المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ١

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الاول]

- ‌مقدّمة

- ‌سورة الفاتحة

- ‌[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة البقرة

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 25]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 39]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 44]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 47]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 48]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 49]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 50]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 52]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 53]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 54]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 57]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 60]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 61]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 62]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 83]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 88]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 93]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 100]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 101 الى 103]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 104]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 105]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 109]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 110]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 113]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 114]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 115]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 118]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 121]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 124]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 129]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 134]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 141]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 144]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 145 الى 150]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 158]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 170]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 171]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 177]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 186]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 187]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 189]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 213]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 214]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 221]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 227]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 228 الى 232]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 234]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 235]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 249]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 253]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 254]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 255]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 256]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 257]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 258]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 259 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 264]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 265]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 269]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 282]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 283]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 284]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]

- ‌الفهرس

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

فكانوا حيث أرادوا لأنفسهم من الصغار والهوان.

والضمير في قوله: فَجَعَلْناها يعود إلى العقوبة التي هي مسخهم قردة و «نكالا» أى عبرة تنكل المعتبر بها بحيث تمنعه وتردعه من ارتكاب الشر.

يقال: نكل به تنكيلا إذا صنع به صنعا يردعه ويجعل غيره يخاف ويحذر. والاسم النكال وهو ما نكلت به غيرك، وأصله من النكل- بالكسر- وهو القيد الشديد وجمعه أنكال.

وقوله: «لما بين يديها وما خلفها. أى: للذين كانوا قبل هذه العقوبة وعاشوا حتى شاهدوها، وللذين أتوا بعدها وعرفوا عن يقين خبرها.

والمعنى: فجعلنا هذه العقوبة عبرة زاجرة لمن كان قبلها وعاش حتى رآها ولمن أتى بعدها وعلم يقينا بحال العادين في السبت الذين مسخوا بسبب عصيانهم تحذيرا له من أن يعمل عملهم، فيمسخ كما مسخوا، ويحل به العذاب الذي حل بهم. كما جعلناها أيضا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الذين يسمعون قصتها فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بالعظات، ويعتبروا بالمثلات.

ثم ساق القرآن بعد ذلك قصة من قصص بنى إسرائيل تدل على تنطعهم في الدين، ومحاولتهم تضييق ما وسعه الله عليهم، وتهربهم من الانصياع لكلمة الحق، وتشككهم في صدق أنبيائهم، وتعنتهم في السؤال. وهذه القصة هي قصة أمرهم على لسان نبيهم موسى- عليه السلام بذبح بقرة. استمع إلى القرآن الكريم، وهو يحكى هذه القصة بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول.

[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

ص: 162

روى المفسرون أنه كان في بنى إسرائيل رجل غنى، وله ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى فألقاه فيها، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى نبيهم موسى- عليه السلام يدعى عليهم القتل، فسألهم موسى- عليه السلام فجحدوا فسألوه أن يدعو الله ليبين لهم بدعائه القاتل الحقيقي، فدعا موسى ربه فأوحى الله- تعالى- إليه أن يطلب منهم أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً

«1» .

(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 197 بتصرف وتلخيص وهناك روايات أخرى في شأن هذه القصة ذكرها ابن جرير وأبو حيان وغيرهما لم نذكرها لأنها لا تختلف عن النص الذي سقناه إلا في التفاصيل.

ص: 163

وقد ساق القرآن الكريم هذه القصة بأسلوبه البديع الذي يأخذ بمجامع القلوب، ويحرك النفوس إلى النظر والاعتبار، فقال تعالى:

وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً، قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.

ومعنى الآية الكريمة: واذكروا يا بنى إسرائيل- لتعتبروا وتتعظوا وقت أن حدث في أسلافكم قتيل ولم يعرف الجاني. فطلب بعض أهله وغيرهم ممن يهمه الأمر من موسى- عليه السلام أن يدعو الله- تعالى- ليكشف لهم عن القاتل الحقيقي، فقال لهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فدهشوا وقالوا بسفاهة وحماقة أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ أى أتجعلنا موضع سخريتك؟ قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين يخبرون عنه بما لم يأمر به.

والذي عليه جمهور المفسرين أن أمرهم بذبح البقرة كان بعد تنازعهم في شأن القاتل من هو؟ وذلك ليعرف القاتل الحقيقي إذا ضرب القتيل ببعضها، كما سيأتى في قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ.

وقد أمرهم الله- تعالى- بذبح بقرة دون غيرها من الحيوانات لأنها من جنس ما عبدوه وهو العجل، وفي أمرهم بذلك تهوين لشأن هذا الحيوان الذي عظموه وعبدوه وأحبوه فكأنه- سبحانه- يقول لهم: إن هذا البقر الذي يضرب به المثل في البلادة، لا يصلح أن يكون معبودا من دون الله، وإنما يصلح للحرث والسقي والعمل والذبح.

وقولهم أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ يدل على سفههم وسوء ظنهم بنبيهم وعدم توقيرهم له وجهلهم بعظمة الله- تعالى- وما يجب أن يقابل به أمره من الانقياد والامتثال، لأنهم لو كانوا عقلاء لامتثلوا أمر نبيهم، وانتظروا النتيجة بعد ذلك. ولكنهم قوم لا يعقلون.

ولما كان قولهم هذا القول يدل على اعتقادهم بأن موسى- عليه السلام قد أخبر عن الله بما لم يؤمر به، أجابهم موسى بقوله: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ: أى ألتجئ إلى الله وأبرأ إليه من أن أكون من السفهاء الذين يروون عنه الكذب والباطل، وفي هذا الجواب تبرؤ وتنزه عن الهزء، وهو المزاح الذي يخالطه احتقار واستخفاف بالممازح معه- لأنه لا يليق بعقلاء الناس فضلا عن رسل الله- عليهم السلام كما أن فيه- أيضا- ردا لهم- عن طريق التعريض بهم- إلى جادة الأدب الواجب في جانب الخالق، حيث بين لهم أن ما ظنوه به لا يليق إلا بمن يجهل عظمة الله- تعالى-.

قال فضيلة المرحوم الشيخ محمد الخضر حسين عند تفسيره للآية الكريمة:

ص: 164

(وقد نبهت الآية الكريمة، على أن الاستهزاء بأمر من أمور الدين جهل كبير، ومن الجهل ما يلقى صاحبه في أسوأ العواقب، ويقذف به في عذاب الحريق، ومن هنا منع المحققون من أهل العلم استعمال الآيات كأمثال يضربونها في مقام المزح والهزل، وقالوا: إنما أنزل القرآن الكريم ليتلى بتدبر وخشوع، وليعمل به بتقبل وخضوع)«1» .

هذا وما أرشدهم إليه نبيهم- عليه السلام كان كافيا لحملهم على أن يذبحوا أى بقرة تنفيذا لأمر ربهم، ولكن طبيعتهم الملتوية المعقدة لم تفارقهم، فأخذوا يسألون كما أخبر القرآن عنهم بقوله: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟

أى: قال بنو إسرائيل لموسى اطلب لنا من ربك أن يبين لنا حالها وصفاتها «2» . وسبب سؤالهم عن صفتها، تعجبهم من بقرة مذبوحة بأيديهم، يضرب ببعضها ميت لتعود إليه الحياة، وكأنهم- لقلة فهمهم- قد توقعوا أن البقرة التي يكون لها أثر في معرفة قاتل القتيل، لا بد أن تكون لها صفة متميزة عن سائر جنسها.

وسؤالهم بهذه الطريقة يوحى بسوء أدبهم مع الله- تعالى- ومع نبيهم موسى- عليه السلام لأنهم قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ فكأنما هو رب موسى وحده، لا ربهم كذلك، وكأن المسألة لا تعنيهم هم إنما تعنى موسى وربه ومع هذا فقد أجابهم إجابة المربى الحكيم للأتباع السفهاء الذين ابتلى بهم فقال: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ «3» وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ.

أى: قال لهم موسى بعد أن أخبره الله بصفتها: إنه- تعالى- يقول: إن البقرة التي آمركم بذبحها لا مسنة ولا صغيرة، بل نصف بينهما، فاتركوا الإلحاح في الأسئلة، وسارعوا إلى امتثال ما أمرتم به.

(1) مجلة لواء الإسلام العدد السابع السنة الثانية ص 8.

(2)

(ما) هنا مراد بها السؤال عن الصفة كما يقول من يسمع الناس يتكلمون عن حاتم أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان، ولم يعلم صفتيهما ما حاتم؟ أو ما الأحنف؟ فيقال: كريم أو حليم.

(3)

الفارض المسنة اسم للبقرة التي انقطعت ولادتها من الكبر، وسميت بذلك لأنها فرضت سنها أى قطعتها وبلغت آخرها. والبكر هي الفتية مشتقة من البكرة- بالضم- وهي أول النهار، والمراد بها هنا التي لم تلد. قال ابن جرير (البكر من إناث البهائم وبنى آدم ما لم يفتحله الفحل) والعوان هي المتوسطة في السن:

وصح إضافة (بين) إلى اسم الإشارة (ذلك) لأنه أشير إلى الفارض والبكر. قال ابن جرير: (العوان النصف التي قد ولدت بطنا من بطن.. وجمعها عون. يقال: امرأة عوان من نسوة عون، وحرب عوان إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد أخرى) .

ص: 165

وقد أكد- سبحانه- جملة قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ تنزيلا لهم منزلة المنكرين لتعنتهم في السؤال ومحاولتهم التنصل مما أمروا به.

ولم يقل القرآن الكريم من أول الأمر: إنها بقرة عوان بل جاء بالوصفين السابقين لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ للتعريض بغباوتهم، والتلميح بعدم فهمهم للأساليب الموجزة، لذا لجأ في جوابهم إلى تنكير التوصيف حتى لا يعودوا إلى تكرار الأسئلة.

وقوله تعالى: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ يقصد به قطع العذر مع الحض على الطاعة والامتثال.

وما موصولة، والعائد محذوف بعد حذف جاره، على طريقة التوسع، أى: إذا كان الأمر كذلك، فبادروا إلى تنفيذ ما تؤمرون به، لتصلوا إلى معرفة القاتل الحقيقي بأيسر طريق، ولا تضيقوا على أنفسكم ما وسعه الله لكم، ولا تكثروا من المراجعة، فإنها ليست في مصلحتكم.

ومع ذلك فقد أبوا إلا تنطعا، واستقصاء في السؤال، فأخذوا يسألون عن لونها بعد أن عرفوا سنها، فقالوا كما حكى القرآن عنهم:

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.

والمعنى: قال بنو إسرائيل لنبيهم، مشددين على أنفسهم بعد أن عرفوا صفة البقرة من جهة سنها: سل لنا ربك يبين لنا ما لونها، لكي يسهل علينا الحصول عليها، فأجابهم بقوله: إنه- تعالى- يقول إن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها، تعجب في هيئتها ومنظرها وحسن شكلها الناظرين إليها

قال ابن جرير: «والفقوع في الصفرة نظير النصوع في البياض، وهو شدته وصفاؤه» «1» .

وقال صاحب الكشاف: «الفقوع أشد ما يكون مع الصفرة، وأنصعه يقال في التوكيد أصفر فاقع ووارس، كما يقال: أسود حالك،.. ثم قال فإن قلت: فهلا قيل: صفراء فاقعة، وأى فائدة في ذكر اللون؟ قلت: الفائدة فيه التوكيد، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة، فكأنه قيل: شديد صفرتها فهو من قولك: جد جده» «2» .

وإلى هنا يكونون قد عرفوا وصف البقرة من حيث سنها ووصفها من حيث لونها، فهل أغنتهم هذه الأوصاف؟، كلا! ما أغنتهم. فقد أخذوا يسألون للمرة الثالثة عما هم في غنى عنه فقالوا كما حكى القرآن عنهم:

(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 335.

(2)

تفسير الكشاف ج 1 ص 219.

ص: 166

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا. وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ، تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ.

ومعنى الآيتين الكريمتين: قال بنو إسرائيل لموسى بعد أن عرفوا سن البقرة ولونها: سل من أجلنا ربك أن يزيدنا إيضاحا لحال البقرة التي أمرنا بذبحها. حيث إن البقر الموصوف بالوصفين السابقين كثير، فاشتبه علينا أيها نذبح، وإنا إن شاء الله بعد هذا البيان منك لمهتدون إليها، ومنفذون لما تكلفنا به، فأجابهم موسى بقوله:«إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث، مسلمة لا شية فيها» أى قال إنه- سبحانه- يقول: أنها بقرة سائمة ليست مذللة بالعمل في الحراثة ولا في السقي، وهي بعد ذلك سليمة من كل عيب، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة، فلما وجدوا أن جميع مشخصاتها ومميزاتها قد اكتملت قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الواضح، ولم يبق إشكال في أمرها، وبحثوا عنها، وحصلوها فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ لكثرة أسئلتهم وترددهم.

فقوله- تعالى-: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ حكاية لسؤالهم الثالث الذي وجهوه إلى نبيهم- عليه السلام ليزدادوا معرفة بحال البقرة وصفتها من حيث نفاستها، بعد أن عرفوا سنها ولونها.

فكأنهم يقولون له: إن في أجوبتك السابقة عنها تقصيرا يشق معه تمييزها، فسل من أجلنا ربك ليزيدنا بيانا لحالها، وكأنما أحسوا بأنهم قد أثقلوا عليه وتجاوزوا الحدود المعقولة في الطلب، فعللوا ذلك بقولهم.

إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا أى: لا تتضايق من كثرة أسئلتنا، فإن لنا عذرنا في هذا التكرار.

لأن البقر الموصوف بالعوان وبالصفرة الفاقعة كثير، فاشتبه علينا أمر تلك البقرة التي تريدنا أن نذبحها.

قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا في الثالثة، لأن للثلاثة في التكرير وقعا من النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك، ولذا كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة» «1» .

وقولهم: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ حض لنبيهم موسى- عليه السلام على الدعاء، ووعد له بالطاعة والامتثال، ودفع للسآمة عن نفسه من كثرة أسئلتهم، وتبرير لمسلكهم في كثرة المراجعة حتى يتفادوا غضبه، فكأنهم يقولون له:

(1) تفسير التحرير والتنوير ج 1 ص 533.

ص: 167

اجتهد في الدعاء من أجل أن يزيدنا ربك إيضاحا، وكشفا لحال تلك البقرة التي تريد منا أن نذبحها، وإنا- إن شاء الله- بسبب هذا الإيضاح سنهتدى إليها، ثم إلى القاتل الحقيقي، وبذلك ندرك الحكمة، التي من أجلها أمرتنا بذبحها.

قال ابن جرير: وأما قوله تعالى: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ فإنهم عنوا وإنا إن شاء الله لمبين لنا ما التبس علينا وتشابه من أمر البقرة التي أمرنا بذبحها. ومعنى اهتدائهم في هذا الموضع تبينهم ذلك الذي لزمهم ذبحه مما سواه من أجناس البقر» «1» .

