الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والغلف: جمع أغلف، وهو الذي جعل له غلاف، ومنه قيل للقلب الذي لا يعي ولا يفهم، قلب أغلف، كأنه حجب عن الفهم بالغلاف.
قال ابن كثير: وقرأ ابن عباس- بضم اللام- وهو جمع غلاف. أى: قلوبنا أوعية لكل علم فلا نحتاج إلى علمك.
وقد رد الله- تعالى- على كذبهم هذا بما يدحضه ويفضحه فقال:
بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أى: أن قلوبهم ليست غلفا بحيث لا تصل إليها دعوة الحق بل هي متمكنة بأصل فطرتها من قبول الحق، ولكن الله أبعدهم من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء واستحبابهم العمى على الهدى.
والفاء في قوله: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ للدلالة على أن ما بعدها متسبب عما قبلها وما في قوله فَقَلِيلًا ما لتأكيد معنى القلة.
والمعنى أن الله لعنهم وكان هذا اللعن سببا لقلة إيمانهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، وقلة الإيمان ترجع إلى معنى أنهم لا يؤمنون إلا بقليل مما يجب عليهم الإيمان به. وقد وصفهم الله- تعالى- فيما سبق بأنهم كانوا يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
ثم نبه القرآن المؤمنين إلى نوع آخر من رذائل اليهود، ويتجلى هذا النوع في جحودهم الحق عن معرفة وعناد، وكراهتهم الخير لغيرهم يدافع الأنانية والحسد، وتحولهم إلى أناس يتميزون من الغيظ إذا ما رأوا نعمة تساق لغير أبناء ملتهم.
استمع إلى القرآن وهو يصور كل ذلك بأسلوبه البليغ الحكيم فيقول:
[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
روى المفسرون في سبب نزول الآية الأولى من هاتين الآيتين آثارا متعددة، من ذلك ما جاء عن عاصم بن عمرو بن قتادة الأنصارى عن رجال من قومه قالوا: مما دعانا إلى الإسلام مع رحمة الله وهداه، أنا كنا نسمع من رجال يهود حين كنا أهل شرك وكانوا أهل كتاب، عندهم علم ليس عندنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فكنا إذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: قد تقارب زمان نبي يبعث الآن، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله أجبنا حين دعانا إلى الله وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فآمنا به وكفروا به، ففينا وفيهم نزل قوله- تعالى- وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
…
إلخ الآية» «1» .
ومعنى الآيتين الكريمتين: ولما جاء إلى اليهود محمد صلى الله عليه وسلم ومعه القرآن الكريم وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه، مصدقا لما معهم من التوراة فيما يختص ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته، وكانوا قبل ذلك يستنصرون به على أعدائهم، لما جاءهم النبي المرتقب ومعه القرآن الكريم جحدوا نبوته، وكذبوا كتابه فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بئس الشيء الذي باعوا به أنفسهم. الكفر بما أنزل الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وكفرهم هذا كان من أجل البغي الذي استولى على نفوسهم، والحسد الذي خالط قلوبهم، وكراهية لأن ينزل الله وحيه على محمد العربي صلى الله عليه وسلم فباءوا بسبب هذا الخلق الذميم، بغضب مترادف متكاثر من الله «2» - تعالى- وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ جزاء كفرهم وحسدهم.
والمراد بالكتاب في قوله تعالى وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ القرآن الكريم، وفي تنكيره زيادة تعظيم وتشريف له، وفي الأخبار عنه بأنه من عند الله، إشارة إلى أن ما يوحى به- سبحانه- جدير بأن يتلقى بالقبول وحسن الطاعة لأنه صادر من الحكيم الخبير، والذي مع اليهود هو التوراة، ومعنى كون القرآن مصدقا لها، أنه يؤيدها ويوافقها في أصول الدين، وفيما يختص ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم وصفته.
وفي وصف القرآن الكريم بأنه مصدق لما معهم، زيادة تسجيل عليهم بالمذمة لأنهم لم يكفروا بشيء يخالف أصول كتابهم وإنما كفروا بالكتاب الذي يصدق كتابهم.
وقوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا.
بيان لحالتهم قبل البعثة المحمدية، فإن اليهود كانوا عند ما يحصل بينهم وبين أعدائهم نزاع،
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 123.
(2)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج 3 ص 282 للإمام ابن تيمية وقد ساق- رحمه الله أكثر من عشرة آثار في هذا المعنى عند حديثه عن هذه الآية.
يستنصرون عليهم بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل بعثته فيقولون اللهم انصرنا عليهم بالنبي الذي نجد نعته في التوراة، والاستفتاح معناه: طلب الفتح وهو الفصل في الشيء والحكم فيه، كما في قوله تعالى:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. ويستعمل بمعنى النصر لأن فيه فصلا بين الناس قال تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، فالمراد به في الآية الاستنصار.
ثم بين- سبحانه- حقيقة حالهم بعد أن جاءهم الكتاب والرسول فقال تعالى:
فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ أى: فلما جاءهم ما كانوا يستفتحون به على أعدائهم ويرتقبونه جحدوه وكفروا به.
