الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة البقرة
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]
بسم الله الرحمن الرحيم
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
سورة البقرة من السور التي ابتدئت ببعض حروف التهجي.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التي بدأت بحرف واحد ثلاثة وهي سور ص، ق، ن.
والسور التي بدأت بحرفين تسعة وهي: طه، يس، طس، وحم في ست سور هي:
غافر، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التي بدأت بثلاثة أحرف ثلاث عشرة سورة وهي: الم في ست سور: البقرة، وآل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة والر في خمس سور هي: يونس، هود، يوسف، الحجر، إبراهيم وطسم في سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما. الرعد، المر، والأعراف، المص، وسورتان- أيضا- بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم كهيعص، والشورى حم عسق.
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في إحدى رواياته- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري، وغيرهم من العلماء، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور. ويروى عن ابن عباس أنه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على- رضي الله عنه أنه قال: «إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» . وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال:
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثله كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها..
وقد أجيب عن ذلك بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل بعض السور.
وهناك مناقشات أخرى للعلماء حول هذا الرأى يضيق المجال عن ذكرها أما الرأى الثاني فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة، من أهمها ما يأتى:
1-
أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح) وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها كسورة ص وسورة يس.
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
2-
وقيل إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة وابتداء أخرى.
3-
وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى- وبعضها من صفاته، فمثلا الم أصلها: أنا الله أعلم.
4-
وقيل: إنها اسم الله الأعظم. إلى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال، والتي أوصلها السيوطي في «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
5-
ولعل أقرب الآراء إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة، وفضلا عن ذلك فإن تصدير السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر، لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيستمعوا حكما وحججا قد تكون سببا في هدايتهم واستجابتهم للحق.
هذه خلاصة لآراء العلماء في الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي، وإلى كتاب «البرهان» للزركشى، وإلى تفسير الآلوسي.
ثم قال- تعالى-: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
ذلِكَ اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس، مجازا في الرتبة، والكاف للخطاب، والمشار إليه- على الراجح- الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله- تعالى- إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: أخبرنى عن تأليف ذلِكَ الْكِتابُ مع الم قلت:
إن جعلت الم اسما للسورة ففي التأليف وجوه. أن يكون الم مبتدأ وذلِكَ مبتدأ ثانيا، والْكِتابُ خبره. والجملة خبر المبتدأ الأول.
ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتابا، كما تقول: هو الرجل، أى: الكامل في الرجولية، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال.
وإن جعلت الم بمنزلة الصوت، كان «ذلك» مبتدأ خبره «الكتاب» ، أى: ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل «1»
…
اهـ ملخصا.
وقيل: المشار إليه الم على أنه اسم للسورة والمراد المسمى.
والْكِتابُ مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة. واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه.
و (الريب) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة، وحقيقة الريبة، قلق النفس واضطرابها، ثم استعمل في معنى الشك مطلقا. وقال ابن الأثير: الريب هو الشك مع التهمة.
و (هدى) . مصدر هداه هدى وهداية وهدية- بكسرها- فهدى، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية، وضده الضلال.
و (المتقون) جمع متق، اسم فاعل من اتقى وأصله اوتقى- بوزن افتعل- من وقى الشيء وقاية، أى: صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه.
والمعنى: ذلك الكتاب الكامل، وهو القرآن الكريم، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل، حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها.
وكانت الإشارة بصيغة البعيد، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه، فإن نظرت إليه من ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء، وإن نظرت إليه من ناحية معانيه فهو فوق مدارك الحكماء، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين، وأدق محدد لتاريخ السابقين، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن، وقد شاع في كلام البلغاء تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدى.
وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال، فهو حاضر في الأذهان، فشبه بالحاضر في العيان.
ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 33. [.....]
أساطير الأولين، لأنه لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماويا، ومصدر هداية وإصلاح.
فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة، أو قلب سليم.
