المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] - التفسير الوسيط لطنطاوي - جـ ١

[محمد سيد طنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الاول]

- ‌مقدّمة

- ‌سورة الفاتحة

- ‌[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]

- ‌سورة البقرة

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 11 الى 13]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 25]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 33]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 39]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 44]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 47]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 48]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 49]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 50]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 51 الى 52]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 53]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 54]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 55 الى 56]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 57]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 60]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 61]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 62]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 64]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 65 الى 66]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 79]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 83]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 88]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 89 الى 90]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 93]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 100]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 101 الى 103]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 104]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 105]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 109]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 110]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 112]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 113]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 114]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 115]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 118]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 121]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 124]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 125 الى 129]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 134]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 141]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 144]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 145 الى 150]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 158]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 162]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 170]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 171]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 177]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 186]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 187]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 188]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 189]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 196]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 212]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 213]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 214]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 218]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 220]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 221]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 227]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 228 الى 232]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 233]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 234]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 235]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 247]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 248 الى 249]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 250 الى 252]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 253]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 254]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 255]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 256]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 257]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 258]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 259 الى 260]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 262]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 263 الى 264]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 265]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 266]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 267 الى 269]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 282]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 283]

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 284]

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286]

- ‌الفهرس

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

وقال بعض العلماء: وقد يتبادر إلى الذهن أن آدم قد ارتكب ما نهى عنه، ارتكاب من يتعمد المخالفة، فيكون أكله من الشجرة معصية، مع أنه من الأنبياء المرسلين، والرسل معصومون من مخالفة أوامر الله.

والجواب عن ذلك أن آدم تعمد الأكل من الشجرة، ناسيا النهى عن الأكل منها، وفعل المنهي عنه على وجه النسيان لا يعد من قبيل المعاصي التي يرتكبها الشخص وهو متذكر أنه يرتكب محرما، إذ أن ارتكاب المحرم عن علم وتذكر هو الذي يجعل مرتكبه مستحقا للعقاب، والأنبياء معصومون من ذلك.

وإذا عاتب الله بعض الأخيار من عباده على ما صدر منهم على وجه النسيان، فلأن علمهم بالنهى يدعوهم إلى أن يقع النهى من نفوسهم موقع الاهتمام، بحيث يستفظعون مخالفته استفظاعا يملأ نفوسهم بالنفور منها، ويجعلهم على حذر من الوقوع في بلائها.

فالذي وقع من آدم- عليه السلام هو أنه غفل عن الأخذ بالحزم في استحضار النهى وجعله نصب عينيه حتى أدركه النسيان، ففعل ما نهى عنه غير متعمد للمخالفة، قال- تعالى-:

وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.

هذا، وبعد أن ذكر القرآن الكريم الناس جميعا بنعم الله عليهم، ليحملهم بذلك على إخلاص العبادة له، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ومن بين هذه النعم خلق آدم وإظهار فضله على الملائكة، بعد كل ذلك اتجه إلى تذكير طائفة خاصة من الكافرين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وهم بنو إسرائيل، استمالة لقلوبهم نحو الإيمان بالله، وكسرا لعنادهم ولجاجتهم، فقال- تعالى-:

[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

ص: 105

وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم- عليهم السلام وفي إضافتهم إلى أبيهم إسرائيل تشريف لهم وتكريم، وحث لهم على الامتثال لأوامر الله ونواهيه، فكأنه قيل: يا بنى العبد الصالح، والنبي الكريم، كونوا مثل أبيكم في الطاعة والعبادة.

ويستعمل مثل هذا التعبير في مقام الترغيب والترهيب، بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من بيت النبوة أسوأ، ففي هذا النداء. خير داع لذوي الفطر السليمة منهم إلى الإقبال على ما يرد بعده من التذكير بالنعمة، واستعمالها فيما خلقت له.

ومعنى اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ تنبهوا بعقولكم وقلوبكم لتلك المنافع التي أتتكم على سبيل الإحسان منى، وقوموا بحقوقها وأكثروا من الحديث عنها بألسنتكم، فإن التحدث بنعم الله فيه إغراء بشكرها.

