الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الليل والنهار من الآيات الدالة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه تدعو ذوي العقول الراجحة إلى التفكير والتدبّر. وفي الآيات الأربع التالية حكاية مناجاة رائعة تنطوي على التنويه على لسان الفئة الراجحة العقل الطاهرة القلب المسلمة النفس المخلصة في الإنابة إلى الله تعالى التي تذكر الله قياما وقعودا وعلى جنوبها وتتفكر في خلق السموات والأرض وتهتف إلى ربّها مقررة أنه لا يمكن أن يكون قد خلق هذا الكون العظيم باطلا وعبثا وبدون غاية وحكمة. وتلتمس منه أن يقيها عذاب النار الذي يكون الخزي نصيب من يدخله فيها وتقرر أنها قد سمعت المنادي الذي يدعو إلى الإيمان به فآمنت وأسلمت النفس إليه. وتطلب منه أن يغفر لها ذنوبها ويتجاوز عن سيئاتها ويجعلها من جملة الأبرار ويحشرها معهم ويمنحها ما وعدها إياه يوم القيامة الذي لن يكون فيه أنصار للظالمين. وتعلن يقينها بأن الله عز وجل لا يمكن أن يخلف وعده لمن آمن به وأسلم النفس إليه.
وفي الآية الأخيرة جواب رباني على هذه المناجاة متّسق معها في الروعة ومن شأنه بعث الطمأنينة والسكينة في نفوس أصحابها حيث أعلنهم به أن الله قد استجاب دعاءهم وأنه لن يضيع عملا صالحا عمله أحد منهم ذكرا كان أم أنثى فهم سواء في ذلك وبعضهم من بعض وأنه سوف يتجاوز عن سيئات الذين هاجروا من أنفسهم أو أجبروا على الخروج والذين أوذوا في سبيله وقاتلوا وقتلوا وأنه سوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار ثوابا وجزاء على إخلاصهم وتضحياتهم وهو الذي عنده حسن الجزاء لكل من يعمل صالحا.
تعليق على الآية إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) وما بعدها إلى الآية [195]
في كتب التفسير روايتان في صدد هذه الآيات. واحدة عن ابن عباس جاء
فيها «1» أن قريشا سألوا اليهود: بم جاءكم موسى؟ قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين. وسألوا النصارى: بم جاءكم عيسى؟ قالوا: كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي فقالوا له: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربّه فأنزل الله الآية الأولى ليتفكروا في خلق السموات والأرض. وثانية عن أم سلمة «2» أنها سألت رسول الله ما بال القرآن يذكر الرجال بالهجرة ولا يذكر النساء فنزلت الآية الأخيرة. والرواية الأولى لم ترد في الصحاح. وقد استغربها ابن كثير الذي رواها ونبّه على ذلك بقوله إن الآية مدنية. أما الرواية الثانية فهي محتملة وقد رواها الترمذي كما أشرنا آنفا مع التنبيه على أن المتبادر أن الآيات وحدة تامة منسجمة. فإذا صحت فيكون سؤال أم سلمة سابقا لنزولها فاقتضت حكمة التنزيل ذكر المؤمنين بجنسيهم في الجواب استجابة لتساؤل المؤمنات بلسان أم المؤمنين والله أعلم.
والمتبادر كذلك أن الآيات ليست منقطعة عن السياق السابق مهما بدت فصلا جديدا وبخاصة عن الآيات التي جاءت قبل موضوع اليهود، بل ولعلها متصلة بموقف اليهود والمشركين الذين ذكروا معا في آية سابقة ليكون فيها مقارنة بين هؤلاء وبين المؤمنين المخلصين.
والآيات من روائع الفصول القرآنية ومن أقواها تأثيرا في النفس وبعثا على الخشوع والهيبة وتوجيها إلى الله. وقد روي من طرق عديدة أن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يتلوها في جنح الليل والأسحار ويبكي خشوعا كلما تلاها «3» . وفي فصل التفسير في صحيح البخاري حديث عن ابن عباس في سياق هذه الآيات جاء فيه:
(1) انظر تفسير ابن كثير وهو يرويها عن الطبراني بسند متصل إلى ابن عباس.
