الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إسرائيل- عليه السلام الذي هو أصل عزهم، ومنشأ تفضيلهم لتحيى الشعور بالكرامة في نفوسهم، ولتغرس الإحساس بالشرف في مشاعرهم، ولتحملهم على الترفع عن الدنايا لأن الذي يشعر أنه من منبت كريم تعاف نفسه الحقد والكذب والصغار، ثم جاءت الآية الثانية فأرشدتهم إلى أن التقوى هي سبب السلامة والفوز، وحذرتهم من أهوال يوم القيامة وأفهمتهم بأن انتسابهم إلى أولئك الآباء لن يغنى من الله شيئا يوم الجزاء، وإنما الذي ينفعهم في ذلك اليوم هو اتباع تعاليم الإسلام، التي أتى بها النبي- عليه الصلاة والسلام وفي ذلك ما فيه من كبح غرورهم، وإبطال ظنونهم.
ثانيا: نعمة إنجائهم من عدوهم:
ثم ذكرهم- سبحانه- بنعمة جليله الشأن، هي نعمة إنجائهم من عدوهم فقال تعالى:
[سورة البقرة (2) : آية 49]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
الآية الكريمة معطوفة على قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ في الآية السابقة، من باب عطف المفصل على المجمل: أى: اذكروا نعمتي، واذكروا إذ نجيناكم من آل فرعون.
وإذ: بمعنى وقت، «وهي مفعول به لفعل ملاحظ في الكلام وهو اذكروا أى: اذكروا وقت أن نجيناكم، والمراد من التذكير بالوقت تذكيرهم بما وقع فيه من أحداث.
وآل الرجل: أهله وخاصته وأتباعه، ويطلق غالبا على أولى الخطر والشأن من الناس، فلا يقال آل الحجام أو الإسكاف.
وفرعون: اسم لملك مصر كما يقال لملك الروم قيصر، ولملك اليمن تبع ويسومونكم: من سامه خسفا إذا أذله واحتقره وكلفه مالا يطيق.
والابتلاء: الامتحان والاختبار، ويكون في الخير والشر، قال- تعالى- وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً «1» .
والمعنى: اذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن نجيناكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق
(1) سورة الأنبياء الآية 35.
العذاب وأصعبه، ويبغونكم ما فيه إذلال لكم واستئصال لأعقابكم، وامتهان لكرامتكم، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم، ويستبقون نفوس نسائكم، وفي ذلكم العذاب، وفي النجاة منه امتحان لكم بالسراء لتشكروا، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدى بكم إلى الإذلال في الدنيا، والعذاب في الأخرى.
قال الإمام الرازي- رحمه الله ما ملخصه: واعلم أن الفائدة في ذكر هذه النعمة- أى نعمة إنجائهم من عدوهم- يتأتى من وجوه أهمها:
1-
أن هذه الأشياء التي ذكرها الله- تعالى- لما كانت من أعظم ما يمتحن به الناس من جهة الملوك والظلمة، صار تخليص الله- عز وجل لهم من هذه المحن من أعظم النعم، وذلك لأنهم عاينوا هلاك من حاول إهلاكهم، وشاهدوا ذل من بالغ في إذلالهم، ولا شك في أن ذلك من أعظم النعم، وعظم النعمة يوجب المبالغة في الطاعة والبعد عن المعصية، لذا ذكر الله هذه النعمة العظيمة ليلزمهم الحجة، وليقطع عذرهم.