والمراد بالنعمة: المنعم بها عليهم، وتجمع على نعم، وقد وردت في القرآن الكريم بمعنى الجمع كما في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها فإن لفظ العدد والإحصاء قرينة على أن المراد بالنعمة: النعم الكثيرة. ويبدو أن المراد بالنعمة في الآية التي معنا كذلك النعم المتعددة حيث إنه لم يقم دليل على أن المراد بها نعمة معهودة، وعلماء البيان يعدون استعمال المفرد في معنى الجمع- اعتمادا على القرينة- من أبلغ الأساليب الكلامية.

ثم أمرهم- سبحانه- بالوفاء بما عاهدهم عليه، فقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ العهد ما من شأنه أن يراعى ويحفظ، كاليمين والوصية وغيرهما، ويضاف إلى المعاهد والمعاهد جميعا، يقال: أوفيت بعهدي، أى بما عاهدت غيرى عليه، وأوفيت بعهدك، أى بما عاهدتني عليه، وعهد الله: أوامره ونواهيه، والوفاء به يتأتى باتباع ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، ويندرج فيه كل ما أخذ على بنى إسرائيل في التوراة، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم متى بعث، والإيمان بما جاء به من عند الله وتصديقه فيما يخبر عن ربه.

والمعنى: وأوفوا بما عاهدتموني عليه من الإيمان بي، والطاعة لي، والتصديق برسلي، أوف بما عاهدتكم عليه من التمكين في الأرض في الدنيا والسعادة في الآخرة.

ثم أمرهم- سبحانه- بأن يجعلوا خوفهم من خالقهم وحده، فقال- تعالى-: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ أى: خافوني ولا تخافوا سواي، ولتكن قلوبكم عامرة بخشيتى وحدي، فإن ذلك يعينكم على طاعتي، ويبعدكم عن معصيتي.

وحذف متعلق الرهبة للعموم، أى ارهبونى في جميع ما تأتون، وما تذرون، حتى لا أنزل

ص: 106

بكم من النقم مثل ما أنزلت بمن قبلكم من المسخ وغيره، فالآيات الكريمة قد تضمنت وعدا ووعيدا وترغيبا وترهيبا.

وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ.

وبعد أن أمر الله- عز وجل بنى إسرائيل، أن يوفوا بعهده عموما أتبع ذلك بأمرهم بأن يوفوا بأمر خاص وهو القرآن الكريم، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه، وتفخيم لأمره.

وأفرد- سبحانه- أمرهم بأن يؤمنوا به مع اندراجه في قوله- تعالى- وَأَوْفُوا بِعَهْدِي للإشارة إلى أن الوفاء بالعهد لا يحصل منهم إلا إذا صدقوا به.

والمراد بما معهم التوراة، والتعبير عنها بذلك للإشعار بعلمهم بتصديقه لها. والمعنى: آمنوا يا بنى إسرائيل بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم المصدق لكتابكم التوراة، ومن مظاهر هذا التصديق اشتمال دعوته على ما يحقق دعوتها، من الأمر بتوحيد الله- تعالى- والحث على التمسك بالفضائل، والبعد عن الرذائل، وإخباره بما جاء بها من الإشارة إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ومطابقة ما وصفته به مطابقة واضحة جلية وموافقته لها في أصول الدين الكلية، وهيمنته عليها، ولذا قال- عليه الصلاة والسلام:«لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى» «1» .

وفي إخبار بنى إسرائيل بأن القرآن الكريم مصدق لما معهم، إثارة لهممهم لو كانوا يعقلون- للإقبال عليه، متدبرين آياته، حتى تستيقن نفوسهم أنه دعوة الحق والإصلاح المؤدية إلى السعادة في الدنيا والآخرة وحتى تطمئن قلوبهم إلى أن الإيمان به معناه الإيمان بما معهم، والكفر به، كفر بما بين أيديهم، حيث إن ما بين أيديهم قد بشر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم المنزل عليه القرآن الكريم.

قال الإمام الرازي: (وهذه الجملة الكريمة تدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم من وجهين:

أولهما: أن الكتب السابقة قد بشرت به، وشهاداتها لا تكون إلا حقا.

وثانيهما: أنه- عليه الصلاة والسلام قد أخبرهم عما في كتبهم بدون معرفة سابقة لها، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الوحى «2» .