(2)
انظر تفسير ابن كثير والطبري والخازن والطبرسي وانظر أيضا التاج ج 4 ص 79 حيث روى ذلك الترمذي في فصل التفسير. وهذا نصّ حديثه عن أم سلمة قالت: «قلت يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة وكانت أم سلمة أولى ظعينة هاجرت إلى المدينة فأنزل الله تعالى فاستجاب لهم أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.
(3)
انظر تفسير الخازن وابن كثير.
«بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فتلا الآيات ثم قام فتوضأ واستن وصلّى إحدى عشرة ركعة ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح» «1» . وروى ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه جاء فيه: «أنّ عبد الله بن عمر سأل عائشة أم المؤمنين عن أعجب ما رأته من النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبكت ثم قالت: كلّ أمره كان عجبا، أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي ولصق جلده بجلدي ثم قال يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي قلت إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك. فقام إلى قربة في البيت فما أكثر صبّ الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حقويه ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره. ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر فلما رآه يبكي قال يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا، وما لي لا أبكي وقد نزل عليّ الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) إلى آخر الآيات، ثم قال ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكّر فيها» . وروى ابن كثير عن أبي هريرة حديثا آخر جاء فيه: «إنّ رسول الله كان يقرأ هذه الآيات كلّ ليلة» .
والحديثان الأخيران لم يردا في الصحاح. ونتوقف إزاء ما جاء في الأول بخاصة من سيلان دموع النبي حتى تبلغ حقويه ثم حجره ثم الأرض. ومهما يكن من أمر ففي الأحاديث صورة لاستغراق النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة ربّه وشكره وبخاصة في الليل، وهو ما كان أمر به في أول رسالته على ما جاء في الآيات الأولى من سورة المزّمل.
ومع أن الآيات قد عنت الفئة المخلصة التي هاجرت وأوذيت وقاتلت في سبيل الله وتحملت التضحيات في عهد النبي فإن في أسلوبها معنى التعميم
(1) التاج ج 4 ص 79 ومعنى استنّ: نظف أسنانه بالسواك. [.....]
والشمول كما هو المتبادر، كما أن روحها ينطوي على معنى الدعوة إلى التأسي بتلك الفئة والتحقق بما كانت عليه وما اضطلعت به ولنيل الدرجة العليا التي نالتها.
ومهما تكن رواية أم سلمة في صدد الآية الأخيرة صحيحة فإن الأسلوب الذي جاءت عليه هذه الآيات جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على تسجيل كون تلك الفئة المخلصة المستغرقة في الله ونصر دينه والمتحملة للتضحيات من أصحاب رسول الله الأولين السابقين بالهجرة والإخراج والأذى والقتل والقتال مزيجة من الرجال والنساء معا وكون الجنسين متضامنين تضامنا وثيقا في ذلك كله. وكون الجنسين سواء في موضوع الخطاب والمناجاة والتنويه والعمل والثواب والتضحية والأذى والقتل والقتال والهجرة والإخراج وفي تقرير الأهلية لذلك كله. ولعل قرن المرأة بالرجل في هذا المقام وبهذا الأسلوب من أقوى مؤيدات مساواتهما في الشريعة الإسلامية في الحقوق والواجبات العامة ومن أقوى مؤيدات أهلية المرأة في نظر الشريعة لكل واجب عام.
ولقد قرن المؤمنات بالمؤمنين في آية من سورة البروج في معرض تسجيل ما تعرّض له المؤمنون من الجنسين من فتنة وأذى. ولقد قرنت الأنثى بالذكر في مواضع عديدة من القرآن المكي بأسلوب يفيد أنهما شيء واحد وأنهما متساويان في التكليف وما يترتب عليه من نتائج في الدنيا والآخرة. وفي السور المدنية التي تأتي بعد هذه السورة آيات كثيرة ذكر فيها الجنسان معا بأساليب قوية رائعة فيها توكيد للمعنى المنطوي في الآية التي نحن في صددها حيث يتساوق في ذلك القرآن المكي والمدني معا.
ولقد تحفظ بعض المفسرين والفقهاء في صدد مساواة المرأة بالرجل في الدين والعقل والمركز الدنيوي استنادا إلى بعض الآيات والآثار. ولقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سياق تفسير الآية [13] من سورة البقرة وقبلها