الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
القرية: هي البلدة المشتملة على مساكن، والمراد بها بيت المقدس على الراجح.
والرغد: الواسع من العيش الهنيء، الذي لا يتعب صاحبه، يقال: أرغد فلان: أصاب واسعا من العيش الهنيء.
الحطة: من حط بمعنى وضع، وهي مصدر مراد به طلب حط الذنوب.
قال صاحب الكشاف: (حطة) فعلة من الحط كالجلسة. وهي خبر مبتدأ محذوف، أى مسألتنا حطة، والأصل فيها النصب بمعنى: حط عنا ذنوبنا حطة، وإنما رفعت لتعطى معنى الثبات..) «1» .
والمعنى: اذكروا يا بنى إسرائيل- لتتعظوا وتعتبروا- وقت أن أمرنا أسلافكم بدخول بيت المقدس بعد خروجهم من التيه، وأبحنا لهم أن يأكلوا من خيراتها أكلا هنيئا ذا سعة وقلنا لهم:
ادخلوا من بابها راكعين شكرا الله على ما أنعم به عليكم من نعمة فتح الأرض المقدسة متوسلين إليه- سبحانه- بأن يحط عنكم ذنوبكم، فإن فعلتم ذلك العمل اليسير وقلتم هذا القول القليل غفرنا لكم ذنوبكم وكفرنا عنكم سيئاتكم، وزدنا المحسن منهم خيرا جزاء إحسانه، ولكنهم جحدوا نعم الله وخالفوا أوامره، فبدلوا بالقول الذي أمرهم الله به قولا آخر أتوا به من عند أنفسهم على وجه العناد والاستهزاء، فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
قال الإمام ابن كثير- رحمه الله: (وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون- عليه السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة، وقد حسبت لهم الشمس يومئذ قليلا
(1) تفسير الكشاف ج 1 ص 216.
حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب (باب البلد) سجدا أى شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال) «1» .
وقوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً فيه إشعار بكمال النعمة عليهم واتساعها وكثرتها. حيث أذن لهم في التمتع بثمرات القرية وأطعمتها من أى مكان شاءوا.
وقوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ إرشاد لهم إلى ما يجب عليهم نحو خالقهم من الشكر والخضوع، وتوجيههم إلى ما يعينهم على بلوغ غاياتهم. بأيسر الطرق وأسهل السبل، فكل ما كلفوا به أن يدخلوا من باب المدينة التي فتحها الله لهم خاضعين مخبتين وأن يضرعوا إليه بأن يحط عنهم آثامهم، ويمحو سيئاتهم.
وقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بيان للثمرة التي تترتب على طاعتهم وخضوعهم لخالقهم، وإغراء لهم على الامتثال والشكر، - لو كانوا يعقلون- لأن غاية ما يتمناه العقلاء غفران الذنوب.
قال الإمام ابن جرير: يعنى بقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها. وأصل الغفر: التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافر.. والخطايا: جمع خطية- بغير همز- كالمطايا جمع مطية..» .
وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالزيادة من خيرى الدنيا والآخرة لمن أسلّم لله وهو محسن، أى: من كان منكم محسنا زيد في إحسانه ومن كان مخطئا نغفر له خطيئاته.
وقد أمرهم- سبحانه- أن يدخلوا باب المدينة التي فتحوها خاضعين وأن يلتمسوا منه مغفرة خطاياهم، لأن تغلبهم على أعدائهم، ودخولهم الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، نعمة من أجل النعم، وهي تستدعى منهم أن يشكروا الله عليها بالقول والفعل لكي يزيدهم من فضله، فشأن الأخيار أن يقابلوا نعم الله بالشكر.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر أقصى درجات الخضوع لله تعالى عند النصر والظفر وبلوغ المطلوب، فعند ما تم له فتح مكة دخل إليها من الثنية العليا، وإنه لخاضع لربه، حتى إن رأسه الشريف ليكاد يمس عنق ناقته شكرا لله على نعمة الفتح، وبعد دخوله مكة اغتسل وصلّى ثماني ركعات سماها بعض الفقهاء صلاة الفتح.
ومن هنا استحب العلماء للفاتحين من المسلمين إذا فتحوا بلدة أن يصلوا فيها ثماني ركعات
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 98.
(2)
تفسير ابن جرير ج 1 ص 202.
عند أول دخولها شكرا لله- تعالى- وقد فعل ذلك سعد بن أبى وقاص عند ما دخل إيوان كسرى، فقد ثبت أنه صلّى بداخله ثماني ركعات.
ولكن، ماذا كان من بنى إسرائيل بعد أن أتم الله لهم نعمة الفتح؟
إنهم لم يفعلوا ما أمروا بفعله، ولم يقولوا ما كلفوا بقوله، بل خالفوا ما أمروا به من قول وفعل، ولذا قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.
أخرج البخاري عن أبى هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قيل لبنى إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا ودخلوا يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعيرة)«1» .
قال الإمام ابن كثير: (وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق، أنهم بدلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل، فأمروا أن يدخلوا الباب سجدا، فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعين رؤسهم، وأمروا أن يقولوا: حطة، أى احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزءوا وقالوا: حنطة في شعيرة، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وخروجهم عن طاعته)«2» .
فقوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ بيان للسبب الذي من أجله نزل عليهم العذاب، وتوبيخ لهم على مخالفتهم أوامر الله- تعالى-، لأن تبديل الشيء معناه تغييره وإزالته عما كان عليه بإعطائه صورة تخالف التي كان عليها.
والفعل (بدل) يقتضى بدلا ومبدلا منه، إلا أن مقام الإيجاز في الآية استدعى الاكتفاء بذكر البدل- وهو القول الذي لم يقل لهم- دون ذكر المبدل منه- وهو القول الذي قيل لهم- والتقدير: فاختار الذين ظلموا بالقول الذي أمرهم الله به، قولا آخر اخترعوه من عند أنفسهم على وجه المخالفة والعصيان.
قال صاحب الكشاف: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أى: وضعوا مكان حِطَّةٌ قولا غيرها، يعنى أنهم أمروا بقول معناه التوبة والاستغفار فخالفوه إلى قول ليس معناه معنى ما أمروا به، ولم يمتثلوا أمر الله، وليس الغرض أنهم أمروا بلفظ بعينه. وهو لفظ الحطة فجاءوا بلفظ آخر، لأنهم لو جاءوا بلفظ آخر مستقل، بمعنى ما أمروا به لم يؤاخذوا به كما لو قالوا مكان حطة: نستغفرك ونتوب إليك. أو اللهم اعف عنا وما أشبه ذلك» «3» .
(1) صحيح البخاري. باب (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية ج 1 ص 22.
(2)
تفسير ابن كثير ج 1 ص 99.
(3)
تفسير الكشاف ج 1 ص 218.