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بالإيمان الخالص، عرض بهم لتكذيبهم وجحودهم، فقال- تعالى-: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أى: لا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر بالقرآن الكريم، فيقتدى بكم أناس آخرون وبهذا تصيرون أئمة للكفر مع أن من الواجب

(1) رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما

(2)

تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 430

ص: 107

عليكم أن تسارعوا إلى الإيمان به لأنكم أدرى الناس بأنه من عند الله، وأكثرهم علما بأنه الرسول الذي نزل عليه هذا القرآن، وهو الصادق الأمين فيما يبلغه عن ربه.

والمقصود من هذه الجملة الكريمة، تبكيتهم على مسارعتهم في الكفر، واستعظام وقوع الجحود منهم، وتوعدهم عليه بسوء المآل.

قال الإمام الرازي: (هذه الجملة خطاب لبنى إسرائيل قبل غيرهم فكأنه- سبحانه- يقول لهم: لا تكفروا بمحمد، فإنه سيكون بعدكم كفرة، فلا تكونوا أنتم أولهم لأن هذه الأولية موجبة لمزيد الإثم، وذلك لأنهم إذا سبقوا إلى الكفر، فإما أن يقتدى بهم غيرهم أولا، فإن اقتدى بهم غيرهم كان عليهم وزره ووزر كل كافر إلى يوم القيامة، وإن لم يقتد بهم غيرهم، اجتمع عليهم أمران: السبق إلى الكفر والتفرد به وكلاهما منقصة عظيمة، وتؤدى إلى العاقبة الوبيلة)«1» .

ثم نهاهم عن أن يبيعوا دينهم بدنياهم، فقال- تعالى-: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا.

والاشتراء هنا استعارة للاستبدال، والذي استبدل به الثمن القليل هو الإيمان بالآيات، والمراد بالآيات: البراهين المؤيدة لصدق النبي صلى الله عليه وسلم وفي مقدمتها القرآن الكريم والتوراة.

والمراد بالثمن القليل: حظوظ الدنيا وشهواتها من نحو الرياسة والمال والجاه، وما إلى ذلك من الأمور التي خافوا ضياعها لو اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم.

والمعنى: لا تستبدلوا بالإيمان بما أنزلت مصدقا لما معكم شيئا من حطام الدنيا، ولا تختاروا على ثواب الله بديلا من الأموال، فإنها مهما كثرت فهي قليلة مسترذلة بالنسبة لما يناله أولو الإيمان الخالص من رعاية ضافية في الدنيا، وخيرات حسان في الأخرى.

وليس وصف الثمن بالقلة من الأوصاف المخصصة للنكرات، بل هو من الأوصاف اللازمة للثمن المحصل بالآيات إذ لا يكون إلا قليلا وإن بلغ ما بلغ من أعراض الدنيا بجانب رضا الله- عز وجل.

ونزل تمكينهم من الإيمان بالآيات لوضوحها منزلة حصوله بالفعل، فكأن الإيمان كان في حوزتهم، ولكنهم خلعوه ونبذوه، مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير فباءوا بغضب على غضب لكفرهم بالقرآن الكريم وبتوراتهم التي بشرت بالرسول- عليه الصلاة والسلام.

ثم حذرهم- سبحانه- من التمادي في الكفر بما أنزل، مصدقا لما معهم، فقال- تعالى- «وإياى فاتقون» الاتقاء معناه الحذر، يقال: فلان اتقى الله أى حذر عقابه وبطشه، والحذر من

(1) تفسير الفخر الرازي ج 1 ص 432 بتصرف وتلخيص.

ص: 108

عقاب الله، يستلزم امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فمعنى «وإياى فاتقون» آمنوا بي، واتبعوا الحق وأعرضوا عن الباطل.

وبعد أن نهى القرآن الكريم بنى إسرائيل عن الكفر والضلال، عقب ذلك بنهيهم عن أن يعملوا لإضلال غيرهم، فقال- تعالى-: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

اللبس- بفتح اللام- الخلط، وفعله: لبس، من باب: ضرب تقول: لبست عليه الأمر، ألبسه إذا مزجت بينه بمشكله، وحقه بباطله.

ولدعاة الضلالة طريقتان في إغواء الناس:

إحداهما: طريقة خلط الحق بالباطل حتى لا يتميز أحدهما عن الآخر وهي المشار إليها بقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ.

والثانية: طريقة جحد الحق وإخفائه حتى لا يظهر، وهي المشار إليها بقوله تعالى:

وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ.