وقدم جملة لا رَيْبَ فِيهِ على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتابا هاديا غبار الريب، وغيوم الشكوك، حتى يستقر في النفوس وصفه، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته.
وفصل جملة لا رَيْبَ فِيهِ عما قبلها لكمال الاتصال، حيث كانت جملة ذلِكَ الْكِتابُ مفيدة لكماله، وجملة لا رَيْبَ فِيهِ مفيدة لنفى الريب عنه.
والمراد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ مع أنه هداية لهم ولغيرهم، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم.
قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال- تعالى-:
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ.
ويصح أن يكون المعنى: هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية، كما أقول: هديت مهتديا، أو كتبت مكتوبا، على معنى أنى هديت شخصا صار مهديا بهذه الهداية، وكتبت خطابا صار مكتوبا بهذه الكتابة، وهو أسلوب عربي صحيح. كما ورد في حديث «من قتل قتيلا فله سلبه» .
قال صاحب الكشاف: ومحل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الرفع، لأنه خبر مبتدأ محذوف، أو خبر مع لا رَيْبَ فِيهِ ل «ذلك»
…
والذي هو أرسخ عرقا في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحا، وأن يقال: إن قوله الم جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها.
وذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية. ولا رَيْبَ فِيهِ ثالثة. وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ رابعة. وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذا بعضها بعنق بعض. فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة: بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. فكان تقريرا لجهة التحدي، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب، فكان شهادة وتسجيلا بكماله. لأنه لا كمال أكمل من الحق
واليقين. ولا نقص أنقص مما للباطل والشبه.
وقيل لبعض العلماء: فيم لذتك؟ فقال: في حجة تتبختر اتضاحا، وفي شبهة تتضاءل افتضاحا. ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين، فقرر بذلك كونه يقينا لا يحوم الشك حوله، وحقا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع- بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق- من نكتة ذات جزالة. ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه. وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف «1»
…
ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة، فقال:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أى: يصدقون بما غاب عن حواسهم، كالصانع وصفاته، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب.
والإيمان لغة التصديق والإذعان، وهو إفعال من الأمن. وشرعا التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين، كالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
…
إلخ، وعدى يُؤْمِنُونَ بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف.
والغيب: مصدر غاب يغيب، وكثيرا ما يستعمل بمعنى الغائب، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة. ومعناه: ما لا تدركه الحواس، ولا يعلم ببداهة العقل.
قال بعض العلماء: وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله- تعالى- فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة، كما هو حال الماديين الذين يقولون:«ما يهلكنا إلا الدهر «2» :
والإيمان بالغيب: يستلزم التصديق به على وجه الجزم، وهو لا يحصل إلا عن دليل.
ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقا عن دليل، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة، والرسل الذين أرسلوا من قبل، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول، وسلامة القلوب، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 36.
(2)
تفسير التحرير والتنوير ج 1 ص 118 للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور.
أن عقولهم قد سلّم إدراكها، وتقشعت عنها غشاواتها، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعا حكيما وخالقا قديرا، جعلها تسير بنظام محكم، فهذه كواكب تظهر وتغيب، وسماء مرفوعة بغير عمد، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب
…
صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر، وحكيم قدير، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم.
والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب، واستولى الصفاء على النفوس، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة، منها ما جاء عن خالد بن دريك، عن ابن محيريز قال: قلت لابن جمعة: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم أحدثك حديثا. تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال: يا رسول الله، هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك.
قال: نعم، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يرونى» .
قال ابن كثير: فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا «1» .
وأخرج ابن أبى حاتم والطبراني وابن مندة وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلّم قالت: صليت الظهر أو العصر في مسجد بنى حارثة، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت، فتحول الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:«أولئك قوم آمنوا بالغيب» «2» .
تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله- تعالى-:
وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ.
الصلاة في اللغة الدعاء، من صلى يصلّى إذا دعا، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء، والإقامة في الأصل: الدوام والثبات، من قولك: قام الحق أى: ظهر وثبت.
