الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث إن التأويل الثاني يجعل المؤمنين الذين اتبعوا النبي (حسب) النبي بالإضافة إلى الله. والأدب والإيمان يقضيان بأن الله وحده هو حسب النبي والمؤمنين معا، وكلمة (حسبك) ليست في مقام أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) كما هو المتبادر والله تعالى أعلم.
التلقينات المنطوية في الآيات [55- 64]
والآيات كما قلنا احتوت خطة عامة للنبي صلى الله عليه وسلم تجاه أعداء الإسلام والمسلمين، وقد انطوى فيها تلقينات جليلة عامة مستمرة المدى كذلك وهذا هو المتبادر من ذلك:
1-
إن الذين لا يصدقون بالحق ويقفون منه موقف المكابرة والعناد ولا يتورعون عن نقض عهودهم مرة بعد مرة هم شرّ من الدواب.
2-
إن الحروب التي باشرها النبي والتي يصح أن يباشرها المسلمون بعده هي حروب دفاع وردع وإنذار وتذكير وعبرة للغير. وهدفها حمل الأعداء والبغاة على الارعواء وضمان أمن المسلمين وحرية الدعوة الإسلامية، وليست حروب عدوان وإبادة.
3-
إن الواجب يقضي بالتمسك بالعهود فلا يكون من المسلمين نقض بدءا في أي حال. وليس لهم إلّا المقابلة على العدوان بمثله. وعلى الخيانة بما يستحقه الخائن الغادر.
4-
إذا بدا من معاهد بوادر غدر أو خيانة صراحة أو سرا أو دسّا أو مظاهرة للأعداء فللمسلمين الحق حينئذ بنقض عهدهم معه والوقوف منه نفس موقفه. غير أن عليهم واجب إعلان بأنهم في حلّ من عهده ليكونوا وإياه في مركز متساو.
ويعلم كل منهما موقف الآخر وليس لهم أن يفاجئوه بالنقض والحرب دون إنذار وإعلان. ويمكن استدراك أمر وهو أن هذا يكون في حالة عدم اقتران غدر العدو
ونقضه بعمل عدواني مفاجىء أو في حالة عدم إحداق الخطر من العدو بالمسلمين من جراء ما تيقنوا منه من نية الخيانة. وفي الآية [58] ما يمكن أن يلمح تأييد لهذا الاستدراك والله أعلم.
5-
إن من واجب المسلمين الاستعداد بالقوة بكل ما يستطيعون من أسباب وأساليب. لأن هذا قد يكون وسيلة لإرهاب العدو وكبح جماحه وتفادي القتال فيحصل بذلك المقصود. وهو قمع عدوان العدو. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الأمر بالاستعداد والإنفاق عليه شامل لكل أنواع الاستعداد والوسائل التي من شأنها كفالة الغاية. والتمشي في ذلك مع كل ظرف وتطور. وإن التقصير فيه أو إهماله إثم ديني عظيم لأنه مخالف لأمر الله ومعرض للمسلين وبلادهم ودينهم للأخطار والأضرار المادية والمعنوية. وقد احتوى القرآن آيات كثيرة متنوعة الأساليب في هذا الأمر. وفي سورة البقرة آية تنبه بصراحة وقوة على ذلك وهي:
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) .
6-
في الآية [59] معالجة روحية من شأنها بثّ القوة في نفوس المؤمنين وإثارة التحسّب في نفوس أعدائهم. فلا ينبغي الاعتقاد أن عدو المسلمين إذا نجا من نكال الله في موقف ما أنه يستطيع أن يفلت منه فهو محيط به. وكل ما هنالك أن حكمته اقتضت إمهاله. وهذه المعالجة انطوت في آيات كثيرة وفي سور سبق تفسيرها وفي سور آتية مع وعد رباني صريح بأن نصر المؤمنين حق على الله.
7-
على المسلمين مقابلة الميول السلمية من الأعداء بمثلها حتى في حال احتمال تظاهر العدو بهذه الميول خداعا. وكل ما يجب هو أن يكون المسلمون في حذر وتنبّه. وينسجم هذا مع المبدأ القرآني المقرر مكررا من كون حروب المسلمين هي حروب دفاع ومقابلة بمقدار الضرورة التي تكفل سلامة المسلمين وحرية الدين. والأمر القرآني السابق شرحه بالاستعداد الدائم لمقابلة العدو وإرهابه وللإنفاق على ذلك مع الاعتماد على الله هو الكافي لإحباط ما يحتمل أن يبيته العدو من خداع ولجعله يكفّ عنه. ولقد قال بعض المؤولين إن هذا منسوخ بأمر
قتال المشركين كافة إلى أن يسلموا أو بأمر قتال الكتابيين إلى أن يخضعوا ويعطوا الجزية. ونفى بعضهم ومنهم الطبري النسخ وقالوا إن الأمر محكم. وهو الأوجه المتسق مع التقريرات القرآنية التي لا تسوغ القتال لمجرد الشرك والكفر بالرسالة الإسلامية إذا لك يكن من المشرك والكافر عداء وعدوان على ما شرحناه في مناسبات سابقة وما سوف يأتي مزيد من شرحه بعد.
