الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أى: ذلك التخيير المذكور لأجل المتقى لئلا يتضرر بترك ما يقصده من التعجيل والتأخر أو ذلك المذكور من أحكام مطلقا مختصة بالمتقى لأنه هو الحاج على الحقيقة. والمراد من التقوى على التقديرين تجنب ما يؤثم من فعل أو ترك «1» ..» .
ثم ختمت الآية بقوله- تعالى-: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ اتقوا الله في كل ما تأتون وما تذرون، واعلموا أنكم ستجمعون بعد تفرقكم وتساقون إلى خالقكم يوم القيامة ليجازيكم على أعمالكم.
وقد ختمت الآيات التي تحدثت عن فريضة الحج بهذا الختام المكون من عنصرين، أحدهما: تقوى الله.
والثاني: العلم اليقيني بالحشر، للإشعار بأنهما خلاصة التدين، وثمرة العبادات بكل أنواعها وكل طرقها، وإذا خلت أية عبادة من هذين العنصرين كانت صورة لا روح فيها.
وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ساقت لنا بعض أحكام الحج وآدابه ومناسكه بأسلوب بهدى القلوب، ويسعد النفوس، ومن شأن من يعمل بهذه الآيات أن يكون ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه.
وبعد أن بين- سبحانه- فريضة الحج وما اشتملت عليه من أحكام وآداب، وبين أصناف الناس في أدعيتهم التي تكشف عن خبايا قلوبهم، ومعادن نفوسهم، بعد أن بين ذلك أعقبه بالحديث عن صنفين من الناس فقال:
[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)
(1) تفسير الآلوسى ج 2 ص 94.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت صنفين من الناس أولهما: يمثل الأشرار.
والثاني: يمثل الأخيار.
أما الصنف الأول فقد وصفه الله- تعالى- بخمس صفات، الصفة الأولى حكاها في قوله:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.
يعجبك: من الإعجاب بمعنى الاستحسان، تقول. أعجبنى هذا الشيء، أى، استحسنته وعظم في نفسي. و «من» للتبعيض.
والمعنى: ومن الناس فريق يروقك منطقهم، ويعجبك بيانهم، ويحسن عندك مقالهم. فأنت معجب بكلامهم الحلو الظاهر، المر الباطن، وأنت في هذه الدنيا لأنك تأخذ الناس بظواهرهم، أما في الآخرة فلن يعجبك أمرهم لأنهم ستنكشف حقائقهم أمام الله الذي لا تخفى عليه خافية، وسيعاقبهم عقابا أليما لإظهارهم القول الجميل وإخفائهم الفعل القبيح.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بيعجبك.
وبعضهم يجعل قوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلقا بالقول فيكون المعنى عليه ومن الناس فريق يعجبك قولهم إذا ما تكلموا في شئون الدنيا ومتعها لأنها منتهى آمالهم، ومبلغ علمهم، وأصل حبهم، ومن أحب شيئا أجاد التعبير عنه، أما الآخرة فهم لا يحسنون القول فيها، لأنهم لا يهتمون بها، بل هم غافلون عنها، ومن شأن الغافل عن شيء ألا يحسن القول فيه.
ويبدو لنا أن تعلق الجار والمجرور بيعجبك أرجح، لأنه يتفق مع السياق إذ سياق الحديث في شأن الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، ويخدعون الناس بمعسول بيانهم مع أن نفوسهم مريضة، وليس في شأن الذين يحسنون الحديث عن شئونها المختلفة، بل إن بعض الذين يحسنون الحديث في شئون الدنيا لم يضيعوا أخراهم وإنما عمروها بالعمل الصالح، فهم جامعون بين حسنتى الدنيا والآخرة.
والصفة الثانية من صفات هذا النوع المنافق من الناس بينه القرآن بقوله وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أى: يقرن معسول قوله، وظاهر تودده، بإشهاد الله على أن ما في قلبه مطابق لما يجرى على لسانه.
