الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا مصير كل أمة بدلت نعمة الله كفرا لأن الميزان عند الله للتقوى والعمل للصالح، وليس للجنس أو اللون أو النسب.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: فإن قيل: إن تفضيلهم على العالمين يقتضى تفضيلهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل. فكيف الجواب؟ قلنا: الجواب من وجوه أقربها إلى الصواب أن المراد: فضلتكم على عالمي زمانكم وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك وهو الآن ليس بموجود لم يكن من جملة العالمين حال عدمه، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم ما كانت موجودة في ذلك الوقت، فلا يلزم من كون بنى إسرائيل أفضل العالمين في ذلك الوقت. أنهم أفضل من الأمة المحمدية.
وهذا هو الجواب أيضا عن قوله- تعالى-: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ. وعن قوله تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ «1» .
وبهذا يتعين بطلان دعوى اليهود أنهم شعب الله المختار. استنادا إلى هذه الآية الكريمة وأمثالها، لأنها دعوى لا تؤيدها النصوص، ولا يشهد لها العقل السليم. ثم قال تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 48]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
بعد أن ذكرهم- سبحانه- في الآية السابقة بنعمة عظمى من نعمه حذرهم في هذه الآية الكريمة من التقصير في العمل الصالح، وذلك لأن وصفهم بالتفضيل على عالمي زمانهم قد يحملهم على الغرور، ويجعلهم يتوهمون أنهم مغفور لهم لو أذنبوا. فجاءت هذه الآية الكريمة لتقتلع من أذهانهم تلك الأوهام بأحكم عبارة وأجمع بيان.
والمراد باتقاء اليوم، وهو يوم القيامة، الحذر مما يحدث فيه من أهوال وعذاب، والحذر منه يكون بالتزام حدود الله- تعالى- وعدم تعديها، فهو من إطلاق الزمان على ما يقع فيه كما تقول «مكان مخيف» وتنكير النفس في الموضعين وهو في حيز النفي يفيد عموم النفوس. أى:
لا تقضى فيه نفس كائنة من كانت عن نفس أخرى شيئا من الحقوق.
ووصف اليوم بهذا الوصف، ولم يقل «يوم القيامة» مثلا، للإشعار بأن التصرف في ذلك اليوم لله وحده. فليس فيه ما اعتاد الناس في هذه الدنيا من دفاع بعضهم عن بعض.
(1) تفسير الرازي ج 1 ص 355.
والمعنى: احذروا- يا بنى إسرائيل- يوما عظيما أمامكم، سيحصل فيه من الحساب والجزاء ما لا منجاة من هوله إلا بتقوى الله في جميع الأحوال والإخلاص له في كل الأعمال، فهو يوم لا تقضى فيه نفس مهما كان قدرها عظيما عن نفس شيئا ما، مهما يكن ذنبا صغيرا.
ثم وصف القرآن الكريم ذلك اليوم بوصف آخر يناسب المقام. فقال تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ الضمير في (منها) يعود إلى النفس المحاسبة في ذلك اليوم. والشفاعة: من الشفع ضد الوتر، وهي انضمام الغير إلى الشخص ليدفع عنه، أى لا يقبل منها أن تأتى بشفيع ليحصل لها نفعا، أو يدفع عنها ضررا.
والآية الكريمة قد نفت قبول الشفاعة من أحد نفيا مطلقا، ولكن هنالك آيات كريمة تنفى قبول الشفاعة إلا ممن أذن له الرحمن في ذلك، من هذه الآيات قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ»
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا «2» .
وللجمع بين هذه الآيات، تحمل الآيات التي تنفى الشفاعة نفيا مطلقا على أنها واردة في شأن النفوس الكافرة، وتحمل الآيات التي تبيح الشفاعة على أنها واردة في شأن المؤمنين إذا أذن الله فيها للشافعين، وقد وردت أحاديث صحيحة بلغت مبلغ التواتر المعنوي في أن النبي صلى الله عليه وسلم ستكون له شفاعة في دفع العذاب عن أقوام المؤمنين، وتخفيفه عن أهل الكبائر من المسلمين، من ذلك ما أخرجه البخاري عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
قال الإمام ابن جرير: (وهذه الآية وإن كان مخرجها عاما في التلاوة فإن المراد بها خاص في التأويل، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنه قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتى، وأنه قال: ليس من نبي إلا وقد أعطى دعوة، وإنى خبأت دعوتي شفاعة لأمتى، وهي نائلة إن شاء الله منهم من لا يشرك بالله شيئا. فقد تبين بذلك أن الله جل ثناؤه قد يصفح لعباده المؤمنين بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لهم عن كثير من عقوبة إجرامهم بينه وبينهم، وأن قوله وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ
(1) سورة البقرة الآية 255.
(2)
سور طه الآية 109.
(3)
صحيح البخاري «باب التيمم» ج 1 ص 91.
إنما هي لمن مات على كفره غير تائب إلى الله- عز وجل» هـ «1» .
ثم وصف اليوم بوصف ثالث فقال تعالى: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ.
العدل: العوض والفداء. سمى بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو العين ويسويه به. يقال: عدل كذا بكذا: أى سواه به.
والمعنى: لا يؤخذ منها فداء أو بدل في ذلك اليوم إن هي استطاعت إحضاره على سبيل الفرض والتقدير.
ثم وصفه بوصف رابع فقال تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ والنصر هو الإعانة في الحرب وغيره بقوة الناصر، وقدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق. فضلا عما استفيد من نفى الفعل وإسناده للمجهول وجاء الضمير في قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ جمعا مع أنه عائد على النفس وهو قوله تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ لأن النكرة إذا وقعت في سياق النفي تناولت كل فرد من أفرادها، وبهذا صارت في معنى الجمع، وصح أن يعود عليها ضمير الجمع وهو (هم) .
والمعنى. أنهم لا يجدون من يعينهم ويمنعهم من عذاب الله يوم القيامة.
ولما كان اليهود يعتقدون أنهم شعب مميز، وأن نسبتهم إلى الأنبياء ستجعلهم في مأمن من العقاب رغم عصيانهم وفسوقهم، وأن آباءهم سيشفعون لهم
…
لما كانوا كذلك جاءت هذه الآية الكريمة لتبطل ما اعتقدوه، وتقطع ما أمّلوه، ولتنقض كل ما يحتمل أن يكون وسيلة للنجاة يوم القيامة سوى الإيمان والعمل الصالح.
فقد نفت الآية الكريمة وجود من ينوب عنهم بقولها لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً.
ونفت انتفاعهم بشفاعة الشافعين يوم الحساب بقولها (ولا يقبل منها شفاعة) .
ونفت قبول البدل أو الفداء عما ارتكبوه من خطايا بقولها وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ.
ونفت وجود من ينتصر لهم أو يدافع عنهم بقولها وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ.
وهكذا سدت عليهم الآية الكريمة كل منفذ يتوهمون نجاتهم من عذاب الله بسببه، ما داموا مصرين على كفرهم وجحودهم.
هذا، وقد اشتملت هاتان الآيتان على أسلوب حكيم في التوجيه، وطريقة فريدة في الإرشاد، جمعت بين الترغيب والترهيب، فإن الآية الأولى ابتدأت بندائهم باسم أبيهم
(1) تفسير ابن جرير ج 1 ص 268.