8-
ويلحظ أن الأمر القرآني للمسلمين هو لمقابلة جنوح العدو إلى السلم بالمثل، وليس في هذه الآيات ولا في غيرها تسويغ لأن يكون الجنوح للسلم بدءا من المسلمين. بل في سورة محمد آية تنهى عن ذلك وهي: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) أي لا ينبغي للمسلمين أن يضعفوا أمام عدوهم ويطلبوا منه السلم. فهم الأعلون بإيمانهم وتأييد الله لهم وهو مهم كما جاء في هذه الآيات وآيات عديدة أخرى مثل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] وانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: 47] وغيرها وغيرها. وفي سورة النساء هذه الآيات المهمة الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) ووَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) .
9-
وجنوح العدو للسلم معناه أنه شعر بضعفه وعجزه أمام المسلمين فرأى أن ينتهي من موقفه العدائي العدواني وفي هذا تحقيق لغاية الجهاد في سبيل الله على ما جاء في آية سورة البقرة هذه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) فاقتضت حكمة الله أمر المسلمين بالجنوح للسلم إذا جنح لها عدوهم وعزم على الانتهاء من موقفه العدائي العدواني إزاءهم. وقد شرحنا هذه الآية وبينا ما هو مدى انتهاء العدو من موقفه العدائي في سياق تفسير الآية.
وفي كل ما تقدم تلقينات جليلة رائعة.
10-
ومن واجبنا أن ننبه في هذا المقام على مسألة مهمة وهي الاستجابة لطلب دولة اليهود في فلسطين السلم أو جنوحها إليه. فالتلقين القرآني لا ينطبق عليها وإنما ينطبق على العدو الذي له دار ودولة خاصة به منذ الأصل. أما اليهود في فلسطين فهم أعداء معتدون على دار المسلمين والعرب. ومغتصبون لما احتلوه من فلسطين اغتصابا باغيا بمساعدة طواغيت دول الاستعمار أعداء المسلمين والعرب. وقامت دولتهم في فلسطين بعد أن حاربوا المسلمين والعرب فيها أشد حرب وآذوهم أشد أذى وطردوهم من مدنهم وقراهم واستولوا على بيوتهم ومزارعهم وبساتينهم وكرومهم وثرواتهم المنقولة وغير المنقولة. وهتكوا حرماتهم ودنسوا مقدساتهم وهدموا مساجدهم وأزالوا معالم الإسلام والعروبة ولم يكن بينهم وبين العرب والمسلمين سابق عداء قبل تفكيرهم في غزو فلسطين واغتصابها وإنشاء دولة لهم فيها على أنقاض العرب والمسلمين بل كان العرب والمسلمون في ظل السلطان الإسلامي يمنحون من كان في ظل هذا السلطان منهم الحرية والأمان والطمأنينة ومجال النشاط الاقتصادي والاجتماعي، في حين كانوا وظلوا معرضين للاضطهاد والمطاردة والمصادرة في جميع البلاد الأخرى التي كانوا يحلون فيها.
وهم حينما يعلنون رغبتهم في السلم مع العرب يريدون ذلك، مع احتفاظهم بما اغتصبوه من دار العرب والمسلمين ونسيان كل ما فعلوه فيهم. ومعنى الأمر للمسلمين بمقابلة ذلك الجنوح بمثله لا ينطبق عليهم، حتى لو تركوا بعض ما اغتصبوه واكتفوا بالقسم الذي قررته لهم هيئة الأمم، لأنه دار المسلمين والعرب وليس لهذه الهيئة أن تمنحهم جزءا مهما كان صغيرا من هذه الدار. وليس لأحد من المسلمين والعرب حقّ في قبول ذلك وهو خيانة لله ولرسوله وللمسلمين وعليهم واجب إعداد كل قوة يستطيعونها لمقاتلتهم وتضييق الخناق عليهم وحصارهم بدون هوادة ولا كلل إلى أن يقوضوا دولتهم وتعود البلاد كما كانت إلى حظيرة السلطان الإسلامي العربي وكل تهاون في ذلك إثم ديني عظيم.
هذا، ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآيات
متساوقة مع تلقيناتها، وابن كثير أكثر من استوعبها منهم. ومنها ما هو وارد في كتب الصحاح، ومن ذلك في صدد عدم النقض إلّا بعد إعلان العدو حديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال:«كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا، إنّ رسول الله قال من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها حتى ينقضي أمده أو ينبذ إليهم على سواء فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا الشيخ هو عمرو بن عبسة أحد أصحاب رسول الله» «1» . ومن ذلك في صدد الاستعداد حديث رواه أصحاب السنن عن رسول الله قال: «إنّ الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به والممدّ به. وقال ارموا واركبوا ولأنّ ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا» «2» . وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عقبة بن عامر قال: «سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إنّ القوّة الرمي، ألا إن القوّة الرمي، ألا إنّ القوّة الرمي» «3» . وحديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منّا أو قد عصى» «4» . ومن ذلك حديث رواه مسلم عن عقبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ستفتح عليكم أرضون ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» «5» . وفي صدد رباط الخيل حديث رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي صدده أيضا حديث رواه الخمسة عن عروة البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم» «6» . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من احتبس
(1) التاج، ج 4 ص 335 وابن كثير ذكر أن الإمام أحمد رواه عن سليم بن عامر أيضا.
(2)
التاج، ج 4 ص 319 و 320.
(3)
المصدر نفسه. [.....]
(4)
المصدر نفسه.
(5)
المصدر نفسه.
(6)
المصدر نفسه ص 311 و 312.