الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في هذه الآيات:
1-
بيان بأنه لا ينبغي لنبي أن يأسر أعداءه في الحرب ويستبقيهم أحياء إلّا بعد أن يشتدّ أمره ويقوى سلطانه وتتوطد رهبته.
2-
وإشارة موجهة إلى المؤمنين المخاطبين بأنهم في عملهم ما لا ينبغي قد أرادوا عرض الدنيا في حين أن الله إنما يريد لهم الآخرة وهو عزيز حكيم قادر قوي لا يريد إلّا ما فيه الخير والصواب.
3-
وخطاب موجّه إليهم أيضا بأن الله لو لم تقتض حكمته التسامح معهم لأصابهم بما أخذوه من فداء الأسرى عذاب رباني عظيم.
4-
وأمر موجه إليهم كذلك بإجازة الاستمتاع بما أخذوه حلالا طيبا، فالله غفور رحيم يتجاوز عن ذنوبهم ويشملهم برحمته مع التنبيه بوجوب تقوى الله واجتناب ما لا يرضاه.
تعليق على الآية ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
…
إلخ والآيتين التاليتين لها
روى المفسرون في صدد هذه الآيات حديثا رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر يوم بدر ما ترون في هذه الأسارى. فقال أبو بكر هم بنو العمّ والعشيرة. أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفّار وعسى الله أن يهديهم للإسلام، وقال عمر لا أرى والله ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكّننا من ضرب أعناقهم. فهؤلاء أئمة الكفر وصناديدها.
فهوي رسول الله ما قال أبو بكر: فلما كان من الغد جاء عمر فإذا رسول الله وأبو بكر قاعدان يبكيان فقال ما يبكيكما قال الذي عرض عليّ من أخذ الفداء وأنزل الله ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى الآيات» «1» .
(1) التاج، ج 4 ص 111.
وهناك روايات أخرى لم ترد في الصحاح وهي متفقة في المدى مع الحديث فاكتفينا بالحديث. وفي الروايات ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور بالإضافة إلى أبي بكر وعمر كبار أصحابه الآخرين من الأنصار والمهاجرين ونعتقد صحة ذلك.
وفحوى الآيات مع حديث البخاري يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نفذ الرأي القائل بأخذ الفدية قبل نزول الآيات فنزلت الآيات منبهة إلى ما كان الأولى ومجيزة لما تمّ مع الإيذان بغفران الله.
ونرى من الواجب أن نبيّن أن التنفيذ النبويّ هو اجتهاد مأجور وأن التنبيه والعتاب هو على كونه خلافا لما هو الأولى في علم الله المغيب عن رسول الله ولقد تكرر الاجتهاد النبوي وتكرر العتاب القرآني مما مرّ منه أمثلة في سور سبق تفسيرها ومما ورد أمثلة منه في سور آتية. وفي هذا صورة من صور سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يجتهد فيما ليس فيه وحي فما كان صوريا أقرّه الله عليه سكوتا أو قرآنا وما كان خطأ عاتبه عليه ونبهه إلى ما هو الأولى وغفره له. وفي القرآن صور من ذلك. منها خروجه لقافلة قريش على ما شرحناه في سياق الآيات السابقة من السورة وليس في هذا مطعن في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة التي فيها عتاب للنبي، فعصمته حق والإيمان بها واجب وهي متحققة فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الشديد لأوامر الله ونواهيه وفي عدم وقوعه في إثم ومحظور. وليس في هذا وبين الموقف الذي نحن في صدده وأمثاله تعارض كما هو ظاهر.
والآيات والحديث تنطوي على دلالة جديدة تضاف إلى الدلالات الكثيرة مما مرّ منه أمثلة عديدة على كون القرآن وحيا ربانيا وعلى عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ كل ما يوحى به إليه مهما احتوى من عتاب وتثريب له.
وفي استشارة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه صورة من الصور التي يجتهد فيها فيما ليس فيه وحي. وهي في الوقت نفسه تطبيق للوصف القرآني العام للمسلمين الوارد في آية سورة الشورى [38] بأن المسلمين أمرهم شورى بينهم. ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم
باستشارة أصحابه صراحة في مواقف أخرى أشير إليها في سورة آل عمران التي يأتي تفسيرها بعد هذه السورة. هذا، وهناك حديث يرويه الترمذي في نزول الآية [68] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لم تحلّ الغنائم لأحد سود الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها فلمّا كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل أن تحلّ لهم فأنزل الله الآية» «1» . ويلحظ أن الآية جزء من سياق تام ورد في صدد الأسرى وفدائهم وأن الله قد عاتب أو نبّه رسوله فيه على أخذ الفداء. ولهذا فنحن نتوقف أن تكون الآية نزلت في صدد ما ورد في الحديث من غنائم بدر عامة. وكل ما يمكن أن يكون هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المؤمنين برحمة الله لهم في إحلاله الغنائم لهم وتلا الآية على سبيل التدليل والله أعلم.
