد الله وأيمانهم بالثمن البخس والمنفعة الخسيسة فهم غير مستحقين من الله إلّا الغضب والسخط وليس لهم في الآخرة أي نصيب من رضائه فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم فيها ولهم العذاب الأليم.
تعليق على الآية وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
…
إلخ والآيتين التاليتين لها
لقد تعددت الروايات التي يرويها المفسرون في مناسبة هذه الآيات. من ذلك رواية يرويها البخاري والترمذي أيضا عن الأشعث بن قيس قال: «إن آية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ إلخ
…
نزلت فيّ. كانت لي بئر في أرض ابن عمّ لي.
فأنكرها عليّ فقال النبي بيّنتك أو يمينه فقلت إذن يحلف يا رسول الله فقال النبي من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم وهو منها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان. وأنزل الله الآية» «1» . ومن ذلك رواية يرويها البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «إن رجلا أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطي فيها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت الآية إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
…
إلخ» «2» . ومن ذلك روايات لم ترد في الصحاح منها أن الآيات نزلت في عبد الله بن سلام الذي ائتمنه رجل على ألف ومائتي أوقية ذهبا فأداها وفي فنحاص بن عذار الذي ائتمنه رجل على دينار فخانه فيه.
ومن ذلك أنه كان لجماعة من العرب ذمم على اليهود فلما أسلم العرب أنكر
(1) التاج، ج 4 ص 70.
(2)
المصدر نفسه.
اليهود ما لهم من ذمم قبلهم وحلفوا على ذلك كذبا فأنزل الله الآيات. ومن ذلك رواية تذكر أنه كان لمسلم حقّ على يهودي فأنكره فكلف النبي المسلم بالبينة فلم يستطع فكلف اليهودي باليمين فقال المسلم يحلف ويذهب مالي فأنزل الله الآية الثالثة. ومن ذلك أن هذه الآية نزلت في بعض أحبار اليهود الذين استشهدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما عندهم من دلائل نبوّته فأنكروا وحلفوا أنه ليس عندهم من ذلك شيء.
ويلحظ أولا أن الحديثين يذكران أن الآية الثالثة نزلت في مناسبتين مختلفتين. وثانيا أن عبد الله بن سلام كان قد أسلم واندمج في الإسلام ولم يعد متصفا بصفة كونه من أهل الكتاب. وثالثا أن الحديثين مع الروايات تقتضي أن تكون الآية الثالثة نزلت منفصلة عن الآيتين الأوليين في حين أن المتبادر الذي تلهمه روح الآيات الثلاث ونظنها أنها وحدة تامة وأنها متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها. فالآيات السابقة التي ذكرت تواصي اليهود على خداع المسلمين وتضليلهم وعدم اطلاعهم على ما عندهم واحتوت أحد شعاراتهم بعدم الائتمان لغيرهم فجاءت هذه الآيات تذكر شعارا أو صفة أخرى من شعاراتهم وصفاتهم متصلة بالصفات والشعارات المذكورة في الآيات السابقة، وهي جحود الحق والأمانات وحلفهم بالله باطلا في سبيل أعراض الدنيا واستحلالهم أموال الغير واستهانتهم بما يكون للغير قبلهم من حقوق وأمانات وعدم التزامهم بها.
وهذا البيان لا يمنع أن يكون وقع بعض وقائع جحد فيها بعض اليهود أمانات وذمما عندهم للمسلمين وحلفوا كذبا فكان ذلك مناسبة ملائمة للتذكير بأخلاقهم وتكرار الحملة عليهم والتنديد بهم في سياق موقفهم من النبي والمسلمين وحكاية تآمرهم على تشكيك المسلمين وتضليلهم وكتم ما عندهم من دلائل على صدق نبوّة النبي وصحة الوحي القرآني. وقد تكون الرواية التي ذكرت حلف بعض أحبار اليهود على عدم وجود شيء من الدلائل عندهم على صحة نبوة النبي والوحي القرآني صحيحة فكانت من المناسبات لنزول الآيات أيضا.
ويتبادر لنا في صدد الحديثين الصحيحين أن ما ذكر فيهما من أحداث قد وقعت بعد نزول الآيات وأن الآية الثالثة تليت للاستشهاد بها فالتبس الأمر على الرواة والله تعالى أعلم.