وكأن هذا النوع المنافق قد رأى من الناس تشككا في قوله، لأن من عادة المنافقين أن يبدو من فلتات لسانهم ما يدل على ما هو مخبوء في نفوسهم فأخذ يوثق قوله بالأيمان الباطلة بأن يقول لمن ارتاب فيه: الله يشهد أنى صادق فيما أقول.. إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها تأكيد قوله وصدقه فيما يدعيه، فالمراد بإشهاد الله: الحلف به أن ما في قلبه موافق لقوله.
وجملة وَيُشْهِدُ اللَّهَ حالية أو مستأنفة أو معطوفة على قوله يُعْجِبُكَ.
وقوله- تعالى-: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ صفة ثالثة من صفات هذا النوع من الناس.
قال القرطبي: الألد: الشديد الخصومة والعداوة.. ولددته- بفتح الدال- ألده- بضمها- إذا جادلته فغلبته. والألد مشتق من اللديدين وهما صفحتا العنق، أى: في أى جانب أخذ من الخصومة غلب. والخصام في الآية مصدر خاصم. وقيل جمع خصم كصعب وصعاب.
والمعنى، أشد المخاصمين خصومة، وفي صحيح مسلّم عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم» «1» .
أى: إن هذا النوع من الناس يثير الإعجاب بحسن بيانه، ويضللهم بحلاوة لسانه، ويحلف بالأيمان المغلظة أنه لا يقول إلا الصدق، ويجادل عما يقوله بالباطل بقوة وعنف ومغالبة، فهو بعيد عن طباع المؤمنين الذين إذا قالوا صدقوا، وإذا جادلوا اتبعوا أحسن الطرق وأهداها.
ثم وصفه الله- تعالى- بصفة رابعة فقال: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ.
تولى: من التولية بمعنى الإدبار والانصراف، ومتعلق تولى محذوف تقديره: تولى عنك.
وسعى: من السعى وهو المشي السريع وهو مستعار هنا لإيقاع الفتنة والتخريب. والفساد كما قال الراغب- خروج الشيء عن الاعتدال قليلا كان الخروج عنه أو كثيرا، ويضاده الصلاح يقال فسد فسادا وفسودا إذا خرج عن الاستقامة «2» .
والحرث: مصدر يحرث، أى: أثار الأرض لإعدادها للزراعة، ثم أطلق وأريد به المحروث وهو الأرض، ثم أطلق وأريد به ما يترتب على ذلك من الزروع والثمار وهو المراد هنا.
(1) تفسير القرطبي ج 3 ص 16.
(2)
المفردات في غريب القرآن ص 379 للراغب الأصفهاني. [.....]
والنسل: كما يقول القرطبي- ما خرج من كل أنثى من ولد. وأصله الخروج والسقوط، ومنه نسل الشعر ينسل إذا سقط. ومنه حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أى: يخرجون مسرعين.
والمعنى: وإذا أعرض عنك هذا النوع من الناس وولاك دبره أسرع في الإفساد بينهم، وتفريق كلمتهم، وإتلاف كل ما يقع تحت يده من الزروع والثمار والحيوان وما به قوام الحياة والأحياء.
فإهلاك الحرث والنسل كناية عن إتلافه لما به قوام أحوال الناس ومعيشتهم، وعن إيذائه الشديد لهم.
وبعض العلماء يرى أن «تولى» مشتق من الولاية: يقال: ولى البلد وتولاه، أى صار واليا له، أميرا عليه. والمعنى على هذا الرأى.
وإذا صار- هذا النوع من الناس- واليا على قوم اجتذبهم إليه ببريق قوله، وبمعسول لفظه، وبإيمانه الفاجرة، ومجادلته الباطلة، حتى إذا ما التف الناس حوله سعى بينهم بالفساد، وعمل على تقاطعهم وتباغضهم، وحكم فيهم بالباطل، ظنا منه أن هذا الخلق وذلك السلوك سيجعلهم دائما طوع إرادته.