وقد استعمل بنو إسرائيل الطريقتين لصرف الناس عن الإسلام، فقد كان بعضهم يؤول نصوص كتبهم الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم تأويلا فاسدا، يخلطون فيه الحق بالباطل، ليوهموا العامة أنه ليس هو النبي المنتظر، وكان بعضهم يلقى حول الحق الظاهر شبها، ليوقع ضعفاء الإيمان في حيرة وتردد، وكان بعضهم يخفى أو يحذف النصوص الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، والتي لا توافق أهواءهم وشهواتهم، فنهاهم الله- تعالى- عن هذه التصرفات الخبيثة.

والمعنى: ولا تخلطوا الحق الواضح الذي نطقت به الكتب السماوية، وأيدته العقول السليمة، بالباطل الذي تخترعونه من عند أنفسكم، إرضاء لأهوائكم، ولا تكتموا الحق الذي تعرفونه، كما تعرفون أبناءكم، بغية انصراف الناس عنه «لأن من جهل شيئا عاداه، فالنهي الأول عن التغيير والخلط، والنهى الثاني عن الكتمان والإخفاء.

وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية، أى وأنتم من ذوى العلم، ولا يناسب من كان كذلك أن يكتم الحق، أو يلبسه بالباطل، وإذا كان هذا الفعل- وهو لبس الحق بالباطل، أو كتمانه وإظهار الباطل وحده- يعد من كبائر الذنوب، فإن وقعه يكون أقبح، وفساده أكبر، وعاقبته أشأم متى صدر من عالم فاهم، يميز بين الحق والباطل.

ففي هذه الجملة الكريمة بيان لحال بنى إسرائيل، المخاطبين بهذا النهى، وتبكيت لهم، لأنهم لم يفعلوا ما فعلوه عن جهالة، وإنما عن علم وإصرار على سلوك هذا الطريق المعوج.

ص: 109

قال أبو حيان في البحر: «وهذه الحال، وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهى عن اللبس والكتم، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل، إذ الجاهل بحال الشيء لا يدرى كونه حقا أو باطلا، وإنما فائدتها بيان أن الإقدام على الأشياء القبيحة، مع العلم بها، أفحش من الإقدام عليها مع الجهل «1» .

وبعد أن أمرهم- سبحانه- بأصل الدين الذي هو الإيمان به وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أردفه بركنين من أركانه العملية، إذا قاموا بهما لانت قلوبهم للحق، وانعطفت نفوسهم نحو خشية الله وحده، فقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ والمراد بإقامة الصلاة، أداؤها مستوفية لأركانها وشرائطها وآدابها. والمراد بإيتاء الزكاة دفعها لمستحقيها كاملة غير منقوصة.

والمعنى: عليكم يا معشر اليهود أن تحافظوا على أداء الصلاة، التي هي أعظم العبادات البدنية، وعلى إيتاء الزكاة التي هي أعظم العبادات المالية، وأن تخضعوا لما يلزمكم في دين الله- تعالى- لأن في محافظتكم على هذه العبادات تطهيرا لقلوبكم، وتأليفا لنفوسكم، وتزكية لمشاعركم، ولأنكم إن لم تحافظوا عليها كما أمركم الله- تعالى- فسيلحقكم الخزي في الدنيا، والعذاب في الأخرى.

هذا، ونرى من المناسب أن نختم تفسير هذه الآيات الكريمة، وبيان ما اشتملت عليه من توجيه سليم، وتركيب بليغ، بما قاله أبو حيان في تفسيره، فقد قال- رحمه الله:

«وفي هذه الجمل- وإن كانت معطوفات بالواو التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا- ترتيب عجيب من الفصاحة، وبناء الكلام بعضه على بعض، وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب طاعته: ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد، ثم أمرهم بالخوف من نقمه إن لم يوفوا، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان، وأمر بالخوف من العصيان. ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص وهو ما أنزل من القرآن، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم، لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس، ثم أمرهم- تعالى- باتقائه ثم أعقب ذلك بالنهى عن لبس الحق بالباطل، وعن كتم الحق، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال، والنهى عن لبس الحق بالباطل، وكتمان الحق تركا للإضلال.

(1) تفسير «البحر المحيط» لأبى حيان ج 1 ص 180، مطبعة السعادة سنة 1327 هـ.

ص: 110