ويورد المفسرون حديثا في هذا السياق عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه تقرير كون الله تعالى قد أحلّ له الغنائم دون غيره من الأنبياء وقد رواه الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى الله عليه وسلم وفضّلت على الأنبياء بست، أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب، وأحلّت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأرسلت إلى الخلق كافّة وختم بي النبيّون» «2» .
ولقد تعددت تأويلات المؤولين في مدى جملة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ من ذلك أنها بمعنى (لولا أن الله قضى في سابق علمه وحكمته أن تكون الغنائم حلالا لهم) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ المجتهدون عن حسن نية فيما اجتهدوه خلافا لما هو الأولى في علم الله) .
أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الذين هداهم على أمر حتى يبين لهم ما يتقون فيه) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن لا يؤاخذ الناس على عمل ليس عندهم فيه بيان من الله) أو بمعنى (لولا أن الله قضى أن يغفر لأهل ما بدر من المواجه من أخطاء) وكل هذه التأويلات واردة، مع استبعادنا الأخير. والله تعالى أعلم.
(1) التاج، ج 4 ص 111.
(2)
التاج، ج 1 ص 205.
وأسلوب الآيات عتابي على فعل ما هو غير الأولى في علم الله، وهذا يسوغ القول إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل بعض ما يفعل بدون وحي وبسائق الاجتهاد فيخطىء ويصيب ويفعل غير الأولى المغيب في علم الله. وليس في هذا مطعن في عصمته على ما شرحناه في سياق تفسير سورة النجم. فعصمته حقّ ومتحققة في صدقه فيما يبلغه عن الله وفي التزامه الحدود التي يأمر الله بها آمرة كانت أم ناهية. وليس بين هذا وبين هذا الموقف وأمثاله- مما تكررت الإشارة إليه في القرآن وروته الروايات (ومن ذلك مسألة المنزل الذي نزله في أدنى ماء من بدر وعدل عنه باقتراح الحباب بن المنذر على ما أوردناه قبل، ومسألة عبوسه حينما جاءه الأعمى يسأله بينما كان يتحدث مع أحد الزعماء على ما جاء في آيات سورة عبس الأولى) - تعارض كما هو ظاهر. والنبي فعل ما فعل مجتهدا بأنه الأصلح في أمر ليس محددا من الله تعالى وليس فيه ذنب أو محظور.
ولقد روى المفسرون «1» في سياق هذا الحديث حديثا عن عمر بن الخطاب جاء فيه «أنه جاء إلى رسول الله غداة المشورة في أمر الأسرى وترجيح النبيّ اقتراح فدائهم فوجده مع أبي بكر قاعدين يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي للذي عرض لأصحابي من أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من رسول الله- فأنزل الله عز وجل الآيات» والحديث ذو مغزى في صدد الشعور النبوي والوحي القرآني معا.
والآيات لا تمنع الأسر والفداء بالمرة كما هو ملموح في صيغتها. وإنما هي بسبيل تقرير أن ذلك ما كان ينبغي إلا في حالة اشتداد قوة النبي والمسلمين وتوطيد هيبتهم ورهبتهم وسلطانهم. وينطوي في ذلك تقرير كون معاملة الأعداء بالشدة والصرامة مما يوطد هذه الرهبة والهيبة والسلطان ومما هو ضروري لمصلحة
(1) انظر الطبري والبغوي وابن كثير، وقد روى الحديث الترمذي بسند صحيح أيضا. انظر التاج ج 4 ص 111 فصل التفسير.
الدعوة الإسلامية في بعض الظروف. ولقد ورد في سورة محمد آيات تجعل المسلمين بالخيار في معاملة الأسرى بعد الإثخان فيهم وهي فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [4] حيث انطوى فيها تشريع بالنسبة للظروف التي يكون فيها المسلمون أصحاب قوة وهيبة وتمكّن. كما انطوى فيها تلقين متسق مع التقريرات القرآنية بأن الجهاد الإسلامي هو جهاد للردع والدفاع والمقابلة بالمثل وضمان أمن المسلمين وسلامتهم وحريتهم وحرية الدعوة إلى الإسلام ومنع العدوان عليها وأنه لا ينبغي أن يتجاوز القدر اللازم لتأمين هذه الغايات.