ومعنى يُقِيمُونَ الصَّلاةَ: يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها، مع تعديل أركانها، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها
(1) تفسير ابن كثير ج 1 ص 41.
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 42.
الإخلاص، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس، وعفافها، وتركها لكل الشرور والآثام، كما قال- تعالى-: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ.
وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيما لعمل القلب، واعتدادا بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح.
وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات، ولأنها صلة بين العبد وربه، والإنفاق صلته بالناس، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة.
أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله- تعالى-:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.
أى: ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين.
والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراما، خلافا للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق. والإنفاق: إخراج المال وإنفاده وصرفه، يقال: نفق- كفرح ونصر- نفد وفنى أو قلّ. وأنفق ماله أنفده، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب، ومنه:
نافق فلان، والنافقاء، والنفق. وقال «ينفقون» ولم يقل أنفقوا، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر. ولم يحدد وجوه الانفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان.
وإيراد «من» في قوله تعالى- وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس.
هذا، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحا عظيما في عشرات الآيات، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير، لا بد أن تعز كلمتها، وتسلّم من كوارث شتى، كالجهل، والفقر، والمرض.
فببذل المال تسد حاجات البؤساء، وتشاد معاهد التعليم، وتقام وسائل حفظ الصحة، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء.
قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
ثم أضاف القرآن إلى صفات المتقين وصفا رابعا فقال:
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ.
والمراد بقوله- تعالى- بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ القرآن الكريم، وإنما عبر عنه بلفظ الماضي- وإن كان بعضه مترقبا- تغليبا للموجود على ما لم يوجد.
والمراد بقوله- تعالى- وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، الكتب الإلهية السابقة التي أنزلها الله على أنبيائه كموسى وعيسى وداود. وهذا كقوله- تعالى-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ «1» .
والإيمان بما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم الإيمان برسالته، ويستوجب العمل بما تضمنته شريعته.
وإيجاب العمل بما تضمنه القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم باق على إطلاقه. أما الكتب السماوية السابقة فيكفى الإيمان بأنها كانت وحيا وهداية، وقد تضمن القرآن الكريم ما اشتملت عليه هذه الكتب من هدايات وأصبح بنزوله مهيمنا عليها، قال- تعالى-:
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.
وصار من المحتم على كل عاقل أن يعمل بما جاء به القرآن من توجيهات.
وقدم الإيمان بما أنزل عليه على الإيمان بما أنزل على الذين من قبله- مع أن الترتيب يقتضى العكس- لأن إيمانهم بمن قبله لا قيمة له إلا إذا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم:
ولم يقل: ويؤمنون بما أنزل من قبلك بتكرير يؤمنون، للإشعار بأن الإيمان به وبهم واحد، لا تغاير فيه وإن تعدد متعلقه.
ويرى بعض العلماء أن المراد من الآية الكريمة، أهل الكتاب الذين آمنوا بالكتب السماوية التي نزلت قبل القرآن، نم لما نزل القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعرفوا أنه الحق- آمنوا به أيضا-، فصار لهم أجران، كما جاء في الحديث الشريف، الذي ثبت في الصحيحين عن أبى موسى الأشعرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين يوم القيامة: رجل من
(1) سورة النساء الآية 136.
أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه، ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها، ثم أعتقها.
ثم وصف الله المتقين بوصف خامس فقال: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ الآخرة تأنيث الآخر.
وهذا اللفظ تارة يجيء وصفا ليوم القيامة مع ذكر الموصوف، كما في قوله- تعالى- «وللدار الآخرة خير للذين يتقون» وتارة بهذا المعنى ولكن بدون ذكر الموصوف، كما في الآية التي معنا، وكما في قوله- تعالى- وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
وسميت آخرة لأنها تأتى بعد الدنيا التي هي الدار الأولى.
ويُوقِنُونَ من الإيقان وهو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، بحيث لا يطرأ عليه شك، ولا تحوم حوله شبهة. يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته، ويقال: يقنت- بالكسر- يقنا، وأيقنت، وتيقنت، واستيقنت بمعنى واحد.