ولقد قال الخازن بلفظ (قيل) إن المقصود من الفئة الأولى هم النصارى ومن الفئة الثانية هم اليهود. وهو قول وجيه تطمئن به النفس وتكون الآيات بذلك قد احتوت وهي مستمرة على التنديد باليهود مقايسة بينهم وبين النصارى لتقوية التنديد. على أن هذا إذا لم يصح وكانت الفئتان من اليهود فإن أسلوب بقية الآية الأولى ومضمونها يلهمان أن الفئة الأولى هي الأقلية والأخرى هي الأكثرية من اليهود. ويظل التنديد بذلك قويا وشاملا لأكثرية اليهود كما هو المتبادر.
ولقد احتوت الآية تكذيبا لقول اليهود إنه لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي إن شريعتنا لا ترتب علينا أي ذنب ومسؤولية مهما فعلنا مع الأمم الأخرى بما في ذلك خيانتهم وأكل أموالهم، وتقريرا بأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولقد احتوت أسفارهم وصايا عديدة بالغريب الساكن بينهم وعدم ظلمه ومضايقته وهضم أمواله وحقوقه بل وفيها وصية بمساعدة أعدائهم ومعاونتهم في المواقف التي يكونون فيها في حاجة إلى ذلك «1» وبذلك استحكمتهم حجة القرآن ودمغهم بتكذيبهم في هذه المسألة.
ومع خصوصية الآيات فإن فيها تلقينات جليلة متسقة مع المبادئ القرآنية العامة ومستمرة المدى سواء أفي الحث على الأمانة والتنويه بالأمناء أم في التنديد
(1) انظر الإصحاحات (22 و 23) من سفر الخروج و (19) من سفر الأحبار و (10 و 24) من سفر تثنية الاشتراع. وهذا ما يجعلنا نعتقد أن ما جاء في بعض أسفارهم من نسبة تحريضهم على سكان أرض كنعان وإبادتهم أو استعبادهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم بدون سابق عداء إلى الله هو تحريف متأخر من اليهود لتبرير ما اقترفوه من جرائم وحشية عظمى تنزه الله عن أن يكون قد أمر بها. اقرأ كتابنا تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم وبخاصة فصل خروج بني إسرائيل من مصر وحلولهم في شرق الأردن وفلسطين ص 41- 81.
بالخائنين أم في تقريع الذين يبيعون عهد الله ويحلفون الأيمان الكاذبة في سبيل خسيس المنافع وأعراض الدنيا.
ولقد أورد المفسرون في سياق تفسير الآيات أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك: منها حديث أخرجه الإمام أحمد ورواه مسلم وأهل السنن جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة لا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم. فقال أبو ذرّ راوي الحديث: من هم خسروا وخابوا. قال: المسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب» «1» . ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا جاء فيه: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان» «2» . ومنها حديث جاء فيه: «ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: رجل حلف على سلعة لقد أعطى بها أكثر مما أعطى وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماله وفي رواية فضل مائه عن ابن السبيل» «3» . ومنها حديث جاء فيه: «لمّا قال اليهود ليس علينا في الأميين سبيل قال رسول الله كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلّا هو تحت قدمي إلّا الأمانة فإنّها مؤادة إلى البرّ والفاجر» «4» . حيث يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الشأن كما يتساوق مع كل الشؤون.
وننبه في هذه المناسبة على أن الحثّ على مراعاة الأمانات والتنويه بمن يفعل ذلك قد تكرر في القرآن والحديث. وكان موضوعا لتعليق لنا في سياق شرح الآيات الأولى من سورة (المؤمنون) .
(1) انظر تفسير ابن كثير والخازن. وقد فسروا كلمة المسبل بالذي يسبل إزاره بإفراط.
والحديث الأول رواه الخمسة إلّا البخاري عن أبي هريرة بهذا النص: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنّان الذي لا يفعل شيئا إلّا المنّ والمنفق سلعته بالحلف الكاذب. والمسبل إزاره) . والحديث الثاني رواه الخمسة بنصه. (انظر التاج ج 3 ص 68 و 69) .
(2)
المصدر نفسه.
(3)
انظر تفسير ابن كثير والخازن.
(4)
انظر تفسير الطبري والحديث من تخريج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير.