الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لحديث صحيح رواه الشيخان والترمذي جاء فيه: «إنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب كان الزبير بن العوام رضي الله عنه أول الملبين مرة بعد مرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم لكلّ نبيّ حواريّ وحواريّ من أمتي الزبير» «1» .
ولقد أرجع بعض الباحثين الكلمة إلى (حوارا) الآرامية بمعنى الأبيض.
وقالوا إنها دخيلة على اللغة العربية. واللغة الآرامية واللغة العربية من أصل واحد فلا يمنع أن تكون الكلمة مشتركة في اللغتين ولا يكون محل للقول إنها دخيلة.
والحور في اللغة شدّة بياض العين ومنه الحور العين. وقال رشيد رضا إن بعض كتّاب النصارى زعموا أن الكلمة محرّفة عن كلمة (الحواري) اليونانية. وقد فنّد هذا الزعم لغويا وصرفا واستعمالا تفنيدا قويا.
(11)
نبتهل: من الابتهال وهو دعاء الله والالتماس منه.
(12)
من دون الله: بدلا من الله أو غير الله.
تعليق على الآية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) وما بعدها إلى آخر الآية [64] ومشهد المناظرة بين النبي ووفد نجران
الآيات واضحة في عبارتها وتسلسلها. وقد احتوت ما خلاصته:
1-
تنويها بفضل آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران ومكانتهم عند الله، وآل عمران هم الأسرة التي أنتجت مريم على ما تلهمه إحدى الآيات. وإشارة إلى ظروف ولادة مريم وطهارتها ومكانتها عند الله وعنايته بها، وظروف ولادة يحيى ومعجزة الله فيها على شيخوخة والده زكريا وعقم أمه، وظروف ولادة عيسى بدون أب ومعجزة الله فيها وما شمله من تكريم وعناية وأظهره على يده من معجزات وآيات، وموقف بني إسرائيل منه وكفرهم به ومكرهم له، وإيمان الحواريين به
(1) التاج، ج 3 ص 300.
وتأييدهم إياه وإعلانهم إسلام النفس إلى الله. ورفع الله لعيسى بعد توفّيه وإنذار وتبشير ربانيان للكافرين والمؤمنين الذين يعملون الصالحات.
2-
وتعقيبا على ذلك بكون المعجزة الربانية في ولادة عيسى كالمعجزة الربانية في خلق آدم من تراب وبأن الذي ورد في الآيات من بيان قصة ولادته وظروف رسالته وفحوى دعوته هو الحق الذي لا يجوز المماراة فيه.
3-
وأمرا للنبي صلى الله عليه وسلم فيما إذا جادله المجادلون في هذا الحق بعد أن جاءه علمه من الله عز وجل بأن يكلفهم ليبتهل هو وإياهم مع من يحبه ويحبونهم من الأبناء والنساء إلى الله بأن يجعل لعنته على الكاذبين من الفريقين المبتهلين. فإن أعرضوا وأبوا فإن الكذب والفساد يكونان قد لزماهم.
والآية [60] يصح أن تكون موجهة إلى السامع إطلاقا. ويصحّ أن تكون موجهة للنبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحالة الثانية تكون من قبل التثبيت وقد تكرر هذا ومرت منه أمثلة عديدة في سور سبق تفسيرها.
4-
وأمرا آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بدعوة أهل الكتاب إلى كلمة واحدة واضحة لا مجال للخلاف فيها يقرّ بها هو وإياهم على السواء: بأن لا يعبد كل منهم إلّا الله وحده وأن لا يشرك كل منهم به شيئا وأن لا يتخذ كل منهم أحدا غير الله ربّا له.
فإن أعرضوا بعد هذه الدعوة الصريحة البسيطة فليشهدهم وليشهد الناس أجمع على أنه هو ومن معه مسلمون أنفسهم لله وحده متحققون بهذه العقيدة.
وجمهور المفسرين «1» على أن هذه الآيات قد نزلت بمناسبة المناظرة التي قامت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين وفد نصارى نجران اليمن. ولما كان هذا الجمهور متفقا على أن الآيات السابقة أو بعضها قد نزلت أيضا في هذه المناسبة فتكون هذه الآيات مشهدا ثانيا من مشاهد المناظرة أو في صدد ذلك. ولقد روى ابن هشام «2» عن ابن إسحق عن محمد بن جعفر خبر وفادة وفد نجران وأورد آيات سورة آل
(1) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير إلخ.
(2)
ابن هشام ج 2 ص 204- 215.
عمران من أولها إلى آخر الآية [64] وقال إنها نزلت في ذلك.
ومع أن الآيات قد احتوت تقرير ظروف ولادة السيد المسيح بمعجزة ربانية بسبيل نفي ما يدّعيه النصارى من كونه إلها أو صورة أو أقنوما إلهيا واحتوت تمهيدات وتدعيمات وبيانات عما كان من موقف بني إسرائيل والحواريين من رسالته فقد تخللها من التنبيهات والمواعظ ما جعل أسلوبها متسقا مع أسلوب القصص القرآني في ذلك مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة ومما هو من مميزات الأسلوب القرآني.
ولقد قام مشهد جدل مماثل بين النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة من النصارى في مكة أيضا احتوى الإشارة إليه فصل طويل في سورة مريم. وفيه بعض التماثل مع مضمون وسياق هذه الآيات. غير أن هذه الآيات تحتوي بعض الزيادات في التمهيد والتدعيم وفي ظروف رسالة عيسى ودعوته ومعجزاته وموقف بني إسرائيل والحواريين منه ورفعه بعد توفّيه. وفي دعوة المحاجّين فيه إلى المباهلة ودعوتهم إلى الله وحده وإعلان عقيدة النبي والمسلمين في إسلامهم إلى الله وحده.
ولقد علقنا بشيء من الإسهاب على الهدف الذي استهدف في سورة مريم بذكر ظروف ولادة يحيى وظروف ولادة عيسى عليهما السلام متوالية في سياق واحد فلا نرى ضرورة إلى التكرار لأن التماثل يكاد يكون تاما بين آيات سورة مريم وهذه الآيات من هذه الناحية. ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات مريم ما ورد في الإصحاح الأول من إنجيل لوقا عن بشارة زكريا بيحيى ومريم بعيسى عليهم السلام. ونبهنا ما بين ذلك وبين الآيات من تماثل، كما علقنا على ما احتوته الآيات من كلام عيسى لأمه ولبني إسرائيل وعلى ما في كلامه عن شخصيته ورسالته. وأوردنا كثيرا من النصوص الواردة في الأناجيل والمتطابقة مع تقريرات القرآن كما هو المتبادر للمتمعن المنصف فيها فنكتفي بهذا التنبيه.
وأسلوب الآيات [58- 64] التي جاءت بمثابة تعقيب على ما سبقها قوي رائع. من شأنه الإلزام والإقناع إذا ما كان الطرف الثاني حسن النية راغبا في الحق
وحده ولا سيما إن ما فيها متسقا مع ما يسلّم به أهل الكتاب من معجزة ولادة يحيى ومن خلق آدم من تراب ومع دعواهم بوحدة الله مع فارق واحد هو عدم انطواء ذلك على أي إشكال وتعقيد واختصاص وعدم تحمله أي تأويل.
ومضمون الآيات المذكورة وروحها وبخاصة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المحاجّين إلى المباهلة، والابتهال إلى الله بلعنة الكاذبين ثم أمر الله له بدعوتهم إلى كلمة سواء بينهم وبينه وإشهادهم إذا تولوا على أنه هو وأتباعه مسلمون لله تعالى فكل ذلك قوي رائع. ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في المناظرة في موقف القوي الدافع المفحم الشاعر بقوة موقفه وصحة دعواه وصدق ما يقرره. وهذا المعنى القوي الرائع يظل واردا إزاء كل موقف مكابر في هذا الأمر في كل ظرف ومكان.
هذا، وكثير مما جاء في الآيات من المتشابهات التي يمكن أن يرجع في حسمها إلى المحكمات أو الآيات التي فيها صراحة أكثر والتي يجب أن يوكل ما يعجز العقل الإنساني عن فهمه وتأويله إلى الله تعالى ويوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه مع استشفاف الحكمة منه.
وهذه بعض إيضاحات وتنبيهات في صدد ما احتوته الآيات على ضوء ذلك:
فأولا: إن في الآيات زيادات لم ترد في آيات سورة مريم وهو ما احتوته الآيات [33- 38 و 42- 44 و 47- 57] وبعض ما جاء من هذه الزيادات مثل المعجزات التي أظهرها الله على يد عيسى من إحياء للموتى وإبراء للأكمه والأبرص. ومثل قول عيسى إنه مصدّق للتوراة وإنه سوف يحلّ لهم بعض ما حرّم عليهم. ومثل هتافه بمن يكون أنصاره حينما أحسّ من بني إسرائيل بالكفر واستجابة الحواريين لهتافه وإعلانهم إيمانهم. ومثل ما كان من مكرهم به.
وخطاب الله لعيسى إنه متوفّيه ورافعه إليه وجاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا قد ورد في الأناجيل المتداولة المعترف بها صراحة وضمنا «1» . ولقد أوّل المؤولون جملة وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ بما كان من مكر يهوذا الأسخريوطي به وتسليمه
(1) انظر مثلا الإصحاحات (4 و 5 و 6 و 8 و 9 و 10 و 11 و 12) من إنجيل متى.
إياه للسلطات وهذا مذكور في الأناجيل «1» . وأوّلها بعضهم بما كان من مكر اليهود به وهذا منثور في جميع الأناجيل. وننبه بهذه المناسبة إلى أن كلمة الحواريين لم ترد في الأناجيل الأربعة المتعرف بها وقد سمّوا فيها (تلامذة المسيح) و (رسله)«2» .
وبعض ما جاء من الزيادات لم يرد في الأناجيل المتداولة المتعرف بها مثل إعلان اصطفاء الله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. ونذر امرأة عمران ما في بطنها واعتذارها ودعائها وتعويذها لمريم وذريتها بالله من الشيطان واستجابة الله لها وعنايته بمريم وتكفيله إياها لزكريا ومثل قول الملائكة إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ومثل خلق عيسى من الطين كهيئة الطير ونفخه فيها لتكون طيرا بإذن الله. ونعتقد أن هذا مما كان متداولا بين النصارى في عصر النبي وبيئته وواردا في قراطيس كانت في أيديهم لم تصل إلينا.
والروايات تذكر أنه كان أناجيل عديدة غير المتداول اليوم وغير المعترف بها فضاعت أو أبيدت على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. وفي كتب التفسير بيانات كثيرة حول ما جاء في هذه الآيات معزوة إلى علماء الأخبار في الصدر الإسلامي. ومنها ما لم يعز إلى راو. وفيها أشياء كثيرة مما ورد في الأناجيل المتداولة مع زيادات وحواش. وفيها أشياء كثيرة أخرى لم ترد في الأناجيل المتداولة ووردت الإشارة إليه في الآيات مع زيادات وحواش. ومن ذلك على سبيل المثال أن أم مريم كانت عاقرا فنذرت إن رزقها الله ولدا أن تجعله سادنا لبيت الربّ وأن مريم كانت بنت رئيس الكهان فخلفه على مهمته زكريا عديله فلما
(1) انظر الإصحاح 26 من هذا الإنجيل أيضا. ومعظم ما ذكر وارد في الأناجيل الأخرى كذلك.
(2)
هذه هي أسماء التلامذة الاثني عشر المذكورة في الأناجيل: سمعان المدعو بطرس- اندراوس أخوه- يعقوب بن زيدي وأخوه يوحنا- فيلبس- برتلماوس- توما- متى القسار- يعقوب بن حلفي- تدارس- سمعان القانوني- يهوذا الأسخريوطي. انظر الإصحاح 10 من إنجيل متى و 3 من إنجيل مرقس و 6 من إنجيل لوقا.
وضعت أم مريم ابنتها جاءت بها إلى بيت الربّ فقال زكريا أنا أحقّ بكفالتها فأبى سائر الكهنة ذلك ثم اتفقوا على الاقتراع فألقوا سهامهم في نهر الأردن فذهب النهر بجميعها عدا سهم زكريا فثبتت بذلك كفالته لها. وأن زكريا كان يجد فواكه الشتاء في الصيف وفواكه الصيف في الشتاء عند مريم. وأن أم يحيى كانت تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك وإن هذا مصداق الآية مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ في وصف يحيى. وأن المسيح سأل أيّ الطير أشدّ خلقا قالوا الخفاش فأخذ طينا وجعله على صورة الخفاش ثم نفخ فيه وقال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين يديه. وأن المسيح كان يخبر الغلمان بما صنعه أهلهم وخبأوه من طعام، فيجد الغلمان حينما يعودون إلى بيوتهم الأمر كما أخبرهم. وأن عيسى أحلّ لبني إسرائيل الشحوم ولحوم الإبل وكان هذا مما حرمته التوراة إلخ..
إلخ
…
حيث تدل الروايات التي اكتفينا بما أوردنا منها على أن ما جاء في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم مع زيادات وحواش.
ونقول هنا ما قلناه في أعقاب آيات سورة مريم إن من واجب المسلم أن يؤمن بكل ما جاء في الآيات من أخبار ومحاورات وخوارق. وسواء منها المتطابق مع الأناجيل المتداولة وغير المتطابق وكون ذلك في نطاق قدرة الله مع الإيمان بأنه لا بد لما ورد في الآيات من حكمة. والملموح من هذه الحكمة في الآيات أنها وقد نزلت في صدد المناظرة التي انعقدت بين النبي صلى الله عليه وسلم ووفد نجران حول شخصية عيسى عليه السلام قد هدفت إلى تسفيه عقيدة بنوّة المسيح من الله وألوهيته بشكل ما. وتقرير الحق من أمره. وهو أنه رسول أرسله الله ليدعو الناس إلى عبادته وحده وليقرر لهم أنه ربّه وربّهم وتصحيح ما ارتكسوا فيه من انحرافات. وأن كل ما هنالك أنه ولد بمعجزة وكان هو وأمه مظهر عناية الله وتكريمه وأن ذكر كون عيسى كلمة من الله هو على سبيل التعبير بالمعجزة الربانية من خلقه بدون مسّ رجل وأن التحجج بما في القرآن من عبارات في صدد ذلك هو من قبيل التحجج بالآيات المتشابهة دون المحكم الذي لا يفعله إلّا من في قلبه زيغ ابتغاء الفتنة. في حين أن المحكم صريح بتنزيه الله عن الولد والشريك والقسيم والتعدد والروح المادية التي
تسري منه إلى غيره بأي شكل. ويكون مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فكان. وقد يكون من تلك الحكمة ما بين التقريرات القرآنية والأناجيل من تطابق حيث ينطوي في ذلك قصد الإفحام والإلزام. أما ما ليس متطابقا فهو من وجهة النظر الإسلامية محرّف والله تعالى أعلم. ولقد كان جمهور النصارى في بلاد الشام ومصر والعراق يدينون بمذهب لا يقول بالألوهية التامة لعيسى وبأنه بين بين من الناسوتية واللاهوتية وذو طبيعة واحدة مزيجة خلافا للسلطات الرومانية الحاكمة. وكان هذا الجمهور يتعرض لذلك لاضطهاد هذه السلطات. فلما جاءت جيوش الفتح الإسلامي إلى هذه البلاد أقبلت جماهير هذا المذهب على الصلح مع العرب. ولما عرفت ما في القرآن عن عيسى من كونه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وأن الله نفخ في فرجها وجعلها وابنها آية للعالمين، وأن الله أرسل إليها روحه الذي تمثل لها بشرا ليهب لها غلاما زكيا وليكون آية للناس ورحمة منه. ومما جاء في بعض الآيات التي نحن في صددها وفي بعض آيات سورة مريم وسورة الأنبياء التي مرّ تفسيرها وفي الآية [170] من سورة النساء لمحت شيئا من التطابق بين ذلك وبين مذهبها فأقبلت على اعتناق الإسلام. وقد يكون ذلك من مظاهر أو نتائج تلك الحكمة والله تعالى أعلم.
وثانيا: قد تبدو الآية [44] مشكلة لأنها تنبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يوحى إليه وخاصة في صدد ظروف ولادة مريم وكفالتها هو من أنباء الغيب. وإشكالها آت من ناحية ترجيحنا أن ما احتوته الآيات مما كان متداولا عند النصارى وغير مجهول عند العرب أو بعضهم. ولقد أشرنا إلى مثل هذا الإشكال في سياق تأويل الآية [49] من سورة هود والآية [102] من سورة يوسف اللتين تذكران أن ما أوحاه الله إلى النبي من قصص هود ويوسف هو من أنباء الغيب وعلقنا على ذلك بما نرجو أن يكون فيه الصواب. وينسحب ما قلناه على هذه الآية ولا نرى أن نزيد عليه إلّا التنبيه على أن الروايات التي يرويها المفسرون عن ذلك تفيد أن ظروف ولادة مريم وكفالتها وما كان يجده زكريا عندها من رزق مما كان متداولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم
ومما يحتمل أن لا يكون مجهولا من بعض العرب.
وثالثا: وقد يبدو ما ذكر في الآية [55] من أن الله تعالى جاعل الذين اتبعوا عيسى عليه السلام فوق الذين كفروا به إلى يوم القيامة ثم يكون مصير المؤمنين به النعيم والكافرين به العذاب. والمتبادر أن ذلك إنما هو في صدد الذين اتبعوا رسالة المسيح بجميع محتوياتها ولم ينحرفوا عنها. ومن جملة ذلك وحدة الله عز وجل وتنزيهه عن كل نقص وشائبة وتجزّؤ وتعدّد بأي شكل. واعتراف المسيح بأنه عبد الله ورسوله. ودعوته إلى الله وحده وهو ما حكاه القرآن وما في الأناجيل من نصوص متطابقة مع ذلك صراحة وضمنا مما أوردنا نماذج منه في تفسير سورة مريم.
ومن جملة ذلك أيضا بشارة عيسى بالنبي محمد التي ذكرها القرآن في الآية [6] .
ومن جملة ذلك كذلك ما في الإنجيل من صفاته مما أشير إليه في آية سورة الأعراف [157] التي تدعو أهل الإنجيل إلى اتباعه. ومقتضى كل ذلك أن يكون الذين يستحقون ذلك النعيم والتفضيل من أتباع عيسى هم الذين لم ينحرفوا عن رسالته إلى زمن النبي محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بهذا النبي واتبعوه. أما المنحرفون عنها قبل بعثة محمد والكافرون برسالة محمد فهم من وجهة نظر العقيدة الإسلامية كفار كما قررت ذلك آيات عديدة منها آيات النساء [150 و 151] والمائدة [72 و 73] . ولقد قررت آية الأعراف [157] أن فريقا منهم اتبع النبي محمدا صلى الله عليه وسلم بعد أن ثبتت لهم صحة الدلائل المكتوبة عندهم على نبوّته كما قررت ذلك آيات عديدة وردت في سور سبق تفسيرها وسور يأتي تفسيرها بعد مثل آيات القصص [52- 55] والإسراء [107- 108] والرعد [36] والمائدة [82- 85] وبهذا الشرح يزول كل إشكال.
وكلام المفسرين في هذه المسألة متطابق بالنتيجة مع هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» «1» . حيث ينطوي في الحديث تأييد نبوي لما قررناه.
(1) التاج، ج 1 ص 35.
ورابعا: وقد يبدو ما جاء في الآية [33] مشكلة أيضا بما احتوتاه من تقرير رباني مباشر باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وآل عمران هم أسرة مريم. وكذلك في الآية [42] التي قررت أن الله اصطفى مريم على نساء العالمين. والمتبادر أن العبارة أسلوبية. وقد هدفت إلى التنويه بفضل المذكورين ومنزلتهم أو أفضليتهم على غيرهم في عصرهم بما امتازوا به من خصائص وفضائل صاروا بسببها من أصفياء الله. وقد يكون اصطفاء آل عمران ومريم متصلا بخاصة بمعجزة ولادة المسيح التي لم يكن لها مثيل وبما كان من تكريمه ورفعه.
وخامسا: وقد يثير ذكر آدم إشكالا من ناحية كون القرآن يقرر أنه أول إنسان خلقه الله في حين أن مفهوم الاصطفاء يفرض وجود آخرين معه يصطفي الله منهم من يصطفيه مما قد ينطبق على نوح وإبراهيم وآل عمران ومريم دون آدم. والمتبادر أن العبارة بالنسبة لآدم هي أيضا أسلوبية لا إشكال حقيقيا فيها من حيث إنه أبو جميع الذين اصطفاهم الله. ويمكن أن يقال مع ذلك إن ذكر اصطفائه متصل بما كان من اختصاصه بالذكر في خلق الله له ونفخه فيه من روحه والإيذان بأنه جاعله خليفة في الأرض وتعليمه الأسماء وأمر الله الملائكة بالسجود له مما ذكرته آيات القرآن أو بما كان من اختصاصه بالمميزات التي اختص بها جنسه الإنساني دون غيره من مخلوقات الله الأخرى وبخاصة الحيوانات التي بينها وبين هذا الجنس تشارك في كثير من الصفات حتى صار خلقا آخر كما جاء في الآية [14] من سورة المؤمنون. وكلام المفسرين في هذه الأمور متطابق كذلك بالنتيجة مع هذه التقريرات. ولقد قال بعضهم إن الاصطفاء لآل إبراهيم وآل عمران هو بالنسبة للمؤمنين منهم. وهذا وجيه. وقال بعضهم إن النبي والعرب يدخلون في ذكر آل إبراهيم تكذيبا لليهود الذين كانوا يقولون إنهم شعب الله المختار من حيث إن إبراهيم ليس فقط جد بني إسرائيل الذين ينتسبون إلى يعقوب وإسحق أبي يعقوب الذي هو ابن إبراهيم بل هو أيضا أبا لإسماعيل الذي ينتسب إليه العرب وأبا لأولاد آخرين ولدوا له من زوجته قطوره على ما جاء في الإصحاح (25) من سفر التكوين.
وسادسا: لقد كانت الآية [55] التي ذكر فيها رفع عيسى عليه السلام بعد توفّيه موضوع بحوث وتأويلات وروايات «1» معزوّة إلى ابن عباس وغيره بالنسبة لمفهوم التوفي والرفع وما إذا كان عيسى عليه السلام مات ثم رفع، أو رفع دون موت، وما إذا كان رفع بروحه أو بروحه وجسده. وما قد يترتب على ذلك من تصادم مع آيات قرآنية أخرى وأحاديث نبوية إذا قيل إنه مات ثم رفع حيث جاء في سورة النساء هذه الآيات: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وحيث روى الشيخان والترمذي حديثا عن أبي هريرة جاء فيه: «والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم عليه السلام حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتّى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها» «2» . ثم قال أبو هريرة واقرأوا إذا شئتم: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) وهناك حديث نبوي آخر طويل في الدجال رواه مسلم والترمذي وأبو داود ذكر فيه أن الله يبعث المسيح ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق «3» .
ومما رواه المفسرون وقالوه: إن التوفّي هنا هو توفية أيام عيسى في الأرض كما قالوا إن جملة مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ بمعنى قابضك من الأرض بدون موت أو إني مميتك ثم رافعك إليّ. واستدلوا بالآية اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى
(1) انظر تفسير الآية في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2)
انظر التاج ج 5 ص 323- 325.
(3)
المصدر نفسه.
سورة الزمر [42] على أن التوفي ليس معناه الإماتة حتما ودائما. وقالوا كذلك إنه لا يصح أن يكون لعيسى حياة وموت ثم حياة وموت في الدنيا، لأن الله إنما جعل لكل إنسان حياة مرة وموتا مرة في الدنيا، ثم حياة في الآخرة عدا ما يكون أحياه الله بمعجزة مما ذكر في القرآن ووجب الإيمان به. ومع ذلك فقد رووا عن ابن عباس وغيره أن الله أماته ثم أحياه بضع ساعات أو بضعة أيام ورفعه إليه لتكريمه
…
وللسيد رشيد رضا في صدد ذلك كلام طويل يفيد أن التوفي بمعنى الموت والرفع بمعنى التكريم وأن الأحاديث النبوية هي أحاديث آحاد في أمور غيبية لا يؤخذ فيها إلّا بالقطعي المشهور وإن نفي صلبه وقتله وكونه شبه عليهم لا ينفي موته موتة عادية وإن جملة إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ في سورة النساء هي بالنسبة لأهل الكتاب وليست بالنسبة لعيسى عليه السلام. ولا تخلو هذه الأقوال من وجاهة.