2-
أنهم لما عرفوا أنهم كانوا في نهاية الذل. وكان عدوهم في نهاية العز، إلا أنهم كانوا محقين، وكان خصمهم مبطلا، لا جرم زال ذل المحقين، وبطل عز المبطلين، فكأنه تعالى يقول لهم: لا تغتروا بكثرة أموالكم ولا بقوة مركزكم، ولا تستهينوا بالمسلمين لقلة ذات يدهم، فإن الحق إلى جانبهم. ومن كان الحق إلى جانبه، فإن العاقبة لا بد أن تكون له) اهـ «1» وخوطب بهذه النعمة اليهود الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومع أن هذا الاتجاء كان لأسلافهم، لأن في نجاة أسلافهم نجاة لهم، فإنه لو استمر عذاب فرعون للآباء لأفناهم، ولما بقي هؤلاء الأبناء، فلذلك كانت منة التنجية تحمل في طياتها منتين، منة على السلف لتخليصهم مما كانوا فيه من عذاب ومنة على الخلف لتمتعهم بالحياة بسببها، فكان من الواجب عليهم جميعا أن يقدروا هذه النعمة قدرها، وأن يخلصوا العبادة لخالقهم الذي أنجاهم من عدوهم. ولأن الإنعام على أمة يعتبر إنعاما شاملا لأفرادها سواء منهم من أصابه ذلك الإنعام ومن لم يصبه. لأن الآثار التي تترتب عليه كثيرا ما يرثها الخلف عن السلف، ولأن في إخبارهم بذلك تصديقا للنبي- عليه الصلاة والسلام فيما يبلغه عن ربه، فقد أخبرهم بتاريخ من مضى منهم بصدق وأمانة، وفي ذلك دليل على أنه صادق في نبوته ورسالته.
وجعلت النجاة هنا من آل فرعون ولم تجعل منه، مع أنه الآمر بتعذيب بنى إسرائيل، للتنبيه على أن حاشيته وبطانته كانت عونا له في إذاقتهم سوء العذاب، وإنزال الإذلال والإعنات بهم.
(1) تفسير الرازي ج 1 ص 360.
وجعلت الآية الكريمة استحياء النساء عقوبة لليهود- وهو في ظاهره خير- لأن هذا الإبقاء عليهن، كان المقصود منه الاعتداء على أعراضهن واستعمالهن في الخدمة بالاسترقاق. فبقاؤهن كذلك بقاء ذليل وعذاب أليم، تأباه النفوس الكريمة، والطباع الطيبة.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: (في ذبح الذكور دون الإناث مضرة من وجوه:
أحدها: أن ذبح الأبناء يقتضى فناء الرجال، وذلك يقتضى انقطاع النسل، لأن النساء إذا انفردن فلا تأثير لهن البتة في ذلك، وهذا يقضى في نهاية الأمر إلى هلاك الرجال والنساء جميعا.
ثانيهما: أن هلاك الرجال يقتضى فساد مصالح النساء في أمر المعيشة، فإن المرأة لتتمنى الموت إذا انقطع عنها تعهد الرجال. لما قد تقع فيه من نكد العيش بالانفراد. فصارت هذه الخطة عظيمة في المحن، والنجاة منها تكون في العظم بحسبها.
ثالثها: أن قتل الولد عقب الحمل الطويل، وتحمل التعب، والرجاء القوى في الانتفاع به، من أعظم العذاب، فنعمة الله في تخليصهم من هذه المحنة كبيرة.
رابعها: أن بقاء النساء بدون الذكران من أقاربهم، يؤدى إلى صيرورتهن مستفرشات الأعداء وذلك نهاية الذل والهوان) «1» .
وقد رجح كثير من المفسرين أن المراد بالأبناء في قوله تعالى: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ الأطفال دون البالغين، لأن اللفظ من حيث وضعه يفيد ذلك، ولأن قتل جميع الرجال لا يفيدهم حيث أنهم كانوا يستعملونهم في الأعمال الشافة والحقيرة، ولأنه لو كان المقصود بالذبح الرجال، لما قامت أم موسى بإلقائه في اليم وهو طفل صغير لتنجيه من الذبح.
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالأبناء الرجال لا الأطفال، لأن لفظ الأبناء هنا جعل في مقابلة النساء، والنساء هن البالغات.
والذي نرجحه هو القول الأول لما ذكرنا، ولأنه أتم في إظهار نعمة الإنجاء، حيث كان أهل فرعون يقتلون الصغار قطعا للنسل، ويسترقون الأمهات استعبادا لهن، ويبقون الرجال للخدمة حتى ينقرضوا على سبيل التدرج، وبقاء الرجال على هذه الحالة أشد عليهم من الموت.
وقد جاءت جملة يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ في هذه الآية الكريمة بدون عطف وجاءت في سورة إبراهيم معطوفة بالواو «2» . لأنها هنا بيان وتفسير لجملة يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ فيكون
(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 358.
(2)
آية سورة إبراهيم هي قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ الآية 6.