والمعنى: وبالدار الآخرة وما فيها من بعث وحساب وثواب وعقاب هم يوقنون إيقانا قطعيا، لا أثر فيه للادعاءات الكاذبة، والأوهام الباطلة.
وفي إيراد «هم» قبل قوله «يوقنون» تعريض، بغيرهم، ممن كان اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق للحقيقة أو غير بالغ مرتبة اليقين.
ولا شك أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، له أثر عظيم في فعل الخيرات، واجتناب المنكرات، لأن من أدرك أن هناك يوما سيحاسب فيه على عمله، فإنه من شأنه أن يسلك الطريق القويم الذي يكسبه رضي الله يوم يلقاه.
قال أبو حيان: وذكر لفظة هُمْ في قوله: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ولم يذكرها في قوله:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ولأنه لو ذكر هم هناك لكان فيه قلق لفظي، إذ يكون التركيب «ومما رزقناهم هم ينفقون» «1» .
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك الثمار التي ترتبت على تقواهم فقال:
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
المفلحون: من الفلاح وهو الظفر والفوز بدرك البغية، وأصله من الفلح- بسكون اللام- وهو الشق والقطع، ومنه فلاحة الأرض وهو شقها للحرث. وأستعمل منه الفلاح في الفوز، كأن الفائز شق طريقه وفلحه للوصول إلى مبتغاه، أو انفتحت له طريق الظفر وانشقت.
(1) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج 1 ص 42.
والمعنى: أولئك المتصفون بما تقدم من صفات كريمة، على نور من ربهم، وأولئك هم الفائزون بما طلبوا، الناجون مما منه هربوا، بسبب إيمانهم العميق، وأعمالهم الصالحة.
والآية الكريمة كلام مستأنف لبيان أن أولئك المتقين في المنزلة العليا من الكمال الإنسانى، فقد وصفهم- سبحانه- بأنهم على هدى عظيم، ويدل على عظم هذا الهدى إيراده بصيغة التنكير، إذ من المعلوم عند علماء البيان أن التنكير يدل بمعونة المقام على التعظيم. كما يدل- أيضا- على عظم هذا الهدى وصفه بأنه «من ربهم» ، فهو الذي وفقهم إليه، ويسر لهم أسبابه.
وفي قوله- تعالى-: عَلى هُدىً إشعار بأنهم تمكنوا منه تمكن من استعلى على الشيء، وصار في قرار راسخ منه.
وجملة «وأولئك هم المفلحون» بيان لما ظفر به المتقون الحائزون لتلك الخصال، من سعادة في الدنيا والآخرة.
وتعريف الخبر وهو الْمُفْلِحُونَ مع إيراد ضمير الفصل «هم» يفيد أن الفلاح مقصور على أولئك المتقين، فمن لم يؤمن بالغيب، أو أضاع الصلاة، أو بخل بالمال الذي منحه الله إياه فلم يؤده في وجوهه المشروعة، فإنه لا يكون من المهتدين، ولا من المفلحين الذين سعدوا في دنياهم وآخرتهم.
قال الإمام الرازي: «وفي تكرير» أُولئِكَ تنبيه على أنهم كما ثبت لهم الاختصاص بالهدى، فقد ثبت لهم الاختصاص بالفلاح- أيضا- فقد تميزوا عن غيرهم بهذين الاختصاصين، فإن قيل: فلم جيء بالعاطف؟ وما الفرق بينه وبين قوله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ.
قلنا: قد اختلف الخبران هاهنا فلذلك دخل العاطف، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان، لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد، وكانت الثانية مقررة لما في الأولى، فهي من العطف بمعزل» «1» .
وقال صاحب الكشاف بعد تفسيره لهذه الآية الكريمة «
…
فانظر كيف كرر الله التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى، وهي: ذكر اسم الإشارة، وتكريره، وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين أولئك، ليبصرك مرتباتهم، ويرغبك في طلب ما طلبوا، وينشطك لتقديم ما قدموا، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب
(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 169.