ومهما يكن من أمر فإن الذي يتبادر لنا أن الآية إنما استهدفت التنويه بعيسى عليه السلام وفضله وكرامته عند الله ولم تستهدف تقرير واقعة. ولا سيما أن أسلوبها أسلوب خطاب موجّه إلى عيسى قبل توفيه ورفعه. وأن الأولى الوقوف منها عند هذا الحد دون ما تزيد ولا تخمين.
ومعلوم أن المبشرين النصارى يحاجون المسلمين بهذه الآية لأن فيها اعترافا بموت عيسى قبل رفعه. وهذا يوافق عقيدتهم مع فارق واحد هو اعتقادهم أنه مات مصلوبا ويرون في الآية في الوقت نفسه نقضا لآية النساء التي تنفي قتل عيسى وصلبه. وتقرر أن الله رفعه إليه بأسلوب قد يفيد أن ذلك كان وهو حي. ولسنا نرى في الآيتين صراحة قطعية بموته قبل رفعه ولا رفعه وهو حي. والعبارة تتحمل الصورتين. والقرآن نفى موته صلبا أو قتلا فليس للنصارى حجة في النص القرآني والحالة هذه حتى لو أوّل بأنه رفع بعد الموت. وسنستوفي البحث في موضوع آية النساء في مناسبتها إن شاء الله.
وسابعا: لقد روى المفسرون في سياق جملة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ
الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ
(36)
حديثا رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشيطان إيّاه إلّا مريم وابنها. واقرأوا إذا شئتم وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) » «1» . وروى المفسرون كذلك حديثا آخر رواه البخاري عن أبي هريرة أيضا جاء فيه: «كلّ بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعنه فطعن في الحجاب» «2» . ويلحظ بالنسبة للحديث الأول أنه يذكر أن الشيطان يمس المولود حين يولد وأنه ربط عدم طعن مريم وابنها بدعاء أم مريم مع أن هذا الدعاء كان بعد ولادة مريم بمدة ما ولقد رأى بعض المفسرين أن ما في الحديثين من قبيل التمثيل والتعبير عن طمع الشيطان في إغواء كل مولود.
ولقد قال رشيد رضا: «إن الأحاديث هي آحادية ولا يؤخذ بها في العقائد ومبادئ الدين وإن صحت فيوكل الأمر فيها إلى الله لأنها متصلة بما أخبر به القرآن ووجب الإيمان به غيبا من وجود الشيطان ووسوسته للناس ومحاولته إغراءهم» . وفي هذا القول وجاهة ظاهرة. وقد يمكن أن يضاف إليه أن من الحكمة الملموحة في الأحاديث التساوق النبوي مع القرآن في تكريم مريم وابنها عليهما السلام في الآية التي ربط الحديث الأول بمضمونها والله تعالى أعلم. ولقد قال رشيد رضا إن دعاة النصرانية يشاغبون على عوام المسلمين بالأحاديث مستدلين بها على تفضيل عيسى على محمد عليهما السلام وهذا من عجيب تفاهاتهم. والأحاديث صدرت في مناسبة آية من آيات القرآن متساوقة معها. ومن العجيب أن هؤلاء الدعاة يتمسكون بحديث نبوي ويوردونه لإثبات قولهم ويتركون أحاديث نبوية كثيرة في فضل النبي محمد صلى الله عليه وسلم على عيسى وغيره من الأنبياء عليهم السلام. نكتفي منها بهذا الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس قال: «جلس ناس من أصحاب النبي ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون. فقال بعضهم عجبا: إن الله عز وجل
(1) التاج ج 4 ص 65، وفي فصل النبوة من كتاب التاج ج 3 ص 266 تكرار للحديث الأول مع صراحة بأن جملة (اقرأوا إذا شئتم
…
) هي لأبي هريرة.
(2)
المصدر نفسه.