قال الإمام الرازي: والقول الأول أقرب إلى نظم الآية، لأن المقصود بيان نفاق هذا النوع من الناس، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد «1» .
وقوله وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ أى لا يرضى عن الذي منه الإفساد في الأرض، ويظهر للناس الكلام الحسن وهو يبطن لهم الفعل السيئ، لأنه- سبحانه- أوجد الناس ليصلحوا في الأرض لا ليفسدوا فيها. فالجملة الكريمة تحذير منه- سبحانه- للمفسدين، ووعيد لهم على خروجهم عن طاعته.
أما الصفة الخامسة لهذا النوع من الناس فهي قوله- تعالى-: وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ. أى: وإذا قيل لهذا المنافق على سبيل النصح والإرشاد اتق واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وخروج عن طاعة الله، استولت عليه العزة- أى حمية الجاهلية- مقترنة بالإثم ومصاحبة له، فهي ليست العزة المحمودة ولكنها الكبرياء المبغوضة. والباء على هذا المعنى للمصاحبة والاقتران.
(1) تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 219.
قال الجمل. والباء على هذا تكون في محل نصب على الحال وفيها حينئذ وجهان:
أحدهما: أن تكون حالا من العزة أى ملتبسة بالإثم.
والثاني: أن تكون حالا من المفعول. أى، أخذته حال كونه ملتبسا بالإثم، وفي قوله العزة بالإثم التتميم وهو نوع من علم البديع، وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها اللبس وتقربها من الفهم، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة فمن مجيئها محمودة قوله- تعالى-:
وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فلو أطلقت لتوهم فيها بعض من لا دراية له أنها محمودة، فقيل بالإثم توضيحا للمراد فرفع اللبس، ويجوز أن تكون الباء للتعدية- وهو قول الزمخشري- فإنه قال: أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه. أى: حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه، ويجوز أن تكون للسببية بمعنى أن إثمه كان سببا لأخذ العزة له» «1» .
أى: استولت عليه حمية الجاهلية بسبب الإثم الذي استحوذ على قلبه فأنساه كل ما يوصل إلى الصلاح والاستقامة.
و «ال» في العزة للعهد. أى: العزة المعهودة المعروفة عند أهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول النصيحة.
قال الأستاذ الإمام محمد عبده مرجحا ما ذهب إليه من أن «تولى» بمعنى الولاية والإمارة:
«وهذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله- تعالى- يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا
…
» «2» .
ثم بين- سبحانه- سوء عاقبة من هذه صفاته فقال: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ.
الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط محذوف تقديره: إذا كانت هذه حالة المعرض عن النصح أنفة وتكبرا فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أى: كافيه جهنم جزاء له وَلَبِئْسَ الْمِهادُ أى:
ولبئس الفراش الذي يستقر عليه بسبب غروره وفجوره.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 1 ص 164.
(2)
تفسير المنار ج 2 ص 251.
وقوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ جملة من مبتدأ وخبر، وقوله وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر.
أى: والله. والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه وهو جهنم. والمهاد جمع مهد وهو المكان المهيأ للنوم، والتعبير عن جهنم بالمهاد من باب التهكم والاستهزاء بهذا النوع المغرور المفسد من الناس.
هذا وقد أورد بعض المفسرين روايات في سبب نزول هذه الآيات منها أنها نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإسلام وزعم أنه يحبه وأقسم بالله على ذلك، غير أنه كان منافقا خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل بعض الماشية فنزلت.
قال الإمام الرازي ما ملخصه بعد أن ساق هذه الرواية وغيرها: واختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآيات عامة في حق كل من كان موصوفا بهذه الصفات المذكورة
…
ولا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفا بتلك الصفات، ونزولها على السبب الذي حكيناه لا يمنع من العموم، بل نقول فيها ما يدل على العموم وهو من وجوه.