وفي قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ، وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها إضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة، كانوا في غنى عنها لو أطاعوا نبيهم من أول الأمر، ولكنهم للجاجتهم، وسوء اختيارهم، وبعد أفهامهم عن مقاصد الشريعة، ضيقوا على أنفسهم دائرة الاختيار، فأصبحوا مكلفين بالبحث عن بقرة موصوفة بأنها متوسطة السن، لونها أصفر فاقع، تبهج الناظرين إليها، وهي، بعد ذلك، سائمة نفيسة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقى الزرع، سليمة من العيوب، ليس فيها لون يخالف لونها الذي هو الصفرة الفاقعة.

وقوله تعالى: لا ذَلُولٌ «2» صفة لبقرة، يقال: بقرة ذلول، أى: ريضة زالت صعوبتها، وإثارة الأرض: تحريكها وقلبها بالحرث والزراعة والحرث: شقها لإلقاء البذور فيها.

والمراد: نفى التذليل ونفى إثارة الأرض وسقى الزرع عن البقرة المطلوبة.

أى: هي بقرة صعبة لم يذللها العمل في حراثة الأرض، ولا في سقى الزرع، فهي معفاة من العمل في هذه الأشياء. ولا في قوله تعالى: لا ذَلُولٌ للنفي، وفي قوله تعالى:

وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مزيدة لتوكيد الأولى، لأن المعنى: لا ذلول تثير وتسقى، وأعيد في قوله تعالى وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مراعاة للاستعمال الفصيح.

وقوله- تعالى-: مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها صفتان للبقرة، ومسلمة مفعلة من السلامة.

والشية: اللون المخالف لبقية لون الشيء، وأصله من وشى الشيء، وهو تحسين عيوبه التي تكون فيه بضروب مختلفة من ألوان سداه ولحمته.

والمعنى: إن هذه البقرة سليمة من العيوب المختلفة، وليس فيها لون يخالف لون جلدها من

(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 358.

(2)

الذلول- بفتح الذال- فعول من ذل ذلا- بكسر الذال- في المصدر بمعنى لأن وسهل، وأما الذل- بضم الذال- فهو ضد العز، وهما مصدران لفعل واحد خص في الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين.

ص: 168

بياض أو سواد أو غيرهما، بل هي صفراء كلها.

وأرادوا بالحق في قوله تعالى: قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ الوصف الواضح الذي لا اشتباه فيه ولا احتمال، فكأنهم يقولون له: الآن- فقط- جئتنا بحقيقة وصف البقرة، فقد ميزتها عن جميع ما عداها، من جهة اللون وكونها من السوائم لا العوامل، وبذلك لم يبق لنا في شأنها اشتباه أصلا.

والفاء في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ قد عطفت ما بعدها على محذوف يدل عليه المقام، والتقدير فظفروا بها فذبحوها، أى: فذبح قوم موسى البقرة التي وصفها الله- تعالى- لهم، بعد ما قاربوا أن يتركوا ذبحها، ويدعوا ما أمروا به، لتشككهم في صحة ما يوجه إليهم من إرشادات ولكثرة مما طلتهم.

قال صاحب الكشاف: وقوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ استثقال لاستقصائهم، وأنهم لتطويلهم المفرط. وكثرة استكشافهم، ما كادوا يذبحونها وما كادت تنتهي سؤالاتهم، وما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها وتعمقهم، وقيل: ما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها، وقيل لخوف الفضيحة في ظهور القاتل» «1» .

ثم كشف الله- تعالى- بعد ذلك عن الغاية التي من أجلها أمروا بذبح البقرة فقال تعالى:

وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

المعنى: واذكروا يا بنى إسرائيل إذ قتلتم نفسا، فاختلفتم وتنازعتم في قاتلها، ودفع كل واحد منكم التهمة عن نفسه، والله- عز وجل مخرج لا محالة ما كتمتم من أمر القاتل، فقد بين- سبحانه- الحق في ذلك فقال على لسان رسوله موسى- عليه السلام اضربوا القتيل بأى جزء من أجزاء البقرة، فضربتموه ببعضها فعادت إليه الحياة- بإذن الله- وأخبر عن قاتله، وبمثل هذا الإحياء لذلك القتيل بعد موته، يحيى الله الموتى للحساب والجزاء يوم القيامة، ويبين لكم الدلائل الدالة على أنه قدير على كل شيء رجاء أن تعقلوا الأمور على وجهها السليم.

وجمهور المفسرين على أن واقعة قتل النفس وتنازعهم فيها، حصلت قبل الأمر بذبح البقرة، إلا أن القرآن الكريم أخرها في الذكر ليعدد على بنى إسرائيل جناياتهم وليشوق النفوس إلى معرفة الحكمة من وراء الأمر بذبحها، فتتقبلها بشغف واهتمام.

قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما للقصة لم تقص على ترتيبها، وكان حقها أن يقدم ذكر

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 230.

ص: 169

القتيل والضرب ببعض البقرة على الأمر بذبحها، وأن يقال: وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها؟ قلت: كل ما قص من قصص بنى إسرائيل إنما قص تعديدا لما وجد منهم من الجنايات، وتقريعا لهم عليها، ولما جدد فيهم من الآيات العظام، وهاتان قصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين.

فالأولى: لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك.

والثانية: للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية العظيمة، وإنما قدم قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر القتيل، لأنه لو عمل على عكسه لكانت القصة واحدة، ولذهب الغرض من تثنية التقريع، ولقد روعيت نكتة بعد ما استؤنفت الثانية استئناف قصة برأسها، أن وصلت بالأولى، دلالة على اتحادهما، بضمير البقرة لا باسمها الصريح في قوله: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

حتى تبين أنهما قصتان فيما يرجع إلى التقريع ونيته، بإخراج الثانية مخرج الاستئناف مع تأخيرها، وأنها قصة واحدة بالضمير الراجع إلى البقرة» «1» .

وقد أسند القرآن الكريم القتل إلى جميعهم في قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ مع أن القاتل بعضهم، للإشعار بأن الأمة في مجموعها وتكافلها كالشخص الواحد.

وأسند القتل- أيضا- إلى اليهود المعاصرين للعهد النبوي، لأنهم من سلالات أولئك الذين حدث فيهم القتل، وكثيرا ما يستعمل القرآن الكريم هذا الأسلوب للتنبيه على أن الخلف قد سار على طريقة السلف في الانحراف والضلال.

وقوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ فِيها بيان لما حصل منهم بعد قتل النفس التي ذكرنا قصتها ومعنى ادارأتم فيها: اختلفتم وتخاصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضا أى يدفعه ويزحمه، أى تدافعتم بمعنى طرح قتلها بعضكم على بعض فدفع المطروح عليه الطارح، ليدفع الجناية عن نفسه ويتهم غيره.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ معناه: والله- تعالى- مظهر ومعلن ما كنتم تسترونه من أمر القتيل الذي قتلتموه، ثم تنازعتم في شأن قاتله، وذلك ليتبين القاتل الحقيقي بدون أن يظلم غيره.

وهذه الجملة الكريمة وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ معترضة بين قوله تعالى فَادَّارَأْتُمْ وبين قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

. وفائدته إشعار المخاطبين قبل أن يسمعوا ما أمروا بفعله، بأن القاتل الحقيقي سينكشف أمره لا محالة.

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 220.

ص: 170

قال صاحب تفسير التحرير والتنوير: «وإنما تعلقت إرادة الله بكشف حال من قتل هذا القتيل- مع أنه، ليس أول قتيل طل دمه في الأمم- إكراما لموسى- عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم، وبمرأى ومسمع منه، لا سيما وقد قصد القاتلون استغفاله ودبروا المكيدة في إظهار المطالبة بدمه، فلو لم يظهر الله- تعالى- هذا الدم ويبين سافكه- لضعف يقين القوم برسولهم موسى- عليه السلام ولكان ذلك مما يزيد شكهم في صدقه فينقلبوا كافرين، فكان إظهار القاتل الحقيقي إكراما من الله تعالى- لموسى، ورحمة بالقوم لئلا يضلوا» «1» .

وقوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها

إرشاد لهم إلى الوسيلة التي عن طريقها سيهتدون إلى القاتل الحقيقي، والضمير في قوله اضْرِبُوهُ

يعود على النفس، وتذكيره مراعى فيه معناها هو الشخص أو القتيل.

وضرب القتيل ببعضها- أيا كان ذلك البعض- دليل على كمال قدرة الله تعالى. وفيه تيسير عليهم. واسم الإشارة في قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

مشار به إلى محذوف دل عليه سياق الكلام.

والتقدير: فقلنا لقوم موسى الذين تنازعوا في شأن القتيل اضربوه ببعض البقرة ليحيا، فضربوه فأحياه الله، وأخبر القتيل عن قاتله، وكمثل إحيائه يحيى الله الموتى في الآخرة للثواب والعقاب.

وبذلك تكون الآية ظاهرة في أن الذي ضرب ببعض البقرة قد صار حيا بعد موته.

قال الإمام ابن جرير- رحمه الله: فإن قيل: وما كان معنى الأمر بضرب القتيل ببعضها؟

قيل: ليحيا فينبئ نبي الله والذين ادارءوا فيه عن قاتله.

فإن قال: وأين الخبر عن أن الله- تعالى- أمرهم بذلك؟ قيل: ترك ذلك اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام الدال عليه، والمعنى: فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا فضربوه فحيي، يدل على ذلك قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

«2» .

والمقصود بالآيات في قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

الدلائل الدالة على أن الله على كل شيء قدير والتي منها ما شاهدوه بأعينهم من ترتب الحياة على ضرب القتيل بعضو ميت، وأخباره عن قاتله، واهتدائهم بسبب ذلك إلى القاتل الحقيقي. وذلك لكي تستعملوا عقولكم في الخير. وتوقنوا بأن من قدر على إحياء نفس، واحدة فهو قادر على إحياء الأنفس جميعا لأنه- سبحانه- لا يصعب عليه شيء.

(1) تفسير التحرير والتنوير ج 1 ص 529.

(2)

تفسير ابن جرير ج 1 ص 309.

ص: 171

هذا ولصاحب النار- رحمه الله رأى في تفسير الآية الكريمة، فهو يرى أن المراد بالإحياء في قوله تعالى كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

حفظ الدماء واستبقاؤها وليس المراد به عنده الإحياء الحقيقي بعد الموت.

فقد قال في تفسيره: وأما قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

فهو بيان لإخراج ما يكتمون، ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة. قيل: إن المراد اضربوا المقتول بلسانها وقيل بفخذها وقيل بذنبها، وقالوا: أنهم ضربوه فعادت إليه الحياة، وقال قتلني أخى أو ابن فلان، إلخ ما قالوه، والآية ليست أيضا نصا في مجمله فكيف بتفصيله؟ والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلة عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله ليعرف الجاني من غيره فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برىء من الدم ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية.

ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضة لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أى يحييها بمثل هذه الأحكام، وهذا الإحياء على حد قوله تعالى وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وقوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ.

فالإحياء هنا معناه الاستبقاء كما هو المعنى في الآيتين «1»

والذي نراه أن المراد بالإحياء في قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

الإحياء الحقيقي للميت بعد موته، وأن تفسيره بحفظ الدماء واستبقائها ضعيف لما يأتى:

أولا: مخالفته لما ورد عن السلف في تفسير الآية الكريمة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: «لما ضرب المقتول ببعضها- يعنى ببعض البقرة- جلس حيا، فقيل له من قتلك؟ قال: بنو أخى قتلوني ثم قبض «2» ..

ثانيا: ما ذهب إليه صاحب المنار لا يدل عليه القرآن الكريم لا إجمالا ولا تفصيلا، ولا تصريحا ولا تلميحا، لأن قوله تعالى كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى

ظاهر كل الظهور، في أن المراد بالإحياء رد الحياة إليهم بعد ذهابها عنهم، إذ الموتى هم الذين ماتوا بالفعل، وإحياؤهم رد أرواحهم بعد موتهم وليس هناك نص صحيح يعتمد عليه في مخالفة هذا الظاهر، ولا توجد أيضا قرينة مانعة من إرادة هذا المعنى المتبادر من الآية بأدنى تأمل وما دام الأمر كذلك فلا يجوز تأويله بما يخالف ما يدل عليه اللفظ دلالة واضحة، ومن التعسف الظاهر أن يراد من الموتى

(1) تفسير المنار ج 1 ص 151. [.....]

(2)

تفسير ابن جرير ج 1 ص 342.

ص: 172

الأحياء من الناس، وبإحياء الموتى تشريع العقوبات صونا لدماء الأحياء منهم والله تعالى حينما أراد أن يدل على هذا المعنى قال وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.

فهذه الآية الكريمة تدل على أن القصاص من الجناة يحفظ على الناس حياتهم بدون التواء أو تعمية.

ثالثا: تفسير الإحياء برد الحياة إلى الموتى، كما قال المفسرون، يؤدى إلى غرس الإيمان بصحة البعث في القلوب، لأن المعنى عليه، كهذا الإحياء العجيب- وهو إحياء القتيل بضربه ببعض البقرة ليخبر عن قاتله- يحيى الله الموتى بأن يبعثهم من قبورهم يوم القيامة، ليحاسبهم على أعمالهم، فيكون إثباتا للبعث عن طريق المشاهدة حتى لا ينكره منكر.

رابعا: قوله تعالى بعد ذلك: وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

قرينة قوية على أن المراد بالإحياء، رد الحياة إلى الموتى بعد موتهم لأن المراد ب آياتِهِ

في هذا الموضع، - كما قال المفسرون- الدلائل الدالة على عظم قدرته- تعالى- وذلك إنما يكون في خلق الأمور العجيبة الخارقة للعادة والتي ليست في طاقة البشر، كإحياء الموتى وبعثهم من قبورهم للحساب والجزاء.

ثم بين القرآن الكريم، بعد ذلك أن هذه المعجزات الباهرة التي تزلزل المشاعر، وتهز القلوب، وتبعث في النفوس الإيمان، لم تؤثر في قلوب بنى إسرائيل الصلدة لأنه قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم، ومحا الاعتبار بها من عقولهم، فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.

والمعنى: ثم صلبت قلوبكم- يا بنى إسرائيل- وغلظت من بعد أن رأيتم ما رأيتم من معجزات منها إحياء القتيل أمام أعينكم، فهي كالحجارة في صلابتها وببوستها، بل هي أشد صلابة منها، لأن من الحجارة ما فيه ثقوب متعددة، وخروق متسعة، فتتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات، ولأن من بينها ما يتصدع تصدعا قليلا فيخرج منه ماء العيون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته، أما أنتم- يا بنى إسرائيل- فإن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ ولا تنقاد للخير، ولا تفعل ما تؤمر به، مهما تعاقبت عليكم النعم والنقم والآيات، وما الله بغافل عما تعملون:

وقوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً بيان لما طرأ على قلوب بنى إسرائيل من بعد عن الاعتبار، وعدم تأثر بالعظات وإعراض عن الإنابة والإذعان لآيات الله وتحلل من المواثيق التي أقروا بها على أنفسهم.

ص: 173

وجيء (بثم) التي هي للترتيب والتراخي. لاستبعاد استيلاء الغلظة والقسوة على قلوبهم بعد أن رأوا الكثير من المعجزات، فكأنه- سبحانه- يقول لهم- بعد أن ساق لهم قصة البقرة وما ترتب عليها من منافع وعبر: ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم- يا بنى إسرائيل- ولم تفدكم المعجزات: فقست قلوبكم وكان من المستبعد أن تقسوا.

وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه زيادة تعجيب من إحاطة القساوة بقلوبهم، بعد توالى النعم، وتكاثر المعجزات التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في الآيات السابقة.

واسم الإشارة (ذلك) مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في الآيات السابقة.

و (أو) في قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً قيل: للتنويع، فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة، فمنها ما هو قاس كالحجارة، ومنها ما هو أشد منها قسوة، أى: فبعض قلوبكم كالحجارة في صلابتها وبعضها أشد من الحجارة في صلابتها.

وقيل: للتشكيك بالنسبة للمخاطبين، لا إلى المتكلم، كأن يقول أحد الناس لآخر، إن هذه القلوب قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها.

والأظهر أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة والمعنى: ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد منها قسوة، إذ لا شعور فيها يأتى بخير، والحجارة ليست كذلك.

وشبه- سبحانه- قلوبهم بالحجارة في القسوة، لأن صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر، حيث إنها محسوسة لديهم ومتعارفة بينهم ولذا جاء التشبيه بها.

قال صاحب الكشاف: فإن قلت لم قيل أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟ قلت: لكونه أبين وأدل على فرط القسوة، ووجه آخر، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة. كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة» . «1»

وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ، وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه.

فكأنه- سبحانه- يقول لهم. إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقا واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقا مختلفة

(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 221.

ص: 174

تنجم عنها العيون النابعة، والآبار الجوفية المفيدة. ومنها ما ينقاد لأوامر الله عن طواعية وامتثال. أما قلوبكم أنتم فلا يصدر عنها نفع، ولا تتأثر بالعظات والعبر، ولا تنقاد للحكم التي من شأنها هداية النفوس.

وقوله تعالى: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد وتخويف، حيث إنه- سبحانه- سيحاسبهم على أعمالهم، وسيذيقهم ما يستحقونه من عقاب جزاء جحودهم لنعمه، وعصيانهم لأمره.

وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت بنى إسرائيل بما هم أهله. من قساوة القلب وانطماس البصيرة، وعدم التأثر بالعظات مهما كثرت. وبالآيات مهما توالت.

ما يؤخذ من هذه القصة من العظات والعبر:

اشتملت هذه القصة على كثير من العظات والتوجيهات الإلهية من ذلك.

1-

دلالتها على ما جبل عليه بنو إسرائيل من فظاظة وغلظة، وسوء أدب مع مرشديهم، وإحفاء في الأسئلة بلا موجب، وعدم استعداد للتسليم بما يأتيهم به الرسل، ومما طلة في الانصياع للتكاليف، وانحراف عن الطريق المستقيم.

2-

دلالتها على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه، فقد أخبر في هذه القصة الواقعية التي لم يشهد حوادثها بما أوحاه الله إليه وهذا الإخبار من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم كما أنها تدل على صدق نبوة موسى- عليه السلام وأنه رسول من رب العالمين.

3-

دلالتها على أن التنطع في الدين، والإلحاف في المسألة يؤديان إلى التشديد في الأحكام، لأن بنى إسرائيل لو أنهم أول الأمر عمدوا إلى ذبح أى بقرة لأجزأتهم ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.

أخرج ابن جرير- رحمه الله عن ابن عباس- رضي الله عنهما قال: «لو أن القوم أخذوا أدنى بقرة لأجزأتهم. لكنهم شددوا فشدد الله عليهم» «1» .

وقد أدى بهم هذا التنطع والتشديد إلى تضييق دائرة اختيارهم، وتكثير للشروط التي يجب توافرها في البقرة المطلوبة، وذلك لتأديبهم على مما طلتهم وبلادة عقولهم، وسوء تلقيهم للشريعة بأنواع من التقصير عملا وشكرا وفهما، وبذلك يعلم أن ما كلفهم الله به أولا هو ذبح بقرة ما، وأن ما أمروا به بعد ذلك من كونها صفراء سالمة من آثار الخدمة ليس من باب تأخير

(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 347.

ص: 175

البيان عن وقت الخطاب، وإنما هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على تعنتهم ولجاجهم وكثرة أسئلتهم.

وقد جاءت تعاليم الإسلام بالنهى عن كثرة السؤال قال تعالى:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ.

وفي الحديث الشريف: «ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوه، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه ما استطعتم» «1» .

