الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أخبر- سبحانه- بأنهم بسبب سوء أعمالهم قد زادهم الله ضلالا وخسرا فقال:
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً.
لأنهم استمروا في نفاقهم وشكهم، ومن سنة الله أن المريض إذا لم يعالج مرضه زاد لا محالة مرضه، إذ المرض ينشئ المرض، والانحراف يبدأ يسيرا ثم تنفرج الزاوية في كل خطوة وتزداد.
والمعنى: أن هؤلاء المنافقين قد زادهم الله رجسا على رجسهم، ومرضا على مرضهم، وحسدا على حسدهم، لأنهم عموا وصموا عن الحق، ولأنهم كانوا يحزنون لأى نعمة تنزل بالمؤمنين. كما قال- تعالى-: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ، وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبتهم فقال: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
أَلِيمٌ أى: مؤلم وموجع وجعا شديدا. من ألم- كفرح- فهو ألم، وآلمه يؤلمه إيلاما، أى:
أوجعه إيجاعا شديدا.
والكذب: الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع. ولقد كان المنافقون كاذبين في قولهم «آمنا بالله وباليوم الآخر» وهم غير مؤمنين، وجعلت الآية الكريمة العذاب الأليم مرتبا على كذبهم مع أنهم كفرة، والكفر أكبر معصية من الكذب، للإشعار بقبح الكذب، وللتنفير منه بأبلغ وجه، فهؤلاء المنافقون قد جمعوا الخستين، الكفر الذي توعد الله مرتكبه بالعذاب العظيم، والكذب الذي توعد الله مقترفه بالعقاب الأليم.
وعبر بقوله: كانُوا يَكْذِبُونَ لإفادة تجدد الكذب وحدوثه منهم حينا بعد حين، وأن هذه الصفة هي أخص صفاتهم، وأبرز جرائمهم، ثم وصفهم الله- تعالى- بعد ذلك بجملة من الرذائل والقبائح مضافة إلى قبائحهم السابقة فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
الفساد: خروج الشيء عن حالة الاعتدال والاستقامة، وعن كونه منتفعا به، وضده الصلاح، يقال: فسد الشيء فسادا، وأفسده إفسادا.
والمراد به هنا كفرهم، ومعاصيهم، ومن كفر بالله وانتهك محارمه فقد أفسد في الأرض، لأن الأرض لا تصلح إلا بالتوحيد والطاعة.
ومن أبرز معاصى هؤلاء المنافقين، ما كانوا يدعون إليه في السر من تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشبه في طريق دعوته، والتحالف مع المشركين ضد المسلمين كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
وسلك القرآن هذا الأسلوب فقال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ بالبناء للمفعول دون أن يسند الفعل إلى فاعله، لأن مصدر القول المعبر عن النهى عن الإفساد ليس مصدرا واحدا، فقد يصل آذانهم هذا النهى مرة من صريح القول. وأخرى مما كانوا يقابلون به من ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من تجهم وإعراض.
وعلق بالفعل الذي هو الإفساد قوله: فِي الْأَرْضِ إيذانا بأن الإفساد مهما ضاقت حدوده، فإنه لا بد يوما أن يتعدى الحدود إلى ما وراء ذلك فقد يعم ويشمل إذا لم يشتد في الاحتياط له، لذلك جعل ظرف إفسادهم الأرض كلها مع أنهم موجودون في بقعة محصورة هي المدينة المنورة.
ولقد حكى القرآن جوابهم على نصيحة الناصحين وما فيه من تبجح وادعاء فقال:
قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ.
فقد بالغوا في الرد فحصروا أنفسهم أولا في الإصلاح مبالغة المفجوع الذي أذهلته المفاجأة بكشف أستار حقيقته، فتراهم لم يقتصروا على أن يقولوا: إنا مصلحون بل قالوا «إنما» .
ثم أكدوا الجملة بكونها اسمية ليدلوا بذلك على أن شأنهم في الإصلاح ثابت لازم.
قال الراغب: صوروا إفسادهم بصورة الإصلاح لما في قلوبهم من المرض، كما في قوله- تعالى- أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. وقوله: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. وقوله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.
ولقد كذبهم الله- تعالى- تكذيبا مؤكدا في دعواهم أنهم مصلحون فقال:
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
فأنت ترى أن القرآن الكريم قد وضع في الرد عليهم جملة صدرها بأداة الاستفتاح إيذانا بأن
ما قالوه يجب أن يهمل إهمالا، بل يجب أن يكون وصفهم بالإفساد قضية مبتدأة مقررة حتى يتلقاها السامع وهو منتبه النفس، حاضر الذهن.
ثم أكد الجملة بعدة تأكيدات منها: وصل «ألا» «بإن» الدالة على تأكيد الخبر وتحقيقه، ومنها تأكيد الضمير بضمير منفصل حتى يتم التصاق الخبر بالمبتدأ، ومنها اسمية الجملة، ومنها إفادة قصرهم على الإفساد في مقابل تأكيدهم أنهم هم المصلحون.
ولما كان هذا الرد المؤكد عليهم يستدعى عجبا، لأنهم زعموا أنهم لا حال لهم إلا الإصلاح، مع أنهم في الحقيقة لا حال لهم إلا الإفساد، لما كان الأمر كذلك، فقد أزال القرآن هذا العجب بقوله:
وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
أى: أنهم ما قالوه إلا عن غباء استولى على إحساسهم، ونفى عنهم الشعور بما يصدر عنهم من الفساد، فأمسوا لا يدركون من شأن أنفسهم شيئا، ومن أسوأ ألوان الجهل أن يكون الإنسان مفسدا ولا يشعر بذلك، مع أن أثر فساده ظاهر في العيان، مرئى لكل ذي حس.
فعدم شعورهم بالفساد الواقع منهم منبئ باختلاف آلات إدراكهم، حتى صاروا يحسبون الفساد صلاحا، والشر خيرا.
وليس عدم شعورهم رافعا العقاب عنهم، لأن الجاهل لا يعذر بجهله خصوصا إذا كان جهله يزول بأدنى تأمل لوضوح الأدلة، وسطوع البراهين.
ثم بين القرآن أن الناصحين قد أمروهم بالمعروف بعد أن نهوهم عن المنكر فقال:
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ.
المراد من الناس: المؤمنون بالرسول صلى الله عليه وسلم الصادقون في إيمانهم.
السفهاء: جمع سفيه، وأصل السفه: الخفة والرقة والتحرك والاضطراب يقال: ثوب سفيه، إذا كان رديء النسج خفيفه، أو كان باليا رقيقا. وتسفهت الريح الشجر. أى: مالت به. وزمام سفيه: كثير الاضطراب، لمنازعة الناقة إياه، وشاع في خفة العقل وضعف الرأى.
وهو المعنى المقصود بالسفهاء في الآية. فقد كان المنافقون يصفون المسلمين بذلك فيما بينهم.
وروى أنهم كانوا يقولون: أنؤمن كما آمن سفيه بنى فلان، وسفيه بنى فلان؟! فأوحى الله للنبي صلى الله عليه وسلم بهذا الذي كانوا يقولونه.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم وصفوهم بالسفه وهم العقلاء المراجيح؟ قلت لأن المنافقين لجهلهم وإخلالهم بالنظر، اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، وأن ما عداه باطل، ومن