أحدها: أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية، فلما ذم الله- تعالى- قوما وصفهم بصفات توجب استحقاق الذم، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات، فيلزم أن كل من كان موصوفا بتلك الصفات أن يكون مستوجبا للذم.
وثانيها: أن الحمل على العموم أكثر فائدة، وذلك لأنه يكون زجرا لكل المكلفين عن تلك الطريقة المذمومة.
وثالثها: أن هذا أقرب إلى الاحتياط، لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره، فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى» «1» .
هذا، وفي هذه الآيات الكريمة زجر شديد ووعيد أليم للمنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ويفسدون في الأرض ولا يصلحون، ويكادون يسطون بالذين ينصحونهم ويتلون عليهم آيات الله لأن المنافقين ما كثروا في أمة إلا وجعلوا بأسها بينها شديدا، روى ابن جرير عن نوف البكالي قال: إنى لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل: قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس
(1) تفسير الفخر الرازي ج 5 ص 216.
مسوك- أى جلود- الضأن وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله- تعالى- فعلى يجترءون وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم حيران» .
قال ابن كثير: قال القرظي الذي روى هذا القول عن نوف: تدبرت هذه الصفات في القرآن فإذا هي في المنافقين ووجدتها في قوله- تعالى- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «1» .
والحق أنه ما ابتليت أمة بتفشى هذا النوع من الناس فيها إلا فسد حالها وهان شأنها وكانت عاقبة أمرها خسرا.
أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى-:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ.
يَشْرِي نَفْسَهُ أى: يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله- تعالى- وحافظ على فرائضه، وجاهد في سبيله، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة، وكان هو بمنزلة البائع، وكان قبول الله- تعالى- منه ذلك وإثابته عليه في معنى الشراء.
وقوله: ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ الابتغاء الطلب الشديد للشيء، والرغبة القوية في الحصول عليه، وهو في الآية مفعول لأجله.
أى: ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلبا لرضوانه، وأملا في مثوبته وغفرانه.
فهذا النوع التقى المخلص من الناس، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه.
قال بعضهم: وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه. والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمنا لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين. ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه» «2» .
وقال أحد العلماء: ومرضاة مصدر ميمى بمعنى الرضا. ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمى دون المصدر الأصلى له معنى يدركه السامع بذوقه، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 246.
(2)
تفسير المنار ج 2 ص 252.
لبيان التفرقة بين المصدر الميمى وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما، أن المصدر الميمى يصور المعنى المصدري واقعا قائما متحققا في الوجود، أما المصدر غير الميمى فيصور المعنى مجردا فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجردا من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا. أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق، أو في صورة الموجود المتحقق، وعلى ذلك معنى «ابتغاء مرضاة الله» أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلبا موثقا رضا الله- سبحانه- حقيقة واقعة مؤكدة، ويتصورون رضاه- سبحانه- حقيقة قائمة قد حلت بهم، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم» «1» .
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله-: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أى، رفيق رحيم بهم، ومن مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بما هو فوق طاقتهم، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى.
هذا، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، وذلك أنه لما أسلّم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية. فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له: ربح البيع يا صهيب، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية. ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عند ما رآه:«ربح البيع، ربح البيع» مرتين «2» .
وهناك روايات أنها نزلت فيه وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين.
والذي نراه- كما سبق أن بينا- أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله- تعالى- وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته، ويدخل في ذلك دخولا أوليا من نزلت فيهم الآية، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء.
وبذلك نرى أن الآيات الكريمة قد بينت لنا نوعين من الناس: أحدهما خاسر، والآخر رابح، لكي نتبع طريق الرابحين، ونهجر طريق الخاسرين وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ.
(1) تفسير الآية الكريمة لفضلة الأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة- بمجلة لواء الإسلام. السنة الخامسة- العدد الخامس.
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 247.