الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
استوى إلى السماء: أقبل وعمد إليها بإرادته. وتسويتها معناه: تعديل خلقها وتقويمه.
والسماء ليس المراد منها فردا من أفراد السموات، وإنما المراد منها الأجرام العلوية الشاملة لجميع السموات، فصح أن يعود عليها ضمير جمع الإناث في قوله: فَسَوَّاهُنَّ، وكذلك علماء البيان يزيدون أن اللفظ إذا أريد منه جنس ما وضع له صار في معنى الجمع.
فمعنى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ علا إليها وارتفع، من غير تكييف ولا تحديد ولا تشبيه، مع كما التنزيه عن سمات المحدثات، وقد سئل الإمام مالك عن الاستواء على العرش فقال.
الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقدم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة.
وجملة ثُمَّ اسْتَوى معطوفة على جملة (خلق لكم) ، وكان العطف بثم لعظم خلق السماء عن خلق الأرض.
وعبر بسواهن للإشعار بأنه- سبحانه- خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا اضطراب. قال- تعالى-:
ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ.
وجملة وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مقررة لما ذكر قبلها من خلق السموات والأرض وما فيهما على هذه الصورة الحكيمة، فقد دلت على أن ترتيب أجزاء تلك المصنوعات وموافقة جميعها للمنافع المقصودة منها، إنما حدث عن عالم بحقائق تلك الأجزاء وخواصها، ولإحاطته بكل شيء علما وضع كل جزء في موضعه اللائق به.
وبعد أن بين سبحانه للناس أنه قد من عليهم بنعمة خلقه ما في الأرض جميعا، بدأ بعد ذلك يذكرهم بنعمة أخرى هي نعمة خلقه لأبيهم آدم، وخلق آدم مبدأ لخلق ذريته، وتكريمه موصول بتكريمهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَاّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
ففي هذه الآيات الكريمة عطف- سبحانه- قصة خلق آدم أبى البشر على قصة خلق لأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالا في الاستدلال على أن الله واحد، وجمعا بين تعدد لأدلة وبين مختلف الحوادث وأصلها، حتى يكون التدليل أجمع، والإيمان بالله أقوى وأثبت.
وإذ وإذا ظرفان للزمان، الأول للماضي والثاني للمستقبل، فإن جاء إذ مع المضارع أفاد لماضى كقوله:
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
…
وإن جاء إذا مع الماضي أفاد الاستقبال كقوله: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
وإذ هنا واقعة موقع المفعول به لعامل مقدر دل عليه المقام.
والمعنى: واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إنى جاعل في الأرض خليفة.
وقد جاء هذا المقدر هنا مصرحا به في آيات أخرى كما قال تعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ.
والملائكة جمع ملك. والتاء لتأنيث الجمع، وأصله ملاك، من ملك، نحو شمال من شمل، والهمزة زائدة وهو مقلوب مالك، وقيل: إن ملاك من لأك إذا أرسل، ومنه الألوكة، أى:
الرسالة.
والملائكة، هم جند من خلق الله، ركز الله فيهم العقل والفهم، وفطرهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقة، ووصفهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ومنها: أنهم رسل الله أرسلهم بأمره «ومنهم رسل الوحى إلى من
اصطفاهم من خلقه للنبوة والرسالة. قال تعالى:
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وقال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وقال- تعالى-: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
و (الخليفة) من يخلف غيره وينوب منابه، فهو فعيل بمعنى فاعل، والتاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم- عليه السلام لأنه كان خليفة من الله في الأرض، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله- تعالى- في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراء أحكامه عليهم، وتنفيذ أوامره فيهم. وقيل: آدم وذريته، لأنه يخلف بعضهم بعضا في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريته لكونه الأصل.
وخطاب الله لملائكته بأنه سيجعل في الأرض خليفة، ليس المقصود منه المشورة، وإنما خاطبهم بذلك من أجل ما ترتب عليه من سؤالهم عن وجه الحكمة من هذه الخلافة، وما أجيبوا به من بعد، أو من أجل تعليم العباد المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها وعرضها على ثقاتهم ونصائحهم وإن كان هو- سبحانه- بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة. أو الحكمة تعظيم شأن المجهول، وإظهار فضله، بأن بشر بوجود سكان ملكوته، ونوه بعظيم شأن المجعول بذكره في الملأ الأعلى قبل إيجاده، ولقبه بالخليفة.
ثم حكى- سبحانه- إجابة الملائكة فقال:
قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.
الفساد: الخروج عن الاعتدال والاستقامة ويضاده الصلاح. يقال فسد الشيء فسادا وفسودا وأفسده غيره.
والسفك: الصب والإهراق، يقال: سفكت الدم والدمع سفكا- من باب ضرب- صببته. والفاعل سافك وسفاك، والمراد به حصول التقاتل بين أفراد بنى الإنسان ظلما وعدوانا.
والتسبيح: مشتق من السبح وهو المر السريع في الماء أو في الهواء، فالمسبح مسرع في تنزيه الله وتبرئته من السوء.
والتقديس: التطهير والتعظيم ووصفه بما يليق به من صفات الكمال.
فيكون التسبيح نفى ما لا يليق، والتقديس إثبات ما يليق، وقدم التسبيح على التقديس من باب تقديم التخلية على التحلية.
والمعنى: أتجعل في الأرض يا إلهنا من يفسد فيها ويريق الدماء والحال أننا نحن ننزهك عما
لا يليق بعظمتك، تنزيها متلبسا بحمدك والثناء عليك، ونطهر ذكرك عما لا يليق بك تعظيما لك وتمجيدا.
وقولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
…
إلخ إنما صدر منهم على وجه استطلاع الحكمة في خلق نوع من الكائنات يصدر منه الإفساد في الأرض وسفك الدماء. وقطعهم بحكمة الله في كل ما يفعل لا ينافي تعجبهم من بعض أفعاله، لأن التعجب يصدر عن خفاء سبب الفعل، فمن تعجب من فعل شيء وأحب الاطلاع على الحكمة الباعثة على فعله لا يعد منكرا.
والملائكة لا يعلمون الغيب، فلا بد أن يكونوا قد علموا ماذا سيكون من الفساد في الأرض وسفك الدماء بوجه من الوجوه التي يطلع الله بها على غيبه بعض المصطفين الأخبار من خلقه.
قال الإمام ابن كثير في توضيح هذا المعنى: قوله- تعالى-: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صلصال من حمأ مسنون، أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم. ويردعهم عن المحارم والمآثم.. وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبنى آدم كما قد يتوهمه البعض.. وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك، يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض، ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، ولا يصدر منا شيء من ذلك فهلا وقع الاقتصار علينا؟ «1» .
وقد رد الله- تعالى- على الملائكة بقوله: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ.
أى: إنى أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم، فإنى سأجعل فيهم الأنبياء، وأرسل فيهم الرسل ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والمحبون له- تعالى- المتبعون رسله.
فالجملة الكريمة إرشاد لهم إلى الأمر الذي من شأنه أن يقف بهم عند حدود الأدب اللائق بمقام الخالق- عز وجل وتنبيه إلى أنه- تعالى- عالم بما لا يحيط به علم أحد من خلقه، فله أن يفعل ما يشاء ويأمر بما يشاء، وليس من أدب المؤمنين بأنه العليم الحكيم أن يسألوه حين يأمرهم بشيء، أو يعلمهم بأنه
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 69.
سيفعل شيئا، عن حكمة ما أمر به أو ما سيفعله، بل شأنهم أن يتجهوا إلى استطلاع حكمة الأفعال والأوامر من أنفسهم، فإذا أدركوها فقد ظفروا بأمنيتهم، وان وقفت عقولهم دونها، ففي تسليمهم لقدر الله، وامتثالهم لأوامره الكفاية في القيام بحق التكليف والفوز برضا الله، الذي هو الغاية من الإيمان به والإقبال على طاعته.
ثم أخذ- سبحانه- في بيان جانب من حكمة خلق آدم، وجعله خليفة في الأرض، بعد أن أجاب الملائكة على سؤالهم بالجواب المناسب الحكيم فقال- تعالى-:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
علم: من التعليم وهو التعريف بالشيء. وآدم: اسم لأبى البشر، قيل إنه عبراني مشتق من أدمه، وهي لغة عبرانية معناها التراب، كما أن «حواء» كلمة عبرانية معناها «حي» وسميت بذلك لأنها تكون أم الأحياء.
والْأَسْماءَ جمع اسم، والاسم ما يكون علامة على الشيء، وتأكيد الأسماء بلفظ «كلها» في أنه علمه أسماء كل ما خلق من المحدثات من إنسان وحيوان ودابة، وطير، وغير ذلك.
ويصح حمل الأسماء على خواص الأشياء ومنافعها، فإن الخواص والمنافع علامات على ما تتعلق به من الحقائق.