وقال- سبحانه- فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا ولم يقل فلما جاءهم الكتاب أو الرسول، ليكون اللفظ أشمل، فيتناول الكتاب والرسول الذي جاء به لأنه لا يجيء الكتاب إلا عن طريق رسول.
ومعرفتهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه حاصلة بانطباق العلامات والصفات الواردة في التوراة عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان من الواجب عليهم أن يؤيدوا هذه المعرفة بالإيمان به، ولكن خوفهم على زوال رئاستهم وأموالهم، وفوات ما كانوا يحرصون عليه من أن يكون النبي المبعوث منهم لا من العرب، ملأ قلوبهم غيظا وحسدا، وأخذ هذا الغيظ والحسد يغالب تلك المعرفة حتى غلبها، وحال بينها وبين أن يكون لها أثر نافع لهم لعدم اقترانها بالقبول والتصديق.
ولقد حاول رئيسهم (عبد الله بن سلام) رضي الله عنه أن يصرفهم عن العناد وأقسم لهم بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق المصدق لما معهم أن يتبعوه ولكنهم عموا وصموا وتنقصوه ولذا لعنهم الله تعالى، وأبعدهم عن رحمته كما قال تعالى: فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
وقال- سبحانه- عَلَى الْكافِرِينَ ولم يقل عليهم، للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم كان بسبب كفرهم.
ثم ذكر- سبحانه- أنهم بكفرهم قد باعوا أنفسهم بثمن بخس. فقال تعالى: «بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله» أى: بئس الشيء الذي باع به اليهود أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده.
وجمهور المفسرين على أن اشْتَرَوْا هنا بمعنى باعوا، لأن أولئك اليهود، لما كانوا متمكنين من الإيمان الذي يفضى بهم إلى السعادة الأبدية بعد أن جاءهم ما عرفوا من الحق فتركوه،
واستمروا على كفرهم بغيا وحسدا وحبا في الرياسة وتعصبا لجنسيتهم لما كانوا كذلك، صار اختيارهم للكفر على الإيمان، بمنزلة اختيار صاحب السلعة ثمنها على سلعته، فكأنهم بذلوا أنفسهم التي كان باستطاعتهم الانتفاع بإيمانها، وقبضوا الكفر عوضا عنها فأنفسهم بمنزلة السلعة المبيعة وكفرهم بمنزلة ثمنها المقبوض، فبئس هذا الثمن الذي أوردهم العذاب الأليم.
وعبر- سبحانه- عن كفرهم بصيغة المضارع أَنْ يَكْفُرُوا وعن بيعهم لأنفسهم بالماضي، اشْتَرَوْا للدلالة على أنهم صرحوا بكفرهم بالقرآن الكريم من قبل نزول الآية، وإن بيعهم أنفسهم بالكفر طبيعة فيهم مستقرة منذ وقت بعيد، وأنهم ما زالوا مستمرين على تلك الطبيعة المنحرفة.
وقوله تعالى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، تعليل لكفرهم وبيان للباعث عليه، أى كفروا بما أنزل الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بدافع من البغي والحقد، وكراهة أن ينزل الله الوحى من فضله على من يشاء من عباده، فالبغي هنا مصدر بغى يبغى إذا ظلم. والمراد به ظلم خاص هو الحسد، وإنما عد الحسد ظلما، لأن الظلم معناه المعاملة التي تبعد عن الحق وتجافيه. والحسد معناه تمنى زوال النعمة عن الغير والظالم والحاسد قد جانب كل منهما الحق فيما صنع، والحاسد لن يناله نفع من زوال نعمة المحسود، كما أنه لن يناله ضر من بقائها، وما دام الأمر كذلك فالحاسد ظالم للمحسود بتمني زوال النعمة وصدق الشاعر في قوله.
وأظلم خلق الله من بات حاسدا- لمن بات في نعمائه يتقلب-.
فاليهود قد كفروا بما أنزل الله، من أجل حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم على النبوة ولأنه لم يكن منهم وكان من العرب، وكراهية لأن ينزل الله الوحى على من يصطفيه للرسالة من غيرهم، فعدم إيمانهم بما عرفوه وارتقبوه سببه أنانيتهم البغيضة، وأثرتهم الذميمة التي حملتهم على أن يحسدوا الناس على ما آتاهم الله من فضله، وأن يتوهموا أن النبوة مقصورة عليهم، فليس لله- تعالى- في زعمهم- أن ينزعها من ذرية إسحاق ليجعلها في ذرية إسماعيل عليهما السلام.
ولم يصرح- سبحانه- بأن المحسود هو النبي صلى الله عليه وسلم لعلم ذلك من سياق الآيات الكريمة وللتنبيه على أن الحسد في ذاته مذموم كيفما كان حال المحسود.
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك ما آل إليه أمرهم من خسران مبين فقال تعالى:
فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ: باء بإثمه يبوء أى: رجع أى:
فرجعوا من أجل كفرهم وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بغضب مضموم إلى غضب آخر كانوا قد استحقوه بسبب كفرهم بعيسى- عليه السلام وبسبب تحريفهم للكلم عن مواضعه،