وفي إجازة القرآن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم اجتهادا توطيد لمبدأ الرأفة في الحروب الإسلامية. وفيها كذلك قرينة مؤيدة لصحة نقد قول من يقول إنه ليس لمشركي العرب إلا الإسلام أو القتل وكل هذا مما أيدته آيات قرآنية عديدة منها ما مرّ ومنها ما سوف يجيء بعد.
ولقد روى المفسرون وكتّاب السيرة روايات متنوعة في سياق هذه الآيات عما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالأسرى يحسن إيرادها هنا لما فيها من سنن وتلقينات وصحتها إجمالا محتملة ولو لم ترد في الصحاح. من ذلك أنه أمر بقتل شخصين منهم كانا شديدي الأذى والنكاية في مكة وهما النضر بن الحرث وعقبة بن أبي معيط «1» .
وأنه حينما وصل المدينة فرق الأسرى بين أصحابه ووصاهم بهم خيرا ونهى عن
(1) روى البخاري عن عروة بن الزبير صورة من أذى عقبة للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ابن عمرو بن العاص عن أشدّ شيء صنعه المشركون بالنبيّ فقال: بينما كان يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة فوضع ثوب النبيّ في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ورفعه عن النبيّ وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله
…
التاج ج 3 ص 363) . وروى ابن هشام صورة أخرى وهي أن عقبة جلس إلى النبي واستمع له فغضب عليه أبيّ بن خلف أحد صناديد مشركي قريش وحلف أن يقاطعه إذا لم يأت محمدا ويتفل في وجهه ففعل عدوّ الله ذلك. ج 1 ص 36. أما النضر فكان يتبع النبي وكلما جلس إلى أحد أو جلس عنده أحد جلس وتحدى النبي وكذبه وقال هي أساطير الأولين اكتتبها
…
وقد ذكر ذلك ابن هشام أيضا انظر ج 2 ص 358- 359.
التمثيل بهم، ولم يلبث أن أخذ يأتي ذووهم من مكة ليفتدوهم وكان أعلى فداء أربعة آلاف درهم وأقلّه ألف درهم. وكان بين الأسرى أبو العاص بن الربيع زوج بنت رسول الله زينب فأرسلت قلادتها لفدائه. فلما رآها النبي رقّ لها رقة شديدة وقال لأصحابه إذا رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها ما لها فافعلوا. ففعلوا وأخذ النبي مقابل ذلك من أبي العاص وعدا بإرسال زينب إلى المدينة ففعل. وكان بين الأسرى عمّه العباس فقال رجال من الأنصار: ائذن لنا لنترك لابن أختنا عباس فداءه فقال لا والله لا تذرون منه درهما. وأخذ منه مائة أوقية ذهبا فدية. وقد قال له العباس قد كنت مسلما فقال له الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فالله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر فقال ما ذاك عندي يا رسول الله قال فأين الذي دفنته أنت وأم الفضل، قلت لها إن أصبت في سفري فهذا المال لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم. قال والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. وإن هذا شيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. وقد كان معه حين خرج من مكة عشرون أوقية من الذهب فأخذت منه بعد أسره فقال يا رسول الله احتسبها من فدائي فقال لا، هذا شيء خرجت تستعين به علينا فأعطاناه الله. وكان بين الأسرى ابن لأبي سفيان اسمه عمرو وقد قتل له ابن آخر اسمه حنظلة. فقالوا له افتد ابنك فقال أيجمع على دمي ومالي. قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم ما بدا لهم. وفي هذه الأثناء خرج من المدينة سعد بن النعمان من بني عوف إلى مكة معتمرا وكان مسلما فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو فمشى أقاربه إلى رسول الله وسألوه أن يعطيهم ابن أبي سفيان ليفكوا به صاحبهم ففعل واستخلصوا صاحبهم به، وقد منّ النبي على بعض الأسرى ممن لا مال له ولم يرسل ذووه فداءه ومنهم أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي الذي روي أنه مدح النبي بقصيدة وعاهده على أن لا يظاهر عليه أحدا «1» .
(1) انظر ابن هشام ج 2 ص 269- 299 و 364 وتاريخ الطبري ج 2 ص 131- 165 وتفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.