وقوله: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ عرض الشيء: إظهاره وإبانته والضمير في عَرَضَهُمْ يعود على المسميات، وهي مفهومة من قوله: الْأَسْماءَ كُلَّها إذ الأسماء لا بد لها من مسميات، فإذا أجرى حديث عن الأسماء حضر في ذهن السامع ما هو لازم لها، أعنى المسميات.
ودل على المسميات بضمير جمع الذكور العقلاء فقال: عَرَضَهُمْ ولم يقل عرضها، لأن في جملة هذه المسميات أنواعا من العقلاء: كالملائكة، والإنس، ومن الأساليب المعروفة بين
(1) تفسير القاسمى ج 2 ص 7.
فصحاء العرب تغليب الكامل على الناقص، فإذا اشتركا في نحو الجمع أو التثنية أتى بالجمع أو التثنية على ما يطلق حال الكامل منهما.
والأمر في قوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، ليس من قبيل الأوامر التي يقصد بها التكليف، أى: طلب الإتيان بالمأمور به، وإنما هو وارد على جهة إفحام المخاطب بالحجة.
والمعنى: أن الله- تعالى- ألهم آدم معرفة ذوات الأشياء التي خلقها في الجنة، ومعرفة أسمائها ومنافعها، ثم عرض هذه المسميات على الملائكة. فقال لهم على سبيل التعجيز:
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما اختلج في خواطركم من أنى لا أخلق خلقا إلا وأنتم أعلم منه وأفضل.
ثم حكى- سبحانه- ما كان من الملائكة فقال:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
سبحان: اسم مصدر بمعنى التسبيح أى التنزيه، وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يستعمل معه.
وهذه الآية الكريمة واقعة موقع الجواب عن سؤال يخطر في ذهن السامع للجملة السابقة، إذ الشأن أن يقال عند سماعهم قوله- تعالى-: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ، ماذا كان من الملائكة؟
هل أنبأوا بأسماء المسميات المعروضة عليهم؟ فقال- تعالى-: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلخ الآية.
ولو قال الملائكة: لا علم لنا بأسماء هذه المسميات لكان جوابهم على قدر السؤال، ولكنهم قصدوا الاعتراف بالعجز عن معرفة أسماء تلك المسميات المعروضة على أبلغ وجه فنفوا عن أنفسهم أن يعلموا شيئا غير ما يعلمهم الله، ودخل في ضمن هذا النفي العام الاعتراف بالقصور عن معرفة الأسماء المسئول عنها.
ومعنى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ أى: أنت يا ربنا العليم بكل شيء، الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك، والعدل التام.
وقدم الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة، ليكون وصفه بالعلم متصلا بنفيهم عن أنفسهم في قولهم: لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا.
وبعد أن بين القرآن أن الملائكة قد اعترفوا بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه، وجه- سبحانه- الخطاب إلى آدم، يأمره فيه بأن يخبر الملائكة بالأسماء التي سئلوا عنها، ولم يكونوا على علم بها، فقال- تعالى-:
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.
ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله- تعالى- أنه قد أذن لآدم في أن يخبر الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم، ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه، إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة.
وعلم الغيب يختص به واجب الوجود- سبحانه- لأنه هو الذي يعلم المغيبات بذاته، وأما العلم بشيء من المغيبات الحاصل من تعليم الله فلا يقال لصاحبه إنه يعلم الغيب.
وقوله- تعالى- أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ
…
إلخ الآية، استحضار وتأكيد لمعنى قوله قبل ذلك، إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. وإعادة له على وجه من التفصيل أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم، وما يضمرونه في أنفسهم.
وفي قوله: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ
…
إلخ تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، حيث بادروا بالسؤال عن الحكمة، وكان الأولى أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الألوهية، فيتركوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم.
ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآيات، أن الله- تعالى- قد أظهر فيها فضل آدم- عليه السلام من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له، فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية، ثم إن العلم الذي يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل، ويحوم حوله الخطأ. فيقع صاحبه في الإفساد من حيث إنه يريد الإصلاح، بخلاف العلم الذي يتلقاه الإنسان من تعليم الله، فإنه علم مطابق للواقع قطعا، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإصلاح، وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض، ومن هنا، كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض.
وبعد أن بين القرآن في الآيات السابقة بعض الكرامات التي خص الله بها آدم، انتقل إلى