قال صاحب النار: «وقد امتثل سلفنا لأمر الله فلم يشددوا على أنفسهم، فكان الدين عندهم فطريا وحنيفيا سمحا، ولكن من خلفهم عمد إلى ما عفا الله عنه فاستخرج له أحكاما استنبطها باجتهاده، حتى صار الدين حملا ثقيلا على الأمة فسئمته وملت وألقته وتخلت» «2» .

4-

قال الإمام ابن القيم- رحمه الله: وفي هذه القصة أنواع من العبر منها.

(أ) أنه لا يجوز مقابلة أمر الله الذي لا يعلم المأمور به وجه الحكمة فيه بالإنكار، فإن القوم لما قال لهم نبيهم إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قابلوا هذا الأمر بقولهم: أَتَتَّخِذُنا هُزُواً فلما لم يعلموا وجه الحكمة في ارتباط هذا الأمر بما سألوا عنه قالوا «أتتخذنا هزوا» . وهذا من غاية جهلهم بالله ورسوله، فإنه أخبرهم عن أمر الله لهم بذلك، ولم يكن هو الآمر به، ولو كان هو الآمر به لم يجز لمن آمن بالرسول أن يقابل أمره بذلك فلما قال لهم: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وتيقنوا أن الله- تعالى- أمره بذلك، أخذوا في التعنت بسؤالهم عن عينها ولونها، فلما أخبروا عن ذلك رجعوا إلى السؤال مرة ثالثة، فلما تعينت لهم ولم يبق إشكال توقفوا في الامتثال، ولم يكادوا يفعلون.

ثم من أقبح جهلهم وظلمهم قولهم لنبيهم: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فإن أرادوا بذلك: أنك لم تأت بالحق قبل ذلك في أمر البقرة، فتلك ردة وكفر ظاهر، وإن أرادوا: أنك الآن بينت لنا البيان التام في تعيين البقرة المأمور بذبحها فذلك جهل ظاهر، فإن البيان قد حصل بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً فإنه لا إجمال في الأمر ولا في الفعل ولا في المذبوح فقد جاء رسول الله بالحق من أول مرة.

(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 347.

(2)

تفسير المنار ج 1 ص 346.

ص: 176

قال الإمام بن جرير: «وقد كان بعض من سلف يزعم أن القوم ارتدوا عن دينهم وكفروا بقولهم لموسى «الآن جئت بالحق» وزعم أن ذلك نفى منهم أن يكون موسى- عليه السلام أتاهم بالحق في أمر البقرة قبل ذلك، وأن ذلك كفر منهم، وليس الأمر كما قال عندنا، لأنهم قد أذعنوا بالطاعة بذبحها، وإن كان قولهم الذي قالوه لموسى يعد من جهالاتهم وهفوة من هفواتهم» .

(ب) ومنها: الدلالة على صحة ما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم من معاد الأبدان، وقيام الموتى من قبورهم.

(ج) ومنها: إقامة أنواع الآيات والبراهين والحجج على عباده بالطرق المتنوعات، زيادة في هداية المهتدى، وإعذارا وإنذارا للضال:

(د) ومنها: الإخبار عن قساوة هذه الأمة وغلظها، وعدم تمكن الإيمان فيها.

قال عبد الصمد بن معقل عن وهب: كان ابن عباس يقول «إن القوم بعد أن أحيا الله تعالى- الميت فأخبرهم يقاتله، أنكروا قتله، وقالوا: والله ما قتلناه بعد أن رأوا الآيات الحق» .

(هـ) ومنها: مقابلة الظالم الباغي بنقيض قصده شرعا وقدرا، فإن القاتل قصد ميراث المقتول، ودافع القاتل عن نفسه، ففضحه الله- تعالى- وهتكه، وحرمه ميراث المقتول.

(و) ومنها: أن بنى إسرائيل فتنوا بالبقرة مرتين من سائر الدواب ففتنوا بعبادة العجل وفتنوا بالأمر بذبح البقرة، والبقرة من أبلد الحيوان حتى ليضرب به المثل في البلادة.

ثم قال الإمام ابن القيم في ختام حديثه عن هذه القصة: والظاهر أن هذه كانت بعد قصة العجل ففي الأمر بذبح البقرة تنبيه على أن هذا النوع من الحيوان الذي لا يمتنع من الذبح والحرث والسقي، لا يصلح أن يكون إلها معبودا من دون الله، وأنه إنما يصلح للذبح والحرث والسقي والعمل» «1» 5- دلالتها على قدرة الله- تعالى- فإن إحياء الميت عن طريق الضرب بقطعة من جسم بقرة مذبوحة- دليل على قدرة الله- تعالى- على الإحياء والإماتة وما هذا الضرب إلا وسيلة كشفت للناس عن طريق المشاهدة عن آثار قدرته- تعالى- التي لا يدرون كيف تعمل، فهم يرون آثارها الخارقة ولكنهم لا يعرفون كنهها، وصدق الله حيث يقول: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.

(1) إغاثة اللهفان ج 2 ص 30 لابن القيم.

ص: 177